Nazariyyat Macrifa
نظرية المعرفة والموقف الطبيعي للإنسان
Genres
3
لا يستطيع أحد أن يقول: إن هذا النوع من الأمثلة هو النوع الوحيد الذي يضربه المثاليون للتشكيك في الحواس، ولكن لا جدال في أنه يمثل عنصرا قويا من عناصر النقد المثالي للحواس، بل إنه يكاد يكون نقطة البداية المتكررة دائما في هذا النقد.
ولكن عندما نقول في موقفنا الطبيعي: إن الحواس تنقل إلينا معرفة بالعالم الخارجي، فما الذي نقصده ب «الحواس» هنا؟ إننا نقصد - بلا شك - حواس الإنسان السوي السليم، أعني الإنسان الذي اكتملت حواسه الخمسة، ويدرك وهو في حالة طبيعية لا يشوبها مرض أو شذوذ، أليس من المضحك إذن أن يرهق الفلاسفة المثاليون أنفسهم في سبيل البحث عن حالات «شاذة» لكي يحملوا على الإدراك عامة حتى لو كان سويا، فيظلون يتحدثون - مثل ديكارت - عن حالات الهلوسة، أو مثل باركلي عن المولود أعمى، أو مثل شوبنهور عن ازدواج الرؤية، أو مثل هيوم عن الجنون، حتى ليكاد ميدان نظرية المعرفة يتحول إلى «مصحة» كل نزلائها من الشواذ والمنحرفين والمجانين، ويظل أطباؤهم من الفلاسفة يرعونهم بكل حدب، لا لكي يشفوهم، بل لكي يخيفوا بهم الأصحاء!
إن المبدأ الذي يعتمد عليه المثاليون في هذه الحالة، وهو مبدأ «ما يصح على الجزء يصح - أو قد يصح - على الكل.» هذا المبدأ لا يكون صحيحا إلا إذا كان الجزء والكل مشتركين في الكيف، أعني إذا كان الكلام ينصب دائما على حالة واحدة للحواس، ولكن الذي يحدث بالفعل هو أن المثالي يضرب أمثلة من حالات الإحساس «الشاذة» للتشكيك في الإحساس السوي، وهو خطأ حتى من ناحية الاستدلال ذاته.
والأمر الذي لا شك فيه أن منهج الالتجاء إلى حالات الشذوذ يؤدي إلى التشكيك، لا في الحواس وحدها، بل في أية قوة أو ملكة أخرى لدى الإنسان، ففي وسع المرء - باتباع هذا المنهج نفسه - أن يشكك في العقل ذاته؛ لأن هناك أناسا يفكرون - لأسباب مختلفة - بطريقة فاسدة، وفي المنطق لأن الأطفال والمجانين لا يتبعون قواعده، أو لأنه يعجز عن إرشادهم إلى طريقة التفكير السليم، والأمر الوحيد الذي يحول دون هذا النوع من الشك هو اتباع المبدأ العام، القائل: إن خطأ الحالات الشاذة لا يعني خطأ الحالات السوية؛ لاختلاف الحالتين الأساسي في الكيف.
ويؤدي بنا تحليل الأمثلة السابقة ذاتها إلى كشف وجه آخر من أوجه أخطاء الشك المثالي في الحواس: فكما يعتمد هذا الشك كثيرا عن حالات الشذوذ، فإنه يعتمد أيضا في كل نقد مثالي للحواس، مثال: العصا التي تبدو منكسرة في الماء، أو مثال السراب، أو البرج الذي يبدو عن بعد مستديرا بينما هو في حقيقته مربع ... إلخ، هذه الأمثلة كلها تفترض نوعا من الانفصال بين الحواس، وتعتمد على حاسة واحدة، هي حاسة الإبصار في معظم الأحيان، فالمعنى الحقيقي لما يقوله المثاليون في هذه الحالات هو: إذا نظرنا إلى الأشياء من خلال حاسة الإبصار وحدها لبدت العصا منكسرة ... إلخ، والرد البسيط على ذلك هو أننا لو استخدمنا بقية حواسنا - ولا سيما اللمس - في كل الحالات التي يتحدث عنها المثاليون لتمكنت الحواس «وحدها» من تصحيح أخطاء بعضها البعض.
والحق أن هذا الخطأ المثالي، خطأ فصل الحواس، وهو في واقع الأمر مظهر آخر من مظاهر الابتعاد عن الحالة «السوية» في الإدراك، ففي إدراكنا المعتاد نستخدم حواسنا كلها معا، ولا نجزم بالحكم على شيء لمجرد إدراك حاسة واحدة له، ما لم يكن هذا الشيء بعيدا إلى الحد الذي لا يسمح بالوصول إليه، وهكذا يبدو أن النقد المثالي يفترض هنا أيضا حالة لا تتحقق بالفعل، هي حالة الفصل بين الحواس.
ولنضرب مثلا واضحا كل الوضوح على هذا النوع من الخطأ: ففي كتاب
Knowledge and Perception
ينتهي المؤلف «برتشارد
Unknown page