مقدمة
إيضاحات مبدئية
الموقف الطبيعي والعلم
الفلسفة والموقف الطبيعي
مراحل المثالية
مشكلة خارجية العالم
دور العقل في مشكلة المعرفة
المثالية ومحتوى المعرفة
المثالية والإنسان
خاتمة
تذييل
مقدمة
إيضاحات مبدئية
الموقف الطبيعي والعلم
الفلسفة والموقف الطبيعي
مراحل المثالية
مشكلة خارجية العالم
دور العقل في مشكلة المعرفة
المثالية ومحتوى المعرفة
المثالية والإنسان
خاتمة
تذييل
نظرية المعرفة والموقف الطبيعي للإنسان
نظرية المعرفة والموقف الطبيعي للإنسان
تأليف
فؤاد زكريا
مقدمة
يسارع الفلاسفة إلى الترحيب بأي شيء تبدو عليه سيماء الغرابة، ويخالف أول أفكار البشر وأكثرها تلقائية، ويعدونه علامة من علامات سمو علمهم الذي يستطيع كشف آراء بعدت إلى هذا الحد عن وجهة النظر الشائعة، ومن جهة أخرى، فإن أي شيء يقترح علينا ويسبب دهشة وإعجابا، يرضي الذهن إلى حد يجعله يستسلم لهذه الانفعالات السارة حتى لا يعود لديه مجال للاقتناع بأن لذته قد لا يكون لها أي أساس، ومن هذه الاستعدادات لدى الفلاسفة ولدى تلاميذهم ينشأ ذلك التفاهم المتبادل بين الطرفين؛ إذ يأتي الأولون بمجموعة ضخمة من الآراء الغريبة التي لا يقدم لها تعليل، ويصدقهم الآخرون على التو.
Hume: A Treatise of Human Nature
Book I part II Section I
تفرض كل مهنة على من يحترفها مجموعة من الآراء والمواقف التي تميزه عمن يحترفون مهنا أخرى، وتبدو غريبة خارجة عن المألوف في نظر غيره، ومهنة الفلسفة ليست استثناء لهذه القاعدة، فالأمر الذي لا شك فيه أن الباحث المتخصص في الفلسفة هو اليوم صاحب مهنة لها «جو» خاص يجده غير المتخصص في الفلسفة غريبا خارجا عن المألوف، في هذا «الجو» يقول الفلاسفة بآراء، ويتخذون مواقف، هي في نظرهم من الأمور العادية المألوفة، مع أنها في نظر غيرهم مذهلة لا تكاد تصدق، ومن أكثر هذه الآراء شيوعا: تلك التي يعبر عنها الفلاسفة بصور مختلفة منها: إن العالم الخارجي غير موجود، أو إنه ذاتي، تلك الآراء - المتعلقة بمشكلة تؤلف الجزء الرئيسي في مبحث المعرفة، الذي ربما كان أهم أجزاء الفلسفة العامة أو الميتافيزيقا - هي إذن جزء لا يتجزأ من التراث الفلسفي كما ينقل من جيل إلى جيل، ولكنها تبدو بعيدة تماما عن التصديق، بل عن التصور، حالما يخرج بها المرء عن دائرة الفلسفة المتخصصة.
ولا أظن أن أحدا من دارسي الفلسفة لم يمر في وقت من الأوقات بتلك التجربة التي يتعرض فيها لسخرية الآخرين - الذين قد يكونون أناسا عاديين أو أشخاصا متخصصين في فروع أخرى من العلم - من مواقف الفلاسفة التي تكاد تصل في نظر هؤلاء الأخيرين إلى حد الجنون، ومن أهمها: ذلك الموقف المثالي وما يقترن به من إنكار لوجود العالم الخارجي أو شك فيه، ولكن لنفرض أن واحدا من هؤلاء المتخصصين في الفلسفة قد اتخذ الموقف المضاد، أي دافع عن وجهة النظر «المعتادة» التي يعبر عنها «غير الفلاسفة»، فماذا يكون رأي الفلاسفة فيه؟ إنني لا زلت أذكر نظرة الاستغراب التي نظرها إلي أحد الأساتذة وهو يناقشني في البحث الذي تقدمت به لدرجة الدكتوراه، ودافعت فيه عن وجهة النظر «المعتادة» هذه، لقد سألني: أتعني «حقا» أن تدافع عن وجهة نظر «الإنسان المعتاد»؟ وكان في تساؤله دهشة لا تقل عن تلك التي يبديها عالم الرياضة إذا سمع أحدا يعترض على صحة جدول الضرب!
هذا إذن هو الموقف السائد فيما يتعلق بالصلة بين الفلاسفة وغير الفلاسفة: فالأولون قد أصبح لهم مجالهم الخاص الذي يترفعون فيه عن وجهة نظر «العامة» ويعدون رفضها أول شرط «للسلوك» إلى ميدان الفلسفة، والآخرون يدهشون للآراء النظرية الميتافيزيقية لدى الفلاسفة، ولا يأخذون بواحد منها في حياتهم المألوفة ... ويظل كل من الطرفين متمسكا بموقفه دون أية محاولة للتفاهم.
وإذا كان غير الفيلسوف غير ملوم في عدم تعرفه على وجهة نظر الفلسفة، فإن الفيلسوف - بطبيعة مهنته - ينبغي أن يلام؛ لأنه يكاد يعد رفض موقف الذهن المعتاد من القضايا المسلم بصحتها، ويظل هو وطائفته يستخدمون حججهم ومصطلحهم الخاص الذي لا يعرفه غيرهم، وكأنه من الأسرار الحرفية التي لا ينبغي أن يطلع عليها إلا أربابها.
وإذا كان من «المخجل» في الوسط الفلسفي أن يحاول المرء الدفاع عن «الواقعية الساذجة»، فإن من «المضحك» - في نظر عالم الجيولوجيا أو عالم النبات - أن يحاول المرء إقناعه بأن العالم الذي نراه «من خلقنا نحن»، أو أن يثير المرء فكرة كون المظهر الذي يتبدى عليه هذا العالم خادعا، واحتمال كون العالم «في حقيقته» مخالفا لما ندركه.
وفي رأيي أن استمرار هذا الازدواج هو الأمر المخجل حقا، وليس مما يشرف الفلاسفة على الإطلاق أن يكتفوا بوصف الآخرين بأنهم من «العامة»، دون أية محاولة لتحليل سبب ذلك الاعتقاد القوي الذي يدفع «الناس» - وضمنهم الفلاسفة أنفسهم خلال الجزء الأكبر من حياتهم - إلى الأخذ بوجهة النظر الطبيعية. إن الفلاسفة يعدون وجهة النظر هذه «خطأ» ينبغي تجاوزه إلى غير رجعة، ولكن كان الأجدر بهم أن يكرسوا شيئا من جهودهم لإيضاح علة انتشار هذا «الخطأ» على هذا النحو الهائل بين جميع الآدميين غير المتفلسفين، وبين الفلاسفة أنفسهم في لحظات عدم تفلسفهم! إن ذلك الازدواج الذي يسود حياة من ينكر العالم الخارجي من الفلاسفة - حين يتصرف في هذه الحياة حسب الموقف الطبيعي، ويفكر فيها حسب الموقف المثالي - كان يستحق على الأقل تفسيرا أو تعليلا، ولكن كم من الفلاسفة كرس أبحاثه لهذه المسألة الحاسمة؟!
إن الفلسفة في حاجة إلى أن تخرج - من آن لآخر - من النطاق «الاحترافي» الذي ضربته حول نفسها، وتحدد علاقتها ببقية مجالات العالم، وهي - على الأخص - في حاجة إلى أن تنظر بفهم وتقدير لا بازدراء وترفع، إلى وجهة نظر «الإنسان» بالمعنى العام لهذه الكلمة، وينبغي أن تجد في نفسها الشجاعة للربط بين آرائها وبين هذا «الإنسان»، وإلا فستظل إلى الأبد «مهنة» ضيقة لا تلقى استجابة إلا من ذلك النفر القليل الذي احترفها.
وإن المبرر الوحيد لكتابة هذا البحث إنما هو كونه يعبر عن وجهة نظر شخص هو حقا من «المتخصصين» في الفلسفة، ولكنه لم يفقد أبدا شعور الإنسان الطبيعي بالدهشة إزاء كثير من قضايا الفلاسفة، أجل، فما زلت حتى اليوم أشعر بالدهشة كلما رأيت فيلسوفا يشك في وجود العالم الخارجي أو يصفه بأنه من «خلق الذات»، وهي نفس الدهشة التي اعترتني عندما اطلعت على هذا الرأي لأول مرة في أول كتاب فلسفي قرأته، ومنذ تلك اللحظة الأولى لم أكف عن الاعتقاد بأن في الأمر خطأ، ولكن كانت المشكلة بالنسبة إلي هي: أين يكمن هذا الخطأ؟
وفي هذا البحث سرد للمحاولات التي بذلتها للاهتداء إلى أصل هذا الخطأ، وهي - بلا شك - محاولات غير كاملة، ولن تؤدي إلى دحض كامل للرأي المضاد، ولكن ميزتها الوحيدة أنها - كما قلت - تعبير عن وجهة نظر شخص متخصص في الفلسفة لم يفقد في وقت ما ذلك الإيمان البسيط، أو سمه «الساذج» إن شئت، والذي يتميز به الإنسان في موقفه الطبيعي، فإذا كان في هذه المحاولة نقص، فلا يخالجني شك في أن البشرية ستصل يوما ما إلى دحض كامل للموقف المثالي، بحيث يتسق سلوك الإنسان العملي مع تفكيره النظري، ولا يعود في وسع أحد أن يقول مرة أخرى: إن وجود العالم الخارجي أمر مشكوك فيه، أو هو وهم لا أساس له، أو أن ذلك العالم من خلق الذات.
فؤاد زكريا
إيضاحات مبدئية
تعريفات:
أعني بالموقف الطبيعي نظرة الإنسان العادي إلى العالم الخارجي؛ إذ ينسب إلى هذا العالم - بما فيه من «أشياء» - وجودا مستقلا عن ذاته، ولست أعتقد أن صفة «الاستمرار في الوجود» من الصفات الضرورية للأشياء تبعا لهذا الموقف؛ إذ إن شعاع الضوء الذي يظهر في لمح البصر ثم يختفي، يمكن مع ذلك أن يعد «خارجيا»، رغم كونه غير مستمر، وإذن فصفة الاستقلال في الأشياء أهم من وجهة نظر الموقف الطبيعي، وهذه الصفة «يجوز» أن تتضمن كون الشيء ذا وجود دائم؛ إذ إن المفروض في الشيء المستقل أن يظل غير متأثر بالتغيرات الذاتية، وهذا الموقف هو الذي تطلق عليه اللغة الإنجليزية اسم
Common Sense
ويسمى في الفلسفة على التخصيص باسم «الواقعية الساذجة»، وهي تسمية ليست دقيقة كل الدقة، كما سنرى فيما بعد.
وأعني بالمثالية كل مذهب يعارض الموقف الطبيعي في نظرته إلى العالم الخارجي بإنكار استقلال هذا العالم أو التشكيك فيه، ويلاحظ على هذا المعنى أنه أوسع من المعنى الفلسفي المألوف؛ إذ إن فيلسوفا تجريبيا مثل هيوم يعد بهذا المعنى ذات نزعة مثالية، في حين يكون من الصعب - في ضوء كثير من التصنيفات الفلسفية المألوفة - إدراجه ضمن المثاليين، كما يلاحظ عليه أنه معنى سلبي، وهي صفة ربما كانت تحل كثيرا من الإشكالات المتعلقة بالبحث عن طابع مشترك يجمع بين المذاهب المثالية ذات الاتجاهات المختلفة؛ إذ يتضح آخر الأمر أن العنصر الأساسي الذي يمكن أن يقال: إنه مشترك بين كل هذه الاتجاهات، هو عنصر المعارضة التامة لموقفنا الطبيعي من العالم الخارجي، كما يلاحظ أخيرا أن التعارض بين المثالية وبين الموقف الطبيعي أشد من التعارض المألوف بين المثالية والواقعية؛ إذ إن بعض المذاهب «الواقعية» - كالواقعية النقدية - تقف من مشكلة العالم الخارجي موقفا لا يختلف كثيرا عن الموقف المثالي.
هدف البحث
يرمي هذا البحث إلى الدفاع عن موقفنا الطبيعي من العالم الخارجي، وذلك في الحدود الخاصة التي تكون مجال هذا الموقف، ووسيلة بلوغ هذا الهدف سلبية في الأغلب؛ إذ سنحاول إيضاح الخلط الذي وقعت فيه المثالية في هذا الميدان الرئيسي من ميادين نظرية المعرفة، وسنبين كيف تعجز المثالية عن إجابة الأسئلة التي تثيرها؛ إذ تعجز عن إيجاد تفرقة سليمة بين الظواهر الموضوعية والظواهر الذاتية، وعن تفسير خارجية العالم، بحيث تبدو في نهاية الأمر مجرد تفسير بلغة مختلفة للعالم الفعلي كما يقول به الموقف الطبيعي.
مجال البحث
يمثل هذا البحث في واقع الأمر إعادة تقويم فلسفية لمشكلة المعرفة، ولما كان الاهتمام يتركز فيه على المشكلة ذاتها، فقد كان من العبث أن تحرص على استيعاب مختلف الاتجاهات الفلسفية الفرعية التي أدلت بآراء في هذا الموضوع، ومن هنا فقد اكتفينا بالاتجاهات الرئيسية التي تأثرت بها المذاهب الفرعية؛ حتى نستطيع أن نتبين معالم المشكلة التي نعالجها دون أن يضيع الخيط الرئيسي لها بين التفاصيل العديدة، وهكذا تغنينا - مثلا - دراسة نظرية المعرفة عند هيوم (بالنسبة إلى أغراض هذا البحث) عن دراستها عند الوضعيين المحدثين، أو دراسة كانت عن دراسة الكانتيين المحدثين أو مختلف اتجاهات أصحاب مذهب الظواهر. حقا إن كثيرا من التفاصيل المفيدة ستضيع عندئذ، غير أن ضياع التفاصيل سيعوضه التركيز على المشكلة في أطرافها الرئيسية، وهكذا استمدت الأمثلة التي ضربت في الجانب الأكبر من هذا البحث مما يمكن أن يسمى ب «العصر الذهبي لنظرية المعرفة»، وهو العصر الذي يمتد من ديكارت إلى كانت وشوبنهور، والذي ظهرت فيه آراء يمكن أن تعد بحق ممثلة للاتجاهات الفلسفية «الرئيسية» في هذا الميدان.
منهج البحث:
في الفلسفات الحديثة - ولا سيما الفلسفات الأنجلوسكسونية - ميل إلى معالجة مشكلة المعرفة باتباع المنهج التحليلي، ولهذا المنهج فائدة لا تنكر في استبعاد الكثير من المغالطات اللفظية والمشاكل الوهمية من مجال الفلسفة، ولكن المنهج الذي نتبعه ها هنا والمستوى الذي يتخذه هذا البحث أبعد غورا من ذلك، ففي هذا البحث تناقش نقط البداية الأولى التي لا يناقشها الكثير من التحليليين أنفسهم، أو يتركونها تنزلق إلى مناقشاتهم دون وعي منهم، ومن جهة أخرى يصدر هذا البحث أحكاما عامة على الموقف الفلسفي المثالي، وهي أحكام يندر أن يستطيع الفيلسوف التحليلي إصدارها لانغماسه في التفاصيل؛ ذلك لأن الفلسفة التحليلية تفتح على الدوام تفاصيل فرعية، وهذه الفروع تؤدي إلى فروع أخرى للفروع، وهكذا ... ويظل التحليل يتسع وينتشر حتى يمتد إلى أكثر الألفاظ والقضايا شيوعا، ولهذا كله قيمته، ولكن كثيرا ما يحدث أن تنسى المشكلة الأصلية في غمار هذه التفاصيل، أو أن تتفتت إلى مجموعة من المشاكل الفرعية التي تتشعب بدورها، ويفقد الذهن صلته بالمشكلة من حيث هي مشكلة فلسفية أصيلة، وتتكون لديه عادة جديدة وغاية جديدة هي التحليل لأجل التحليل.
ولنضرب لذلك مثلا: فالفلاسفة التحليليون - من «مور
Moore » إلى «رايل
Ryle » - ظلوا يناقشون تفاصيل البراهين المتعلقة بوجود العالم الخارجي، وظهرت لهم أثناء هذه المناقشات آلاف المشاكل الفرعية، التي حل بعضها وما زال معظمها ينتظر الحل، ومع ذلك ظلت هناك مسلمات معينة تنزلق وسط هذا التيار الجارف من التحليلات، وهي مسلمات لو تطرق الشك إليها لكان معناه القضاء على جميع الجهود التحليلية وذهابها كلها هباء، فمثلا يتحدث آير - في كتابه: «مشكلة المعرفة» - عن مشكلة العالم الخارجي قائلا: «إن الرأي القائل: إنه قد لا تكون هناك أشياء مادية معينة ... هو فرض لا يقول به شخص عاقل أيا ما كانت الدلائل المؤيدة له، ولكن هذا لا يعني أنه مستبعد «شكليا» ... والواقع أنه لا يوجد في اللحظة الحالية - وفيما يتعلق بي - أي شك في أن هذه المنضدة وهذه الورقة ... موجودة، بل إني لأعلم أنها موجودة، وأعلم ذلك على أساس تجربتي الحسية، ولكن حتى لو كان الأمر كذلك، فلا ينتج عنه أن القول بوجودها ... يخلو «منطقيا» من أي وصف لتجربتي الحسية.»
1
هذا الرأي يتضمن مثلا لمسلمة هامة لم تناقشها الفلسفة التحليلية فيما يتعلق بمشكلة العالم الخارجي: وهي التسليم بأن وجود الأشياء موضوع للاستدلال «المنطقي» من تجربة الإدراك الحسي، كما تدل على ذلك الكلمات: «شكليا» و«منطقيا»، ولكن ماذا يكون الحال لو كانت المسألة من أساسها خارجة عن مجال المنطق والبرهان؟ وماذا يكون الحال لو عرفنا أن المنطق يعجز عن إثبات أشياء عديدة، وأن هذه الأشياء مع ذلك موجودة على نحو تستقل فيه عن البرهان وتسبقه؟ مثل هذا السؤال عن كون مشكلة العالم الخارجي تخضع للبرهان المنطقي أو لا تخضع له (وهو موضوع فصل مستقل في هذا البحث) خارج تماما عن مجال الفلسفة التحليلية، بل إن له - بطبيعته - أسبقية على كل المشاكل التي تناقش في هذا المجال، ولو كانت الإجابة عنه نفيا لكان معنى ذلك أن الجهود المضنية التي بذلها عدد كبير من هؤلاء الفلاسفة في مناقشة «البراهين» المتعلقة بوجود العالم الخارجي، هي جهود «غير ذات موضوع».
وإذن فالمنهج الذي نتبعه في هذا البحث هو منهج المناقشة المفصلة في الطرفين القصيين للفلسفة: المسلمات الأولى والمواقف المبدئية التي يقفها الفلاسفة، ثم النتائج النهائية التي يصل إليها الباحث في خاتمة مطافه؛ وعلى هذا الأساس وحده يكون من الممكن - في رأينا - إدراك العلاقة بين الفلسفة والموقف الطبيعي (وهي المحور الرئيسي الذي يدور حوله هذا البحث) في صورتها الحقيقية.
الموقف الطبيعي والعلم
أوضح ما يميز الموقف الطبيعي هو أنه لا يضع مشكلة وجود العالم الخارجي موضع التساؤل، بل «يطرح جانبا» التفكير في احتمال عدم وجود العالم وما فيه من «أشياء»، وهذا الموقف ليس «ساذجا» بالضرورة؛ إذ إن صفة السذاجة مرتبطة بنوع من الجهل أو «الغفلة»، في حين أن كل إنسان - حتى الفلاسفة والعلماء - يشارك في هذا الموقف في تصرفاته العملية.
ومن جهة أخرى، فإن وصف هذا الموقف ب «السذاجة» يغفل احتمالا آخر على جانب عظيم من الأهمية: فربما كان هذا الموقف هو الوحيد الذي يضمن للإنسان علاقة متسقة مع العالم الخارجي، وربما كان هو الحل الوحيد الذي يقتضيه سلوكنا في هذا العالم، في حين أن المواقف المضادة له - أي المثالية - إما أن تنتهي إلى إخفاق، أو تتوقف عند نقطة لا يمكنها المضي إلى ما بعدها، فتنتهي إلى نوع من اللا أدرية التي لا تحل أي إشكال، وبالاختصار فهناك دائما احتمال في أن يكون الحل الوحيد لمشكلة العالم الخارجي منتميا إلى المجال العملي، بعد أن يثبت عقم المحاولات «النظرية» للتشكيك في هذا العالم أو إنكاره، وطالما أن هذا الاحتمال قائم، فمن الخطأ وصف هذا الموقف بالسذاجة، بل إن الموقف المضاد قد يكون هو المفرط في التحليل والنقد بلا جدوى.
وأغلب الظن أن الموقف الطبيعي قد وصف بالسذاجة نتيجة لتلك الحالات التي يبدو فيها أن تقدم العلم البشري قد حتم الخروج عنه، مثال ذلك أن علماء الفلك لو كانوا قد التزموا هذا الموقف لما وصلوا إلى فكرة دوران الأرض حول الشمس؛ إذ إننا نعتقد - في موقفنا الطبيعي - أن الأرض هي الثابتة، وهكذا نجد أن تعريف الموقف الطبيعي يرتبط ارتباطا وثيقا بتحديد علاقته بالعلم أو بالموقف العلمي على الأصح، وسنحاول هنا أن نثبت أنه حتى لو وجدت تجارب أو كشوف علمية تبدو مخالفة للموقف الطبيعي، فإن هذا يرجع إلى اختلاف وظيفة الموقفين الطبيعي والعلمي، واختلاف الغرض من تجربة الإنسان في كل منهما.
ولإيضاح فكرتنا هذه نضرب مثلا بطريقة تعريف «آير» للموقف الطبيعي أو الموقف «الواقعي الساذج» كما يسميه، فهذا الواقعي الساذج يرى أن «الأشياء المادية التي ندركها عادة «معطاة» لنا مباشرة، بمعنى لا يحتاج إلى شرح، ولا يرى وجها للاستحالة في أن تكون أشياء كالذرات والإلكترونات مدركة مباشرة ... إلخ.»
1
وهنا يظهر ما نعتقد أنه وصف غير دقيق للموقف الطبيعي، فليس من مهمة ذلك الموقف أن يتحدث عن الإلكترونات والذرات، وليست هذه وظيفته، ولا علاقة له بهذا المجال، فللموقف الطبيعي مجال معين يقتصر عليه، ويظل دائما صحيحا في نطاقه، وفي رأينا أن قدرا غير قليل من الأخطاء الفلسفية يرجع إلى عدم الدقة في تحديد هذا المجال، أو إلى الخلط بينه وبين مجالات أخرى لا شأن له بها، وسنحاول فيما يلي أن نحدد خصائص هذا الموقف ومجاله بشيء من التفصيل.
فالموقف الطبيعي عملي وحيوي (بيولوجي) في المحل الأول، إنه ليس موقفا تحليليا أو نقديا نحاول فيه إرجاع الظواهر إلى أصلها أو كشف عللها، وإنما يتعلق هذا الموقف بسلوكنا العملي في هذا العالم، وهو يعبر عن استعداد طبيعي فينا لا يختلف كثيرا عن استعدادنا للأكل والشرب والنوم، بل إنه هو الذي يجعل هذه الاستعدادات الطبيعية الأخرى ممكنة، ومن المؤكد أن ذلك النزوع الطبيعي لدى جميع البشر إلى النظر إلى العالم على أنه ينطوي على «أشياء» خارجة عنا، راجع إلى أن هذه النظرة هي الوحيدة التي تيسر لنا سلوكنا العملي، وعندما نقول: إنها تيسر لنا السلوك العملي، فليس في ذهننا أية فكرة برجماتية عن إثبات صحة الموقف الطبيعي ل «نجاحه» في المجال العملي، بل إن ما نقصده أبعد من هذا بكثير؛ فنظرة الإنسان الطبيعية إلى العالم - وهي التي يعده فيها مكونا من أشياء خارجية مستقلة عنه - أعمق تأصلا في الإنسان من أن تعد مرتبطة بمجرد «النجاح» أو «الصلاحية»، وإنما نحن هنا إزاء ظاهرة لا يستطيع أحد أن يصفها بأنها «محدودة» بأي معنى من المعاني، ولا أظن أن أحدا من الباحثين قد صادف حالة ينظر فيها الإنسان «عمليا» إلى العالم على أنه غير مكون من أشياء خارجية مستقلة عنه، أعني حالة يعالج فيها شخص «النار» مثلا - من الناحية العملية - على أنها مجرد فكرة ذاتية في رأسه، وصحيح أننا سمعنا عن حالات كثيرة لأشخاص ألقوا بأنفسهم عمدا في النار، ولكني لا أظن أن أحدهم - طالما كان من العقلاء - قد فعل ذلك لاعتقاده بأن النار مجرد فكرة في رأسه، وبالتالي لن تؤذيه! وإن النتيجة المحزنة التي ينتهي إليها أي فعل عملي كهذا - لو حدث - لتدل على شيء واحد: هو أننا في حياتنا العملية اليومية لا نستطيع أن نسلك إلا على أساس هذا الموقف الطبيعي.
ولقد حلل «لوك» فكرة ارتباط الموقف الطبيعي بقدرة الإنسان على السلوك العلمي تحليلا رائعا في بضعة نصوص لم تلق الاهتمام الكافي بين الشراح، ولكن لها أهمية بالغة بالنسبة إلى أغراض هذا البحث، وفي أحد هذه النصوص يقول لوك:
لو كانت لنا حواس تبلغ من الحدة ما يمكنها من إدراك الدقائق الصغيرة للأجسام والتركيب الحقيقي الذي تتوقف عليه كيفياتها المحسوسة؛ لبعثت فينا دون شك أفكارا مختلفة كل الاختلاف، ولاختفى ما هو الآن اللون الأصفر للذهب، ورأينا محله نسيجا منظما من الأجزاء ذات الشكل والحجم الخاص، وهذا ما تكشفه لنا المجاهر بوضوح ... فالدم يبدو للعين المجردة أحمر كله، ولكن المجهر الجيد الذي يكشف أجزاءه الصغيرة لا يطلعنا إلا على كرات حمراء قليلة تسبح في سائل رائق ...
إن حواسنا تمكننا من معرفة الأشياء وتمييزها وفحصها بحيث يتسنى لنا تطبيقها في استعمالاتنا - على أنحاء شتى - لمواجهة مقتضيات هذه الحياة ... ولو تغيرت حواسنا وأصبحت أسرع وأحد لتغيرت مظاهر الأشياء ونظمها الخارجية في نظرنا تغيرا تاما، ولغدت - كما أظن - غير متمشية مع وجودنا - أو رفاهنا على الأقل - في هذا العالم الذي نعيش فيه ... فلو كانت حاسة سمعنا أشد ألف مرة مما هي عليه لسمعنا ضجيجا دائما يزعجنا ... ولو كانت حاسة الإبصار أحد ألف أو مئة ألف مرة مما هي عليه الآن في أحسن المجاهر لرأت العين المجردة أشياء أصغر بملايين من المرات مما تراه الآن، ولاقترب الإنسان من كشف نسيج الأجزاء الدقيقة للأجسام المادية وحركتها ... ولكن ... ربما لم يستطع هذا البصر الحاد الدقيق تحمل وهج الشمس أو وضح النهار، وربما لم يكن في وسعه إلا إدراك جزء صغير جدا من أي شيء في اللحظة الواحدة وعلى مسافة قريبة جدا، وإذا كان الإنسان يستطيع بهذه العين المجهرية ... أن ينفذ أكثر من المعتاد في التركيب الخفي والنسيج الأصلي للأجسام، فلن يعود عليه هذا التغيير بنفع كبير، إن لم يفده هذا الإبصار الحاد في الذهاب إلى السوق والتعامل فيه، وإن لم ير الأشياء التي ينبغي عليه تجنبها عن بعد كاف ...
