Nazariyyat Macrifa
نظرية المعرفة والموقف الطبيعي للإنسان
Genres
والمهم في هذا كله - على أية حال - هو أن أعنف الفلاسفة نقدا لفكرة الجوهر في الفلسفة كانوا يعترفون في كتاباتهم ضمنا بأن الفكرة مرتبطة بموقف الإنسان الطبيعي، رغم محاولتهم تصوير التجربة على نحو يخالف ما حدث فعلا في هذا الموقف، والنتيجة الحتمية للارتباط بين فكرة الجوهر - مفهومة بمعنى أنها إدراك موضوعات إدراكنا على أنها «أشياء» - وبين التجربة اليومية الفعلية للإنسان، هي أن ذلك الارتباط سيظل مستمرا وقائما مهما تغيرت الظروف العلمية أو الفكرية التي يعيش فيها الإنسان؛ ذلك لأن الموقف الطبيعي - كما لاحظنا من قبل - غير قابل للتغير، ومقتضياته الأساسية تظل قائمة على الدوام.
وإذا كان ضمن هذه المقتضيات فكرة وجود «أشياء» لها كيان مستقل قائم، وما تؤدي إليه هذه الفكرة من القول بوجود «جواهر»، فإن هذه المقتضيات ستظل على الدوام لازمة للموقف الطبيعي، ومن العبث أن يحاول أحد في أي عصر فصلها عنه.
ومع ذلك، فمن الشائع جدا أن نجد فيلسوفا يحاول أن يثبت أن نظرة الإنسان إلى العالم بوصفه مؤلفا من «أشياء» قد تطورت وما زالت قابلة للمزيد من التطور، وسنضرب لذلك مثلين: (أ)
ففي كتاب «علم الميكانيكا» يقول إرنست ماخ: «إن الطبيعة تتألف من إحساسات هي عناصرها، ومع ذلك فقد التقط الإنسان البدائي أول الأمر مركبات معينة لهذه العناصر، أعني تلك التي تتسم بثبات نسبي وبأهمية أعظم بالنسبة إليه، فأول الكلمات وأقدمها هي أسماء «أشياء»، وحتى في هذه المرحلة نجد عملية تجريد للأشياء مما يحيط بها، ومن التغيرات الصغيرة المستمرة التي تمر بها هذه الإحساسات المركبة، والتي لا تلاحظ لأنها ليست بذات أهمية عملية، فلا وجود لشيء لا يتغير، وإنما الشيء تجريد، والاسم رمز لمركب من العناصر نجرد منه التغيرات، والسبب الذي يجعلنا نطلق كلمة واحدة على مركب كامل هو أننا نريد أن نوحي بكل الإحساسات المكونة دفعة واحدة، فالإحساسات ليست علامات على الأشياء، وإنما الشيء هو في الواقع رمز فكري لإحساس مركب ذي ثبات نسبي، وبعبارة أصح: فالعلم ليس مؤلفا من «أشياء» هي عناصره، وإنما من ألوان وأصوات وضغوط وأمكنة وأزمنة، وبالاختصار فهو مؤلف مما نسميه عادة بالإحساسات الفردية.»
21
في هذا النص يحاول المؤلف أن يقنعنا بأن فكرة «الشيء» ترجع إلى عملية غير صحيحة قام بها الإنسان البدائي لأغراض عملية، أي إن لفكرة «الشيء» أصلا تاريخيا مرتبطا بظروف معينة في مدنية الإنسان لا بطبيعة الإنسان نفسه، وهو حين يشير إلى أن أقدم الألفاظ هي أسماء الأشياء، يرمي إلى إثبات هذا الارتباط بين تكوين فكرة «الشيء» وبين الإنسان البدائي، على حين أن هذا القدم إن دل على شيء فإنما يدل على تأصل هذه الفكرة في طريقة إدراك الإنسان من حيث هو إنسان، وعلى أنها لا تتصل من قريب أو بعيد بأية مرحلة حضارية بعينها. (ب)
وتقترب من ذلك إلى حد بعيد تلك المحاولة التي بذلها «مارجنو
Margenau » لإثبات تطور قواعد تلك العملية التي يضفي بها الإنسان صبغة الشيئية على موضوعات إدراكه، فهو يذهب في كتابه «طبيعة العالم المادي» إلى أن عملية إضفاء الشيئية
reification
تنطوي على عدة عناصر لا يمكن استخلاصها بالتجريد من المعطيات الحسية، ومن بين هذه العناصر: عنصر التركيب وفقا لقواعد قابلة للتغير، لا كامنة في طبيعة الذهن البشري كما اعتقد كانت وأتباعه، وهكذا انتهى إلى أن «عملية إضفاء صبغة الشيئية هي في الواقع أول خطوة يتخذها جنسنا في سبيل الوصول إلى الإجراءات الأكثر تعقيدا والسائدة حاليا في العلوم الدقيقة.»
Unknown page