Nazariyyat Macrifa
نظرية المعرفة والموقف الطبيعي للإنسان
Genres
منهج البحث:
في الفلسفات الحديثة - ولا سيما الفلسفات الأنجلوسكسونية - ميل إلى معالجة مشكلة المعرفة باتباع المنهج التحليلي، ولهذا المنهج فائدة لا تنكر في استبعاد الكثير من المغالطات اللفظية والمشاكل الوهمية من مجال الفلسفة، ولكن المنهج الذي نتبعه ها هنا والمستوى الذي يتخذه هذا البحث أبعد غورا من ذلك، ففي هذا البحث تناقش نقط البداية الأولى التي لا يناقشها الكثير من التحليليين أنفسهم، أو يتركونها تنزلق إلى مناقشاتهم دون وعي منهم، ومن جهة أخرى يصدر هذا البحث أحكاما عامة على الموقف الفلسفي المثالي، وهي أحكام يندر أن يستطيع الفيلسوف التحليلي إصدارها لانغماسه في التفاصيل؛ ذلك لأن الفلسفة التحليلية تفتح على الدوام تفاصيل فرعية، وهذه الفروع تؤدي إلى فروع أخرى للفروع، وهكذا ... ويظل التحليل يتسع وينتشر حتى يمتد إلى أكثر الألفاظ والقضايا شيوعا، ولهذا كله قيمته، ولكن كثيرا ما يحدث أن تنسى المشكلة الأصلية في غمار هذه التفاصيل، أو أن تتفتت إلى مجموعة من المشاكل الفرعية التي تتشعب بدورها، ويفقد الذهن صلته بالمشكلة من حيث هي مشكلة فلسفية أصيلة، وتتكون لديه عادة جديدة وغاية جديدة هي التحليل لأجل التحليل.
ولنضرب لذلك مثلا: فالفلاسفة التحليليون - من «مور
Moore » إلى «رايل
Ryle » - ظلوا يناقشون تفاصيل البراهين المتعلقة بوجود العالم الخارجي، وظهرت لهم أثناء هذه المناقشات آلاف المشاكل الفرعية، التي حل بعضها وما زال معظمها ينتظر الحل، ومع ذلك ظلت هناك مسلمات معينة تنزلق وسط هذا التيار الجارف من التحليلات، وهي مسلمات لو تطرق الشك إليها لكان معناه القضاء على جميع الجهود التحليلية وذهابها كلها هباء، فمثلا يتحدث آير - في كتابه: «مشكلة المعرفة» - عن مشكلة العالم الخارجي قائلا: «إن الرأي القائل: إنه قد لا تكون هناك أشياء مادية معينة ... هو فرض لا يقول به شخص عاقل أيا ما كانت الدلائل المؤيدة له، ولكن هذا لا يعني أنه مستبعد «شكليا» ... والواقع أنه لا يوجد في اللحظة الحالية - وفيما يتعلق بي - أي شك في أن هذه المنضدة وهذه الورقة ... موجودة، بل إني لأعلم أنها موجودة، وأعلم ذلك على أساس تجربتي الحسية، ولكن حتى لو كان الأمر كذلك، فلا ينتج عنه أن القول بوجودها ... يخلو «منطقيا» من أي وصف لتجربتي الحسية.»
1
هذا الرأي يتضمن مثلا لمسلمة هامة لم تناقشها الفلسفة التحليلية فيما يتعلق بمشكلة العالم الخارجي: وهي التسليم بأن وجود الأشياء موضوع للاستدلال «المنطقي» من تجربة الإدراك الحسي، كما تدل على ذلك الكلمات: «شكليا» و«منطقيا»، ولكن ماذا يكون الحال لو كانت المسألة من أساسها خارجة عن مجال المنطق والبرهان؟ وماذا يكون الحال لو عرفنا أن المنطق يعجز عن إثبات أشياء عديدة، وأن هذه الأشياء مع ذلك موجودة على نحو تستقل فيه عن البرهان وتسبقه؟ مثل هذا السؤال عن كون مشكلة العالم الخارجي تخضع للبرهان المنطقي أو لا تخضع له (وهو موضوع فصل مستقل في هذا البحث) خارج تماما عن مجال الفلسفة التحليلية، بل إن له - بطبيعته - أسبقية على كل المشاكل التي تناقش في هذا المجال، ولو كانت الإجابة عنه نفيا لكان معنى ذلك أن الجهود المضنية التي بذلها عدد كبير من هؤلاء الفلاسفة في مناقشة «البراهين» المتعلقة بوجود العالم الخارجي، هي جهود «غير ذات موضوع».
وإذن فالمنهج الذي نتبعه في هذا البحث هو منهج المناقشة المفصلة في الطرفين القصيين للفلسفة: المسلمات الأولى والمواقف المبدئية التي يقفها الفلاسفة، ثم النتائج النهائية التي يصل إليها الباحث في خاتمة مطافه؛ وعلى هذا الأساس وحده يكون من الممكن - في رأينا - إدراك العلاقة بين الفلسفة والموقف الطبيعي (وهي المحور الرئيسي الذي يدور حوله هذا البحث) في صورتها الحقيقية.
الموقف الطبيعي والعلم
أوضح ما يميز الموقف الطبيعي هو أنه لا يضع مشكلة وجود العالم الخارجي موضع التساؤل، بل «يطرح جانبا» التفكير في احتمال عدم وجود العالم وما فيه من «أشياء»، وهذا الموقف ليس «ساذجا» بالضرورة؛ إذ إن صفة السذاجة مرتبطة بنوع من الجهل أو «الغفلة»، في حين أن كل إنسان - حتى الفلاسفة والعلماء - يشارك في هذا الموقف في تصرفاته العملية.
Unknown page