2
وفي نص آخر يتحدث لوك عن يقيننا الطبيعي بوجود الأشياء خارجة عنا، ويوضح ارتباطه بحاجات الإنسان الطبيعية في هذا العالم فيقول:
إن اليقين بوجود الأشياء بالطبيعة عندما تشهد حواسنا بذلك، لا يبلغ المبلغ الذي يمكن أن تصل إليه قدرتنا فحسب، بل يبلغ أيضا القدر الذي تحتاج إليه طبيعتنا ... فهذا التأكيد بوجود الأشياء خارجنا يكفي توجيهنا في اكتساب الخير وتجنب الشر الذي تسببه هذه الأشياء، وهو ما يهمنا في معرفتنا إياها.
3
وإذا دلت هذه النصوص المفصلة على شيء، فإنما تدل على أن لوك قد اهتدى بكل وضوح إلى ذلك الارتباط الأساسي للموقف الطبيعي بقدرة الإنسان على السلوك العلمي في العالم الطبيعي، فإذا حاولت وأنت تسبح أن تنظر إلى البحر على أنه ليس خارجيا، فلن يكون لهذا من نتيجة سوى غرقك، وإذا شئت - خلال سيرك - أن تعد الشجرة فكرة ذاتية في رأسك، فلن يؤدي ذلك إلا إلى اصطدام رأسك ذاتها بها.
وإذن فللموقف الطبيعي مجاله الضروري، وهو المجال العملي الحيوي.
وحواسنا - مهما كانت «خشونتها» - تقدم إلينا صورة للعالم لا نستطيع أن نرفضها رفضا قاطعا في سلوكنا العملي، وإلا أدى ذلك إلى إلحاق أبلغ الأضرار بحياتنا ذاتها، حقا إن نصيب هذه الحواس يتفاوت نجاحا أو فشلا حين تقتحم ميادين أخرى، كميدان تفسير الظواهر أو فهمها، ولكنها في الميدان العضوي العملي لا مفر منها، وتؤدي وظيفتها الكاملة فيه، ومن العبث الاعتراض على قدرتها في هذا الميدان. •••
فإذا عدنا إلى النص الأول الذي اقتبساه من لوك لوجدناه في أول هذا النص يتحدث عن حدة الحواس كما لو كانت تؤدي بنا إلى إدراك «التركيب الحقيقي» الذي تتوقف عليه الكيفيات المحسوسة للأشياء، وتلك هي نقطة الضعف في هذا النص، وربما كانت فيه مجرد تعبير غير موفق لا يؤثر في السياق العام للنص، ولكنها في ذاتها تمثل اتجاها مشتركا بين كثيرين من مفكري العلم والفلسفة، وهو اتجاه كانت له أخطر النتائج بالنسبة إلى التفكير في مشكلة العالم الخارجي.
فهل هناك بالفعل صورة «حقيقية» للعالم؟ إننا نستطيع أن نميز على الأقل بين ثلاث صور لهذا العالم: (1)
الصورة «الخشنة»: التي تطلعنا عليها حواسنا: صورة العالم بما فيه من «أشياء» نتعامل معها في حياتنا اليومية. (2)
الصورة الميكروسكوبية: التي نرى فيها أو نحاول أن نرى «العالم الأصغر» عالم الكائنات الحية الدقيقة أو الخلايا أو الجسيمات. (3)
الصورة التلسكوبية: وهي صورة «العالم الأكبر» كما تكشفه لنا المناظير المكبرة بما لديها من قدرة على تقريب مسافات شاسعة إلى أنظارنا.
ولسنا في حاجة إلى أن نقول: إن كلا من الصورتين الميكروسكوبية والتلسكوبية تتعرض لاختلافات أساسية كلما كشفت آلات أقدر على تكبير الجسم الصغير أو تقريب الجسم البعيد.
وفضلا عن ذلك، فليس هذا هو العدد الوحيد من الصور الممكنة للعالم؛ فمن وراء العالم الميكروسكوبي، هناك عالم الذرات والإلكترونات وهو عالم تعد الجراثيم الميكروسكوبية بالنسبة إليه «عالما أكبر»، ومن وراء العالم التلسكوبي هناك المجموعات الكونية التي لم يصل إلينا ضوءها حتى الآن، والتي تعد الأبعاد التلسكوبية بالنسبة إليها «عالما أصغر»، وفي هذا - ولا شك - ما يجعل كلمة «الأصغر» و«الأكبر» كلمات نسبية إلى أقصى حد، ولا يمكن أن يكون لها معنى إلا من خلال منظور معين، وعلى أية حال فسوف نكتفي لإيضاح فكرتنا - بالصور الثلاث التي تحدثنا عنها - على أنها مجرد أمثلة للصور المختلفة الممكنة للعالم.
والآن، فهل هناك صورة معينة من هذه هي الصحيحة دون الأخريين؟ هل يستطيع أحد أن يقول: إن صورة كوب الماء في يدي باطلة؛ لأن المجهر يكشف آلافا من الكائنات الحية الدقيقة في قطرة واحدة منها؟ أو أن صورة المريخ - كما أدركها بعيني المجردة - باطلة؛ لأن التلسكوب يدرك بقعا ملونة وأجواء ليس لها أي أثر في صورتي هذه؟ ربما كان هناك ميل لدى البعض إلى الإجابة على هذه الأسئلة بالإيجاب؛ لأن أحد أطراف المقارنة هنا - وهو المنظور المعتاد - متهم دائما بالخطأ، ولكن النقطة التي نود إثباتها تتضح بسهولة إذا ما أجرينا المقارنة بين الطرفين الآخرين: فهل يجوز لنا أن نشك في دقة الميكروسكوب أو نعتقد ببطلانه لعجزه عن إدراك النجوم البعيدة، أو أن نرمي التلسكوب بالقصور؛ لأنه لا ينقل إلينا دقائق قطرة الماء؟ إن الجميع سيردون على هذا السؤال قطعا بالنفي، وهنا نسارع فنسألهم: ولكن «لماذا» لم تشكوا في دقة الميكروسكوب أو التلسكوب عندما عجز كل منهما عن إرشادنا في مجال الآخر؟ إن الجواب الوحيد على هذا السؤال هو أن لكل منهما «مجاله» الخاص، وهذه بعينها هي النقطة التي نود إثباتها.
فصورة العالم «صحيحة» حسب كل مجال من المجالات التي تستخدم فيها هذه الصورة، وبالنسبة إلى أغراض مجال الإنسان العملي الحيوي، تكون صورة العالم في الموقف الطبيعي صحيحة تماما؛ لأنها هي الوحيدة المتسقة مع غايات الإنسان في هذا العالم، ومن العبث أن تنقد إحدى هذه الصور الثلاث: الصورة الحيوية أو الميكروسكوبية أو التلسكوبية؛ لأنها تعجز عن أداء وظيفة الأخرى.
فإذا جمعنا الآن بين الصورتين الميكروسكوبية والتلسكوبية تحت «جنس» أعم - هو اسم «الصورة العلمية» - لجاز لنا أن نعبر عن هذه النتيجة الهامة السابقة تعبيرا آخر، هو أنه «من العبث أن ننقد الصورة التي نكونها للعالم في موقفنا الطبيعي لاختلافها عن الصورة العلمية للعالم؛ إذ إن كلا من الصورتين تؤدي وظيفة مختلفة تماما عن وظيفة الأخرى، وتسري على مجال مخالف تماما لمجالها.» •••
والآن فلنتحدث عن الخلط بين الموقفين الطبيعي والعلمي بضرب أمثلة له، وبيان آثاره العظيمة الأهمية في التفكير الفلسفي.
ولكي نوضح طبيعة هذا الخلط نضرب ذلك المثل المألوف لدينا جميعا، مثل العلاقة بين الأرض والشمس من حيث الدوران، فليس أوضح بالنسبة إلى أي شخص - لديه أبسط قسط من التعليم في عصرنا هذا - من أن الأرض هي التي تتحرك حول الشمس، ومع ذلك فمجرد القول بتحرك الأرض يعني أننا دخلنا في مجال «التفسير العلمي»، لا في مجال الحياة اليومية بما لها من مقتضيات بيولوجية، فرغم وضوح هذه الفكرة، فإن من المستحيل حتى الآن - وربما ظل من المستحيل إلى الأبد - أن نتصرف في حياتنا اليومية على أساس أن الأرض متحركة؛ إذ إن هذه الحركة لا تؤثر مطلقا في ذلك المجال الحيوي الذي يسود فيه الموقف الطبيعي، ومن هنا كنا لا نزال نرى الناس جميعا - بما فيهم كبار علماء الفلك لدينا - يستخدمون في أحاديثهم المعتادة تعبيرات مثل «عندما طلعت الشمس أو غابت ...» هذه التعبيرات ليست مجرد تعبيرات متوارثة منذ كان الناس يعتقدون بحركة الشمس حول الأرض، وإنما هي تعبيرات تدل على ما يلزمنا في موقفنا الطبيعي، والدليل على ذلك أننا سنسخر حتما من ذلك الذي يستخدم في حديثه المعتاد عبارة مثل «قابلت فتاتي على شاطئ البحر عندما دارت الأرض بحيث لم تعد الشمس ظاهرة ...» لماذا إذن نسخر من مثل هذا التعبير مع أنه صحيح ودقيق، ونفضل عليه تعبيرا آخر أقل دقة هو «بعد غروب الشمس»؟ لأن المسألة هنا ليست دقة أو عدم دقة أو صحة وبطلان، وإنما هي مسألة مجالين مختلفين لكل منهما مقتضياته الخاصة وينبغي ألا يخلط بينهما.
ولنسر خطوة أخرى في طريق إيضاح فكرتنا، فنقول: إن الكثيرين ينقدون الموقف الطبيعي على أساس أنه كان عقبة في طريق التقدم العلمي، ففي المثال السابق كان الاعتقاد «الطبيعي» بأن الشمس هي المتحركة - وهو اعتقاد تولده الحواس بإدراكها ثبات الأرض وتغير مواقع الشمس - عائقا في سبيل كشف العلاقة الحقيقية بين الأرض والشمس من حيث الحركة، وظل يغذي حركة مقاومة النظرية الفلكية الجديدة بعد ظهورها بمدة طويلة، وهذا الانتقاد صحيح ولا شك، ولكن الخطأ هنا في واقع الأمر لم يكن خطأ الموقف الطبيعي ذاته، بل خطأ العلماء القدماء الذين حاولوا الاكتفاء بالموقف الطبيعي وتفسير كل الظواهر العلمية من خلاله، والأمر الذي لا شك فيه أن الموقف الطبيعي والموقف العلمي يكونان في بداية الأمر متفقين، ثم يصبح للعلم مجاله الخاص كلما اقتضى تقدمه البحث عن أوجه أخرى للظواهر غير الأوجه المحسوسة مباشرة منها، ولكن الذي ينبغي أن نتنبه إليه - مع اعترافنا بهذا الانتقاد - هو أن «الموقف العلمي حين يستقل عن الموقف الطبيعي لا ينبغي أن يحل محله في ميدانه»؛ إذ يظل الموقف الطبيعي محتفظا بصلاحيته وقيمته في الميدان المخصص له، ويكون الفارق بين حالة العصر المستنير والعصر غير المستنير هو في إدراك الأول لارتباط هذا الموقف بمجاله الخاص، وكف الأذهان عن محاولة تطبيقه في جميع الميادين.
ولقد كان النزاع الفكري المشهور الذي دار بين الفيلسوفة الإنجليزية «سوزان ستبنج
S. Stebbing » وبين مجموعة العلماء الإنجليز الذين أقحموا أنفسهم في ميدان الفلسفة وأرادوا استخلاص نتائج فلسفية خطيرة من الكشوف العلمية الثورية التي حفل بها الربع الأول من القرن العشرين؛ كان هذا النزاع مظهرا من مظاهر مشكلة العلاقة بين العلم والموقف الطبيعي، وقد وقفت «سوزان ستبنج» موقفا حاسما ضد تشويهات دنجتن وجيمس جينز التي كانت - من الوجهة الفلسفية - بعيدة كل البعد عن ذلك المستوى الرفيع الذي بلغاه في ميادين تخصصهما العلمية، فقالت: «لا شيء سوى الفوضى يمكن أن ينتج عن ... الخلط بين اللغة التي تستخدم استخداما سليما للتعبير عن الأشياء المحيطة بنا وعن معاملاتنا اليومية معها، وبين اللغة المستخدمة لغرض المناقشة الفلسفية والعلمية.»
4
ثم زادت فكرتها تحديدا بقولها «... إن النظريات الحديثة في الذرة لا تقدم أدنى مبرر للقول بأن التطورات الأخيرة في الفيزياء تؤدي - على أي نحو - إلى إثبات بطلان المادية، أو يمكن استخدامها في تقديم أية حجج مؤيدة للمثالية.»
5
ولا شك أيضا أن «تولمين
Toulmin » كان في ذهنه هذا النزاع ذاته حين أكد نفس الفكرة التي نقول بها في ضرورة تجنب الخلط بين اللغتين العلمية والفلسفية، فقال: «ليس من حق العالم أن يشكك في أي تفسير للتجربة تقدمه اللغة اليومية المعتادة بحجة أن هذه اللغة تخفق فيما تتصدى له؛ ذلك لأن اللغة اليومية تصف موضوعات تجربتنا على نحو يحقق أغراضنا المعتادة أكمل تحقيق ... فالمنضدة التي أكتب عليها صلبة، وكذلك الحال في الكرسي الذي أجلس عليه، ومن حقي أن أتخذ أيا منهما مثلا للشيء الصلب عندما أقوم بتعليم أي شخص فكرة الصلابة، وعلى أساس معرفتي بصلابتهما أبني اقتناعي بأنني إذا اصطدمت بأي منهما في الظلام فسوف أصاب بكدمة ... غير أن العالم يطرح جانبا فكرة الصلابة بمعناها اليومي؛ لأنها قد تؤدي به إلى الاعتقاد - خطأ - بأن أي شيء لا يمكن أن يخترق المنضدة أو الكرسي حتى ولا شعاع من أشعة ألفا، ومن حقه تماما أن يفعل ذلك بوصفه عالما فيزيائيا، ولكن من الخطأ أو من التخبط أن يقول: إن هذه المنضدة ليست صلبة على الإطلاق؛ إذ إن أشعة ألفا تخترقها، فلا بد إذن أن تكون مليئة بالثقوب، أي إن العالم يكون على خطأ لو تصور أن نتائج تجربته تفند مفهوم الصلابة بمعناها اليومي.»
6
وهكذا يمكن القول: إن الفكرة التي ننادي بها - والتي يمكننا أن نجد صدى لبعض جوانبها في كتابات فلسفية أخرى - ليست على الإطلاق دفاعا «مطلقا» عن الموقف الطبيعي، وإنما هي دفاع عنه في تلك المجالات التي لا ينبغي أن يزاحمه فيها الموقف العلمي، والتي ينبغي أن تظل لغة الموقف الطبيعي هي وحدها السائدة فيها، أما في المجالات التي يجب أن تكون الكلمة الأخيرة فيها للعلم، فمن السذاجة - دون شك - أن يحاول أحد الدفاع عن الموقف الطبيعي على حساب العلم.
ولقد كان الفيلسوف الفرنسي المعاصر «جاستون باشلار» من أشد المفكرين نقدا للموقف الطبيعي، بوصفه عقبة ظلت تعترض طريق التقدم العلمي ردحا طويلا من الزمان، وكان نمو العلم - في رأيه - نموا متعرجا لا يسير في خط مستقيم، بل يحدث التقدم فيه من خلال صراع مستمر مع الخطأ، فالحقيقة العلمية خطأ تم تصحيحه، وليس ثمة قيمة كبيرة لتلك الحقيقة التي تظهر منذ البداية واضحة ساطعة متميزة عن كل ما عداها (وفي ذلك يتخذ باشلار موقفا مضادا تماما لموقف ديكارت، الذي جعل من الوضوح والتميز معيارا لصحة الأفكار، وكانت أرفع الحقائق في نظره هي تلك التي تفرض نفسها على الذهن، وتصدر عن الحدس، على نحو لا نملك معه إلا قبولها)، بل إن الخطأ كامن في قلب الحقيقة، وللخطأ الأولوية في كل معرفة حقة تتوصل إليها الإنسانية؛ لأن هذه المعرفة إنما هي - في الواقع - خلاص تدريجي من ربقة الجهل والخطأ الذي يظل يفرض نفسه علينا ما لم نعمل على مقاومته بلا هوادة، ولا جدال في أن تشبث الخطأ بمواقعه، واضطرار العلم في كل خطوة من خطوات تقدمه إلى أن يكافح ويصارع من أجل إزاحة «عقبة» الجهل التي تقف أمامه بعناد، إنما يرجع إلى تأثير الموقف الطبيعي الذي يزاحم الروح العلمية ويمسك بتلابيبها محاولا منعها من المضي في طريقها قدما.
هذه الحملة الشعواء التي شنها باشلار على الموقف الطبيعي، قد توحي بأن الرأي الذي ندافع عنه في هذا الكتاب متعارض مع موقف مفكر من أعظم فلاسفة العلم في عصرنا الحاضر، وبالفعل استنتج البعض من ذلك أن كتابات باشلار تعد تفنيدا مسبقا لموقف الدفاع عن الموقف الطبيعي،
7
على أن الأمر الذي ينبغي أن نتنبه إليه هو أن باشلار كان يتحدث على الدوام من المنظور العلمي، فلم تكن مهمته هي إجراء مقارنة «مطلقة» بين الموقف الطبيعي والموقف العلمي، وإنما كان يبحث في الموقف الطبيعي من حيث مدى تأثيره في تطور العلم، ولقد كان من المتوقع، في هذه الحالة، أن يوجه انتقادا مريرا إلى الموقف الطبيعي عندما يتدخل في مجرى العلم، ويعده عقبة أساسية يتعين على العلم أن يكافحها بلا هوادة.
وعلى هذا الأساس أسهب باشلار في وصف تلك المرحلة التي كان العلماء يخلطون فيها بين مقتضيات البحث العلمي ومقتضيات الموقف الطبيعي، وهي المرحلة التي يسميها «بالفترة قبل العلمية
période préscientifique » والتي تمتد في رأيه حتى القرن الثامن عشر، ففي هذه المرحلة كان العلماء عاجزين عن التفرقة بين البحث العلمي وبين وقائع الحياة اليومية، وكانوا يملئون كتاباتهم وأبحاثهم بحكايات وقصص تنتمي إلى مجال العالم اليومي، ويبدءون دائما بإشارات إلى التجربة العامية المألوفة، ويقفون متعجبين أمام الظواهر الطريفة والملاحظات والمشاهدات المثيرة، وكان التأليف العلمي مختلطا إلى حد بعيد بالصور والمجازات والاستعارات، وفي مثل هذا المجال العيني يستحيل أن يقوم علم بالمعنى الصحيح؛ إذ إن العلم إنما هو انتقال من العيني إلى المجرد، والتجريد - الذي هو تركيب ذهني بحت - يؤلف عالما علميا خاصا يشيد عمدا على نحو منفصل عن التجربة المباشرة، ومن هنا كان قول باشلار: «ينبغي أن تتكون الروح العلمية ضد الطبيعة، وضد ما تدعونا إليه الطبيعة وتلقننا إياه في داخلنا وفي خارجنا، وضد الاندفاع الطبيعي، والواقعة الطريفة المتنوعة، فمن الواجب أن تتكون الروح العلمية عن طريق إعادة تشكيل ذاتها، وهي لا تستطيع أن تتعلم - إزاء الطبيعة - إلا بتنقية المواد الطبيعية وتنظيم الظواهر المختلطة، بل إن علم النفس ذاته لن يصبح علميا إلا إذا أصبح نظريا
discursive
كالفيزياء، وأدرك أننا لا نستطيع أن نفهم الطبيعة إلا بمقاومتها، وأن هذا يصدق على ما في داخلنا مثلما يصدق على ما في خارجنا.»
8
وهكذا كان اعتراض باشلار منصبا - في الواقع - على «الخلط» بين مجالي العلم والتجربة اليومية، لا على هذه الأخيرة في ذاتها ... فإذا اتخذت التجربة اليومية أساسا لبحث علمي كان من الضروري انتقادها، وتدل فكرة المقاومة والتصحيح المستمر - التي أكد باشلار أنها هي المبدأ الأساسي في تكوين الروح العلمية - على أنه يعترف ضمنا بأن التجربة اليومية تفرض نفسها علينا في شتى المجالات، ولكن الدخول في ميدان العلم يحتم علينا أن نقاومها ونصحح أخطاءها، ومجمل القول: إن باشلار - في نقده للموقف الطبيعي - كان يتحدث من منظور العالم، وكان له كل الحق في أن ينتقد العلم المرتكز على الموقف الطبيعي، والعلماء الذين يخلطون بين مقتضيات كل من العلم والحياة اليومية، ويطبقون معايير الثانية على الأول، وكل هذه آراء لا تتعارض على الإطلاق مع ما نقول به من ضرورة الفصل بين المجالين، وعدم محاسبة أحدهما لعجزه عن تحقيق أهداف الآخر. •••
وإذن فمن الضروري أن نفصل بين مجالي الموقف الطبيعي والموقف العلمي، ونتجنب الخلط بينهما، ولكن هذا الخلط قد حدث بالفعل خلال تاريخ الفلسفة، وكان مسئولا عن عدد كبير من الأخطاء التي ارتكبت في ميدان نظرية المعرفة.
ففي الفلسفة القديمة كان الموقف العلمي مندمجا في الموقف الطبيعي، وكان الخطأ الذي ارتكبه الفلاسفة هو أنهم نظروا إلى الموقف الطبيعي على أنه يمثل العلم في الوقت ذاته، ورأوا أن «مقولاته» - كفكرة الجوهر - تعبر أيضا عن الأسس الأولى للعلم، أي إن طبيعة الأشياء تفهم فهما كاملا من خلال الموقف الطبيعي، بحيث لا تحتاج إلى البحث عن أية صورة أخرى لها مخالفة لصورتها في حياتنا اليومية، وهذا هو ما يعلل ظاهرة عدم التفرقة بين الفيلسوف والعالم في العالم القديم.
أما في عصر انفصال العلم عن الفلسفة، فقد ارتكب الفلاسفة الخطأ المضاد، وهو محاسبة الموقف الطبيعي عن عجزه عن تفسير الظواهر العلمية، وهكذا نقدت - مثلا - فكرة «الشيء» أو فكرة «الجوهر» على أساس تحليل العلم للصفات المختلفة التي يرجع إليها ما نسميه بالشيء، وهي صفات بعيدة كل البعد عن صفات «الجوهر» القديم، ونسي الفلاسفة هنا أن كشف ذلك العالم العلمي الزاخر ليس معناه هدم الأسس التي يقوم عليها الموقف الطبيعي؛ إذ إن تلك الأسس ستظل منطبقة على هذا الموقف مهما كانت درجة التقدم التي يبلغها العلم.
ولنتحدث الآن بشيء من التفصيل عن هذين النوعين من الخلط بين الموقف الطبيعي والموقف العلمي. •••
فمن المعروف أن الذهن البشري في العالم القديم لم يكن لديه العتاد العلمي اللازم لاكتشاف «العالم الأصغر» و«العالم الأكبر» على أسس تجريبية صحيحة، حقا إن بعض النظريات «الذرية» وكذلك بعض النظريات الفلكية قد ظهرت، ولكن الاستنباط العقلي أو الرياضي كان له الدور الأكبر في كشف هذه النظريات، أما في ميادين البحث الأخرى فإن أساس التفكير العلمي كان الارتكاز على وجهة النظر الطبيعية الشائعة، مع شيء من الترتيب المنهجي الذي تطبق فيه قواعد المنطق الصوري المعروفة، وهكذا كان مجال بحث العلم لا يكاد يختلف كثيرا عن الأشياء كما تراها أعيننا العادية، ولما كان هذا المجال يكون النقطة التي يبدأ منها البحث الفلسفي بدوره، فإن التمييز بين العلم والفلسفة لم يكن ممكنا في ذلك العهد.
ونستطيع أن نقول: «إن شيوع فكرة «الجوهر» في الفلسفة القديمة كان تعبيرا عن ارتكاز الفكر القديم بأسره - في المجالين العلمي والفلسفي معا - على الموقف الطبيعي»، ففكرة الجوهر ترتبط بالموقف الطبيعي ارتباطا واضحا؛ إذ إن العنصر الأساسي في هذا الموقف هو أننا ندرك «أشياء»، وفكرة «الشيء» هذه هي الأساس الذي استخلصت منه فكرة الجوهر، وكما يميز الموقف الطبيعي بين الشيء ومظاهره، فكذلك كانت الفلسفة القديمة تميز بين الجوهر وأعراضه، على أساس أن الجوهر هو العنصر الثابت من وراء تغيرات الأعراض.
فالمعنى الأصلي لفكرة الجوهر عند أرسطو هو «الشيء الفردي».
9
أو ما يمكن أن يشار إليه بكلمة «هذا».
10
وأول تعريف للجوهر في المقال الخامس من الميتافيزيقا هو «الأجسام البسيطة، أي التراب والنار والماء وكل شيء من هذا القبيل، وعلى العموم: الأجسام والأشياء المؤلفة منها، والكائنات الحية والإلهية وأجزاؤها.»
11
وفي مستهل المقال الثامن يحدد أرسطو الجواهر المعترف بها اعترافا عاما بأنها هي «الجواهر الطبيعية: وهي النار والتراب والماء والهواء، أي الأجسام البسيطة، وثانيا: النباتات وأجزاؤها والحيوانات وأجزاؤها، وأخيرا: الكون المادي وأجزاؤه.»
12
وإذا تذكرنا أن مقولات أرسطو كانت تحليلا للطرق التي تقال بها أحكامنا أو عباراتنا على الأشياء، وأنها كلها تلخيصات لأعم طرق الحكم والحمل في اللغة المألوفة؛ لكانت النتيجة الضرورية هي أن فكرة الجوهر تسجيل لاتجاه عام في استخدامنا المعتاد للغة، ولم يكن استخلاص أرسطو لها - شأنه شأن الكثير من عناصر فلسفته ومنطقه - إلا تلخيصا للأفكار العامة الكامنة من وراء استعمالاتنا المألوفة.
