Nazariyyat Tatawwur Wa Asl Insan
نظرية التطور وأصل الإنسان
Genres
تنازع البقاء سبب نتيجته بقاء الأصلح أو الأنسب، فإذا تنازع فردان في بيئة ما عاش أنسبهما ومات الآخر، وهذا هو السبب في أننا عندما نعرض جميع الأحياء في الطبيعة نجد أنها كلها توافق الوسط أو البيئة التي تعيش فيها، وهي إنما وصلت إلى هذه الحال بعد نزاع طويل مات فيه كل حيوان أو نبات لم يوافق، من حيث شكله أو لونه أو قوته أو نوع طعامه، تلك البيئة التي يعيش فيها.
فالببر مثلا، وهو الحيوان المخطط الذي يخطئ بعض الناس ويسميه نمرا (مع أن النمر منمر؛ أي منقط)، يشبه الغابة التي يعيش فيها، فإذا ربض تحت الغصون والأوراق اختلط لونه بلونها فلا يمكن تمييزه منها، فهو بذلك يحتمي من عدوه ويختفي عن فريسته في آن واحد، ولم يصل إلى هذا اللون إلا بعدما انقرض جميع الأفراد التي كان في لونها شهرة تنم عليها؛ لأن هذه الشهرة تجعل فريسته على حذر منه، فهو أبدا مكشوف أمامها، فلا يعيش ولا ينسل من الببرة إلا ما وافقت خطوط جلده ظلال الغابة في ألوانها.
وحيوان الصحاري يشبه لونه لون الرمال، بحيث إذا نام ضب أو ورن على سطح الصحراء لم يميزه الإنسان من الرمال التي تحته، وإذا نام غزال أو ثعلب اختلط لونه الأغبر بغبرة الرمل، فلا يمكن حيوانا أو جارحا أن يميزه مما حوله.
وحيوان الصحراء لم يبلغ هذه الحالة إلا بعد تنازع بقاء طويل باد فيه كل ما كان في جلده لمعة من بياض، أو أي لون آخر يشهره ويدل كواسر الطير عليه، أو يهدي إليه بعض الوحوش.
وكذلك الحال في نباتات الصحراء فإنك تجد على الدوام أوراقها ملساء تمنع تبخر الماء منها (كالصبير)، وتجد جذورها تمتد إلى عمق بعيد فيها، وذلك لقلة ماء الصحراء وبعد غوره؛ فالصبير في الصحراء كالجمل، كلاهما يعمل لادخار الماء؛ هذا باختزانه في معدته، وذاك في أوراقه، وهما لم يبلغا هذه الكفاية إلا بحكم الوسط الذي يعيشان فيه.
ولون الجمال الغالب، مع تدجينها الطويل، لا يزال أغبر في لون الرمل، وربما لم تظهر الإبل السوداء أو البيضاء إلا بعد الاستئناس، وهي لو كانت تعيش في الحال البرية لكانت أولى ما يقع فريسة للضواري الكبرى.
وكثيرا ما يقف أحدنا في وسط حقل وينظر إلى نبات ما فلا يجد فيه ما يدل على وجود حشرة، ثم ما هي إلا أن تتحرك يده في جهة ما حتى يرى فراشة زاهية كبيرة تطير فجأة كأنها وجدت من العدم، فهذه الحشرات التي تتعقبها الطيور قد حدث بينها «تنازع بقاء» حتى لم يبق منها سوى القادر على إخفاء نفسه بأن يندغم لونه في لون الغصن الذي يحط عليه؛ حتى لا تهتدي إليه الطيور، وبعض هذه الحشرات يشبه الزهرة، وبعضها يشبه الورق، والبعض الآخر يشبه غصنا مكسورا جافا بحيث ينخدع الطير عنه. (حشرة تشبه غصنا جافا فإذا حطت عليه لم تتميز منه)
ومن هنا ندرك السبب في أن الثعلب والدب اللذين يعيشان في القطب الشمالي يكون فروهما أبيض ناصعا، بحيث إذا رقد أحدهما على الثلج امتزج لون الفرو بلون الثلج فلا يظهر للعدو أو للفريسة، فالالتئام بينهما وبين البيئة التي يعيشان فيها تام، وهو لم يبلغ هذه الدرجة إلا بعد تنازع طويل مات فيه كل مشهور اللون واضحه. (حشرة تشبه ورق الشجر فإذا حطت في جانب ورقة لم تتميز منها)
ولننظر في أثر آخر للبيئة في الحي؛ فإن القيطس - مثلا - وهو أكبر حيوان في العالم (أكبر من الفيل عشرة أضعاف) يعيش في الماء البارد قريبا من القطبين الشمالي والجنوبي، وهو حيوان لبون يرضع أطفاله، ودمه دافئ مثل الدم البشري، وقد كان يعيش يوما على اليابسة، ثم نزل إلى الماء فانقلبت يداه إلى زعانف، ولكن لا تزال أصابعه الخمس كامنة في كل زعنفة من زعنفتيه.
فهذا الحيوان لا يمكنه أن يعيش في الماء البارد إذا لم تكن له وسيلة يحفظ بها حرارته، وقد فقد شعره لأن الشعر لا يوافق السباحة في الماء، فلم يبق له سوى أن يكسو جسمه بطبقة كثيفة جدا من الدهن تبلغ آلاف الأرطال، هي الآن أكبر ما يغري الصيادين بصيده، وهو لم يبلغ هذه الحالة إلا بعد نزاع طويل انقرض فيه كل قيطس لم يكن جلده مبطنا بمثل هذه الطبقة من الدهن.
Unknown page