هذا هو جوهر مذهب الشكاك جميعا، وهو أن المعرفة نسبية لا مطلقة؛ أي تكون صوابا أو خطأ بالنسبة للشخص العارف، ويستحيل أن أجد غير الإنسان نفسه ليقيس الرأي من حيث صوابه أو خطؤه. وهذه النسبية في المعرفة تكون ظاهرة في الآراء الأخلاقية بوجه خاص؛ فالخير خير بالنسبة للشخص الذي يقول عنه إنه خير، ولا يمنع أن يكون هذا الخير نفسه شرا بالنسبة لشخص آخر ومن وجهة نظر أخرى.
وإذا أخذنا بتفسير أفلاطون في محاورته المذكورة (تياتيتوس) لمبدأ بروتاجوراس هذا، كان الشبه قريبا جدا بينه وبين المذهب البراجماتي الحديث، (وقد أسلفنا شرحه في الفصل الثاني) حتى لقد قال زعيم من زعماء المذهب البراجماتي «هوشلر» عن نفسه إنه تلميذ لبروتاجوراس. ووجه التشابه هو في اعتبار صدق الرأي متوقفا على منفعة الإنسان صاحب الرأي؛ فقد تكون فكرتان صادقتين معا، لكن إحداهما أنفع من الأخرى فتكون أصدق منها بمقياس منفعتها ونتائجها، ولو أنها لا تكون أصدق منها من حيث دلالة كل منهما على واقع معين؛ مثال ذلك أنه لو كان شخص مصابا باليرقان، فإن كل شيء يبدو في عينيه أصفر، ولا معنى لقولنا له إن الأشياء في حقيقتها ليست صفراء ، وكل ما نستطيع قوله له هو أن الأشياء التي يراها هو صفراء يراها المعافون من مرض اليرقان بالألوان الفلانية. فعلى الرغم من أن ما يقوله المريض صادق؛ لأنه يرى الأشياء صفراء فعلا، وكذلك ما يقوله المعافون صادق؛ لأنهم يرون الأشياء ملونة على نحو آخر، إلا أن الأخذ برأي المعافين «أفضل»؛ لأنه «أنفع» في تيسير الحياة العملية وتسييرها.
فالمقياس في صدق الرأي ليس هو الرجوع إلى الحقيقة الموضوعية الخارجية؛ إذ إن ذلك - في رأي هذا المذهب - محال؛ فمحال أن تنظر إلى الشيء الخارجي بغير عينيك، وأن تمسه بغير جلدك، وأن تسمع صوته بغير أذنك، أو تذوق طعمه بغير لسانك. وإذن فلا مناص من استخدام حواسك أنت في إدراك الشيء؛ وبالتالي لا مناص من جعل حقيقته قائمة على إدراكك الذاتي له مهما اختلف ذلك الإدراك من إدراك الآخرين. وكثيرا ما يحدث هذا الاختلاف، فلن تقنع المريض بأن الطعام ليس مرا كما يقول هو حكما بوقع الطعام على لسانه، ولن تقنع المحموم بأن الأشباح التي يراها غير موجودة كما يظن.
وكثيرا ما يقال - خطأ - عن مبدأ بروتاجوراس هذا: - القائل بأن الإنسان مقياس الأشياء جميعا - إنه مبدأ ينتهي إلى هذه التقاليد والعقائد؛ لأن كل فرد من الناس سيذهب مذهبه دون أن تكون هنالك الحقيقة الموضوعية الواحدة التي يلتقي عندها الجميع. وواضح أن هذه النتيجة لا تلزم عن مقدمتها، بل على عكس ذلك ما قاله بروتاجوراس نفسه من أنه ما دام اتفاق الناس مستحيلا بالرجوع إلى حقيقة موضوعية لاستحالة هذا الرجوع؛ إذن فلا مناص في حياتنا العملية من الأخذ بالأنفع كما تقرره أغلبية الآراء، ولما كانت التقاليد هي التعبير عن رأي الأغلبية؛ فالأخذ بها أنفع اجتماعيا من الخروج عليها.