وصحيح أن أرسطو يضيف إلى معنى الجوهر بوصفه الأجسام البسيطة أو الأشياء الفردية معنى آخر، هو «ماهية» الأشياء،
13
وأن هذا المعنى قد يتخذ ذريعة لنقل الفكرة من مجال الموقف الطبيعي إلى المجال العلمي، على أساس أن تفسيرها بالماهية معناه أن الجوهر تعبير عن الطبيعة «الحقيقية» أو العلمية للأشياء، ولكن الأمر المؤكد أن فكرة وجود ماهية للأشياء هي فكرة قائمة أيضا على مستوى الموقف الطبيعي ذاته: ففي تعاملنا اليومي مع الأشياء نفرق حتما بين تغيراتها العرضية أو الكمية أو الكيفية أو الزمانية أو المكانية ... إلخ، وبين الشيء في ماهيته الحقيقية، وهكذا يكون تعرفي على صديقي «س» بعد سنوات متعددة - وفي الوقت الذي ازداد فيه جسمه نموا وتغيرت طباعه واختلفت ملابسه ... إلخ - راجعا إلى تمييزي - في مستوى الموقف الطبيعي - بين ماهية ذلك الشخص وأعراضه، وإذن فجميع تعريفات فكرة الجوهر عند أرسطو يمكن أن تربط بالموقف الطبيعي، بحيث تكون الفكرة في نهاية الأمر تعبيرا واضحا عن محاولة أرسطو أن «يفلسف» الموقف الطبيعي أو يكشف مقولاته الكامنة، وهذا التفسير طبيعي تماما من الوجهتين المنطقية والتاريخية معا، فلنا كل الحق في أن نتوقع أن تكون البدايات الأولى لنضوج الفكر البشري مرتكزة على الموقف الطبيعي، وأن تكون أول محاولة لبناء منطق شامل تحليلا للعناصر الرئيسية التي ينطوي عليها هذا الموقف.
ولقد أيد الكثيرون - ممن كتبوا في هذا الموضوع - الرأي القائل بارتباط فكرة الجوهر بالموقف الطبيعي، ففي كتاب
Substance & Function
يؤكد «كاسيرر» ضرورة فكرة «الشيء» في تفكير أرسطو، من حيث إنها هي الأساس الذي بنيت عليه فكرة الجوهر التي تعبر «التصورات» عن ماهيتها الحقيقية، فيقول: «إن تحديد التصور حسب جنسه القريب وفصله إنما هو ترديد للعملية التي يتكشف بها الجوهر الحقيقي على مراحل متعاقبة في صور وجوده الخاصة، وهكذا فإن فكرة «الجوهر» الأساسية هذه هي التي ترتكز عليها نظريات أرسطو المنطقية الخالصة على الدوام، وهنا يكون النسق الكامل للتعريفات العلمية تعبيرا كاملا - في الآن نفسه - عن القوى الجوهرية التي تتحكم في العالم الواقعي.»
14
وفي موضع آخر يزيد الفكرة إيضاحا حين يتحدث عن «الرأي الساذج في العالم، الذي يهيب به الفهم المنطقي التقليدي ويرتكز عليه.»
15
ويتحدث «بلانشيه» عن الارتباط بين دور «الموضوع» في القضية الحملية التقليدية وبين فكرة الجوهر، وبالتالي عن أثر الموقف الطبيعي في المنطق التقليدي فيقول: «... إن غلبة الموضوع على المحمول في الحكم تعبر عن أولوية الجوهر على العرض (أو الصفة) في المجال الأنتولوجي، وأولوية الوجود على المعرفة في علاقات الفكر بالواقع.
وإن واقعية الجوهر هذه لتعبر بوضوح - ومعها منطق التصور الذي ترتبط به - عن الفلسفة الغامضة
diffuse
للموقف الطبيعي
sens commun
في مدنيتنا الغربية.»
16
وإذن، فأرسطو حين قال بفكرة الجوهر لم يفرض شيئا على الفكر البشري، بل لخص طريقة نظر الإنسان إلى الأمور في حياته اليومية، وأضفى عليها طابعا فلسفيا، وقد أدرك ذلك «ألن» بوضوح في كتابه عن أرسطو؛ إذ قال: «لم يكن أرسطو هو الذي علم الناس أن ينظروا إلى الأجسام - أو أي شيء آخر في العالم - على أنها جوهرية، وأغلب الظن أن الناس قد فعلوا ذلك من أقدم عصور الفكر البشري؛ إذ إن من طبيعة الذهن البشري أن يحزم موضوعات بحثه - أيا كانت - في جواهر وكميات وعلاقات.»
17
وإذن، ففكرة الجوهر لم تكن عند أرسطو إلا تعبيرا عن ارتباط الفكر في عصره بطريقة النظر المألوفة إلى الأشياء. •••
ونستطيع أن نقول: إن الخطأ الذي ارتكبه نقاد فكرة الجوهر في الفلسفة الحديثة، كان هو الاعتقاد بأن الفكرة دخيلة ومفروضة على الذهن البشري على نحو ما، وهو اعتقاد يتجاهل تلك الصفة الأصلية التي لا يمكن أن ينتزعها من ذهننا أي تقدم فكري أو علمي، وهي صفة الاهتداء إلى «أشياء» في تجربتنا اليومية على الدوام، ففي رأي لوك - مثلا - أن فكرتنا عن الأنواع الخاصة من الجوهر تتكون عن طريق «ضم تلك المجموعات من الأفكار البسيطة التي ندرك في التجربة وفي ملاحظات حواسنا البشرية أنها موجودة سويا، والتي يعتقد بالتالي أنها تتلو من التركيب الداخلي الخاص أو الماهية المجهولة لذلك الجوهر، وهكذا نصل إلى تكوين أفكار عن الإنسان والفرس والذهب والماء إلخ، وهي أمور أهيب بالتجربة الخاصة لكل شخص أن تنبئ إن كانت لدينا عنه أية فكرة واضحة، بخلاف كونها أفكارا بسيطة توجد سويا.»
18
وطالما أن لوك قد استشهد ب «التجربة الخاصة لكل شخص»، فمن حقنا أن نرد عليه قائلين: إن المصدر الأول والأهم لفكرة الجوهر هو تجربة الناس اليومية، ولا يمكن أن يكون وصفنا لهذه التجربة دقيقا أو أمينا إذا قلنا إن الناس يجدون فيها مجموعة من الأفكار البسيطة الموجودة معا، ثم يكونون منها بالتعود فكرتهم عن الجوهر، بل إن الذي يحدث دائما لا في أيام لوك أو أيام أرسطو فحسب هو أن يبدأ الناس بالنظر إلى موضوعات إدراكهم على أنها «أشياء»، ولا يمكن الوصول إلى الرأي القائل: إن الجوهر مجموعة أو حزمة من الصفات الموجودة معا إلا عن طريق «التحليل الفكري»، أما التجربة المألوفة - التي استشهد بها لوك - فتؤدي إلى عكس ما يقول، ومن الغريب أن لوك يقول في الفقرة التالية مباشرة من كتابه: إننا نفترض الأفكار البسيطة موجودة في جوهر مشترك؛ «لأننا لا نستطيع أن نتصورها موجودة وحدها أو واحدة في الأخرى.»
19
وهنا ينبغي أن نسأله: لماذا لا نستطيع أن نتصورها موجودة وحدها؟ وهل فكر في سبب هذه الاستحالة أو في دلالتها؟ ألا ترجع إلى كون تجربتنا في الإدراك مصوغة على هذا النحو؟ وفضلا عن ذلك، أليس هذا دليلا على أن المسألة أكثر من مجرد «التعود» النفسي الذي أشار إليه؟
وبالمثل يقول هيوم: «إن اللون والطعم والشكل والصلابة وغيرها من الصفات المجتمعة في خوخة أو بطيخة، تدرك على أنها تكون شيئا واحدا، وذلك نتيجة للعلاقة الوثيقة بينها، وهي العلاقة التي تجعلها تؤثر في الفكر على نفس النحو الذي تؤثر عليه الأشياء البسيطة تماما، ولكن الذهن لا يقنع بذلك، فكلما رأى الشيء في ضوء آخر وجد كل هذه الصفات مختلفة، تقبل التمييز والانفصال بعضها عن البعض، ولما كان هذا الرأي في الأشياء يهدم أفكاره الأولى الأكثر طبيعية، فإنه أي هذا الرأي يدفع الخيال إلى ابتداع شيء غير معلوم، أو جوهر «أصلي» ومادة «أصلية» يكون مبدأ الوحدة أو التماسك بين هذه الصفات، وهو الذي يجعل الشيء المركب جديرا بأن يسمى شيئا واحدا، رغم تنوعه وتعقيده.»
20
وهنا أيضا يعترف هيوم بارتباط الفكرة «بأفكارنا الأولية الأكثر أصالة» - أي بموقفنا الطبيعي - ولكنه من جهة لا يستخلص الدلالة الحقيقية لهذا الارتباط، ويقدم إلينا من جهة أخرى صورة غريبة كل الغرابة عن تجربتنا: هي تلك التي «يبتدع» فيها الذهن أو «يصوغ» دعامة لأفكارنا البسيطة، وكأن الأمر عملية واعية نقوم بها عمدا، وكأن في وسعنا تحديد الظروف التي قمنا فيها بمثل هذا الجمع «الخيالي» بين الأفكار البسيطة في جواهر.
والمهم في هذا كله - على أية حال - هو أن أعنف الفلاسفة نقدا لفكرة الجوهر في الفلسفة كانوا يعترفون في كتاباتهم ضمنا بأن الفكرة مرتبطة بموقف الإنسان الطبيعي، رغم محاولتهم تصوير التجربة على نحو يخالف ما حدث فعلا في هذا الموقف، والنتيجة الحتمية للارتباط بين فكرة الجوهر - مفهومة بمعنى أنها إدراك موضوعات إدراكنا على أنها «أشياء» - وبين التجربة اليومية الفعلية للإنسان، هي أن ذلك الارتباط سيظل مستمرا وقائما مهما تغيرت الظروف العلمية أو الفكرية التي يعيش فيها الإنسان؛ ذلك لأن الموقف الطبيعي - كما لاحظنا من قبل - غير قابل للتغير، ومقتضياته الأساسية تظل قائمة على الدوام.
وإذا كان ضمن هذه المقتضيات فكرة وجود «أشياء» لها كيان مستقل قائم، وما تؤدي إليه هذه الفكرة من القول بوجود «جواهر»، فإن هذه المقتضيات ستظل على الدوام لازمة للموقف الطبيعي، ومن العبث أن يحاول أحد في أي عصر فصلها عنه.
ومع ذلك، فمن الشائع جدا أن نجد فيلسوفا يحاول أن يثبت أن نظرة الإنسان إلى العالم بوصفه مؤلفا من «أشياء» قد تطورت وما زالت قابلة للمزيد من التطور، وسنضرب لذلك مثلين: (أ)
ففي كتاب «علم الميكانيكا» يقول إرنست ماخ: «إن الطبيعة تتألف من إحساسات هي عناصرها، ومع ذلك فقد التقط الإنسان البدائي أول الأمر مركبات معينة لهذه العناصر، أعني تلك التي تتسم بثبات نسبي وبأهمية أعظم بالنسبة إليه، فأول الكلمات وأقدمها هي أسماء «أشياء»، وحتى في هذه المرحلة نجد عملية تجريد للأشياء مما يحيط بها، ومن التغيرات الصغيرة المستمرة التي تمر بها هذه الإحساسات المركبة، والتي لا تلاحظ لأنها ليست بذات أهمية عملية، فلا وجود لشيء لا يتغير، وإنما الشيء تجريد، والاسم رمز لمركب من العناصر نجرد منه التغيرات، والسبب الذي يجعلنا نطلق كلمة واحدة على مركب كامل هو أننا نريد أن نوحي بكل الإحساسات المكونة دفعة واحدة، فالإحساسات ليست علامات على الأشياء، وإنما الشيء هو في الواقع رمز فكري لإحساس مركب ذي ثبات نسبي، وبعبارة أصح: فالعلم ليس مؤلفا من «أشياء» هي عناصره، وإنما من ألوان وأصوات وضغوط وأمكنة وأزمنة، وبالاختصار فهو مؤلف مما نسميه عادة بالإحساسات الفردية.»
21
في هذا النص يحاول المؤلف أن يقنعنا بأن فكرة «الشيء» ترجع إلى عملية غير صحيحة قام بها الإنسان البدائي لأغراض عملية، أي إن لفكرة «الشيء» أصلا تاريخيا مرتبطا بظروف معينة في مدنية الإنسان لا بطبيعة الإنسان نفسه، وهو حين يشير إلى أن أقدم الألفاظ هي أسماء الأشياء، يرمي إلى إثبات هذا الارتباط بين تكوين فكرة «الشيء» وبين الإنسان البدائي، على حين أن هذا القدم إن دل على شيء فإنما يدل على تأصل هذه الفكرة في طريقة إدراك الإنسان من حيث هو إنسان، وعلى أنها لا تتصل من قريب أو بعيد بأية مرحلة حضارية بعينها. (ب)
وتقترب من ذلك إلى حد بعيد تلك المحاولة التي بذلها «مارجنو
Margenau » لإثبات تطور قواعد تلك العملية التي يضفي بها الإنسان صبغة الشيئية على موضوعات إدراكه، فهو يذهب في كتابه «طبيعة العالم المادي» إلى أن عملية إضفاء الشيئية
reification
تنطوي على عدة عناصر لا يمكن استخلاصها بالتجريد من المعطيات الحسية، ومن بين هذه العناصر: عنصر التركيب وفقا لقواعد قابلة للتغير، لا كامنة في طبيعة الذهن البشري كما اعتقد كانت وأتباعه، وهكذا انتهى إلى أن «عملية إضفاء صبغة الشيئية هي في الواقع أول خطوة يتخذها جنسنا في سبيل الوصول إلى الإجراءات الأكثر تعقيدا والسائدة حاليا في العلوم الدقيقة.»
22
ولنذكر هنا أنه يعرف عملية إضفاء صبغة الشيئية بأنها «عملية افتراض «شيء» كلما عرض مظهر حسي.»
23
وهذا التعريف ذاته يستتبع أن تكون هذه العملية مختلفة تماما عن تلك العملية المعقدة التي ندرك بها، فهي عملية افتراض «شيء»، وليست عملية تعرف على شيء «محدد»، وليست عملية إضفاء صبغة الشيئية كما ظن «مارجنو»، هي تلك العملية المعقدة التي ندرك بها أن هذه الإحساسات تؤلف «شجرة»، بل هي مجرد العملية التي ندرك بها أن هذه الإحساسات تؤلف «شيئا» فحسب، أو على الأصح: إن هناك «شيئا» ترتبط به هذه الإحساسات، ونحن نعترف أن العملية الأولى عملية معقدة، وأنها تؤلف بالفعل الخطوة الأولى نحو التصنيف العلمي ، ولكن من الخطأ تحديدها بأنها عملية إضفاء صبغة الشيئية على الأشياء، بل إنها قد تكون «تعرفا» أو تحديدا أو تصنيفا، أي تحديد كنه الشيء، لا مجرد افتراض وجود «شيء» فحسب، فهذا الفعل الأخير - أعني مجرد افتراض شيء - هو فعل أكثر أصالة، وغير قابل للتغير، ولا شأن له على الإطلاق بما يحرزه العلم من تقدم، ولقد كان الخلط بين ذلك الفعل الأصيل البسيط وبين العملية الأخرى الأكثر تعقيدا - وهي تحديد كنه هذا الشيء - من أهم العوامل التي أدت إلى تعقيد العملية البسيطة الأولى، فكانت النتيجة النهائية لهذا الخلط هي ظهور تلك الآراء التي يبدو أنها تؤدي إلى القول بأن فعلا أصيلا كهذا يمكن أن يتغير تبعا لتقدم العلم أو تطور مدنية الإنسان.
ولو قيل: إن علينا أن نقارن - زمنيا - بين النظرة إلى العالم على أنه مكون من إحساسات، وبين النظرة إليه على أنه مكون من أشياء، لقلنا: إن أساس المقارنة ذاته غير صحيح، فالنظرة الثانية تنتمي إلى الموقف الطبيعي، والأولى إلى الموقف العلمي، وعلى ذلك فالثانية في مجالها الخاص غير قابلة للتطور؛ إذ لا يستطيع أحد أن يدعي أننا كنا أيام أرسطو ننظر إلى التفاحة على أنها شيء أو جوهر، بينما أصبحنا الآن نعدها مجموعة من المدركات، أي لونا وطعما وشكلا فحسب، ونتعامل معها على هذا الأساس، فمن الواضح أن التفاحة كانت ولا تزال وستظل دائما «شيئا» بالنسبة إلى موقفنا الطبيعي.
بل إننا في هذا الموقف الطبيعي نقول بالشيء أولا، ولا ندرك كيفياته البسيطة بما هي كذلك إلا في عملية تالية، فمن الخطأ الزعم بأن فكرة «الشيء» حاجز لفظي يحجب عنا المكونات الحقيقية للطبيعة، وهي الإحساسات المباشرة، وأن تخطي هذا الحاجز الذي تضعه اللغة بيننا وبين الطبيعة يوصل حتما إلى هذه المكونات الحقيقية، فالقول بأن العالم - في موقفنا الطبيعي - مكون من «أشياء» هو قول أكثر أصالة من أي وضع لحاجز لغوي.
والواقع أن هذا الرأي - الذي يرد فكرة «الشيء» إلى اللغة، ويجعلها حاجزا لغويا يحجب عنا حقيقة العالم (وهي الإحساسات أو المعطيات المباشرة) - ينطوي على سوء فهم لمعنى «الاتصال» ذاته، وبالتالي فهو تعبير عن نظرة قاصرة إلى طبيعة اللغة ووظيفتها، بالإضافة إلى ما فيه من أخطاء في نظرية المعرفة؛ ذلك لأن وظيفة الاتصال هي نقل فكرة أو معنى من ذهن إلى ذهن آخر، أما «واسطة» هذا النقل فليست هي التي ينصب عليها الاهتمام، ومن الممكن تشبيه اللغة التي تتخذ واسطة في عملية نقل الأفكار من ذهن إلى آخر بالعملة الورقية في عمليات التبادل الاقتصادي، فصحيح أن هذه العملة الورقية بعيدة كل البعد - من حيث قيمتها الذاتية - عن السلع التي نبادلها بها، وليس للورقة المالية في ذاتها - مهما علت قيمتها التبادلية - قيمة تذكر، ولكن المهم هو أن يعترف الناس فيما بينهم بقيمة واحدة لها، ففي هذا الاعتراف المتبادل تكمن قيمتها وفائدتها، أما قيمتها الذاتية أو علاقتها بما تتبادل معه فليست لها أهمية، واختلاف القيمة الكامنة للعملة الورقية عما نشتريه بها لا يعني أبدا أنها لا تصلح للاستخدام في الشراء والتبادل، ولو طبقنا هذا المثل على المشكلة التي نحن بصددها لتبين لنا بوضوح أن اختلاف اللفظ عن الموضوع الذي ندل به عليه لا يعني أبدا أن هذا اللفظ يشوه طبيعة هذا الموضوع أو يحول بيننا وبين معرفته، والواقع أن المساواة بين الرمز اللغوي وبين ما يدل عليه ليست مطلوبة على الإطلاق، وما الرمز إلا جسر يعبر بالمعنى من ذهن إلى آخر، وهو يكون قد أدى وظيفته كاملة إذا حقق عملية العبور هذه، بغض النظر عن علاقته - من حيث التشابه أو المساواة - بالموضوع الذي يعبر عنه.
ولكننا لو تركنا هذا النقد اللغوي جانبا، وعدنا إلى ذلك التقابل الذي يضعه أنصار الانطباعات الحسية بين التجربة المباشرة - التي نكتسبها عن طريق هذه الانطباعات - وبين التجربة غير المباشرة، أو التحريف الذي يطرأ على التجربة بفضل إدخال فكرة «الشيء» في إدراكنا؛ لأمكننا أن نقول، على العكس مما ينادي به أصحاب هذا الرأي إن الزعم بأن الإحساسات المباشرة هي المكونات الحقيقية للطبيعة هو الذي يدل على التأثر بالحواجز اللغوية ، على حين أن القول بأن العالم مكون من «أشياء» هو الذي يعكس تأثير التجربة المباشرة، وهذا القول يبدو مضادا تماما للآراء السابقة المأثورة عن فلاسفة عديدين في مختلف عصور التفكير الفلسفي، ولكن إثباته في ضوء التفرقة بين الموقفين العلمي والطبيعي ليس عسيرا: فتجربة الإنسان الفعلية المباشرة ليست تجربة ألوان وطعوم وأصوات، وإنما هي تجربة أشياء كاملة، وهذا أمر يقتضيه تكويننا نفسه لا أخطاء الإنسان البدائي أو التفكير قبل العلمي، أما فكرة اللون أو الصوت أو الطعم فلا نصل إليها إلا بالتجريد من هذه التجربة المباشرة التي هي واحدة لدى كل البشر وفي كل العصور، وهذا التجريد هو الذي يقتضي تصنيفا لغويا، وتقسيما لإدراكنا المتكامل إلى عناصر مستقلة، وهذا التصنيف والتقسيم هما اللذان يكونان أول مرحلة من مراحل التفكير العلمي، وبعبارة أخرى: فكون الأشياء - التي هي موضوع إدراكنا المباشر - تنقسم إلى عناصر مميزة، هو كشف لاحق يقتضي عملية معقدة لا بد لحدوثها من تطور عقلي وتهذيب حضاري وتجريد لغوي معقد.
ولقد ناقش «إرنست ناجل» - وهو من أكبر فلاسفة العلم المعاصرين - مواقف بيرسيون وآير وماخ، الذين يذهبون إلى أن المعطيات الحسية هي العناصر الأولى والبسيطة لكل معرفة، وانتهى إلى موقف مشابه لذلك الذي نعرضه ها هنا؛ إذ قال: «الواقع أننا إذا تأملنا الأمر من وجهة نظر الحقائق السيكولوجية، فإن المعطيات الحسية الأولية ليست هي المواد الأصلية الأولى للتجربة، التي تشيد بواسطتها كل أفكارنا كما تشيد البيوت من أحجار منفصلة، بل إن التجربة الحسية - على العكس من ذلك - هي استجابة لأنماط معقدة - وإن تكن غير محللة - من الكيفيات والعلاقات، وتنطوي هذه الاستجابة عادة على ممارسة عادة التفسير والتعرف المبنية على اعتقادات واستدلالات ضمنية لا يمكن استخلاصها من أية تجربة منفردة مؤقتة، وعلى ذلك فاللغة التي نستخدمها عادة لوصف تجاربنا المباشرة ذاتها هي اللغة المعتادة للاتصال الاجتماعي، التي تنطوي على تمييزات ومسلمات يرجع أساسها إلى تجربة جماعية عامة، وليست لغة تحدد معناها على أساس الإشارة المزعومة إلى ذرات من الإحساسات لم يفسرها الذهن.
والواقع أن من الممكن في بعض الأحيان - تحت ظروف مضبوطة بدقة - أن نحدد كيفيات بسيطة تدركها الأعضاء الحسية مباشرة، غير أن هذا التحديد إنما يكون خاتمة لعملية مرسومة معقدة من العزل والتجريد، نقوم بها لأغراض التحليل، وليست هناك شواهد موثوق بها على أن الكيفيات الحسية تدرك على أنها بسائط ذرية ما لم يكن ذلك بوصفها نهاية ونتيجة لعملية كهذه، وفضلا عن ذلك، فعلى الرغم من أننا قد نطلق على هذه النواتج اسم المعطيات الحسية، وندرج فئاتها المختلفة تحت أسماء متباينة، فإن فائدة هذه الأسماء ومعانيها لا تثبت إلا من حيث هي إرشادات توجهنا إلى القيام بعمليات تتعلق بأوجه نشاط جسمية واضحة، وإذن فمعاني ألفاظ المعطيات الحسية لا تفهم إلا إذا سلمنا بالتمييزات والمسلمات التي يفترضها اتصالنا بالموضوعات الخشنة للتجربة، ومعنى ذلك أن هذه الألفاظ لا يمكن استخدامها وتطبيقها إلا من حيث هي جزء من مفردات لغة الموقف الطبيعي، وبالاختصار فإن لغة المعطيات الحسية ليست لغة قائمة بذاتها، ولم يفلح أحد حتى الآن في وضع لغة كهذه، فإن لم يكن ثمة لغة كهذه، فإن الرأي القائل: إن كل العبارات النظرية يمكن من حيث المبدأ ترجمتها إلى لغة المضمونات الحسية الخالصة هو رأي مشكوك فيه أصلا.»
24 •••
ولنذكر دائما أن كل ما ذكرناه من نقد لا يصح إلا في ضوء التمييز الأساسي بين الموقفين الطبيعي والعلمي، وهو تمييز لم يكن واضحا في الأذهان في معظم الأحوال، وبعبارة أخرى: فنحن نعترف قطعا بأن العلم كان على حق تماما في استبعاده لفكرة الجوهر وفكرة الشيء من مجاله الخاص عندما وجدها عقبة في طريق تقدمه، وفي هذا الصدد: لا يستطيع أحد أن ينكر حدوث تقدم ملحوظ من العلم القديم - الذي كان يخلط بين الموقفين الطبيعي والعلمي، ويحصر الثاني في حدود الأول - إلى العلم الحديث الذي اتبع لنفسه منهجا لا يتقيد فيه بحدود الموقف الطبيعي، مما أدى به إلى إحلال العلاقات الرياضية محل الكيفيات المفتقرة إلى الاطراد والتجانس، فخروج العلم عن حدود الموقف الطبيعي كان إذن تقدما لا شك فيه بالنسبة إلى العلم ذاته.
وبهذا المعنى يمكن القول: إن «باشلار» كان على حق تماما حين عاب على المشتغلين بالعلم - في الفترة الأولى من العصر الحديث - أنهم كانوا يجسمون صفات ويضفون عليها كيانا قائما بذاته، وأنهم بذلك أسهموا في إعاقة العلم الذي لا يعترف إلا بالصفات أو العلاقات، ولا يؤمن بأية كيانات وهمية تتجسد فيها.
25
ولكن الأمر في الفلسفة يختلف: فعندما وجد الفلاسفة أن العلم الحديث يستغني عن فكرة الجوهر ويحل محلها فكرة العلاقات؛ اتجهوا إلى استبعاد فكرة الجوهر استبعادا تاما، ولم يتنبهوا إلى أن استغناء العلم عن هذه الفكرة لا يعني استغناء الإنسان في موقفه الطبيعي عنها، فالعلم حين شق لنفسه طريقا مستقلا؛ نتيجة لاهتدائه إلى منظورات أخرى للعالم مختلفة عن المنظور المعتاد، قد استغنى عن فكرة الجوهر؛ لأنها لم تعد تلائم هذه المنظورات الجديدة، ولكن هذا لا يعني على الإطلاق أنها لم يعد لها مكان في تجربة الإنسان؛ إذ إنها - هي وفكرة الشيء الوثيقة الارتباط بها - جزء لا يتجزأ من تجربة الإنسان الطبيعية التي وجدت بعض فروع العلم لزاما عليها أن تتجاوزها، ونقول: «بعض فروع العلم»؛ لأن هناك فروعا تفترض فكرة الجوهر أو الشيء، وذلك مثل علوم الحيوان والنبات والجيولوجيا والجغرافيا إلخ، وهي علوم لن تكف عن معالجة موضوعاتها على أنها «أشياء» بنفس المعنى الذي يدرك به الإنسان موضوعات تجربته في الموقف الطبيعي على أنها أشياء.
وإذن، فلم يكن خطأ الفلسفات القديمة ينحصر في القول بفكرة الجوهر ذاتها، وإنما في الاعتقاد بأن هذه الفكرة - التي تنطبق على مجال الإنسان المعتاد - تنطبق أيضا على المجال العلمي، أما الفلسفات الحديثة فقد ارتكبت الخطأ المضاد، وهو محاولة استبعادها من جميع المجالات.
