Nazcat Fikr Urubi
نزعة الفكر الأوروبي في القرن التاسع عشر
Genres
على أننا من أية من تلك النقط نبدأ سفرنا الطويل، وعلى أية من بؤرات الارتكاز، تقع أبصارنا لدى أول نظرة نلقيها على ما بين يدينا من ذلك الميدان الفسيح الذي نريد أن نستكشف نواحيه، نجد أن هنالك مظهرا واحدا يتحيز في عقولنا منذ البدء، سرعان ما يلقي في روعك أن ذلك الميدان الفسيح ليس بالجنة التي تطمع فيها بالسكينة والهدوء، وليس هو بالمكان الذي تؤمل أن تزود فيه بمهيئات العمل الهادئ الذي تبذر بذره، وتجمع حصاده بدعة ولين، وليس هو منبتا للتعاون واقتسام العمل الذي تظفر فيه بالسلام البعيد عن خشونة الصراع والجلاد.
إنه لميدان أشبه ما يكون بأرض تناولتها القوات العنصرية بالتخريب، وانتابتها الزلازل العتية بعواصف التدمير، فتركتها شوهاء لا تفرق بين صعيدها والأخدود. وإنك لتعثر فيه فوق ذلك على بضعة أناس أخذوا على عواتقهم أن يسدوا منه فجوات أحدثها الماضي، ونقائض خلفها السلف، وآخرين آخذين في تشييد أسس جديدة على قواعد جديدة، وتقع على غير أولاء وهؤلاء فتجدهم متنابذين متصارعين على حيازة الملك أو اقتسام التراث، حتى أولئك العمال الوادعون في مصانعهم لن تتركهم طبيعة المجتمع الحاف بهم آمنين، بل تدعوهم الظروف إلى الاشتراك في تلك المعارك، أو تهزهم شكاوى الذين يجاورونهم من مظالم أهل السطوة والجاه فيهبون من مراقدهم عطشى صراع، ويرتدون كلمى هزيمة وانكسار.
أما إذا أردنا أن نتدبر السبب في ذلك القلق السائد في المجتمع، والذي ظل بين الأثر في الحياة طوال القرن التاسع عشر، فالواجب يدعونا إلى أن نرجع النظر كرة إلى العصر الذي تقدمه؛ لنجد أن عاصف تلك الثورة الهوجاء الذي عصف على أوروبا فدك كل النظامات السياسية والاجتماعية، هو الذي ترك ذلك الأثر الظاهر في آرائنا وأفكارنا، من أية ناحية نظرت فيها، وعلى أي الوجوه قبلتها. إن ذلك العصر الذي نشير إليه قد دعي بحق عصر الثورة. أما إذا لم أعتبر أن الفكرة في القرن التاسع عشر مع كل هذا فكرة ثورة وانقلاب؛ فذلك لأن التقويض والهدم تابعان لعصر فرط وانقضى، وأن فجر القرن التاسع عشر قد توج بالرغبة في البناء؛ إما بتشييد الأسس الحديثة، وإما بالرجوع إلى صور الفكر القديمة، ومظاهر الحياة التي خلفتها القرون الأولى؛ لتزكى ببراهين ودلائل مستحدثة، أو لتبرز في ثوب يسدل على معنى جديد، أو منفعة محققة.
كان الفكر في القرن التاسع عشر من الناحية العلمية أساسي طبعي من جهة، ورجعي من جهة أخرى. ولست أقصد بأنه أساسي طبعي، إلا لما كان فيه من نزعة البناء والتشييد، التي تغلغلت إلى صميم الأشياء لتتخذ مما تعثر عليه من المواد وسيلة لإقامة هيكل العلم على أرض بكر، كما أني لا أقصد بأنه كان رجعيا إلا لما آنست فيه من شتى المحاولات الميئسة التي اعتمدت على النظم التاريخية والعقائد، ومضت في تلك السبيل عاملة للعثور على ما فيهما من حقيقة، وما لهما من قيمة في الحياة الإنسانية، وما يتضمنان من خطر وشأن في علاقتهما بالقرن التاسع عشر.
إن عوامل الهدم والتقويض لا تزال قائمة بفئوسها ومعاولها، فإننا لا نزال نرى الروح الثورية قائمة فتية في عصر التأسيس والبناء، فإن الحياة الجديدة المملوءة بكل بواعث القوة التي بثها «برنز»
Burns ، و«واردسوورث» و«كوليردج» في الشعر الإنكليزي إبان القرن التاسع عشر، قد عاقتها الروح الثورية التي خصت بها مدرسة «بيرون»
The School of Byron
عن الانبعاث في سبيل النشوء، بل سممتها، كذلك تجد أن الفكرة الحديثة التي شبت وترعرعت في فلسفة «كانت» والمدرسة المثالية
Idealistic
قد انحطت خلال تعاقب الصور التي توالت عليها إلى «مادية» جوفاء، «ولا أدرية» لا تترقب وراءها من أمل ولا رجاء.
Unknown page