الفصل التاسع
حدود المعرفة الممكنة عند النقديين والوضعيين
أسلفنا لك القول في رأي المذهب النقدي متمثلا في «كانت» من أن المعرفة وسيلتها الحواس والعقل معا: الحواس تأتي إلينا بالمادة الخامة التي هي الإحساسات المختلفة من لون وصوت إلخ، والعقل بما في فطرته من قوالب أو مقولات يصب هذه الإحساسات المتفرقة ويصوغها، فإذا هي مدركة إدراكا حسيا بعد أن كانت شتيتا متفرقا من إحساسات، ثم من المدركات الحسية يكون العقل مدركاته العقلية، ومن هذه يكون أحكامه التي تصدق على العالم الخارجي صدقا مطلقا.
لكن إذا كانت هذه المعرفة الصادقة صدقا مطلقا في مستطاع الإنسان بواسطة حواسه وعقله معا، فلا بد أن تكون حدودها هي حدود الخبرة الحسية ما دامت هذه الخبرة شرطا لازما، ولما كانت الخبرة الحسية لا تتعلق إلا بظواهر الشيء كما تبدو للحواس؛ وجب ألا يجاوز علمنا هذه الظواهر؛ وإذن فالمعرفة اليقينية عن العالم الخارجي ممكنة على شرط ألا تجاوز حدود ظواهر الأشياء كما تتلقاها حواسنا.
لكن ظواهر الشيء هذه قد تكون مختلفة كل الاختلاف عن حقيقته في ذاته، ومع ذلك فلا حيلة لنا إلا الوقوف عند هذه الظواهر، أما إذا حاولنا أن نعرف «الشيء في ذاته» كما هو في العالم الخارجي المستقل عن ذوات أنفسنا، كنا كمن يحاول إدراك ما يستحيل إدراكه، ومعنى ذلك أن كل محاولة يحاولها العلم أو الدين للوصول إلى حقائق الأشياء في ذاتها هي محاولة فاشلة؛ لأنه لا يمكن للعقل أن يجاوز الظواهر الحسية لتلك الأشياء، فإن مضى العلم في محاولته الدخول في عالم الأشياء في ذاتها مع أنه عالم مجهول فوق متناول الإنسان تورط في الخطأ.
فإذا حاول العقل - مثلا - أن يحكم على العالم كله إن كان ذا نهاية محدودة أو كان لا نهائيا من حيث امتداده في المكان، على الرغم من كون العالم كله غير داخل في حدود ما يجوز للإنسان أن يبحث فيه؛ لأن العالم ككل لا يدخل في خبرة الإنسان، أقول: إن العقل إذا حاول مثل ذلك البحث وقع في تناقض وإشكال؛ لأنه سيجد نفسه مضطرا إلى رفض الفرضين معا؛ لأننا من جهة نتصور أن وراء كل حد مكاني حدا أبعد منه وهكذا إلى ما لا نهاية، مع أنه يتعذر علينا من جهة أخرى أن نتصور اللانهاية في المكان كيف تكون. كذلك لو حاول العقل أن يعرف هل كان للعالم بداية في سلسلة الزمن أم أنه كائن منذ الأزل؛ وقع في الإشكال نفسه؛ لأننا لا نحن قادرون على تصور الأزلية التي بغير ابتداء زمني كيف تكون، ولا نحن في الوقت نفسه نتصور كيف يمكن أن يكون العالم قد بدأ وجوده في لحظة زمنية معينة؛ إذ لا يسعنا سوى أن نسأل قائلين: وماذا قبل تلك اللحظة؟ وكذلك لو تساءل العقل: هل لسلسلة العلة والمعلول بداية أولى أم أنها سلسلة تمتد إلى الوراء إلى غير نهاية؟ لما أمكنه أن يجيب عن سؤاله؛ لأن العقل لا يستطيع أن يتصور أن سلسلة الأسباب والمسببات تظل ممتدة إلى غير نهاية بحيث يكون للمسبب سببه وللسبب سببه، ولهذا سببه، وهكذا إلى ما لا نهاية، وفي الوقت نفسه هو لا يتصور أيضا كيف يمكن أن تقف هذه السلسلة عند حلقة يصح أن نقول عندها: هذه هي العلة الأولى للكون، وهي نفسها غير ناشئة عن علة سابقة عليها.
Unknown page