وربما كان شعور كانت بخطأ الاتجاه الأخير هو الذي دفعه إلى محاولة تبرير فكرة الجوهر تبريرا ترنسندنتاليا، وعلى أية حال فكثيرا ما انتقد كانت على أساس أن احتفاظه بفكرة الجوهر في فلسفته كان يمثل خروجا على الاتجاه العام للعلم الحديث الذي كان قد أخذ يسير بوضوح في طريق العلاقات الرياضية بدلا من الجواهر، وقد لا يكون هذا الانتقاد في واقع الأمر إلا مظهرا آخر للخلط الذي طالما أشرنا إليه؛ إذ إن «كانت» ربما لم يكن يرمي إلى تبرير الفكرة في ميدان العلم (والمثل الذي ضربه ب «فكرة» بقاء الطاقة في كتاب نقد العقل الخاص (ص
B. 228 ) كان مجرد مثل عارض لا يقصد به إلا إيضاح فكرته فحسب)، بل كان يرمي إلى تبريرها على أساس ارتباطها بفكرة الدوام، وهي الفكرة التي يعدها «شرطا ضروريا هو وحده الذي يتيح لنا تحديد المظاهر على أنها أشياء أو موضوعات في تجربة ممكنة.» (
B. 232 )، وهكذا يمكن أن يقال: إن تبرير كانت لفكرة الجوهر كان راجعا إلى كونها عنصرا أساسيا من تلك العناصر التي تجعل التجربة ممكنة، بل إنه يؤكد رسوخ فكرة الجوهر بين الفلاسفة وفي الذهن المعتاد بوصفها العنصر الثابت من وراء التغيرات (
B. 227 )، وربما كانت حالة «كانت» مثلا فريدا لفيلسوف اعترف بضرورة فكرة الجوهر في تجربة الإنسان المعتادة، وسط اتجاه فلسفي عام كان يرمي إلى استبعادها من جميع المجالات. •••
وسنحاول هنا أن نختبر بعض أمثلة الحالات التي انتقد فيها الموقف الطبيعي لعجزه عن الوصول إلى الصورة العلمية للعالم، مع أن هذا العجز أمر لا مفر منه، وهو جزء من كيان الموقف الطبيعي المستقل عن العلم: (1)
ففي كتاب «ديالكتيك القرن العشرين» يتحدث «فورستنبرج» عن المثال الذي ضربه العالم الإنجليزي «إدنجتن» عن المنضدة التي نعرفها من جهة كشيء نكتب عليه، ويعرفها لنا العلم من جهة أخرى كمجموعة لا متناهية من الجسيمات والموجات ... إلخ، فيقول عن هذين التفسيرين:
إن أحدهما صادر عن الأطفال وأنصاف المتمدينين، والآخر راجع إلى ملاحظة بصرية بلغت مستوى رفيعا من الإحكام العقلي والدقة الرياضية ... فنحن هنا إزاء تفسيرين ناتجين عن الملاحظة وردا إلينا من عصرين مختلفين من عصور مدنيتنا؛ فما أعجب هذه النقيضة!
26
في هذا النص نجد مثالا لمفكر يعد الموقف الطبيعي مرتبطا ب «الأطفال وأنصاف المتمدينين» فحسب، ولست أدري كيف يتصرف هذا المفكر ذاته في حياته العلمية إزاء ما لديه من مناضد! وهو يصف الموقف الطبيعي والموقف العلمي بأنهما راجعان إلى «عصرين مختلفين»، وكأن الإنسان في عصرنا العلمي هذا يستطيع أن يستغني تماما عن فكرة «الشيء»، ويعامل المنضدة في جميع تجاربه - بما فيها تجارب الحياة اليومية - على أنها مجموعة من الدقائق والجسيمات! (2)
وفي كتاب «العلم الفيزيائي» يقول «بلانشيه»:
إن الإصلاح الذي أحدثه تطبيق طريقة التفكير الرياضية على فهمنا للواقع يقترن إذن بتغير أساسي في نظرتنا إلى الواقع وعلاقته بالروح، فلم يعد الواقع نقطة بداية، بل أصبح حدا نهائيا للمعرفة، ولم يعد يعطي للحساسية عن طريق صفات جوهر، بل إن العقل هو الذي يركبه بأن يجعل منه نسقا من العلاقات، وهكذا تتحقق في ميدان المعرفة وميدان الوجود تلك الثورة «الكبرنيكية» التي قدم إلينا كانت التعبير الفلسفي عنها؛ فالأشياء من الآن فصاعدا هي التي تدور حول الروح بما لهذه من جاذبية.
27
مثل هذا التصوير لتطور العلم قد يبدو في ظاهره صحيحا، غير أن الخطأ الذي ينبغي أن ننبه إليه هو أن هذا النوع من التفكير يصور الأمور كما لو كان من الواجب أن تختفي تلك الصفات الحسية التي تقدم إلينا الواقع اختفاء تاما، فلا يعود هناك مجال إلا لنسق العلاقات الرياضية التي يكونها العقل، ولكن الواقع أنه إذا كانت قد حدثت في مجال العلم «ثورة كبرنيكية» فإن هذه الثورة لم تقض على «النظرة البطليموسية» التي لا تزال قائمة في مجال الموقف الطبيعي، والتي لا يمكن أن يغير منها تطور العلم. (3)
ففي المثلين السابقين إذن تعبير عن الاعتقاد الخاطئ بأن تطور المنهج العلمي الحديث يؤدي إلى تغيير «كامل» في نظرة الإنسان إلى العالم، وكأن الموقف الطبيعي هنا يحاسب على عدم مجاراته لتقدم العلم، الذي يظن أنه يؤدي إلى رفض الأول تماما، ومثل هذا الخطأ ناتج - بلا شك - من عدم التنبه إلى اختلاف وظيفة كل من الموقفين.
غير أن هناك فئة أخرى من النقاد تتخذ الموقف المضاد، فتحاسب العلم على عجزه عن تقديم وصف كامل لجميع أوجه الموقف الطبيعي، وهو خطأ لا يقل في نظرنا عن الخطأ السابق .
ففي كتاب «العلم والواقع» يقول «برونر»:
إن أي اختلاف عددي لا يصل أبدا إلى إيضاح كنه اختلاف الألوان ... وإن العلم إذ يقتصر على معالجة العالم من ناحيته القابلة للعد، إنما يختار سبيلا يؤدي إلى تضييق نطاق اتصاله بهذا العالم ...
ونتيجة ذلك أن الفيزياء ناقصة على الدوام، ما دامت نظرتها إلى الشيء عاجزة عن كشف الشيء ذاته لها ...
28
مثل هذا النقد - الذي يعد محور كتابات فيلسوف مثل برجسون - يحمل على العلم؛ لأنه لا يقدم للعالم صورة عينية ملموسة كتلك التي تجلبها لنا حواسنا، وهذا أيضا خطأ ناتج عن الخلط بين وظيفتي الموقف الطبيعي والموقف العلمي، فليس من شأن الموقف العلمي - على الإطلاق - أن يقدم عن العالم تلك الصورة التي نحتاج إليها في سلوكنا اليومي بما فيها من كيفيات عينية.
ولعل هذه الأمثلة المختارة من مفكرين ذوي اتجاهات مختلفة كافية لإيضاح ما نقصده بفكرة الفصل بين المجالين العلمي والطبيعي، فمهمة العلم الأساسية هي تقديم تفسير للظواهر يؤدي إلى «فهمها» وكشف قوانينها العامة، وهو في سبيل ذلك يتبع منهجا يؤدي به إلى رد المركب إلى البسيط، وإحالة الكيف إلى الكم كلما أمكن ذلك، أما الموقف الطبيعي فهو تعبير عن نظرتنا إلى العلم كما نسلك فيه عمليا على نحو يفي بمطالبنا الحيوية، ومن هنا كان هذا الموقف يبقي بالضرورة على اختلافات الكيفيات ولا يحاول على الإطلاق ردها إلى نسق كمي مطرد، فالألوان التي يردها العلم إلى موجات، والتي لا يختلف الواحد منها عن الآخر إلا كميا، هي ظاهرة أساسية من وجهة النظر الطبيعية، والاختلاف الكيفي بين اللون يؤدي في ذلك الموقف وظيفة أساسية: فالتمييز بين الأبيض والأسود لا غناء عنه لإمكان الإبصار، وبالتالي إمكان السلوك العملي وتجنب العوائق، والتمييز بين الألوان الأخرى يؤدي وظيفة أساسية في تذوقنا الفني لموضوعات الإبصار، والتمييز بين الأصوات لا بد منه للتعامل مع الناس ومع البيئة الطبيعية إلخ ...
وهذه التفرقة الواضحة بين وظيفة الموقفين هي وحدها الكفيلة بحفظ حقوق كل منهما كاملة: إذ تؤدي إلى الدفاع عن موقف الإنسان الطبيعي ضد الاعتقاد بإمكان تغلغل الصورة العلمية للعالم في جميع المجالات، وإلى الدفاع عن العلم في الآن نفسه من تهمة العجز عن تقديم صورة «عينية» كاملة للعالم.
الفلسفة والموقف الطبيعي
انتهى بنا بحثنا السابق إلى النتيجة الهامة التالية، وهي أن الموقفين: الطبيعي والعلمي كانا غير واضحي التميز في الفكر القديم، شأنه في ذلك شأن كل محاولة مبتدئة، ثم تفرعا بالتدريج بحيث اتضحت خصائص كل منهما ووظائفه وأغراضه الخاصة التي يخدمها، كما انتهى بنا هذا البحث إلى نتيجة أخرى لا تقل عن هذه أهمية، وهي أن هذا التمييز غير واضح في أذهان الكثيرين، بدليل أن الموقف الطبيعي كثيرا ما يلام؛ لأنه يعجز عن تقديم تفسير للظواهر له دقة التفسير العلمي وإحكامه، مثلما يلام الموقف العلمي أحيانا؛ لأن الصورة التي يقدمها عن العالم تفتقر إلى عينية الصورة الحسية المعتادة وثرائها.
فأين تقع الفلسفة بين هذين الموقفين؟ أعني هل ينتمي البحث الفلسفي إلى مجال الموقف الطبيعي أم إلى مجال الموقف العلمي؟ مثل هذا السؤال يثير في واقع الأمر مشكلة طبيعة التفكير الفلسفي بأسرها، وهي مشكلة تتعدد الآراء فيها بقدر ما تتعدد المذاهب الفلسفية ذاتها.
ولكي نستطيع أن نحدد المجال الذي ينبغي أن نحصر فيه بحثنا لهذه المسألة، علينا أن نعرض السؤال بطريقة أدق: فما هي بالضبط طبيعة العمل الذي يقوم به الفيلسوف حين يفكر؟ أهو بحث علمي؟ إن الأفكار الفلسفية كثيرا ما أثرت في العلم وتأثرت به، ولكني لا أظن أن الكثيرين يعجزون عن تمييز طبيعة مهمة العالم من مهمة الفيلسوف، فهل يمثل تفكير الفيلسوف إذن تعبيرا عن الموقف الطبيعي؟ الرد المألوف على هذا السؤال هو أن الفلسفة مبحث قائم بذاته، لا تستطيع أن تقول عنه: إنه بحث علمي بالمعنى الدقيق للكلمة، أو مجرد تعبير عن الموقف الطبيعي المعتاد، الذي يكاد الفلاسفة يخرجون عنه في معظم الأحوال.
ومع ذلك، فإن عرض السؤال ما زال في حاجة إلى مزيد من الإيضاح، فقد تحدثنا من قبل عن الموقف الطبيعي من حيث هو موقف الإنسان في حياته العملية المعتادة، حين ينظر إلى العالم على أن فيه «أشياء»، وحين يعد هذه الأشياء ذات وجود مستقل خارج عنه، وذكرنا أن الموقف العلمي يبحث عن أوجه كامنة من وراء الوجه الذي يراه إدراكنا المعتاد؛ وذلك لأغراض مختلفة تماما عن أغراض هذا الإدراك، أعني لأغراض الفهم والتفسير، لا السلوك العملي والحيوي وحده، والآن فما الذي يتيح للعلم اتخاذ مثل هذا الموقف المستقل عن الموقف الطبيعي؟ أعني كيف يتسنى له أن يكون عن عالمنا هذا صورة مختلفة عن تلك التي نكونها في حياتنا اليومية؟ لا شك أن الذي أتاح له ذلك هو المنهج من جهة، والمعدات من جهة أخرى، فبفضل المنهج المنظم الدقيق وبفضل الآلات العلمية - بأوسع معاني هذه الكلمة - أمكن كشف هذه الصور المتعاقبة للعالم، التي يزيدها العلم دقة على الدوام كلما تقدمت مناهجه ومعداته.
ولكن هل توافر لدى الفيلسوف مثل هذا المنهج وهذه المعدات؟ أما المعدات فهي بطبيعة الحال منعدمة تماما، وأما المنهج فهو ما اعتدنا أن نسميه في الفلسفة «دقة التفكير»، وهو لا يعدو - في رأيي - أن يكون قدرة الفيلسوف على اتباع قواعد الاستدلال دون خطأ، وهذا التعريف للمنهج - فضلا عن ذلك - نظري بحت، ويمكن أن يؤدي إلى نتيجة عكسية؛ إذ إن الإلمام الدقيق بقواعد الاستدلال يكسب المرء قدرة خفية على الخروج على هذه القواعد بطريقة بارعة لا يسهل كشفها، ومن هنا كانت تلك الأخطاء الاستدلالية التي لم يسلم منها فيلسوف، والتي لا نستطيع أن نقول: إنها كلها ترتكب عن عمد، ولكنها تدل - على أية حال - على أن منهج الفلسفة مخالف للمنهج العلمي؛ لأن الأخير - رغم قابليته للتطور والتجديد المستمر - ينمو بطريقة تراكمية إلى حد ما، بينما لا تزال أكثر الموضوعات الفلسفية الأولية موضوعا للجدل حتى اليوم.
وإذن فليست لدى الفيلسوف «وسائل» كتلك التي تمكن بها العلم من الخروج عن الموقف المعتاد، وهنا تبدأ تلك الصفات المميزة للفلسفة في الظهور، فالفلسفة تبدأ بالفعل من موقفنا الطبيعي، و«الموضوعات» التي يبحثها الفيلسوف - ولا سيما في ميدان نظرية المعرفة - هي بعينها موضوعات الموقف الطبيعي، وقد يقال: إن العالم أيضا يبدأ من موضوعات الموقف الطبيعي، ولكن الواقع أن هذه ما هي إلا نقطة البداية الأولى، التي سرعان ما يتجاوزها العالم بقدر ما يمكنه منهجه ومعداته من تحويل الكيفيات في موضوعات الموقف الطبيعي إلى كميات، أما الفيلسوف فإنه يظل حتى النهاية في حدود هذه الموضوعات، ومع ذلك فإنه يريد منا في معظم الأحيان أن نصور هذه الموضوعات بصورة مخالفة لصورتها في موقفنا الطبيعي، وذلك بقوة قواعد الاستدلال وحدها.
والآن، فلنضرب بعض الأمثلة الكفيلة بتوضيح العبارات المجردة السابقة، فحين يشرح باركلي فكرة «وجود الشيء هو كونه مدركا»، يلجأ دائما إلى أمثلة كهذه: «إنني حين أقول عن المنضدة التي أكتب عليها: إنها توجد، أعني أنني أراها وأحسها، وإذا غادرت غرفتي فسأقول: إنها موجودة، بمعنى أنني لو وجدت في غرفتي فسأدركها، أو أن روحا أخرى معينة تدركها بالفعل.»
1
وحين يناقش هيوم اعتقادنا بوجود فئة معينة من الانطباعات وجودا مستمرا، يضرب أمثلة كهذه: «تلك الجبال والبيوت والأشجار - التي تقع عليها الآن أنظاري - قد بدت لي دائما في نفس النظام، وعندما لا أعود أراها بإغماض عيني أو إدارة رأسي، فسرعان ما أجدها تعود إلي دون أدنى تغيير ...»
2
وحين يتحدث عن فكرة الوجود الخارجي للأشياء، يشرح رأيه من خلال هذا المثل: «إن نفس هذه المنضدة التي نراها بيضاء، ونشعر بصلابتها عند اللمس، يعتقد أنها توجد مستقلة عن إدراكنا، وأنها شيء خارج عن ذهننا الذي يدركها، وحضورنا لا يضفي وجودا عليها، كما أن غيابنا لا يزيلها، وهي تحتفظ بوجودها مطردا كاملا، مستقلا عن حالة الكائنات العاقلة التي تدركها أو تتأملها.
غير أن هذا الرأي العام والأولي الذي يقول به جميع الناس، سرعان ما يهدمه أبسط قدر من التفلسف ... فليس ثمة شك، في رأي كل ذي عقل فاحص، أن تلك الموجودات التي نقصدها - حين نقول: هذا البيت أو هذه الشجرة - ليست إلا إدراكات في الذهن ونسخا أو تمثلات عابرة لموجودات أخرى تظل مطردة مستقلة.»
3
فموضوع تفكير الفيلسوف في هذا الميدان هو إذن موضوعات إدراكنا المعتاد، وهو يظل يلتزم هذه الموضوعات إلى النهاية، وكل ما يفعله هو أن يقدم إلينا تحليلا يستخدم فيه براعته المنطقية، ويخضع فيه للبرهان أو للتفنيد ذلك الموقف الطبيعي الذي يرى الذهن المعتاد أنه ليس موضوعا للتفكير النظري على الإطلاق، وليس في وسع الفيلسوف - حين يبحث مشكلة المعرفة - أن يتحدث عن موضوعات غير «المنضدة» أو «البيوت» أو «الأشجار»؛ إذ إنه لا يملك «الوسيلة» التي تمكنه من تجاوز هذه الموضوعات أو النظر إليها من أوجه أخرى، حقا إنه يتحدث من آن لآخر عن «المنضدة من حيث هي مجموعة من الذرات والموجودات»، ولكن هذه في واقع الأمر تعبيرات مستعارة من الميدان العلمي، وليس للفيلسوف نفسه الكلمة الحاسمة فيها.
وإذن فالفيلسوف - عندما يلتزم ميدانه - يتخذ نقطة بدايته من الموقف الطبيعي حتما، ويعالج نفس الموضوعات التي نعالجها في موقفنا الطبيعي، وهذا هو ما كان يعنيه «كانت» حين جعل فلسفته النظرية تركز حول بحث «المبادئ التي تجعل التجربة ممكنة»، فالأمر الذي لا شك فيه أن كلمة «التجربة» - كما استخدمها «كانت» - تعني تجربة المعرفة المألوفة لدى الإنسان، أي إنه بينما يسلم الإنسان في موقفه الطبيعي بأنه يعرف أشياء توجد في مكان وزمان، وبينما ينسب إليها عددا وسببا، فإن فلسفة «كانت» تنقب عن الشروط الكامنة من وراء عناصر هذه التجربة الطبيعية، وتبحث في «شروط إمكانها».
وصحيح أن «كانت» بذل في بعض الأحيان جهدا لإثبات كون هذه الشروط هي ذاتها شروط إمكان العلوم الرئيسية، كمحاولته أن يثبت أن فكرتي الزمان والمكان هما أساس إمكان العلم الرياضي، وأن تصورات الذهن هي أساس إمكان العلم الطبيعي، غير أن هذا في رأينا تطبيق تال، تعلله تلك النزعة القوية إلى التوحيد المذهبي عند «كانت»، وهي النزعة التي جعلته يحاول تفسير كل أطراف المعرفة المباشرة من خلال مبادئ موحدة، أما المعنى الأصلي لفكرة «التجربة» فلا يمكن - في رأينا - إلا أن يكون تجربة المعرفة المألوفة التي نتركها في حياتنا اليومية دون تحليل، والتي يكرس «كانت» أبحاثه النظرية للبحث عن شروط إمكانها .
وينتهي «جينز
Jeans » في كتابه «الفيزياء والفلسفة» إلى نتيجة مماثلة، ولكنه يتخذها أساسا لاستخلاص رأي يختلف تماما عما نقول به هنا، فهو يربط بين قضايا الفلاسفة وبين العالم المألوف الذي يطلق عليه اسم «العالم الملائم لحجم الإنسان
The man-sized world »، ويقول: «إن جميع النتائج التي توصل إليها الفلاسفة حتى وقتنا الحالي كانت نتائج استنبطتها أذهان تنتمي كلها إلى نمط واحد هو النمط البشري، وتتأمل مدركات تنتمي إلى عالم واحد.»
4
هذا العالم الواحد هو العالم الملائم لحجم الإنسان، ومن خلال هذا العالم يتحدث جميع الفلاسفة، ومنه استمد فيلسوف مثل «كانت» مقولاته التي اعتقد أنها تنتمي إلى تركيب الذهن البشري ذاته.
ولا شك أن هذا الرأي يتفق تماما مع ما قلناه عن ارتباط الفلسفة بالموقف الطبيعي، ولكن الفارق بين الرأي المعروض في هذا البحث وبين رأي «جينز» يرجع إلى اعتقاد هذا الأخير بأن الحالة العلمية السائدة في عصور هؤلاء الفلاسفة هي التي جعلت معارفهم ترتبط بالعالم الملائم لحجم الإنسان، ففي رأي «جينز» أن مقولات «كانت» تنتمي إلى عصر كان العالم الملائم لحجم الإنسان فيه هو العالم الوحيد الذي يعترف به العلم، في حين أن أي فيلسوف في عصرنا هذا ينبغي عليه أن يستبعد فكرة الجوهر وفكرة العلية؛ لأنهما لا تصحان على عالم الفيزياء الذرية.
وهنا يظهر الفارق بوضوح: فنحن نرى أن مثل هذه المقولات والمبادئ الفلسفية تتحدث عن العالم الملائم لحجم الإنسان لا لأنه هو العالم الذي كان العلم يعرفه في عصر هؤلاء الفلاسفة، بل لأنه هو العالم الذي يحيا فيه الإنسان حياته اليومية، وهذا العالم - بمعناه الأخير - غير متغير، ولا يمكن أن تؤثر فيه أية كشوف علمية، وارتباط الفلاسفة بهذا العالم ارتباط لا مفر منه؛ إذ ليس لديهم من الوسائل ما يمكنهم من تجاوزه، ومن هنا كان الفارق بيننا وبين «جينز» ينحصر في أنه: إذا كان هذا الأخير قد رأى وجوب استبعاد فكرة الجوهر نهائيا في مجال الفكر، على أساس أنها لا تنطبق على عالم الفيزياء الذرية، فإنا نرى أن هذه الفكرة صحيحة في المجال الذي قصد بها الانطباق عليه، وهو مجال الحياة اليومية،
5
وستظل صحيحة في هذا المجال مهما تغير موقف العلم منها، ومهما كشف عن عوالم لا تصح عليها. •••
وإذن فللفلسفة تلك الصفة الفريدة، وهي أنها تبدأ من موضوعات الموقف الطبيعي ذاتها، ولا تملك الوسيلة التي تتيح لها تأمل هذه الموضوعات من منظور مخالف لهذا الرأي، وهي في ذلك تختلف عن العلم، الذي يستطيع بفضل منهجه ومعداته أن يتخذ لنفسه موضوعات خاصة به، لا تشترك مع موضوعات الموقف الطبيعي إلا في البدايات الأولى للعلم فحسب.
ولكن من الملاحظ - من جهة أخرى - أن البحث الفلسفي يؤدي في معظم الأحيان إلى نتائج مضادة للموقف الطبيعي، بل يستهدف القضاء على هذا الموقف منذ البداية، أما العلم فإنه حين يبدو مخالفا للموقف الطبيعي، يتخذ في واقع الأمر ميدانا مستقلا، تاركا الموقف الطبيعي وشأنه.
صحيح أن بعض العلماء قد حاولوا أن ينتقدوا هذا الموقف بناء على نتائج أبحاثهم، غير أن هذا الانتقاد في الواقع تطبيق «فلسفي» للنتائج العلمية وليس جزءا من صميم البحث العلمي، أما في الفلسفة فإن هذا الانتقاد يكاد - بالنسبة إلى معظم المذاهب - يكون نقطة البداية التي لا بد منها للتفلسف، وهكذا يقول العالم: إن هذه المنضدة تكون مجموعة من الذرات والموجات إذا استخدمنا في بحثها المنهج العلمي والمعدات العلمية، وهذا يعني الاعتراف ضمنا بأنك تستطيع أن تعاملها على أنها منضدة بالمعنى المألوف طالما أنك في موقف لا تحتاج فيه إلى استخدام هذه المعدات وهذا النهج، أما الفيلسوف فيقول: إن هذه المنضدة نفسها - كما تدركها أنت - ليست شيئا ماديا خارجيا، وإنما هي ذاتية، وإدراكك لها على أنها شيء خارجي هو إدراك باطل، وهكذا يكون ميدان المعركة في الفلسفة هو موضوعات الموقف الطبيعي ذاتها، ولا يتسنى للفلسفة - طالما أنها تلتزم حدودها - أن تحارب في أي ميدان غير هذا.
والمشكلة التي نود أن نبحثها في الفصول التالية هي: هل الفلسفة على حق حين تعترض على الموقف الطبيعي بقوة المنطق وحدها؟ أعني: هل تستطيع أن تخالف هذا الموقف أو تخرج عنه دون أن يكون لديها ما لدى العلم من وسائل، وأن تدعونا - عن طريق الاستدلالات وحدها - إلى أن ننظر إلى العالم على أنه «ليس» مكونا من أشياء خارجة عنا؟ أليس هناك احتمال قوي في أن تكون استدلالات الفلاسفة هنا باطلة، أو عاجزة عن الوصول إلى هذه النتيجة؟ بل أليس هناك احتمال قوي في ألا تكون المشكلة ذاتها قابلة للحل عن طريق الاستدلال أو المنطق عامة؟
مراحل المثالية
(1) الشك في الحواس
سبق أن حددنا المعنى الذي سوف نستخدم فيه كلمة المثالية في هذا البحث: فهي تعني هنا كل مذهب يقف موقفا مضادا للموقف الطبيعي، وهذا - كما ذكرنا - معنى أوسع بكثير من المعنى المألوف للكلمة، ولكنه - دون شك - ينطوي على هذا المعنى المألوف بوصفه جزءا منه.
وأول مرحلة في مراحل خروج المثالية عن الموقف الطبيعي: هي الشك في الحواس، ومن الواجب منذ بداية الأمر أن يحدد بدقة معنى عبارة «الشك في الحواس» هذه كما تستخدم لدى المثاليين، فالمقصود من العبارة ليس الشك في أداء الحواس لعملها، وإنما الشك في قدرتها على نقل موضوعات خارجية لنا، فالمثالي لا يشك في قدرة العين على إدراك شكل كري أحمر اللون، ولكنه يشك في كون هذا الشكل الذي تنقله إلينا «تفاحة» يفترض أن لها وجودا خارج وجودنا، وسوف نرجئ إلى موضع تال مناقشة دلالة هذا المعنى بالنسبة إلى مشكلة الإحساس؛ لأن هدفنا الحالي هو إيضاح المعنى نفسه فحسب.
وهناك ظاهرة واضحة كل الوضوح في هذا الشك المثالي، هي أنه يعتمد - في كل الأحوال تقريبا - على «حالات الشذوذ»، أعني أن أول ما يفعله المثالي لتبرير شكه في الحواس هو أن يأتي بأمثلة لحالات «شاذة» في الإحساس، وفي ذهنه أن الشك في البعض يبرر الشك في الكل.
وسوف نضرب أمثلة قليلة لالتجاء المثاليين إلى حالات الشذوذ، وهي أمثلة سنختارها بوصفها تمثل اتجاها عاما في المثالية فحسب:
فنقطة البداية في تفنيد أفلاطون للنظرية القائلة: إن الإدراك الحسي هو مصدر المعرفة، هي الرجوع إلى ما يحدث في «الأحلام والأمراض وفي حالة الجنون بوجه خاص وفي مختلف أوهام السمع والإبصار أو غيرهما من الحواس.»
