الفصل الأول
طبيعة المعرفة عند الواقعيين
(1) الواقعية الساذجة
السؤال المطروح أمامنا الآن هو هذا: ما هي المعرفة؟ ما تحليل الموقف الذي أقول فيه إنني «أعرف» كذا وكذا؟ وعن هذا السؤال يجيب الإنسان المثقف العادي - مسوقا إلى جوابه بإدراكه الفطري - قائلا: «المعرفة» هي «صورة» لما يجري في العالم من وقائع وأحداث؛ فالحقائق الخارجية هي بمثابة الأصل، ومعرفتي إياها بمثابة الصورة، فإذا نظرت إلى مكتبي هذا وقلت عنه إنه مستطيل السطح أو إنه بني اللون؛ فذلك لأن هناك خارج نفسي شكلا مستطيلا ولونا بنيا لا دخل لي في حدوثهما، وكل ما فعلته إزاءهما هو أنني نظرت إليهما «فعرفتهما» بمعنى أنهما قد «ارتسما» في ذهني كما هما في عالم الواقع.
على هذا الأساس في فهم الأشياء وما يحدث لها يقوم التفاهم في الحياة العملية؛ مما أدى ببعض الفلاسفة أنفسهم أن يفهموا «المعرفة» على الأساس نفسه، فيجعلوها «تصويرا» لما يقع بغير حذف أو إضافة، فلا فرق بيني حين أنظر إلى مكتبي البني المستطيل وبين آلة التصوير، كلانا يقوم بعملية واحدة، وهي أن يلتقط صورة يكون بينها وبين أصلها شبه تام، وكلما ازددت دقة في الملاحظة كنت كآلة التصوير حين تزداد دقة؛ إذ في كلتا الحالتين تكون الصورة المأخوذة عن الشيء المرسوم دقيقة الشبه بأصلها. ومعنى التشابه هنا هو أن يكون لكل جزء من تفصيلات الشيء المرسوم جزء يقابله في الصورة.
ولو عبر الإنسان عن معرفته بشيء ما في عبارة كلامية، كانت هذه العبارة وصفا كاملا للشيء إذا ما اشتملت على ألفاظ بعدد ما في الشيء من عناصر وأجزاء، مضافا إليها ألفاظ أخرى تصور العلاقات الكائنة بين تلك العناصر والأجزاء. خذ مثلا لذلك هذا المصباح المضيء على مكتبي، فإنني إذ أقول - بعد أن أنظر إليه - إنني «أعرف» أن على مكتبي مصباحا مضيئا، فإنما أعني بذلك أن قد ارتسمت في ذهني صورة تطابق الشيء الواقع. وأستطيع التعبير عن هذه الصورة بعبارة كلامية تجيء وصفا لما أعرفه فأقول: «مصباح مضيء على مكتبي.» فتكون كلمة «مصباح» مشيرة إلى المصباح، وكلمة «مضيء» مشيرة إلى الضوء المنبعث منه، وكلمة «مكتبي» مشيرة إلى المكتب الذي أمامي، وأما كلمة «على» فتشير إلى العلاقة الكائنة بين المصباح المضيء والمكتب. هذه العبارة الوصفية إن هي إلا وضع لفظي للصورة الذهنية التي التقطتها بعيني، وهي في الوقت نفسه عبارة صادقة لما بين أجزائها وأجزاء الشيء الخارجي من تقابل. ومعنى ذلك أن هذه العبارة تصف ما في ذهني، وما في الخارج على حد سواء، فهي تصدق على فكرتي وعلى الشيء الواقع في آن واحد. وإذن ففكرتي لا بد أن تكون صورة للشيء الواقع فيها ما في الشيء من أجزاء وعلاقات.
ويترتب على هذا الرأي في «المعرفة» نتيجة هي أيضا مما يسلم به الإنسان العادي تسليما لا يجد فيه مشقة ولا عسرا؛ لأنها كذلك مما يهدي إليه الإدراك الفطري، وهي أن العالم الخارجي موجود بغض النظر عن وجودي؛ إذ هو موجود مستقلا عن معرفتي إياه؛ فالمصباح المضيء على مكتبي قائم هناك، سواء اتجهت إليه ببصري لأراه أو أقفلت عيني بحيث لا تراه، فالأمر ها هنا هو بذاته الأمر في آلة التصوير وما تصوره؛ فالشيء المصور موجود سواء اعترضته آلة التصوير لتلتقط صورته أو لم تعترضه. بعبارة أخرى: لا يتوقف وجود الشيء على كوني أعرفه، وإن أحدثت هذه المعرفة تغيرا ما؛ فالتغير إنما يطرأ على الشخص العارف لا على الشيء المعروف؛ إذ يصبح ذلك الشخص بعد معرفته تلك عالما بما كان يجهله قبلها، فإذا لم أكن قد رأيت معابد الأقصر قبل الآن، ثم ذهبت إليها ورأيتها، فليست معابد الأقصر هي التي حدث لها التغير، إنما هو أنا الذي علم بعد جهل فتغير بهذا العلم الجديد كثيرا أو قليلا.