1
وحين يحاول هيوم أن يفند الاعتقاد بوجود موضوعات إدراكنا وجودا مستمرا مستقلا (وهو الاعتقاد السائد في الموقف الطبيعي)، يضرب أمثلة بالتجارب الآتية: «عندما نضغط بإصبعنا إحدى عينينا، نرى في الحال أن كل الأشياء قد أصبحت مزدوجة، وأن نصفها قد انتقل من موقعه المألوف الطبيعي، ولكن لما كنا لا ننسب إلى كل من هذين الإدراكين وجودا مستمرا، ولما كان لكل منهما طبيعة واحدة، فإنا نرى من ذلك أن جميع إدراكاتنا تتوقف على أعضائنا ... وهذا الرأي يؤيده ... ما يطرأ على لون الأشياء وكيفياتها الأخرى من تغيرات؛ نتيجة لمرضنا وتغير مزاجنا ... ومن هذا كله نرى أن إدراكاتنا الحية ليس لها أي وجود متميز أو مستقل.»
2
ويعرض شوبنهور البراهين الآتية للتدليل على أن العقل - لا الحس - له الدور الأكبر في عملية الإدراك، فهو يشير إلى «الطريقة التي يتعلم بها الإبصار الأطفال والأشخاص الذين ولدوا ضريرين ثم أجريت لهم عمليات جراحية ... والرؤية المزدوجة واللمس المزدوج عندما يتغير موقع أعضاء الحس من وضعه الأصلي ... و آلة الصور المجسمة
Stereoscope ؛ كل هذه براهين أكيدة دامغة على أن كل إدراك لا يتم عن طريق الحواس وحدها ...»
3
لا يستطيع أحد أن يقول: إن هذا النوع من الأمثلة هو النوع الوحيد الذي يضربه المثاليون للتشكيك في الحواس، ولكن لا جدال في أنه يمثل عنصرا قويا من عناصر النقد المثالي للحواس، بل إنه يكاد يكون نقطة البداية المتكررة دائما في هذا النقد.
ولكن عندما نقول في موقفنا الطبيعي: إن الحواس تنقل إلينا معرفة بالعالم الخارجي، فما الذي نقصده ب «الحواس» هنا؟ إننا نقصد - بلا شك - حواس الإنسان السوي السليم، أعني الإنسان الذي اكتملت حواسه الخمسة، ويدرك وهو في حالة طبيعية لا يشوبها مرض أو شذوذ، أليس من المضحك إذن أن يرهق الفلاسفة المثاليون أنفسهم في سبيل البحث عن حالات «شاذة» لكي يحملوا على الإدراك عامة حتى لو كان سويا، فيظلون يتحدثون - مثل ديكارت - عن حالات الهلوسة، أو مثل باركلي عن المولود أعمى، أو مثل شوبنهور عن ازدواج الرؤية، أو مثل هيوم عن الجنون، حتى ليكاد ميدان نظرية المعرفة يتحول إلى «مصحة» كل نزلائها من الشواذ والمنحرفين والمجانين، ويظل أطباؤهم من الفلاسفة يرعونهم بكل حدب، لا لكي يشفوهم، بل لكي يخيفوا بهم الأصحاء!
إن المبدأ الذي يعتمد عليه المثاليون في هذه الحالة، وهو مبدأ «ما يصح على الجزء يصح - أو قد يصح - على الكل.» هذا المبدأ لا يكون صحيحا إلا إذا كان الجزء والكل مشتركين في الكيف، أعني إذا كان الكلام ينصب دائما على حالة واحدة للحواس، ولكن الذي يحدث بالفعل هو أن المثالي يضرب أمثلة من حالات الإحساس «الشاذة» للتشكيك في الإحساس السوي، وهو خطأ حتى من ناحية الاستدلال ذاته.
والأمر الذي لا شك فيه أن منهج الالتجاء إلى حالات الشذوذ يؤدي إلى التشكيك، لا في الحواس وحدها، بل في أية قوة أو ملكة أخرى لدى الإنسان، ففي وسع المرء - باتباع هذا المنهج نفسه - أن يشكك في العقل ذاته؛ لأن هناك أناسا يفكرون - لأسباب مختلفة - بطريقة فاسدة، وفي المنطق لأن الأطفال والمجانين لا يتبعون قواعده، أو لأنه يعجز عن إرشادهم إلى طريقة التفكير السليم، والأمر الوحيد الذي يحول دون هذا النوع من الشك هو اتباع المبدأ العام، القائل: إن خطأ الحالات الشاذة لا يعني خطأ الحالات السوية؛ لاختلاف الحالتين الأساسي في الكيف.
ويؤدي بنا تحليل الأمثلة السابقة ذاتها إلى كشف وجه آخر من أوجه أخطاء الشك المثالي في الحواس: فكما يعتمد هذا الشك كثيرا عن حالات الشذوذ، فإنه يعتمد أيضا في كل نقد مثالي للحواس، مثال: العصا التي تبدو منكسرة في الماء، أو مثال السراب، أو البرج الذي يبدو عن بعد مستديرا بينما هو في حقيقته مربع ... إلخ، هذه الأمثلة كلها تفترض نوعا من الانفصال بين الحواس، وتعتمد على حاسة واحدة، هي حاسة الإبصار في معظم الأحيان، فالمعنى الحقيقي لما يقوله المثاليون في هذه الحالات هو: إذا نظرنا إلى الأشياء من خلال حاسة الإبصار وحدها لبدت العصا منكسرة ... إلخ، والرد البسيط على ذلك هو أننا لو استخدمنا بقية حواسنا - ولا سيما اللمس - في كل الحالات التي يتحدث عنها المثاليون لتمكنت الحواس «وحدها» من تصحيح أخطاء بعضها البعض.
والحق أن هذا الخطأ المثالي، خطأ فصل الحواس، وهو في واقع الأمر مظهر آخر من مظاهر الابتعاد عن الحالة «السوية» في الإدراك، ففي إدراكنا المعتاد نستخدم حواسنا كلها معا، ولا نجزم بالحكم على شيء لمجرد إدراك حاسة واحدة له، ما لم يكن هذا الشيء بعيدا إلى الحد الذي لا يسمح بالوصول إليه، وهكذا يبدو أن النقد المثالي يفترض هنا أيضا حالة لا تتحقق بالفعل، هي حالة الفصل بين الحواس.
ولنضرب مثلا واضحا كل الوضوح على هذا النوع من الخطأ: ففي كتاب
Knowledge and Perception
ينتهي المؤلف «برتشارد
» في إحدى مقالاته إلى الاعتراف بأخطاء الحواس، وهي الأخطاء التي تثبت أننا لا ندرك «أجساما».
4
ومع ذلك فقد توصل إلى هذه النتيجة باتباع منهج غريب حقا: فهو في أول المقال يذكر صراحة أنه سوف يحلل دور حاسة واحدة، هي حاسة الإبصار، ويقول:
إنني أفترض أن «الإدراك» كلمة تستخدم للدلالة على الجنس الذي يكون ما نسميه بالإبصار، والسمع والشم والذوق واللمس أنواعا له ... ولكني سأقتصر هنا اقتصارا يكاد يكون تاما على بحث الإبصار واللمس، بل على الإبصار بوجه خاص.
5
وليس من المستغرب على الإطلاق - إن كان هذا هو منهج المؤلف - أن ينتهي إلى الاعتراف بأخطاء الحواس، ولا يشفع له في ذلك ما قاله من أنه يأخذ حاسة الإبصار على أنها «مثال» لبقية الحواس، فهذا خطأ منهجي أساسي في هذا الميدان، فمن الواجب - طالما أننا بصدد مناقشة مشكلة الإدراك - إعطاء كل من الحواس فرصة إثبات صحة إدراكها، وإعطاء كل الحواس معا فرصة تصحيح بعضها البعض، أي بالاختصار: النظر إلى الحواس وهي متكاملة - كما تعمل في الواقع - لا الاكتفاء بتجريد حاسة واحدة منها.
بل إن من الواجب - طالما أننا بصدد الحكم على «الحواس» بوجه عام - أن نشير إلى التكامل «الأفقي» للحواس، أعني اشتراك حواس عدة أشخاص في تصحيح بعضها البعض ، فخطأ حاسة شخص أو حواس شخص لا يعني أبدا أن «الحواس» - بوجه عام - تخطئ، ولنضرب لذلك مثلا: فإذا توقفت إحدى الساعات عن العمل، أو أسرفت في التأخير أو التقديم، فهل يعني ذلك أن الساعات كلها فاسدة، وأن من الخطأ الاعتماد على «الساعة» - بوجه عام - في معرفة الوقت؟ وهلا نقترب جدا من معرفة الوقت الصحيح إذا قارنا بين ما تدل عليه عدة ساعات مختلفة؟ حقا إن هذه المقارنة لن تأتي بنتيجة لها دقة مطلقة، ولكنها تأتي قطعا بنتيجة نستطيع الاعتماد عليها، ولا سيما إذا كان الأمر متعلقا بأغراض عملية.
ولقد عاب «آير
Ayer » ذاته على الفلاسفة - الذين يعالجون موضوع الإدراك الحسي - تجاهلهم للطابع الاجتماعي لهذا الإدراك، فقال: «إذا جاز أن نقول عن أي شيء قابل للإدراك إنه موضوع فيزيائي، فلا بد على الأقل أن يكون من الممكن وصفه بأنه يدرك بواسطة أشخاص مختلفين، وبأنه يلمس - مثلا - مثلما يرى، غير هذه الشروط لا تتوافر في الموضوعات التي نظر إليها باركلي ومعظم الفلاسفة الآخرين على أنها معطيات نهائية، فما هو معطى مباشرة في الإدراك الحسي هو - في نظرهم - موضوع ليس له قوام دائم
evanescent
يسمى بالفكرة أو الانطباع أو التمثل أو المعطى الحسي، وهو موضوع يختص به الملاحظ المنفرد وحده، بل تختص به حاسة منفردة أيضا.»
6
مثل هذا الفهم التجزيئي للمعرفة الحسية - سواء أكان ذلك عن طريق عزل حاسة واحدة عن بقية الحواس، أو عن طريق عزل إدراك شخص واحد عن إدراك بقية الأشخاص - هو الذي يتيح الفرصة لعدد كبير من أصحاب الاتجاهات المثالية كيفما يوجهوا انتقاداتهم إلى الإدراك الحسي بوصفه وسيلة من وسائل المعرفة، ومن الواجب أن يكون المقصود من المعرفة الحسية هو تلك المعرفة التي تأتي بها حواس الشخص متكاملة، والتي تقارن نتائجها بنتائج ما تأتي به حواس الأشخاص الآخرين، ولو فهم الإحساس بهذا المعنى لأصبحت معظم الاعتراضات على الحواس غير ذات موضوع.
وأخيرا فمن الواجب أن نشير إلى ذلك الرأي الذي توصل إليه كثير من الفلاسفة التقليديين، والقائل: إن الحواس ذاتها لا تخطئ، إنما يكون الخطأ في حكمنا العقلي على ما تنقله إلينا النتائج التي نستدل عليها منه، فأرسطو يجعل للإدراك ثلاث مراتب، تتدرج من الحس الخالص إلى إدراك الصفات الكلية في المحسوسات، ويرى أن الخطأ ينعدم في النوع الأول ويزداد احتماله كلما اقتربنا من النوع الأخير.
7
وكانت يؤكد نفس المبدأ قائلا: «إن الصواب والخطأ لا يكونان في الموضوع بقدر ما لدينا به من حدس، بل في الحكم الذي نصدره عنه، فمن الصواب إذن أن نقول: إن الحواس لا تخطئ، لا لأن حكمها دائما صحيح، بل لأنها لا تحكم على الإطلاق.»
8
ولنا على هذا الرأي القائل بتداخل الحكم العقلي مع الحواس ملاحظتان:
الأولى:
أنه ينبغي ألا يتخذ وسيلة لنقد دور الإحساس في المعرفة إلا في حالة واحدة: إذا كان المدافعون عن الإحساس يقولون: إنه هو المصدر «الوحيد» للمعرفة، وهو رأي لا أظن أن أحدهم قال به، فمن الممكن التسليم بدور الذهن الأساسي المكمل للإحساس مع الاعتراف في الوقت ذاته بالدور الهام الذي تقوم به الحواس من حيث هي نقطة بداية تصدر بناء عليها الأحكام الذهنية.
وثانيا:
أنه إذا كانت العلاقة بين الحواس والذهن متداخلة إلى هذا الحد، فإن انتقاد الحواس يوازيه انتقاد مماثل ينبغي توجيهه إلى الذهن نفسه، فمن الممكن الإتيان بأمثلة عديدة لحالات يكون الخطأ فيها راجعا إلى تسرع الذهن أو عدم دقته في الحكم على ما تنقله إليه الحواس، فلنفرض شخصا يسير في الظلام في حالة خوف من الأشباح، مثل هذا الشخص سيحكم على أي خيال يظهر له فجأة بأنه شبح، وليس الخطأ هنا خطأ الحواس؛ إذ إنه في واقع الأمر لا يعطيها الفرصة الكافية لإدراك كنه هذا الخيال، بل قد يفر على التو؛ نتيجة للحكم المتسرع الذي أصدره ذهنه.
والخلاصة هي أن التفكير المثالي - الذي يجعل من انتقاد الحواس نقطة البداية في الخروج عن الموقف الطبيعي - يرتكب في هذا الانتقاد الأخطاء الآتية: (أ)
أنه ينظر إلى الحواس - في كثير من الأحيان - في حالة الشذوذ لا في حالتها السوية. (ب )
أنه ينظر إليها منفصلة بعضها عن البعض، ويغفل الدور الأساسي الذي يؤديه التكامل بين الحواس على المستوى الفردي والمشترك بين الأفراد. (ج)
أنه يغفل الدلالة الحقيقية لفكرة التداخل بين دور الحواس والذهن، وهي اشتراكهما معا في المسئولية عن الإدراك المصيب والمخطئ في آن واحد، على حين تتصور المثالية أن الخطأ يقتصر على الطرف الحسي وحده. (2) صفات الأشياء موضوعية أم ذاتية؟
بعد أن يشكك التفكير المثالي في الحواس، تكون الخطوة الطبيعية التالية هي التشكيك فيما تنقله إلينا الحواس، أعني أنه إذا كانت الحواس ذاتها موضوعا للشك، فمن الطبيعي أن يثار السؤال عن كون الموضوعات المحسوسة موضوعية أم ذاتية، وإذا حاولنا أن نحدد بدقة المعنى الحقيقي للجدل الذي أثارته نظرية المعرفة التقليدية حول هذه المسألة لما وجدنا سوى المعنى التالي: هل هناك اتفاق بين اعتقادنا «العملي» بوجود أشياء خارجية، وبين الطريقة «الحقيقية» التي تؤدي بها الحواس وظيفتها؟ وتجيب المثالية على هذا السؤال بالنفي البات: فالطريقة الحقيقية التي تؤدي بها الحواس وظيفتها لا تتفق على الإطلاق مع اعتقادنا العملي هذا، وإنما يدلنا التحليل الدقيق لعمل الحواس على أن كل ما نظنه موضوعيا هو في واقع الأمر «ذاتي» بمعنى ما.
ولقد اتضحت معالم الطريق الذي ينبغي أن يسير فيه المثالي منذ اللحظة التي أوضح فيها ديكارت فكرته عن التفرقة بين نوعين من الكيفيات في الأشياء: أحدهما صادر عن الذات والآخر مستقل عنها، فهنا ظهرت أول محاولة جدية - تنتمي إلى ميدان نظرية المعرفة على التخصيص - لرد «بعض» الصفات التي نظنها منتمية إلى الأشياء نفسها إلى الذات، ومن الطبيعي أن يكون التطور المنطقي للمذهب بعد ذلك هو زيادة عدد تلك الصفات التي ترد إلى الذات بالتدريج، حتى تصبح كلها ذاتية في آخر الأمر.
ففي كتابات ديكارت، ولا سيما مبادئ الفلسفة،
9
تظهر أول تفرقة صريحة واضحة بين نوعين من الصفات في الأشياء: أحدهما كالشكل والحركة والموقع، هو صفات «توجد في الأشياء على نفس النحو الذي ندركها عليه عن طريق حواسنا أو فهمنا»، أما الصفات الأخرى - كالألوان مثلا - فإننا عندما ننسبها إلى الأشياء فإنما يعني ذلك أننا «ندرك في هذه الأشياء أمرا نجهل طبيعته، وإن يكن يسبب فينا إحساسا معينا بادي الوضوح والظهور، يسمى بإحساس الألوان.»
ومن الواجب أن نلاحظ أن الأمر الذي يحذرنا منه ديكارت هو الاعتقاد بأن الألوان توجد في الأشياء ذاتها على نفس النحو الذي تظهر به لحواسنا، وهو يدافع في واقع الأمر عن وجود «شيء ما» - مجهول الطبيعة - في الأشياء، هو الذي يسبب فينا هذا الإحساس اللوني، ومعنى ذلك أن ديكارت لم يدخل تماما في مجال الذاتية؛ لأن اللون ناتج عن صفة فعلية موجودة في الأشياء، ولكن الذهن
entendement
هو الذي يحول هذه الصفة المجهولة إلى ما نسميه نحن باللون.
ولقد نظر شراح لوك إلى رأيه في مشكلة الكيفيات الأولى والثانية على أنه مجرد تعبير أصرح وأوضح عن فكرة ذاتية الكيفيات الثانية وموضوعية الأولى، ورغم أن الكثيرين من مؤرخي الفلسفة يوافقون على هذا التفسير - الذي قد يكون له في بعض الأحيان ما يبرره - فإني أود أن أنبه إلى بضع نواح ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار في أية مناقشة لهذا الموضوع:
أولا:
أن تفرقة لوك بين نوعي الكيفيات يمكن أن تفسر على أنها تفرقة لغوية أو تفرقة في «التعريف»، فهو يقول عن الكيفيات الأولى إنها لا تنفصل عن الجسم بحال، بل يحتفظ بها مهما كانت التغيرات، ويجدها الحس في أية موضوعات مهما صغرت طالما أنها تدرك.
10
هذا الرأي يمكن أن يفسر على أساس أن من المستحيل تصور الجسم دون أن تكون له تلك الكيفيات الأولى؛ فمن المستحيل تصور جسم بلا شكل أو كتلة أو حجم أو امتداد، ومهما كبر ذلك الجسم أو صغر، ومهما كانت التغيرات التي يمر بها فسيظل دائما ذا شكل وكتلة وامتداد إلخ ... وإذن فالكيفيات الأولى في هذه الحالة جزء من «مفهوم» الجسم ذاته، أما الكيفيات الثانية فليست كذلك؛ إذ إن من الممكن تصور جسم دون لون (كالهواء)، أو جسم دون صوت (كالصورة)، أو جسم دون طعم (كالماء) ... إلخ.
ثانيا:
فإذا صح هذا التفسير للتفرقة بين الكيفيات الأولى والثانية على أنها تفرقة بين الصفات التي تدخل في «مفهوم» الجسم وتلك التي لا تدخل، فإن هذه التفرقة لا تؤثر على الإطلاق في القول بذاتية الكيفيات أو عدم ذاتيتها، ولو فرضنا أن الجسم - بكل صفاته - راجع إلى أفكار ذاتية، فإن هذا لا يمنع من استمرار التفرقة بين نوعين من الصفات: أحدهما لا يمكن تصور الجسم بدونه، والآخر قد يوجد في الجسم أو لا يوجد، إنك تستطيع أن تسلم - مثلا - بأن كل ما يتعلق بالجسم صادر عن الذات، وتؤكد في الوقت ذاته أن هناك صفات لا تستطيع الذات أن تبعث فكرة الجسم دون بعثها هي الأخرى، وصفات أخرى يمكن بعث فكرة الجسم بدونها، فالكيفيات الأولى في هذا التفسير جزء من «تصور» الجسم ذاته، سواء كان مصدر هذا الجسم ذاتيا أو موضوعيا.
ثالثا:
وربما كان مما يؤيد هذا التفسير، تردد لوك في كتاباته بين التفسيرين: المثالي والمادي، فهو في بعض المواضع يؤكد أن «معظم أفكار الإحساس توجد في الذهن دون أن تشابه شيئا يوجد خارجنا، مثلما أن الأسماء التي تدل على هذه الأفكار لا تشابهها، وإن كانت تثير فينا هذه الأفكار عندما نسمعها.»
11
ولكنه من جهة أخرى يتحدث حديثا شبه مادي عن حركة من أعصابنا أو أرواحنا الحيوانية إلى المخ، وعن حركة أجسام من الأشياء الخارجية إلى العين تبعث فينا صورها، أما الكيفيات الثانية، فينتقل تأثيرها إلى حواسنا عن طريق «دقائق لا تدرك».
12
ويؤكد لوك في نفس الموضع اعتماد هذه الكيفيات الثانية على الأولى، أعني اختلاف الألوان والطعوم ... إلخ حسب اختلافات الحركة والشكل والعدد في الأجسام، وهكذا تظهر التفرقة بين نوعي الكيفيات عنده أقل شدة مما تصور به عادة، وعلى أية حال فإن تأرجح لوك وعدم جزمه بشيء في مسألة أصل الكيفيات، يدل على أن مشكلة الأصل هذه ليست هي التي تعينه، وهذا مما يرجح التفسير الذي نقترحه هنا، وهو أن تفرقته بين الكيفيات الأولى والثانية قد لا تكون إلا تفرقة لغوية تتعلق بعلاقة صفات الجسم المختلفة بتعريفه، وهي تفرقة تظل صحيحة مهما كان الأصل الذي ينسب إلى هذه الكيفيات.
ومع هذا كله فإن التفسير الذي انتشر لرأي لوك في الكيفيات الأولى هو أنه كان يعدها منتمية إلى الأجسام ذاتها، بمعنى أنها خارجية، وهكذا اتجهت محاولات الفلاسفة من بعده إلى إزالة ذلك الحاجز الذي وضعه لوك بين نوعي الكيفيات، بل إزالة الحاجز بين هذين النوعين من جهة وبين النوع الثالث الذي تمثله اللذة والألم، والذي لا يشك أحد في ذاتيته.
13
ويصل هذا الاتجاه إلى قمته في فلسفة باركلي، ففي هذه الفلسفة تستخلص كل النتائج المثالية لفكرة ذاتية الكيفيات، وفي وسعنا أن نتخذ من هذه الفلسفة أنموذجا للفلسفة المضادة للموقف الطبيعي، فتفكير باركلي يمثل أبعد المراحل التي بلغتها الفلسفة في سيرها بعيدا عن الموقف الطبيعي، وهو في هذا يمثل بصورة صادقة موقف الفيلسوف «المحترف»، الذي يدور تفكيره في عالم لا تربطه بعالم الذهن المعتاد إلا صلة عدم الاعتراف المتبادل.
ومن الحقائق المعروفة أن باركلي لم يصل إلى مثل هذا الموقف المثالي في المراحل الأولى لتفكيره؛ إذ إنه - في عهد تأليفه لكتاب «نظرية جديدة في الإبصار» - كان لا يزال يعد عالم اللمس حقيقيا، في حين أن عالم الإبصار فكري خالص، وكل هدفه في هذا الكتاب كان إثبات عدم تطابق هذين العالمين إلا على أساس اعتباطي
arbitrary ، بحيث تكون العلاقة بين العلامات البصرية والتفسيرات اللمسية أشبه بالعلاقة بين الرمز اللغوي وموضوعه؛
14
إذ إن العلامة البصرية لا تشبه الواقع الملموس، ولكنها بالتجربة تصبح دالة عليه، تماما كما يصبح اللفظ دالا على موضوعه بتكرار الارتباط بينهما، رغم عدم وجود أي تشابه بين طبيعتيهما.
ومنذ كتاب «مبادئ المعرفة البشرية» تكتمل عناصر الموقف المثالي بإزالة كل أثر باق للموقف الطبيعي في كتابته، والقول أن جميع الكيفيات سواء في ذاتيتها، فصفات الامتداد والشكل والحركة - التي يزعم أنها توجد في المادة - ليست إلا أفكارا توجد في الذهن، والخطأ الذي وقعت فيه نظريات المعرفة السابقة على باركلي، هو، في رأيه، أنها حاولت الفصل بين الكيفيات الأولى والثانية وجعلت لكل منهما مصدرا مستقلا، بينما يستحيل في واقع الأمر فصل كل من نوعي الكيفيات: فهل يستطيع أحد تصور امتداد أو شكل دون لون أو كيفية أخرى من الكيفيات الثانية؟ والنتيجة الواضحة لهذه المقدمة هي أن جميع صفات ما يسميه الموقف المعتاد ب «الأشياء الخارجية» تتوقف على الذهن الذي يدركها «فلن ينكر أحد أن خواطرنا وانفعالاتنا وأفكارنا التي تتكون بالخيال لا توجد بدون الذهن، ولا يقل عن ذلك وضوحا عندي أن مختلف الإحساسات أو الأفكار التي تنطبع على الحس ... لا يمكن أن توجد إلا في ذهن يدركها، وأعتقد أن المرء يستطيع أن يكتسب معرفة حدسية بهذا إذا ما فكر في المقصود من لفظ «يوجد» عندما يطبق على الأشياء المحسوسة، فأنا أقول عن المنضدة متى أكتب عليها أنها توجد، أي إنني أراها وأحسها، وإذا غادرت غرفتي فسأقول: إنها موجودة، وأعني بذلك أنني لو وجدت في حجرتي فسأدركها، أو أن روحا أخرى معينة تدركها بالفعل، وعندما يقال: إن هناك رائحة، فالمقصود أنها تشم، أو أن هناك صوتا، فالمقصود أنه يسمع ... أما ما يقال عن وجود الأشياء غير المفكرة وجودا مطلقا - دون أية صلة بكونها مدركة - فذلك ما لا أتصوره على الإطلاق، فوجود الأشياء هو كونها مدركة.»
15
هنا يعبر باركلي بوضوح عن أفكار ترددت من بعده بآلاف الصور، وما زالت إلى يومنا هذا تتكرر في أوساط الفلاسفة والعلماء المتفلسفين على السواء، وقد تتخذ شكلا أدق أو أعقد من الشكل الذي اتخذته عند باركلي، ولكنها - على أية حال - لا تخرج في نهاية الأمر عن مثل هذه الأفكار التي كرس باركلي مؤلفاته الفلسفية لعرضها، فعلى المرء أن يرجع إلى فلسفة باركلي كلما أراد تعبيرا واضحا عن الموقف المثالي الذي يرفض جميع عناصر الموقف الطبيعي، كما أن عليه أن يركز حملته على هذه الفلسفة كلما أراد نقد الموقف المثالي والدفاع عن تصور الذهن المعتاد للعالم الخارجي. (1)
والآن، فلنتساءل عن المعنى الحقيقي لفكرة ذاتية الكيفيات، ولنضرب مثلا بأقرب هذه الكيفيات إلى الطبيعة الذاتية - حسب الفرض المثالي - وهي اللون ، إن المثالي يعرض فكرته بقوله: إن هذا الحائط الذي يبدو لي أبيض، ليس «في حقيقته» أبيض، فما هو معنى هذه العبارة الأخيرة؟ ترتد الحجج المثالية التي تبرر هذه الفكرة في نهاية الأمر إلى أن التحليل العلمي للون الأبيض - سواء من ناحية طبيعة الموجات الضوئية أو كيفية التقاط حدقة العين لها - يطلعنا على حقيقة مختلفة عما تطلعنا عليه الحواس في موقفنا المعتاد، وهذا أمر لا يستطيع أحد أن ينكره، ولكن لا يصح أن نستنتج منه أن «الحائط ليس في حقيقته أبيض»؛ إذ إننا عندما نقول: إن الحائط أبيض نقصد أنه في مستوى الإدراك المعتاد أبيض، وهو بالفعل لا يمكن إلا أن يكون كذلك في هذه الحدود.
فالحجة المثالية إذن تنطوي على خلط بين الموقف المعتاد والموقف العلمي التفسيري، وتنقد الأول عن طريق حقائق لا تصح إلا في الثاني، ونستطيع أن ندعم هذا الرأي إذا لاحظنا أن فكرة ذاتية الكيفيات لم يعبر عنها بصورة واضحة إلا بعد وصول العلم إلى مرحلة معينة من التقدم، هي تلك التي أمكن فيها تحليل الألوان والأصوات إلى موجات لها ذبذبات أو أطوال معينة ... إلخ، ومما يزيد هذا الفرض قوة: ما لاحظه آرون
R. Aaron
في كتابه عن «لوك» من أن روبرت بويل كان أول من وضع تفرقة حاسمة بين الكيفيات الأولى والثانية، وأكد أن الثانية ترتد إلى الذات،
16
فليس من قبيل المصادفة أن تظهر فكرة الذاتية هذه على يد عالم معروف؛ إذ إنها - كما قلنا - ترجع إلى بلوغ العلم مرحلة معينة، وإلى تحمس أصحاب الاتجاهات المثالية بين الفلاسفة لهذه الكشوف إلى الحد الذي أدى إلى خلطهم بين مجالي الموقف العلمي والموقف المعتاد، ولنذكر دائما أنه مهما كانت كشوف العلم في هذا الميدان، فستظل النظرة المعتادة صحيحة في ميدانها، ولو قال شخص: «إن هذه الورقة ليست في حقيقتها ملساء؛ لأنها تبدو تحت المجهر أشبه بالجبال والسهول.» لكنا أسرع إلى إدراك المغالطة في رأيه هذا، وإلى تبين ما ينطوي عليه من خلط بين موقفين مختلفين، غير أن هذا القول لا يختلف في شيء عن الرأي المثالي القائل إن الحائط في حقيقته ليس أبيض، سوى أن الخلط أقل وضوحا في الحالة الثانية. (2)
فإذا حللنا فكرة «وجود الشيء هو كونه مدركا» من الوجهة المنطقية للاحظنا على الفور أن أحد طرفيها - وهو «وجود الشيء» - هو الذي يتركز عليه الاهتمام، فالفكرة في الواقع محاولة لتعريف كلمة «وجود الشيء»، ولكن باركلي - وكذلك من سار في طريقه من الفلاسفة - لم يهتم كثيرا بتحليل الطرف الثاني، وهو كلمة «كون الشيء مدركا»، وعلينا دائما أن نلح في طلب تعريف ل «كون الشيء مدركا»، وأن نتساءل: متى يكون الشيء مدركا؟ إن الشيء لا يكون مدركا «كلما أردنا ذلك»، وفي هذا المعنى المرفوض وحده تكون الذاتية التامة صحيحة، وإنما يكون الشيء مدركا تحت شروط معينة لا بد من توافرها وإلا لما تسنى لنا إدراكه، فباركلي يؤكد أن المنضدة الموجودة في حجرة مغلقة لا وجود لها بالنسبة إلي إلا إذا أدركتها، ولكن ينبغي تكملة هذا التدليل بالقول: إنني لا أدركها إلا إذا انتقلت إلى الحجرة ذاتها، أي إن هناك شروطا معينة يخضع لها إمكان إدراك الشيء، وهي شروط لا أستطيع التحكم فيها ذاتيا، بل ينبغي أن أقبلها كلها كما هي؛ لأنها غير متوقفة على إرادتي، وهكذا يبدو أنه إذا كانت فكرة الوجود
esse
تحيلنا إلى فكرة الإدراك
percipi ، فإن فكرة الإدراك - بما تفترضه من شروط غير متوقفة على الذات - تحيلنا ثانية إلى فكرة الوجود. (3)
أما من الناحية العملية - وهي أساسية في موقفنا الطبيعي - فإن فكرة «وجود الشيء هو كونه مدركا» تؤدي إلى العجز التام عن التصرف في هذا الميدان، فجميع مواقفنا العلمية مبنية على عكسها، ومجرد استخدامنا لملكات التذكر والتوقع والتخيل يعني أننا نخالف هذه الفكرة ولا نقول بوجود هوية بين وجود الشيء وكونه مدركا، فإذا لم يكن في إمكاننا القول بوجود الأشياء «دون» كونها مدركة لاستحال حديثنا عما يجري في بلد آخر، أو في الشارع المجاور، أو ما سيقع إذا حدث كذا ... ولما أمكننا أن نتقدم عمليا خطوة واحدة.
17
ونستطيع أن نقول : إن التقدم الأكبر الذي يتميز به الإنسان عن الحيوان يتمثل في تجاوز فكرة «وجود الشيء هو كونه مدركا»، فالحيوان - على الأرجح - هو الكائن الذي يؤمن بهذه الفكرة ويطبقها بحذافيرها؛ لأنه لا يعرف كيف يتذكر أو يتوقع بوضوح، وكيف يربط الماضي بالحاضر، ولأن كل ما يمر به جديد منفصل مفكك، ولم يستطع الإنسان أن يعلو على مرحلة الحيوانية هذه إلا لأنه عرف كيف يتخلص من هذه الفكرة، ويؤمن بوجود الأشياء من غير أن تكون مدركة، أي أن يتجاوز هذا «الموجود لأنه مدرك». (3) الأشياء بوصفها «ظواهر»
نستطيع من وجهة نظر الموقف الطبيعي أن نفرق بين المثالية «المادية» عند باركلي وبين المثالية «الظاهرية» عند «كانت» على أساس أن الأولى تعد الخروج عن الموقف الطبيعي «نتيجة» نهائية، أما الثانية فتعده المقدمة الأولى لها، والمظهر الأول لأصالة منهجها، فمن الواضح أن باركلي لم ينتقل إلى القول بأن وجود الشيء هو كونه مدركا إلا بعد تفكير متدرج مرت به فلسفته هو ذاته ومرت به الفلسفات الحديثة السابقة عليه، حين أخذت ترد المزيد من صفات الأشياء تدريجيا إلى الذات، فكانت النتيجة الطبيعية في النهاية هي التخلي عن الموقف الطبيعي على نحو ما فعل باركلي، أما بالنسبة إلى «كانت» فالمسألة ليست استدلالا أو تطورا تدريجيا، بل هي منهج جديد وضعه بإرادته، وحاول فيه أن يجعل الأشياء تدور حول محور الذات، أي أن يتخذ عمدا - ومنذ البدء - الموقف المضاد للموقف الطبيعي، وتلك - بلا شك - طريقة أكثر فعالية في محاربة الموقف الطبيعي، ومن هنا كان قول شوبنهور في مقدمة الطبعة الثانية لكتابه «العالم إرادة وتمثلا»: «إن تعاليم «كانت» لتحدث تغييرا أساسيا في كل ذهن استوعبها ... فهي وحدها القادرة فعلا على إزاحة الواقعية الفطرية التي تنشأ عن الميل الأصلي للعقل، وهذا أمر لا يقدر عليه باركلي ولا ما لبرانش ... ونتيجة لذلك تنكشف عن العقل غمامته تماما، وينظر إلى كل الأشياء بعد ذلك في ضوء جديد ... أما من لم يستوعب فلسفة «كانت» ... فهو في حالة البراءة، أي إنه يظل واقعا تحت سيطرة تلك الواقعية الطبيعية الطفلية التي نولد كلنا فيها، والتي تؤهل المرء لكل شيء ممكن ما عدا الفلسفة.»
ويبدو أن «كانت» كان يقصد باركلي حين تساءل في مستهل مقدمة الطبعة الثانية من «نقد العقل الخالص»، في صدد حديثه عن أسبقية التجربة في كل معرفة لنا «... كيف تدفع ملكة المعرفة لدينا إلى العمل ما لم تكن الأشياء التي تؤثر في حواسنا تنتج من ذاتها - من جهة - تمثلات، وتثير - من جهة أخرى - نشاط ذهننا ليقارن هذه التمثلات، ويقوم - عن طريق الجمع بين المادة الخام للانطباعات الحسية أو التفريق بينها - بتحويل هذه المادة إلى تلك المعرفة بالأشياء المسماة بالتجربة؟ وهكذا يتضح لنا المعنى الذي قصده «كانت» حين أطلق على فلسفة باركلي اسم «المثالية المادية»؛ فباركلي يجعل من الذهن - الإلهي أو البشري - مصدرا للحدس ولكل صورة أو ترتيب يظهر به ذلك الحدس. أما بالنسبة إلى «كانت» فالحدس «معطى»، ودور الذهن ينحصر في بعث الوحدة والنظام والترتيب في ذلك الحدس، وهنا قد يبدو أن مثالية «كانت» أخف حدة من مثالية باركلي، ولكن الواقع أن درجة الخروج عن الموقف الطبيعي لا تقل عند «كانت» عنها عند باركلي؛ ذلك لأن هذا الحدس الذي أخرجه من سلطة الذهن هو مجرد مادة للإدراك لا تعرف إلا من خلال التشكيل الذهني، ولا تفهم إلا بما فيها من صور وقوالب ذهنية، فلم يكن قول «كانت» إذن: إن صورة الإدراك - لا مادته - هي التي تأتي من الذهن، لم يكن هذا القول في واقع الأمر محاولة للاقتراب من الموقف الطبيعي على الإطلاق؛ إذ إن مادة الإدراك عنده مجرد مجهول لا قيمة له في أية معرفة، ولا يمكن للمرء الوصول إليه مهما بذل من جهد، بل إنها بالنسبة إلى فلسفة «كانت» تكملة منطقية لبناء المذهب فحسب.»
ففي نفس الوقت الذي أكد فيه «كانت» أن كل معرفة لنا تبدأ بالتجربة، حرص على أن يوضح ذلك بأنه لا يعني أنها كلها تنشأ «عن التجربة»؛ «إذ إن من المحتمل أن تكون التجربة ذاتها مؤلفة مما نتلقاه من الانطباعات وما تقدمه ملكة المعرفة ... بذاتها.» (مقدمة الطبعة الثانية)، وأستطيع أن أقول: إن كلمة «من المحتمل» هنا ليست تعبيرا عارضا، بل إنها تكشف عن وجه في المثالية الظاهرية عند «كانت»، هو أن هذه المثالية قدمت في البداية على أنها فرض قيم قد يفيد في إرساء الميتافيزيقا على أسس علمية متينة، فمنذ مقدمة الطبعة الثانية يوضح «كانت» هدفه بأنه محاولة بناء الميتافيزيقا على أسس راسخة كتلك التي تبنى عليها الرياضة والطبيعة، وهو لهذا الغرض يجرب طريقا آخر لتفسير العلاقة بين الأشياء والذهن غير طريق الموقف الطبيعي، وعلى هذا الأساس نستطيع أن نقول: إن فلسفة «كانت» النظرية كانت ثورة كبرنيكية، لا بمعنى أنه أراد منها أن تحدث انقلابا شاملا في تحديد العلاقة بين الأشياء والذهن فحسب، بل أيضا بمعنى أنها - كالنظرية الكبرنيكية الفلكية - كانت «فرضا» خاضعا للتحقيق، وينبغي الحكم عليه حسب ما يؤدي إليه من نتائج، ومن هنا كان علينا أن نعامل فلسفة «كانت» النظرية بأسرها على أنها «فرض»، أو محاولة قصد بها النظر إلى الأشياء في ضوء جديد، هو ذلك الذي تكون فيه الأشياء «دائرة في فلك الذات» - إن جاز هذا التعبير، وأن نحاول إصدار حكم على هذه الفلسفة في هذا الضوء، ونعاملها - كأي فرض علمي - حسب قدرتها على تحقيق الهدف الذي وضعته لذاتها منذ البداية، وتفسيرها للظواهر الواقعة في نطاقها تفسيرا سليما.
ومن أوضح الأدلة التي تؤيد هذه النظرة إلى فلسفة «كانت» النظرية على أنها «فرض» مضاد للموقف الطبيعي وضعه «كانت» معتقدا أنه سيفسر به الظواهر الميتافيزيقية تفسيرا أسلم، تلك السلسلة العديدة من التعبيرات المثالية التي استهل بها «كانت» مناقشاته الفلسفية في كتاب «نقد العقل الخالص»، دون أن يبذل مجهودا يذكر للبرهنة عليها، ففي بداية «الحساسية الترنسندنتالية» - أي في بداية أول موضوع يناقشه «كانت» في ذلك الكتاب بعد المقدمات والتصديرات - يأتي «كانت» ببضعة تعريفات، ضمنها تعريف للإحساس بأنه «تأثير الموضوع في ملكة التمثل، بقدر ما تتأثر بهذا الشيء ... والحدس يكون تجريبيا إذا اتصل بالموضوع عن طريق إحساس، والموضوع غير المحدد للحدس التجريبي يسمى «مظهرا».»
18
هنا يتحدث «كانت» عن الموضوع «غير المحدد» للحدس التجريبي، ويطلق عليه اسم «المظهر»، وهذه التسمية وحدها تجر وراءها الموقف المثالي بأسره، مع أنها لا تبدو هنا إلا في صورة تعريف تمهيدي، وأفضل تعليل لهذا الاستخدام غير المسبوق ببرهان لكلمة «المظهر»: ما تتضمنه من ضرورة القول بأشياء في ذاتها، وبأن هذه الأشياء في ذاتها مجهولة، ما دام موضوع الحدس التجريبي هو ما ينقل إلينا المحسوسات، نقول: إن أفضل تعليل لذلك هو أن «كانت» قد أراد منذ البداية اتخاذ ذلك الموقف المثالي الذي يسمى «بالمظهر» ما نطلق عليه في موقفنا المعتاد اسم «الشيء»، والذي يعتقد بوجود حقيقة أخرى وراء ما ندركه من الشيء، لا تنقلها إلينا الحواس، وربما كانت غير قابلة للنقل على الإطلاق.
وهو يحدد دور الحاسة الخارجية في تكوين فكرة المكان فيقول: «عن طريق الحاسة الخارجية - وهي صفة لذهننا - نمثل لأنفسنا الأشياء على أنها خارجة عنا، وموجودة ... في المكان (ص
B. 37 ) وهكذا تكون نقطة بداية المناقشة - لا نتيجتها النهائية - هي أن المكان ناتج عن الحاسة الخارجية التي هي صفة لذهننا، وأن خارجية الأشياء من صنع ذهننا، وكل ما في الأمر هو أننا «نمثل لأنفسنا» الأشياء على أنها خارجة عنا، أما كيف كانت الأشياء قبل أن «نمثلها لأنفسنا» فهذا ما لا يجيب عنه «كانت».
والأمر الذي لا شك فيه أن هذا الفرض في نظر «كانت» ناجح كل النجاح: فعلى أساسه يستطيع تبرير الرياضة والطبيعة تبريرا أوليا، ويستطيع أيضا أن يمكن الميتافيزيقا من أن تسير في «طريق العلم المأمون»، هذا ما اعتقده «كانت» حين وضع مؤلفاته، ولكن التطور التالي قضى - كما هو معروف - على كل المبررات التي وضعها لمذهبه: فالرياضة والطبيعة سارتا في اتجاه مخالف تماما لذلك العلم «الخالص» الذي تصوره، والميتافيزيقيا اشتدت خلافاتها الداخلية وتناقضات مذاهبها حتى أصبحت أبعد مما كانت في أي وقت مضى من «طريق العلم المأمون».
ولكن الذي يعنينا الآن هو أن «كانت» مضى في فلسفته مرتكزا على هذا الموقف الجديد، الذي تكون فيه الأشياء دائرة حول الذات ومعتمدة عليها، وقد عبر «كانت» عن هذا الموقف أوضح تعبير في هذا النص الذي نقتبسه من «الملاحظات العامة على الحساسية الترنسندنتالية»: ... إن كل حدس لنا ليس إلا تمثلا لمظهر، وإن الأشياء التي ندركها بالحدس ليست في ذاتها على نحو ما ندركها بالحدس، وإن تركيب علاقاتها ليس في ذاته على نحو ما يبدو لنا، وإنه إذا ما أزيلت الذات، أو حتى التركيب الذاتي للحواس بوجه عام فحسب، لاختفى كل تركيب للأشياء وكل علاقاتها في المكان والزمان، بل لاختفى الزمان والمكان ذاتهما، فهما - بوصفهما مظاهر - لا يمكن أن يوجدا في ذاتهما، بل فينا نحن فقط، أما ما قد تكونه الأشياء في ذاتها مستقلة عن كل قدرة لحساسيتنا على تلقيها فذلك ما يظل مجهولا لدينا تماما، ونحن لا نعرف إلا طريقتنا في إدراكها، وهي طريقة خاصة بنا، ولا يشارك فيها كل موجود بالضرورة، وإن كان كل كائن بشري يشارك فيها حتما.
هذا النص يظهر بوضوح الطابع «اللاأدري» لمثالية «كانت»: فهي مثالية تستطيع أن تؤكد شيئا واحدا: هو أن الأشياء كما تبدو لنا «ظواهر»، أما ما وراء هذه الظواهر، فذلك هو المجهول الذي لا تذكر تلك المثالية أي شيء عنه، وينبغي أن نلاحظ هنا وجود تناقض بين قضيتين متلاحقتين عند «كانت»: أولاهما هي القائلة إن مظهر الأشياء كما ندركها «مختلف» لدينا تماما، فإذا صحت القضية الثانية، فإن هذا لا يعني صحة الأولى على الإطلاق، وينبغي أن يمتنع الفيلسوف - إذا كان «لاأدريا» على هذا النحو - عن إصدار أي حكم إيجابي على طبيعة الأشياء في ذاتها، كالقول: إنها «مختلفة» عن الظواهر؛ ذلك لأن هناك عدة احتمالات منطقية عن العلاقة بين الظواهر والأشياء في ذاتها، ضمنها احتمال كونها «مماثلة» للظواهر، وطالما أننا نفرق بين الظواهر والأشياء في ذاتها مثل هذه التفرقة القاطعة، ونؤكد أن الثانية «مجهولة تماما»، فمن الواجب أن نعمل حساب ذلك الاحتمال الذي تكون فيه الأشياء في ذاتها مماثلة لظواهرها، وهو احتمال يظل قائما طالما أن الأشياء في ذاتها «مجهولة».
مثل هذه التفرقة بين الظواهر والأشياء في ذاتها هي مظهر من مظاهر خروج المثالية عن الموقف الطبيعي، وهو مظهر أطلق عليه «كانت» اسم «المثالية النقدية»، والفارق بين المثالية النقدية وبين مثالية باركلي «المادية» - من وجهة نظر الموقف الطبيعي - يتمثل في فكرة «الشيء في ذاته» هذه، فباركلي و«كانت» متفقان على أن الوجه المدرك للأشياء يرجع إلى مجرد إدراك الذات له عند الأول، أو «طريقتها» في إدراكه عند الثاني، غير أن «كانت» يفترض من وراء هذا الوجه المدرك طبيعة أخرى «مجهولة» هي التي تمثل الأشياء «كما هي في حقيقتها»، وهذا الوجه بطبيعته مخالف تماما لما ندركه من الأشياء في الموقف الطبيعي، أي إننا نستطيع في الواقع أن نقول: إن «كانت» قد خالف الموقف الطبيعي مرتين: مرة حين أكد أن الوجه المدرك للأشياء راجع إلى الذات، ولا يمثل صفات موضوعية، ومرة حين أكد أن ما ندركه من الأشياء لا يستوعب كل ما فيها، بل إن لها طبيعة كامنة مخالفة لما ندركه، والقولان - كما هو واضح - مرتبطان في فلسفته ارتباطا وثيقا.
وعلى الرغم من محاولات خلفاء «كانت» من المثاليين أن يخلصوا مذهبه من هذه «الزائدة» التي لا تجلب لمذهبه إلا المرض - أي الشيء في ذاته - فلا شك في أن موقع الفكرة من مذهبه ليس عرضيا على الإطلاق، «فكانت» أراد أن يكون منطقيا مع نفسه؛ إذ وضع في مقابل الظواهر أشياء في ذاتها، ولنصور الأمر على هذا النحو: فمن المحال أن يعترف الفيلسوف المثالي بأن الأشياء كما ندركها هي «أشياء في ذاتها»؛ لأنه لو فعل ذلك لرجع إلى الموقف الطبيعي، وإذن فلا بد له أن يقول بطبيعة أخرى لها، ومن هنا أسماها «كانت» باسم «الظواهر»، غير أن كلمة «الظواهر» لا بد أن يكون لها متضايف؛ إذ إننا سنظل دائما نتساءل: لأي شيء هي ظواهر؟ وهكذا تظهر ضرورة القول بالأشياء في ذاتها بالنسبة إلى كل مذهب يقول بالظواهر، وقد شرح «كانت» نفسه هذه الضرورة بقوله: «إن مجرد اعتراف الذهن بالظواهر، هو اعتراف بوجود أشياء في ذاتها، وهكذا يمكننا أن نقول: إن تمثل هذه الأشياء التي تستخدم أساسا للظواهر، أي الكائنات العقلية الخالصة، ليس مقبولا فحسب، بل لا مفر منه.»
19
بل إن الارتباط الضروري بين معرفتنا وبين إمكان التجربة البشرية، يجعل من الممتنع استخدام تصوراتنا على نحو لا تعود فيه ممكنة للتجربة، «ولكن الأكثر من ذلك امتناعا - من جهة أخرى - ألا نعترف بأشياء في ذاتها، أو أن ننظر إلى تجربتنا على أنها الطريقة الوحيدة الممكنة لمعرفة الأشياء، وبالتالي إلى حدسنا في المكان والزمان على أنه هو الحدس الوحيد الممكن، وإلى ذهننا المقالي
discursive
على أنه أنموذج كل ذهن ممكن، أي أن ننظر إلى مبادئ إمكان التجربة على أنها شروط مماثلة لأشياء في ذاتها.»
20
وهنا يقدم «كانت» مبررا آخر لفكرة الأشياء في ذاتها، ويتخذ هذا المبرر شكل الموضوعية الفكرية التي تحتم علينا ألا نتصور طريقتنا في معرفة الأشياء على أنها هي الطريقة الوحيدة الممكنة، بل تجعلنا نعترف بإمكان وجود تجارب أخرى وحدوس أخرى وأذهان أخرى. «ولكن على أي نحو نتصور هذا الشيء في ذاته؟ هل نتصوره على أنه ما لا يمكن أن يكون موضوعا لحدسنا الحسي؟ أم على أنه ما هو موضوع لحدس غير حسي؟ يبدو أن «كانت» - مع تفرقته بين هذين الوجهين: السلبي والإيجابي، للشيء في ذاته - ينتهي إلى أن يقف موقفا «لا أدريا»، لا يجزم بشيء إثباتا أو نفيا، ويكتفي بوصف الشيء في ذاته بأنه «تصور تحديدي»، أي تصور يوضح الحدود التي لا تستطيع تجربتنا أن تتعداها.»
21
وهكذا ينتهي «كانت» إلى هذه النتيجة الغريبة: فخروجه عن الموقف الطبيعي، وتسميته للأشياء «بالظواهر»، يحتم عليه - كما رأينا - افتراض الفكرة المتضايفة مع الظواهر، أعني الأشياء في ذاتها، ولكن على الرغم من أن مذهب «كانت» لا يكتمل بدون فكرة الأشياء في ذاتها هذه، فإن تصوره لها محاط بالغموض من البداية إلى النهاية، ولا يكاد المرء يجد عنده أي وصف محدد للفكرة يرتكز عليه، وهكذا يبدو من الغريب حقا ألا يجد الفيلسوف سوى صفات غامضة كل الغموض لوصف فكرة لها مثل هذا الموقع الأساسي في مذهبه.
ووجه الاستحالة في مثل هذا النوع من التفكير، الذي يتخذ في ظاهره طابع الموضوعية، ولكنه في حقيقته أبعد ما يكون عنها، إننا لا يحق لنا الكلام عن وجه آخر للأشياء لا سلبا ولا إيجابا، أعني لا يحق لنا الكلام عن وجه للأشياء لا تكون فيه موضوعا لطريقتنا الخاصة في الإدراك، أو تكون موضوعا لطريقة أخرى في الإدراك؛ إذ إن لنا تجربة واحدة باعتراف الجميع، وهذه التجربة الواحدة لا تسمح لنا حتى بتخيل الطريقة التي قد توجد بها أية تجربة أخرى.
وليحاول كل منا أن يركز فكره فيما يعنيه «كانت» «بالشيء في ذاته»، الذي هو الشيء لا كما تدركه حواسنا أو ذهننا، بل كما هو «في حقيقته»، أي الشيء غير المقيد بطريقتنا الخاصة في الإدراك، التي ترتبط بالتركيب الخاص لحواسنا وذهننا فحسب، ليحاول أن يركز فكره في معنى هذه الكلمة، وسيجد أنها في واقع الأمر خالية تماما من أي معنى، فنحن نستطيع مثلا أن نتصور طريقة «القط» في الإدراك على أنها مخالفة لطريقتنا في الإدراك، وذلك على أساس تجارب معينة ثبت فيها أن القط أقدر على الرؤية في الظلام وأقوى في حاسة الشم ... إلخ، أما الجزم مقدما، ودون وجود أي أساس من التجربة، بأن هناك مقياسا معينا - هو هذا «الشيء في ذاته» - يتخذ أساسا للحكم على كل طريقة أخرى للإدراك بأنها إدراك لظواهر، دون أن يكون هناك أي أساس تجريبي لمثل هذا المقياس المزعوم، فخطأ منهجي أساسي.
ولو كان لنا أن نتحدث عن تدرج في قيمة طرق الإدراك المختلفة للأشياء - حسب مكانة الحيوانات المتدرجة في سلم الحياة بما فيها الإنسان - لما كان لنا أن نقول إلا أن طريقة الإنسان أكملها. حقا إننا قد نجد حيوانات لها حواس معينة أحد وأقوى بكثير من حواسنا المناظرة، غير أن الصورة العامة التي يصل إليها الإنسان، والتي تتضافر فيها حواسه مع ملكاته الذهنية والنفسية، لا توجد إلا على نحو واه أو لا توجد على الإطلاق لدى بقية الكائنات، وهذه الصورة هي - بلا شك - أدق من كل الصور الأخرى، والدليل الدامغ على هذا هو أنه أنجح الجميع في التعامل مع الطبيعة وإخضاعها، وإذن فأقصى ما يمكننا عمله هو أن نجري مثل هذه المقارنات «الداخلة في نطاق التجربة» بين الإنسان وبين كائنات أخرى، أما أن نحاول تجاوز نطاق تجربة الإنسان ذاتها وتصور الأشياء في صورة مجهولة لا تنتمي إلى أية تجربة على الإطلاق، فتلك - بلا شك - محاولة مستحيلة لا معنى لها، وإذا كانت مثل هذه المحاولة المستحيلة تؤدي إلى الحط من تجربة الإنسان إلى مرتبة الظواهر - بالنسبة إلى هذا «المجهول» المسمى بالشيء في ذاته - فلا شك في أن هذه نتيجة أخرى مستحيلة؛ لأن أقصى وأرفع ما يمكننا عقلا أن نتصوره من التجارب هو تجربتنا نحن، الذي لا يعلو عليها شيء في سلم التجارب المعروفة لنا، أو التي يمكن أن تكون معروفة لنا.