ومما يؤيد هذه النتيجة - إن كانت بحاجة إلى تأييد - أن إدراكي للشيء الخارجي لا يتوقف على إرادتي، فليس في وسعي - مثلا - أن أنظر إلى المصباح المضيء الذي أمامي الآن وأقول إنني مصمم على ألا أراه؛ لأن رؤيتي له ستتم رغم أنفي، رضيت بذلك أو لم أرض، ما دمت قد اتجهت بنظري إليه، فذلك دليل على أن وجود المصباح مستقل عن وجودي، ومستقل عن إدراكي له أو عدم إدراكي، يفرض نفسه علي فرضا ما دمت قد هيأت لنفسي وسائل إدراكه، لكن قارن ذلك بالحالة التي أخلق لنفسي فيها صورة خيالية؛ كأن أتصور جبلا من ذهب، فها هنا يتم تكوين الصورة بإرادتي، إن شئت كونتها وإن شئت انصرفت عن تكوينها؛ ذلك لأن جبل الذهب ليس موجودا حقيقيا من موجودات الواقع. وإذن فعالم الواقع - على خلاف الصور المتخيلة - ذو وجود مستقل عني، ومعرفتي إياه هي تصوير له لا أكثر ولا أقل.
والنتيجة الثانية التي تترتب على هذا الرأي في «المعرفة» هي أن العالم قوامه كثرة من أشياء، وليس هو بالحقيقة الواحدة التي تخلو من التعدد، فما دام العالم - كما أعرفه - مؤلفا من كائنات شتى: أشجار وأنهار وأحجار وأجرام في السماء وأفراد من إنسان وحيوان على الأرض، ثم ما دام هذا الذي أعرفه عن العالم هو صورة له، إذن فالعالم في حقيقته هو هذه الكثرة في الأشياء والوقائع والحوادث التي قد تتصل حينا وتنفصل حينا، وإذا كانت هذه هي حقيقة الأمر فيه كان خير سبيل إلى معرفته أدق معرفة هو تحليله إلى مقوماته ومكوناته، فحلل الطبيعة إلى عناصرها، وانظر إلى هذه العناصر كيف تختلف وكيف تأتلف؛ ينكشف لك الستر عن سرها الدفين، حللها تظهر لك الأشياء ذرات هي لب الحقيقة وصميمها، فكأنما نحن بهذا نقول: إن حقيقة العالم هي ما يظهر لنا منها، على شرط أن يكون الناظرون هم أولئك الذين زودوا أنفسهم بأدق آلات النظر؛ أي هم العلماء.
وعند هذه النقطة الأخيرة بعينها يبدأ الاعتراض على مذهب الواقعية الساذجة التي تجعل «المعرفة» تصويرا ذهنيا للشيء المعروف، فالاعتراض الأول على ذلك هو هذا، من من الناس تكون الصورة الذهنية التي عنده عن الشيء هي الفكرة الصحيحة عن ذلك الشيء؟ أهو الإنسان العادي بحواسه المجردة أم العالم بمجاهيره؟ إنني أنظر إلى سطح هذه المنضدة التي أمامي بعين مجردة فأراه أملس، حتى إذا ما نظرت إليه بمجهر العالم رأيت فيه ما هو أشبه بالوديان والجبال؛ لأن أليافه الخشبية ليست في حقيقتها التي تظهر تحت المجهر مستوية ملساء كما بدت للعين العارية، وأنظر إلى القمر بالعين المجردة، فإذا هو قرص مستو، ثم أنظر إليه بالمنظار المقرب فإذا سطحه كسطح الأرض من وعورة، فأي المعرفتين هي الصواب؟ ستقول إن الصواب هو - بالبداهة - ما يبدو تحت المجهر أو ما يبدو بالمنظار المقرب. لكن ذلك المجهر وهذا المنظار قد يجيء ما هو أدق منهما، وعندئذ تزداد وعورة القمر، وعندئذ أيضا نعلم أن ما كنا ظنناه حقيقة المنضدة والقمر قد تبين أنه لم يكن الحقيقة كلها، وهكذا، ثم تزداد الحال سوءا حين يجيئنا عالم الطبيعة الحديث فينبئنا بأن هذه المنضدة التي أراها خشبا صلبا هي في الواقع مجموعة كبيرة من كهارب موجبة وكهارب سالبة، وأن هذه الكهارب في حركة وتغير، وإذن فليست المنضدة على الصلابة التي أحسها بأصابعي ولا هي على السكون الذي يظنه فكري. فالخلاصة التي أنتهي إليها من ذلك هي أن الصورة الذهنية التي أكونها لنفسي عند رؤيتي لشيء ما ليست هي بالمعرفة الصواب عن حقيقة ذلك الشيء؛ وبالتالي لا تكون الواقعية الساذجة قد أصابت الرأي حين قالت إن الفكرة التي أكونها بحواسي عن الشيء الذي أدركه هي صورة مطابقة للشيء نفسه، وأن المعرفة بوجه عام هي صورة العالم الخارجي في رأس الإنسان العارف.
Unknown page