ويعد إخفاق فكرة «الشيء في ذاته» هذه إخفاقا للموقف الكانتي بأسره: «فكانت» قد وضع «الفرض الكبرنيكي» - الذي تكون الأشياء بمقتضاه متفقة مع طريقتنا في المعرفة لا العكس - آملا أن يستطيع بذلك تفسير كل ظواهر المعرفة من الوجهة الفلسفية، ولكن فرضه هذا يتضح إخفاقه التام حين نراه يؤدي ضرورة إلى فكرة الشيء في ذاته، أي إلى افتراض وجود وجه للأشياء لا يقوم على أساس أية تجربة، فإذا حاول أحد تخليص فلسفة «كانت» من فكرة «الشيء في ذاته»، فلن يكون قد خلصها من عنصر زائد لا قيمة له كما ظن خلفاء «كانت»، بل إنه سيقضي في هذه الحالة على التمييز بين الأشياء كما ندركها، وبين الأشياء كما هي «في ذاتها»، وهذا يقتضي ألا نطلق على الأشياء كما ندركها اسم «الظواهر»، وهذا بدوره يؤدي إلى الامتناع عن ربط الأشياء «بطريقتنا الخاصة في المعرفة»، أو بقوالبنا الحسية والذهنية الخاصة، وهذا معناه انهيار مذهب «كانت» من أساسه.
والذي يعنينا من هذا كله هو أن الفرض الذي وضعه «كانت» في البداية - وهو الفرض الذي أعلن فيه مخالفته للموقف الطبيعي - ينتهي حتما إلى الإخفاق، ويبدو، في رأينا، أن منهج «كانت » ذاته كان يحتم عليه ألا يتسرع باتخاذ هذا الفرض نقطة بداية لتفلسفه؛ ذلك لأن كل هدف هذا المنهج هو التفرقة بين الميتافيزيقا من حيث هي شرط لإمكان التجربة، وبين الميتافيزيقا من حيث هي محاولة لتجاوز التجربة عن طريق العقل الخالص، ثم إثبات استحالة الميتافيزيقا بالمعنى الثاني، وانتهائها إلى قضايا يمكن إثبات عكسها بنفس القوة التي يمكن بها إثباتها هي ذاتها، ولكن لو تأملنا تلك القضية الرئيسية التي يتخذها «كانت» نقطة بداية لفلسفته - وهي «أننا ندرك ظواهر لا أشياء في ذاتها» - لوجدناها تنتمي في الواقع إلى تلك الميتافيزيقا التي تحاول تجاوز التجربة عن طريق العقل الخالص، فتلك القضية ليست تجريبية أو ممكنة للتجربة؛ لأن التجربة لا تطلعنا على شيء وراء ما ندركه، ومن الممكن أن تؤدي إلى «نقيضة» على نفس النحو الذي أدت به قضية «للعالم بداية في الزمان» إلى نقيضة في نظر «كانت»: فمن الممكن أن نقول بنفس القوة: إننا ندرك ظواهر، وإننا ندرك أشياء في ذاتها، وذلك طالما أن القضية تنتمي إلى مجال العقل الخالص الذي يحاول تجاوز التجربة.
ولسنا في حاجة إلى أن ننبه إلى أن هذا الإخفاق لا يقتصر على «كانت»، فمن الواضح أن الكثيرين من أصحاب التفكير المثالي - في الميدان الفلسفي والخالص وفي ميدان النقد العلمي كذلك - يفترضون التفرقة بين الظواهر والأشياء في ذاتها ضمنيا، ولا يفترقون عن «كانت» إلا في أن الأخير نادى بها صراحة، وجعلها جزءا مكملا للبناء الفلسفي الذي حاول تشييده، فالقول بالشيء في ذاته يظهر ضمنيا لدى القائلين بأن الشروط التي نتفق فيها على معرفة الأشياء ليست بالضرورة منتمية إلى الماهية «الحقيقية» للأشياء، وهو قول يتخذ آلاف الصور والأشكال، ويعبر عن موقف عظيم الشيوع بين فئة كبيرة من المفكرين. •••
وينبغي أن نحذر هنا من الاعتقاد بأننا نرفض كل شكل من أشكال النسبية، على أساس أنها تفترض تفرقة ضمنية بين ما هو نسبي وما هو مطلق، أي خارج عن حدود تجربتنا؛ ذلك لأن من الممكن أن تكون للنسبية معاني مشروعة، غير معنى انتساب كل ما ندركه إلى طريقتنا الخاصة في المعرفة، والواقع أن من الواجب أن نفهم كلمة «انتساب الشيء إلينا» بمعنيين: (1)
معنى خاص، فردي أو جزئي، يتمثل في الاختلافات بين الأفراد، وهي الاختلافات التي تصل إلى حد التطرف في حالات المرض أو غيرها من الحالات غير المألوفة، مثلما يقول المصاب بعمى الألوان عن العشب الأخضر: إنه أبيض «بالنسبة إليه». (2)
ومعنى عام، يتمثل في حالات الإدراك السوية التي تشترك فيها الغالبية العظمى من الناس، وفي هذا المعنى تكون الأشياء منسوبة إلينا، بمعنى أن حواسنا تتحكم إلى حد ما في طريقة إدراكنا، وأن لها دورا ما في تكوين الصورة النهائية للشيء.
والخطر الأكبر في الموقف المثالي هو خطر ظهور المعنى الأول، أو الخلط بينه وبين الثاني، ويرجع هذا الخطر إلى أن المثاليين أنفسهم لا يحددون معيارا للتفرقة بين المعنيين، حتى ليبدو أن فكرة انتساب موضوعات المعرفة إلى الإنسان يمكن أن تفهم - عند كثير من المثاليين - بأنها انتساب المعرفة إلى «الفرد»، ومن هنا كانت كثير من المذاهب المثالية تتعرض للوقوع في مذهب «الذات الوحيدة
Solipsisme »، وهكذا يمكن القول: إن القوة الدافعة إلى إنكار مثل هذه النسبية هي وضع حد للخلط بين ما هو منتسب عامة، وما هو منتسب للفرد.
ومن جهة أخرى لا يمكن أن ينكر أحد كون الأشياء التي نعرفها متصلة بنا، ومنسوبة إلينا «على نحو ما»، ولكن مثل الانتساب عام مشترك بين كل أفراد الناس إلى حد أن التنبيه إليه غير مجد، فهو كالحد المشترك بين طرفي كسر، يحسن دائما حذفه من الطرفين معا؛ ولهذا فلا ضير على الإطلاق - رغبة في التمييز بين المعنيين - من الاحتفاظ بمعنى النسبية للمعنى الأول، أما ما هو نسبي بالمعنى الثاني، فيمكن أن يسمى شيئا في ذاته، لا بالمعنى الكنتي وإنما بالمعنى «الإنساني» إن صح هذا التعبير، أي بمعنى أنه هو ما تتفق عليه جميع الأذهان، ولا يدركه الجميع إلا على نحو واحد. (4) «مذهب الظاهريات» والموقف الطبيعي
وصف كثير من شراح «هوسرل» فلسفته بأنها «مثالية ترنسندنتالية»، وهو وصف يدل - إذا صح - على أن مذهب الظاهريات كان مضادا للموقف الطبيعي، على أن هوسرل قد انفرد عن كثير من المثاليين بمناقشاته المطولة للموقف الطبيعي، وهي مناقشات تفيد في إلقاء الضوء على ذلك النوع الخاص من المثالية الذي دافع عنه هوسرل، وكذلك على معنى الموقف الطبيعي ذاته ووجهة نظر مذهب الظاهريات إزاءه، ولما كان الهدف من العرض الموجز الذي نقدمه لهذا الموضوع هو إيضاح مرحلة أخرى من مراحل المثالية أو شكل آخر من أشكالها، وليس بحثا استقصائيا لتفكير هوسرل في هذا الموضوع، فسوف نكتفي ها هنا بالرجوع إلى ما نعتقد أنه أوضح عرض قدم فيه هوسرل آراءه المتعلقة بالموقف الطبيعي، وهو المجلد الأول من كتاب «أفكار
Ideen ».
وأول ما ينبغي أن نشير إليه هو أن من الضروري التفرقة بين لفظي: «المذهب الطبيعي أو النزعة الطبيعية
naturalisme » و«الموقف الطبيعي
attitude naturelle » عند هوسرل، فالمذهب الطبيعي - كما ينقده هوسرل - هو تلك النزعة التي تطورت نتيجة لتقدم العلوم الطبيعية وتطبيق مناهجها في شتى المجالات، بحيث أصبح هناك «اتجاه» كامل نحو اتخاذ العلم الطبيعي أنموذجا لكل من المعرفة، حتى في مجال معرفة الإنسان (علم النفس)، وهذا هو الاتجاه الذي ركز هوسرل جهوده على نقده في مؤلفات أهمها «الفلسفة علما دقيقا»، ولقد كان نقد هوسرل لهذا المذهب هو جانب من أهم جوانب رسالته في الفلسفة، غير أن من الواجب أن نتذكر أن هذه المعركة مرتبطة بمرحلة معينة من مراحل تاريخ العلم الأوروبي، هي تلك التي سادت في أواخر القرن التاسع عشر، والتي بدا فيها للكثيرين أن منهج العلوم الطبيعي يصلح للانطباق على كل المجالات، حتى مجال الكتابة الأدبية ومعرفة النفس البشرية ذاتها، ومن هنا كان هدف هوسرل من محاربة هذه النزعة هو صد التيار الجارف الذي يرمي إلى «تطبيع» الإنسان، وإغفال ما ينفرد به الوعي الإنساني عن سائر الموضوعات التي يمكن أن ينطبق عليها منهج العلوم الطبيعي.
أما رأي هوسرل في «الموقف الطبيعي» - وهو الذي يعنينا هنا أكثر من غيره - فيتعلق باتجاه أو نزوع ثابت لا علاقة له بمرحلة معينة من مراحل تطور العلم، إنه موقف الإنسان «المتجه إلى العالم»، والذي يتعامل مع هذا العالم بوصفه حقيقة قائمة بذاتها، ويقبل العالم على ما هو عليه، ويندمج فيه على هذا الأساس، ومن الواضح أن المواقف التي اتخذها هوسرل من هذا الموضوع لا شأن لها بمعركته مع المذهب الطبيعي؛ إذ إن ما يحلله هوسرل تحت باب «الموقف الطبيعي» ليس على الإطلاق ظاهرة مرهونة بعصر معين، ومع ذلك ففي استطاعتنا أن نتصور نوعا من الاتصال بين المجالين: فالمذهب الطبيعي في العلم لا بد أن يتضمن تصورا للعالم قائما على أساس الموقف الطبيعي، ولكنا سنظل مع ذلك قادرين على تصور الموقف الطبيعي (في حالة الإنسان العادي أو مفكري العصور القديمة مثلا)، بغض النظر عن تلك المرحلة العلمية التي أدت إلى سيادة المذهب الطبيعي.
فهل خاض هوسرل - ضد الموقف الطبيعي - معركة مماثلة لتلك التي خاضها ضد المذهب الطبيعي في العلم وفي دراسة الإنسان؟ إن الإجابة عن هذا السؤال هي الكفيلة بأن تحدد موقع فلسفة الظاهريات وسط مجموعة المذاهب المثالية التي تنكر الموقف الطبيعي بصورة أو بأخرى:
أول ما ينبغي أن ننبه إليه هو الاتساع الهائل في معنى «الموقف الطبيعي» عند هوسرل؛ ذلك لأنه قد يتبادر إلى ذهن البعض أنه لما كان هوسرل قد نظر إلى الخروج عن الموقف الطبيعي على أنه هو الخطوة الأولى في التفلسف، فمعنى ذلك أن الموقف الطبيعي عنده عقبة ضئيلة الشأن ينبغي أن تزاح أولا، لكي يبدأ بعد ذلك أي تفلسف حقيقي، ولكن الواقع أن ما يقصده هوسرل «بالتفلسف» في هذه الحالة هو تفلسفه هو، فنوع التفلسف الخاص بمذهب الظاهريات هو الذي يحتاج للبدء فيه إلى إزاحة عقبة الموقف الطبيعي، ولكن هوسرل لا يجعل من هذه الإزاحة شرطا لكل تفكير يكشف لنا حقائق عن العالم، فقد كانت هناك - ولا تزال - فلسفات ومذاهب فكرية وعلمية يعترف بها هوسرل، وترتكز كلها على الموقف الطبيعي.
فالعلوم المألوفة كلها تقتضي «فلسفة»، هي تلك التي ترتكز على الموقف الطبيعي، ومعنى ذلك أن فلسفة الموقف الطبيعي تقف على نفس مستوى العلوم المألوفة، ولو أنكرنا الأولى لكنا بذلك ننكر الثانية، وهو ما لا يقبله هوسرل نفسه، وقد حدد هوسرل نطاق العلوم المرتكزة على الموقف الطبيعي، فذكر أنها تشمل علوم الطبيعة المادية وعلوم الكائنات الحية من حيث ما لها من طبيعة نفسية فيزيائية، ومن ثم فهي تشمل أيضا علم وظائف الأعضاء وعلم النفس، كما تضاف إليها مجموعة العلوم المسماة بالعلوم الإنسانية
Geisteswissenschaften ، كالتاريخ وعلوم الحضارات ومختلف العلوم التي تدرس المجتمع الإنساني.
22
وفلسفة «كانت» ذاتها هي - من وجهة نظر هوسرل - داخلة في نطاق الموقف الطبيعي، فالوعي الذي يبحث «كانت» في مدى صحته هو الوعي الموضوعي الممكن، والذات الرانسندنتالية عند «كانت» هي شكل من أشكال العالم له صورة قبلية
apriorische weltform ، وهي ذات منتمية إلى العالم على الرغم من كونها صورية؛ ولذلك فإن «كانت» لا يصل أبدا إلى الذات المطلقة، ويظل تفكيره داخلا في نطاق العالم.
23
بل إن بعض شراح هوسرل - مثل فنك
Fink - يذهب إلى أن بحث هوسرل ذاته فيما هو قبلي - في كتاب «الأبحاث المنطقية» - يظل منتميا إلى مجال الموقف الطبيعي، شأنه في ذلك شأن بحث «كانت» والكانتيين الجدد في شروط إمكان الموضوعية عامة.
24
وربما كانت الخطوة الأولى التي تقربنا إلى ذلك النوع الخاص من الخروج عن الموقف الطبيعي - الذي كان هوسرل يدعو إليه - هو الشك الديكارتي، وأقول: إن هذه الخطوة «تقربنا» من مقصد هوسرل، ولكنها لا تنفذ بنا إلى صميمه؛ إذ إن الشك الديكارتي إذا كان ينظر إلى العالم على أنه وهم أو خداع، فإنه لا يغير شيئا من الوضع العام للعالم بوصفه موجودا،
25
وبقدر ما ينضم هذا الشك إلى مجموعة المحاولات التي بذلت - منذ أفلاطون حتى باركلي - من أجل تقديم حجج تزعزع يقيننا بوجود العالم، فإنه يظل - كهذه المحاولات ذاتها - دائرا في فلك الموقف الطبيعي، ولكن في الشك الديكارتي جانبا آخر يقربه من موقف هوسرل؛ ذلك لأن شك ديكارت لم يكن «مذهبيا»، بمعنى أنه لم يكن يعبر عن حالة فعلية من الشك لا يستطيع الفيلسوف الخروج منها، ويجد نفسه عاجزا عن الخلاص من أحابيلها، وإنما كان «منهجيا»، أي شكا إراديا متعمدا، يقوم به الفيلسوف وفي ذهنه هدف محدد، ويمارسه بحرية وبقدر ما يساعده على تحقيق هذا الهدف.
بهذا المعنى يقترب الشك الديكارتي من منهج «وضع العالم بين قوسين» عند هوسرل، الذي كان بدوره منهجا يتبع بحرية كاملة، ويعمد الفيلسوف إلى اتخاذه نظرا إلى ما يترتب عليه من نتائج، وكما أن الشك الديكارتي قد انتهى في آخر المطاف إلى استرداد نفس العالم الذي كان في البدء يرتاب فيه، بل إن هذا العالم كان طوال الوقت موجودا بالفعل، حتى عندما كان الشك قد بلغ أوجه، فكذلك لا يؤدي وضع العالم بين قوسين إلى المساس بحقيقة وجود العالم كما يتمثل للوعي، وإن كان يعطل هذه الحقيقة بفعل إرادي واع يستهدف تحقيق نتائج فلسفية معينة من هذا التعطيل: «إن ما نعطله
metton hors du jeu
هو الوضع العام
thése
الذي ينتمي إلى ماهية الموقف الطبيعي، فنحن نضع بين أقواس كل ما يتضمنه هذا الوضع في مجال الوجود، وبالتالي كل هذا العالم الطبيعي الذي هو دائما «هناك بالنسبة إلينا»، والذي هو «ماثل» ولا يكف عن أن يظل هناك بوصفه «واقعا
réalité » بالنسبة إلى الوعي، حتى عندما يروق لنا أن نضعه بين أقواس، وعندما أسير على هذا النحو، وهو أمر يدخل تماما في نطاق قدرة حريتي، لا أنكر إذن هذا العالم كما لو كنت سفسطائيا، ولا أضع وجوده موضع الشك، كما لو كنت شكاكا (مذهبيا)، وإنما أمارس التعليق
pochéé
الظاهرياتي الذي لا يمنع على الإطلاق كل حكم منصب على الوجود في المكان والزمان.»
26
ويزيد هوسرل من إيضاح رأيه في دلالة تعطيل الوضع الطبيعي للعالم فيقول: «إننا لا نغير شيئا من اقتناعنا الذي يظل على ما هو عليه ... ومع ذلك فإن الوضع يطرأ عليه تحول: فعلى حين أنه يظل في ذاته على ما هو عليه، فإنا نضعه - إن جاز التعبير - خارج الدائرة وخارج النطاق وبين أقواس، إنه يظل هناك، مثلما يظل هناك داخل الأقواس ما أغلقنا عليه فيها ... بل إن للمرء أن يقول: إن الوضع لا يزال معيشا
un vécu ، غير أننا «لا نستخدمه» على أي نحو ... فالأمر هنا متعلق ... بطريقة محددة ومخصصة للوعي، تضاف إلى الوضع الأصلي البسيط ... وتدخل عليه تحولا في القيمة ... هذا التحول في القيمة يتوقف على حريتنا الكاملة.»
27
ولكن ما الهدف من هذا التحول الذي يباعد بيننا وبين وضع العالم الطبيعي، والذي نستخدم فيه حريتنا من أجل تعطيل نظرتنا المألوفة إلى العالم؟ ولماذا التجأ هوسرل إلى أسلوب «الرد
réduction » بوصفه خطوة أساسية في طريق التفلسف الحقيقي؟ إن الرد إنما هو إزالة لعقبة تثقل على الوعي هي الموقف الطبيعي، ففي هذا الموقف الطبيعي ينسى الوعي ذاته، ويضيع في الأشياء، وفي موضوعات العالم، وفي أفكاره عن هذه الموضوعات، بحيث يتباعد عن ذاته، ويغترب ويغدو متخارجا عنها، وما دام الوعي مرتبطا بالموقف الطبيعي فإنه يكون في حالة سذاجة واستسلام لوجود الأشياء،
28
ولا يبدأ الوعي في استرداد ذاته بحق إلا إذا مارس الرد الذي هو نوع من الزهد أو العزوف
ascéso ، نخسر فيه العالم من أجل كسبه من جديد.
ولقد حدد هوسرل ذاته هدفه من اتباع منهجه الجديد بأنه «استبعاد مجموع العادات الفكرية التي سادت حتى اليوم، والتعرف على الحواجز الروحية التي تضربها هذه العادات حول أفق تفكيرنا، وهدم هذه الحواجز؛ من أجل الوصول بعد ذلك بحرية عقلية كاملة إلى المشكلات الحقيقية للفلسفة، التي تقتضي تجديدا شاملا، والتي سيكون من الممكن بلوغها بعد تحرير الأفق من جميع جوانبه.»
29
وربما كان التوفيق قد جانب هوسرل في استخدام تعبير «العادات الفكرية» في النص السابق، فما يسميه بالعادات الفكرية هنا هو حصيلة الموقف الطبيعي، غير أن ما هو «طبيعي» مضاد لما ينتج عن «العادات» - التي هي مكتسبة متولدة عن التكرار - لا عن الطبيعة، بل هي كثيرا ما تكون مضادة للطبيعة أو خارجة عنها أو مضافة إليها، فما يقصده هوسرل في هذا السياق ليس «عادات فكرية» بالمعنى المألوف لهذه الكلمة، وإنما هو أساليب وطرق للتفكير نتجه إليها بحكم الطبيعة، وقد يبدو هذا الاعتراض مجرد اقتناص لعدم اتساق لفظي بحت، ولكنه - في واقع الأمر - اعتراض مرتبط بصميم الهدف الذي يتجه المنهج الظاهرياتي إلى تحقيقه: فهل يهدف هوسرل - من اتباعه لهذا المنهج - إلى مجرد اطراح عادات فكرية قديمة واستبدال عادات فكرية جديدة بها؟ أم أنه يهدف إلى قهر الطبيعة قهرا متعمدا؟ أغلب الظن أن هدفه هو الثاني، بدليل أنه - بعد عدة سطور من النص السابق - يقول: «إذا كان الوصول إلى ماهية الظاهريات يشكل صعوبة بالغة ... فذلك يرجع أولا وقبل كل شيء إلى أنها تقتضي التخلي عن المواقف الطبيعية المرتبطة بتجربتنا وتفكيرنا، أي تغييرا جذريا في الموقف.» هذا التغيير في الموقف يرجع إلى «الرغبة في الوصول إلى منطقة جديدة للوجود لم يتم حتى الآن تحديدها وفقا لما فيها من خصوصية، يكون الوجود فيها - شأنها شان كل منطقة أصيلة - وجودا فرديا.»
30
وبهذا المعنى كان المنهج الظاهرياتي عند هوسرل تأسيسا لعلم جديد، غريب عن الفكر الطبيعي، وهو علم لم ينشأ - ولم يكن في الممكن أن ينشأ - إلا في العصر القريب.
وهنا يصبح في استطاعتنا أن نستجمع خيوط الفكر السابقة؛ لكي نصل إلى تحديد دقيق للرأي الذي تتخذه فلسفة الظاهريات إزاء الموقف الطبيعي، وعلاقة هذه الفلسفة ببقية المذاهب المثالية التي ينصب عليها نقدنا في هذا الكتاب.
فقد تبين لنا أن خروج مذهب الظاهريات عن الموقف الطبيعي يختلف اختلافا أساسيا عن خروج المذاهب المثالية الأخرى عن هذا المذهب: فهو ليس خروجا حتميا، تمليه ضرورات فكرية لا يمكن التخلص منها، وإنما هو خروج اختياري يقوم به الفيلسوف بمحض إرادته، مستهدفا منه كشف وجهة نظر جديدة وآفاق جديدة لا تتبدى إلا بعد «تعليق» العالم الطبيعي و«تعطيل» موقفنا الطبيعي الذي نعترف فيه بهذا العالم ونندمج فيه، إن المثاليات التقليدية تضعنا أمام اختيار يتحتم علينا القيام به: فإذا اعترفنا بوجود العالم أنكرنا المثالية، وإذا اعترفنا بالمثالية تحتم علينا أن نرفض الموقف الطبيعي الذي يفترض وجود العالم. أما هوسرل فإنه يريد أن يخرج عن الموقف الطبيعي مع بقاء هذا الموقف موجودا بالنسبة إلى كل من لم يتخذ وجهة النظر الظاهرياتية، فمن الممكن أن نتصور - في إطار تفكيره - تعايشا بين الموقف الظاهرياتي والموقف الطبيعي، على حين أن مثل هذا التعايش مستحيل من وجهة نظر المثاليات التقليدية.
إن الألفاظ التي تستخدم في مذهب الظاهريات على جانب كبير من الأهمية في تحديد موقفه من المشكلة التي نحن بصددها، فهوسرل لا يقدم حججا تفند الموقف الطبيعي، ولا يفكر أصلا في هذا التفنيد، وإنما هو يتحدث عن «تركه جانبا»، بل إن تفنيد المثاليين التقليديين للموقف الطبيعي يظل - في نظره - داخلا في إطار هذا الموقف، وهكذا يكون للموقف الطبيعي عنده معنى شديد الاتساع، يشمل أنصار هذا الموقف وخصومه معا، ويقف هوسرل بمعزل عن هؤلاء وأولئك؛ لأنه يضع هذا الموقف بين قوسين، ويعطله من أجل بلوغ منطقة جديدة يستحيل الاقتراب منها إلا بهذا التعطيل، ولما كانت وجهة النظر التي نعالج من خلالها مفهوم الموقف الطبيعي في هذا الكتاب هي تلك التي تتعلق بالصراع ضد المثالية، وبإمكان الدفاع عن هذا الموقف أو عدم الدفاع عنه، فإن محاولة هوسرل تبدو - في هذا الضوء - خارجة عن نطاق الخلافات والصراعات الأساسية التي تثار في هذا الكتاب؛ ذلك لأن تعطيل الموقف الطبيعي لا يعني إصدار حكم ضده، ولا يتضمن في ذاته تفنيدا له، على حين أن هذا التفنيد هو ما يعنينا قبل غيره.
31
ولنذكر - في هذا الصدد - أن دعوة هوسرل إلى قهر الذات الطبيعية - عن وعي وبحرية كاملة - لحساب الذاتية الخالصة، هذه العودة الترنسندنتالية إلى الوعي المتحرر من التوجه نحو العالم الطبيعي، لا يمكن تصورها إلا في إطار ثقافة ظلت - طوال تاريخها - متوجهة نحو هذا العالم، واكتسبت كثيرا من توجهها هذا، ففي الثقافة الهندية مثلا - حيث ظهرت منذ فجر التاريخ مذاهب تجعل من العالم الطبيعي وهما وخداعا - يستحيل أن نتصور فلسفة ظاهرياتية تطالبنا، بإلحاح، بأن نعطل الموقف الطبيعي والفكر الطبيعي والعالم الطبيعي والأنا الطبيعي، والواقع أن هوسرل إنما كان يسير - في دعوته هذه - في نفس الاتجاه الذي سارت فيه الرياضيات والمنطق حين اكتشفت مجالات جديدة لا تصدق عليها البديهيات القديمة، وإن لم تكن قد أنكرت استمرار فعالية هذه البديهيات في المجالات التقليدية، وهو ذاته الاتجاه الذي سارت فيه فيزياء القرن العشرين، حين رفضت النظرة الميكانيكية إلى العالم، مع اعترافها باستمرار انطباق هذه النظرة في مجالات خاصة، فظهور الفينومينولوجيا إنما هو حلقة في سلسلة بحث الثقافة الغربية عن أبعاد جديدة وأعماق جديدة، (ومما له دلالته أن التوافق الزمني بين كل حلقات هذه السلسلة كان توافقا تاما)، وهذا البحث عن الأبعاد والأعماق الجديدة لا يفهم إلا في إطار ثقافة تشبعت طوال تاريخها بالأبعاد والأعماق التقليدية، وهكذا فإن الدعوة إلى وضع الموقف الطبيعي بين قوسين هي دعوة لا يكون لها معنى إلا في إطار مجتمع ظل طوال تاريخه يعترف بهذا الموقف ويبني علومه ومعارفه على أساسه.
وعلى أية حال، فإن المنطق نفسه يؤيد هذا الاستنتاج؛ إذ إنك لا تستطيع أن تضع ما هو غير موجود بين أقواس، فعملية الوضع بين أقواس هي ذاتها أقوى دليل على أن العالم الطبيعي موجود، وعلى أن الموقف الطبيعي يفرض نفسه، وأننا لا نستطيع الخلاص منه إلا مؤقتا، وبعد عزوف وزهد وجهد.
مشكلة خارجية العالم
في هذه المشكلة يظهر أقوى تضاد بين الموقفين المثالي والطبيعي، وفيها أيضا يتمثل قصور المثالية التام في ميدان نظرية المعرفة؛ ذلك لأن المثالية - بعد ما عرضناه في الفصل السابق من حججها - يتحتم عليها أن تواجه هذا السؤال: كيف يمكن تعليل ما يسمى في الموقف الطبيعي باسم العالم الخارجي؟ أي إن المثاليين قد يستطيعون أن يقولوا: إن وجود الأشياء هي كونها مدركة، أو أن ما ندركه من الأشياء ظواهر أو تمثلات، ومع ذلك فسيظل لزاما عليهم أن يقدموا تفسيرا لتلك الفئة من الظواهر التي نسميها في موقفنا الطبيعي باسم العالم الخارحي، وأن يعللوا صفة «الخارجية» التي ننسبها إلى هذه الظواهر عادة، ونتصرف معها عمليا على أساسها، ونستطيع أن نقول: إن محاولة إيجاد هذا التفسير وهذا التعليل هي أعقد مشكلة تواجه كل فيلسوف مثالي. (1) وجها مشكلة العالم الخارجي
علينا أولا أن نفرق بين وجهين لمشكلة العالم الخارجي حدث بينهما كثير من الخلط في أذهان الفلاسفة: (أ)
أولهما: هل العالم الخارجي مستقل عن الذات، أي ذو وجود موضوعي؟ (ب)
ما شكل هذا العالم الخارجي؟ وهل هو كما يبدو لنا، أم أن له شكلا آخر؟
ولنبدأ بالسؤال الثاني، فنشير إلى ملاحظاتنا السابقة الخاصة باستحالة وجود شكل واحد للعالم في مختلف مواقف الإنسان: فالموقف العلمي - بآلاته المادية وأدواته الذهنية - يرسم للعالم صورة أو صورا لا يمكن مقارنتها بالصورة التي نرسمها له في موقفنا الطبيعي، والتي ترمي إلى خدمة أغراض مختلفة عن تلك التي يخدمها الموقف العلمي، فهناك - كما قلنا - شكل للعالم في نظر عالم الفلك، وشكل آخر في نظر عالم البيولوجيا، وشكل ثالث في نظر عالم الطبيعة، وهذه الأشكال كلها تختلف عن شكل العالم كما ندركه في حياتنا اليومية، ولكن لا يمكن أن يقال: إن واحدا منها هو الصحيح، بل إن كلا منها صحيح في مجاله الخاص فحسب، ولكن إذا لاحظنا - كما قلنا من قبل - أن الفيلسوف لا يملك الأدوات المادية أو الذهنية التي تمكنه من اتخاذ الموقف العلمي، فعندئذ يتحول السؤال السابق - بالنسبة إلى الفيلسوف على التخصيص - إلى ما يأتي: هل تستطيع الفلسفة - بفضل تحليلاتها المنطقية وحدها - أن تصل إلى صورة أخرى للعالم غير صورته في الموقف الطبيعي؟ والرد المألوف على السؤال هو: نعم؛ لأن صورة العالم - كما ندركها - متوقفة على الذات، أما العالم «في حقيقته» فله صورة أخرى، أو لا بد أن تكون له صورة أخرى.
وهكذا نجد أن الرد الفلسفي على السؤال الثاني يثير حتما السؤال الأول، أي السؤال عن توقف العالم على الذات أو اعتماده عليها، أي إن الوسيلة التي تثبت بها الفلسفات ذات النزعة المثالية إمكان وجود صورة أخرى للعالم غير صورته في الموقف الطبيعي، هي أن تؤكد عدم استقلاله عن الذات، وبالتالي اشتراك الذات في تكوين الصورة الحالية، التي هي مجرد «مظهر» تختفي وراءه صورة أخرى «حقيقية» للعالم الخارجي.
وهنا ننتقل إلى الإجابة عن السؤال الأول، وهو البحث في استقلال العالم أو وجوده الموضوعي، والنتيجة التي ينتهي إليها المثاليون في هذا الصدد هي أن تدخل الذات في تكوين صورة عن العالم الخارجي معناه أن هذا العالم ليس مستقلا عنا، وإنما هو معتمد علينا، وردنا على هذه النتيجة المثالية مزدوج: فعلينا أولا أن نثبت أن فكرة انتساب الواقع إلى الذات لا تمنع من استقلاله، وعلينا بعد ذلك أن نثبت أن العالم الخارجي يجب أن يكون «بالفعل» مستقلا عن الذات، أي أن يحتفظ بخارجيته. (2) نسبية العالم الخارجي واستقلاله
سأقدم تبريرا لرأيي - في هذا الصدد - المثالي التالي، وهو مثال له أهميته العظمى في تفنيد الحجة المثالية القائلة بعدم استقلال العالم نظرا إلى كونه منسوبا إلينا:
لنفرض أن هناك عالما آخر - غير عالمنا هذا - به كائنات مدركة ذات حواس وأذهان، وأشياء ذات وجود مستقل، ولنفرض أن هذه الكائنات لا تدرك الأشياء المستقلة إلا من خلال حواسها وأذهانها، عندئذ سيكون من الطبيعي أن تبدو هذه الأشياء - في نظر بعض هذه الكائنات - متوقفة في وجودها تماما على حواسها وأذهانها، على حين أنها، حسب الفرض ذاته، مستقلة.
وبعبارة أخرى، ففي حالة أي كائن يدرك الأشياء من خلال حواسه وذهنه، تثار حتما مشكلة استقلال الأشياء، ولكن وجود هذا «الحاجز» الحسي والذهني الضروري لا يمنع من أن تظل الأشياء مستقلة، والفارق الحاسم في هذه الحالة هو نوع الشروط التي تدرك بها هذه الأشياء من خلال الحواس والذهن: أي ما إذا كانت الحواس والذهن قادرة على أن تبعث الأشياء كلما شاءت ذلك، أو أنها لا تستطيع أن تبعث هذه الصورة إلا إذا توافرت شروط محددة بدقة.
وقد حلل «ك. أ. لويس» هذه المسألة تحليلا دقيقا، انتهى منه إلى أن ضرورة انتساب الواقع إلى ذات عارفة لا تتعارض على الإطلاق مع بقاء الواقع مستقلا، «فالواقع - بقدر ما يمكن أن يكون معطى في التجربة أو معروفا - منسوب إلى العارف، ولا يمكن أن يفهم إلا من حيث هو ظاهر أو قابل للظهور أمام مدرك في تجربة فعلية أو ممكنة، ولكن كون الطابع الوحيد الذي يمكن أن يعزى إلى أي شيء حقيقي هو طابع يوصف بعبارات نسبية - أي بالنسبة إلى تجربة ما - ليس معناه أن نأبى على هذا الشيء الطبيعة المستقلة، ولا يتعارض مع إمكان معرفة هذه الطبيعة.»
1
والمسألة هي أن هذه الشروط - التي تتوقف عليها تجربة العارف في إدراك الشيء - محددة دائما بدقة، ولا بد أن يكون ما يحددها شيئا آخر غير العارف ذاته؛ إذ إن هذا لا يعرف في أي وقت يشاء، بل يعرف كلما توافرت هذه الشروط، وإذن فهذه الشروط راجعة حتما إلى «الطابع الحقيقي والموضوعي للشيء ...»
2
وإنه لمن سوء الفهم لطبيعة فكرة النسبية أن يستنتج المثالي من انتساب الشيء إلى الذهن أن الشيء «معتمد» تماما على الذهن.
3
ولعل من حسن حظ الباحثين في عصرنا الحالي أنه قد ظهرت أجهزة تنقل عن طريقها بعض كيفيات الأشياء على نحو لم يكن ليخطر على بال الباحثين التقليديين في المعرفة على الإطلاق، وتسهم في حل المشكلة المتعلقة بانتساب هذه الكيفيات إلى الذات مساهمة قيمة، ولنتأمل مثلا جهاز تسجيل الأصوات، فهذا الجهاز يبعث كيفية من كيفيات الأشياء - وهي الصوت - دون أن يكون هناك أي شبه بين المصدر الذي ينقل الصوت عن طريقه - وهو الشريط - وبين الصوت ذاته، فعن طريق الموجات الكهربائية المغناطيسية يبعث الجهاز كيفية مختلفة تماما عن هذه الموجات، ولا شك في أن الجهاز ذاته قد اشترك - بمعنى ما - في خلق الصوت، ولكن هل يعني ذلك أنه قد «تدخل» في جعل هذا الصوت على ما هو عليه؟ أو أن له دورا فيما تكون عليه الصورة النهائية للصوت؟ الواقع أن الجهاز لا يبعث شيئا من عنده على الإطلاق، وإنما «يترجم» الموجات إلى أصوات، ومما لا شك فيه أن طبيعة الشريط - أي نوع الموجات المسجلة عليه - هو العامل الوحيد المتحكم في نوع الصوت الصادر: أي في كونه صوتا بشريا أو موسيقيا أو طبيعيا ... إلخ، أي إن نوع الصوت يتوقف في هذه الحالة على عامل «موضوعي» لا شأن لجهاز التسجيل ذاته به، وهنا نجد مثالا واضحا لجهاز
System
يعتمد عليه التعبير عن الكيفية الحسية في صورتها المألوفة؛ (لأن الشريط دون الجهاز لا ينتج أي صوت)، ومع ذلك لا يمكن أن يقال: إنه يخلق هذه الكيفية، التي تظل موضوعية مستقلة عن الجهاز ذاته، ولا تعتمد عليه إلا في «ترجمتها» أو نقلها إلى الصورة الصوتية، أما نوع هذه الصورة ذاتها، فذلك ما لا يتحكم فيه الجهاز على الإطلاق.
وأعتقد أن هذا المثل يفيد إلى حد بعيد في الرد على الاعتقاد القائل إن اعتماد الإدراك على الإنسان يجعله ذاتيا: ففيه تتمثل حالة واضحة لكيفية تعتمد على جهاز ما وتظل مع ذلك موضوعية مستقلة عنه.
وإذن، فمن الممكن - نظريا على الأقل - أن تكون الذات مشتركة في تكوين الصورة النهائية للشيء، مع بقاء هذا الشيء مستقلا عن الذات، والمعيار الأساسي لهذا الاستقلال هو وجود شروط «موضوعية» لا تخلقها الذات، وبدونها لا يدرك الشيء.
ومهمتنا الآن هي تناول أمثلة مختلفة للمفكرين المثاليين، نناقش من خلالها الطريقة التي تعرض بها المثاليون لفكرة «موضوعية شروط الإدراك» هذه، ونتبين إلى أي حد كانت مشكلة خارجية العالم هي العقبة التي لم يستطع أي مذهب مثالي التغلب عليها بصورة منطقية سليمة. (3) خارجية العالم عند ديكارت
في الفقرة الأولى من الجزء الثاني من «مبادئ الفلسفة» يبرهن ديكارت على وجود الأجسام المادية ذات الطبيعة المستقلة عن العقل «على أساس أن في مشاعر لا أبعثها في نفسي كلما شئت وكما شئت، بل إن هناك شيئا هو الذي يبعثها في، وقد يقال: إن الله هو الذي يبعث فينا إحساسا بوجود هذا الشيء الممتد طولا وعرضا وعمقا، أو إنه يدفع شيئا ليست له مثل هذه الطبيعة إلى بعث هذا الإحساس فينا، ولكن هذا معناه أنه يخدعنا، وهذا مخالف لطبيعته، فلا بد إذن أن يكون هناك بالفعل جوهر ممتد موجود في العالم، له كل ما ننسب إلى مثل هذا الجوهر من خصائص.»
ويلاحظ على رأي ديكارت هذا ما يأتي: (1)
أنه يجعل وجود العالم الخارجي في حاجة إلى «برهان»، أي في حاجة إلى مجموعة من «الاستدلالات» المنطقية التي «تثبت» هذا الوجود إذا أمكن الإتيان بها، والتي لو لم يتمكن الذهن من الوصول إليها لظل ذلك الوجود أمرا مشكوكا فيه أو غير مؤكد، وهذا افتراض لن نناقشه الآن، بل يكفينا في الوقت الحالي أن ننبه إليه فحسب.
ويلاحظ في هذا الصدد أن ديكارت أخذ يبحث عن برهان عندما عجز عن الاقتناع «بميلنا الطبيعي» إلى نسبة الوجود الخارجي إلى الأشياء، فهو يحرص (في التأمل الثالث) على أن يفرق بين «الميل الطبيعي» إلى الاعتقاد بوجود الأشياء الخارجية - وهو دائما معرض للشك - وبين «النور الطبيعي» الذي يتعلق بحقائق واضحة لا سبيل إلى إنكارها مثل الكوجيتو، ولم يفكر ديكارت في الاحتمال المضاد، أعني احتمال كون «الميل الطبيعي» أقوى حجة من كل حقائق «النور الطبيعي» المزعومة التي لم يكن لها طابع «لا يقاوم» إلا في ذهن ديكارت وبعض معاصريه، والتي أثبت التطور التالي للفكر البشري افتقارها التام إلى أي نوع من الوضوح أو البداهة. (2)
أن ديكارت قد تنبه جيدا إلى طبيعة الإدراكات المتعلقة بالعالم الخارجي، والتي تختلف عن الإدراكات أو المشاعر الباطنة اختلافا جوهريا: ففي إمكاني دائما أن «أتخيل» منظر المنضدة حين لا أكون جالسا بقربها، ولكني لا أستطيع كلما شئت أن «أدرك» منضدة على ذلك النحو الذي نسميه بالإدراك الفعلي، ولو كانت المسألة كلها «تمثلات» أو انبعاثات ذاتية لما كان لمثل هذا الإدراك أي شرط يتوقف عليه، ولكان مثل هذا الإدراك «إراديا» على الدوام، وإذن فوجود شروط للإدراك الخارجي «لا تتوقف على إرادتنا» دليل على أن لهذا الإدراك طبيعة مختلفة اختلافا أساسيا. (3)
وأخيرا يلاحظ أن ديكارت كان في حاجة إلى دعامة من الإيمان لكي يتخلص من إمكان الخداع، فهو لا يستطيع الاهتداء إلى يقين بشأن وجود العالم الخارجي إلا بعد مساره الطويل من الشك إلى الكوجيتو ثم إلى وجود الله، ومنه إلى وجود العالم، أي إن وجود العالم الخارجي يظل معلقا أو موضوعا بين قوسين إلى أن يعود إليه عن طريق وسائط أخرى توصل إليه بطريق غير مباشر.
ولكن إذا تأمل المرء قليلا دور فكرة الله في «ضمان» وجود العالم الخارجي لوجد أن المقصود من هذه الفكرة هو - في أغلب الأحيان - حل مشاكل خلقتها نفس فكرة الله ذاتها أو أفكار أخرى مشابهة، ففكرة لا إرادية المشاعر الخارجية مقنعة، والشيء الوحيد الذي يشكك فيها هو احتمال الخداع عن طريق قوة مسيطرة خارجة عني أو قوة في قادرة على تكوين هذه الأفكار دون معونة أي شيء خارجي، كما يحدث في الأحلام،
4
ومهمة فكرة الله في هذه الحالة هي أن ترد إلي ثقتي بإدراكي الخارجي؛ إذ لو وجدت مثل هذه الملكة الخداعة لكان معنى ذلك أن الله يخدعني، وهو ما يتنافى مع الطبيعة الإلهية، وهكذا نلاحظ أن نفس الافتراض الذي ظهرت فكرة الله لدحضه - أي افتراض وجود ملكة خادعة ذاتية أو قوة من نوع «الشيطان الماكر» أو غيره - هو افتراض من نوع «فوق الطبيعي»، فمثل هذه الملكة إذا كانت ذاتية خالصة، فسيكون عملها غير مفهوم على الإطلاق؛ إذ إن إحساساتي بوجود العالم الخارجي - كما قلنا - لا إرادية، ولا يكفيني فيها مطلقا أن أمارس إحدى ملكاتي، ناهيك بتلك الملكة التي لا تنتمي إلى أي شيء أعرفه، وعلى أية حال فإن هذه الملكة الباطنة غير المألوفة وغير الداخلة في نطاق المعرفة البشرية، لا بد أن تكون صادرة عن قوة خارج البشر تبعثها فيهم، مثل هذه القوة لا بد أن تكون مفروضة علي من الخارج، أي لا بد من افتراض وجود نوع من الروح الخادعة أو الشيطان الماكر التي تتقمصني، وتدفعني إلى مثل هذا «الخداع».
ولست أدري: هل يعد مما يتلاءم مع روح الشك السليمة التي بدأ بها ديكارت تفكيره أن يفترض مثل هذه الافتراضات؟ إن ديكارت قد بدأ بالشك في كل ما تلقاه من تعاليم فلاسفة العصور الوسطى والقديمة، وهذه نقطة بداية سليمة إلى أقصى حد، وهو يظن أن المضي في الشك إلى حد إثارة احتمال وجود «شيطان ماكر» ما هو إلا استمرار في طريق الشك السليم الذي وضعه لنفسه، ولكن الواقع أن إثارة مثل هذا الاحتمال تنطوي على نكسة فكرية شديدة تتعارض تماما مع روح «الشك المنهجي» بمعناها الصحيح، فكما أن الإهابة بالشياطين هي طريقة خرافية إذا اتخذت سبيلا إلى حل مشكلة مجهولة، فإنها كذلك طريقة خرافية إذا اتبعت لإثارة الشك في معارفنا القائمة.
وهكذا يمكن القول: إن كثيرا من الحجج التي أثارها ديكارت للتشكيك في خارجية العالم - وهي الخارجية التي تؤدي إلى الاعتقاد بها إدراكاتنا «اللاإرادية» لموضوعات هذا العالم - لم تكن حججا سليمة، بل لم تكن متمشية مع روح الشك المنهجي التي دفعته إلى التفلسف، ولنلاحظ - على أية حال - أن الدور الذي تقوم به فكرة الله في هذا الصدد لا يعدو أن يكون إعادة الثقة «النفسية» إلى الإنسان بصحة إدراكه للعالم، ولو حللنا جيدا مغزى فكرة «استحالة كون الله خادعا» لما وجدناها تخرج عن مجال إعادة الثقة النفسية هذا؛ إذ إن طريقة التفكير الشكي الأولى كان يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية، وكل ما في الأمر أن فكرة الله تتدخل هنا لتوقف عملية الشك هذه عن السير، وعلى أساس عملية «الإيقاف» هذه يتسنى للإنسان أن يستعيد الثقة بمعرفته، ويكف عن وضع الفروض الخيالية المؤدية إلى الشك.
والخلاصة: أن ديكارت رأى أن وجود العالم الخارجي في حاجة إلى «برهان» عقلي، وأن هذا البرهان يحتاج إلى دعامة من الإيمان لكي تضع حدا لقدرة الذهن على إثارة نقاط للشك لا نهاية لها، وأن من الممكن الاستغناء عن دعامة الإيمان هذه إذا كف الذهن عن إثارة الأسباب «الخرافية» للشك، وبهذا يظل من الصحيح أن العالم الخارجي لا بد موجود لسبب بسيط، هو أن الإدراكات التي تدلنا عليه لا تبعث بإرادتنا، فلا بد إذن أن شيئا خارجا عنا هو الذي يبعثها، وهو السبب الذي نتجه إليه في «ميلنا الطبيعي» (أي موقفنا الطبيعي)، والذي لم يكن ديكارت على استعداد للاكتفاء به نقطة بداية لتفلسفه. (4) الذات الوحيدة الإلهية عند باركلي
لا جدال في أن باركلي كان بدوره متنبها كل التنبه إلى تلك الصعوبة التي تنبه إليها ديكارت، والتي يواجهها أي مذهب ذاتي يؤكد أن إدراكاتنا ترجع كلها إلى الذات، فمثل هذا المذهب يصطدم حتما بواقعة لا سبيل إلى إنكارها، وهي أن إدراكاتنا للعالم الخارجي لا تتوقف مطلقا على مشيئتنا، «فأيا ما كانت القوة التي أتملكها على أفكاري الخاصة، فإني أجد الأفكار التي تدرك فعلا بالحس غير معتمدة على إرادتي على هذا النحو؛ إذ ليس في مقدوري - عندما أفتح عيني في رائعة النهار - أن أختار بين الرؤية وعدم الرؤية، أو أن أحدد الأشياء التي يقع عليها بصري ... فالصورة المنطبعة في هذه الحالة ليست من صنع إرادتي، ولا بد إذن أن تكون هناك إرادة أو روح أخرى هي التي تحدثها.»
5
هذه الروح الأخرى هي - كما نعرف - الروح الإلهية.
ويضيف باركلي إلى ذلك: ما تتصف به صور الحس من حيوية وتميز وإحكام وانتظام لا يتوافر في صور الخيال، وهذا الترابط المحكم لصور الحس فينا هو ما يسمى «بقوانين الطبيعة»، التي تغدو في هذه الحالة تعبيرا مباشرا عن الإرادة الإلهية.
ولنحاول الآن ترتيب الأفكار المتسلسلة التي يفسر بها باركلي خارجية العالم في ضوء مذهبه المثالي.
فهناك صور للحس وصور للخيال، الثانية أبعثها بإرادتي، والأولى تأتي من مصدر خارج عني لا أملك التحكم فيه، ويؤكد باركلي - وهو تأكيد له أهميته الكبرى - أن «التمييز بين الحقائق الواقعة والخيالات يظل في مذهبه أقوى ما يكون.»
6
فصور الحس لها مصدر غير إرادة ذهننا التلقائية، وهذا المصدر الآخر في نظره هو الله الذي يبعث فينا هذه الصور، وينظمها في شكل قوانين الطبيعة، ولنلاحظ - في هذا الصدد - أن النوع الآخر من الصور - وهو الصور الخيالية - يفترض أن له مصدرا إنسانيا خالصا، وربما كان في هذا - من وجهة نظر المفكرين اللاهوتيين من أمثال باركلي - نوعا من الحد من القدرة الإلهية؛ إذ إن هذه القدرة تمارس على فئة معينة من الصور، هي الصور الحسية، أما الفئة الأخرى فللإنسان وحده حق التحكم فيه، وإنه لمن الصعب - إذا بدأت الإرادة الإلهية تتدخل في هذا المجال - أن نوقف هذا التدخل عند حد، لا سيما إذا كان القول بهذا التدخل مبنيا على أساس الاعتقاد بلا نهائية قدرة هذه الإرادة، وعلى أية حال، فهذه مجرد ملاحظة فرعية على محاولة باركلي الاحتفاظ بالتمييز بين صور الحس وصور الخيال في إطار مذهبه.
والذي يهمنا من هذا كله، هو أن باركلي اعترف بوجود اختلاف أساسي في الطبيعة بين صور الحس وصور المخيلة التي ترجع إلى إرادة الإنسان، وأكد أن النوع الأول من الصور ينبغي أن يكون راجعا إلى مصدر خارج عن الإنسان، وإلى هذا الحد ينبغي أن نسجل تسلسل التفكير هذا على باركلي؛ إذ إننا نرى من الضروري الاحتفاظ بهذا النصف الأول من استدلاله، أما النصف الثاني فيسهل الاعتراض عليه، وبعبارة أخرى، فقد حاول باركلي أن يثبت أن هذا المصدر الآخر هو الله، على أساس أن كيفيات الأشياء لا تدركها إلا روح، والروح البشرية وحدها عاجزة عن ضمان استقلال الأشياء، فلا بد أن روحا إلهية هي التي تدركها وتضمن استقلالها، فإذا أمكن تفنيد هذا النصف الثاني من الحجة، فسيظل النصف الأول قائما، أي سيظل من الضروري الاعتراف بمصدر للمدركات الحسية خارج عن الإنسان، ولكنه ليس الروح الإلهية في الوقت ذاته.
فلو كان ذهن الإنسان أو حسه هو المصدر الوحيد للاعتقاد بوجود الأشياء الخارجية لكان معنى ذلك أن الأشياء تخلق دائما من جديد، فإذا أغمضت عيني انتهى الشيء المرئي، وإذا فتحتها عاد ثانية إلى الوجود؛ ولذا يحرص باركلي على تفسير عبارة: «إن وجود الأشياء هو كونها مدركة» بأنها لا تعني أن الأشياء توجد بفضل إدراكنا «نحن»؛ إذ قد تدركها روح أخرى حين لا ندركها نحن، فما يقصده «بالإدراك» ليس هنا ذهنا خاصا بعينه، وإنما «جميع الأذهان على الإطلاق».
7
والذهن الإلهي - بوجه خاص - الذي يدركها في كل الحالات التي لا ندركها نحن فيها، وبهذا يظل استمرار وجودها مضمونا، وبهذا المعنى - أي بمعنى وجود روح متميزة عن تلك التي تدرك الأشياء، وهي التي تبعث فينا صور تلك الأشياء - يمكن أن تعد الأشياء «خارجية»، كذلك يمكن أن تسمى الموضوعات الحسية «مستقلة عن الذهن، بمعنى أنها موجودة في ذهن آخر».
8
ولنتساءل هنا: ما معنى قول باركلي: إن الأشياء توجد في الذهن الإلهي عندما لا تكون مدركة في أذهاننا البشرية، وبأية صورة توجد هذه المدركات في الذهن الإلهي، وما علاقتها به؟ هناك احتمالان لا ثالث لهما في هذا الصدد: فإما أن تكون هذه المدركات مستقلة عن الذهن الإلهي بدوره، وهذا احتمال لا يعقل من وجهة نظر تفكير باركلي؛ إذ إن الاستقلال عن الذهن الإلهي يبرر - بالأحرى - الاستقلال عن الذهن البشري، وتغدو فكرة الذهن الإلهي في هذه الحالة إضافة زائدة لا داعي لها، والاحتمال الثاني هو ألا تكون مستقلة عن هذا الذهن، بل إنه يبعثها بإرادته، ويلاحظ على هذا التفسير الأخير أنه يتعارض - إلى حد ما - مع فكرة الإدراك الإلهي المستمر، الذي يضمن استمرار وجود الأشياء، فإذا كانت هذه الأفكار تنبعث تلقائيا من الذهن الإلهي، فالأرجح أن يكون إدراكه لها في هذه الحالة متقطعا غير مستمر، وذلك حسب تلقائية الذهن الإلهي ذاته، وهذا يتنافى مع ضرورة الإدراك المستمر، بل مع الانتظام والاطراد المفروض أن تتصف به قوانين الطبيعة.
ومن جهة أخرى فإن باركلي لم يتحدث مطلقا عن الطريقة التي ينقل بها الذهن الإلهي هذه المدركات إلى الأذهان الفردية، ولم يوضح طبيعة العلاقات التي يجب قيامها بين نوعي الذهن حتى يتم الاتصال بينهما، وترك آلاف الأسئلة معلقة في هذا الشأن.
ولنلاحظ أن نفس السؤال الذي أدى بديكارت إلى الشك يمكن أن يثار هنا بنفس القوة، فإذا كانت إدراكاتنا صادرة عن الله أو راجعة إليه، فلماذا بعث فينا - أو في معظم الناس ما عدا باركلي ذاته على الأرجح - اعتقادا بأن هذه الإدراكات صادرة عن أشياء خارجية؟ ولماذا «شوه» إدراكنا بحيث جعلنا نجهل أصله الحقيقي؟ ألا يتنافى هذا مع الصدق «والخيرية» والإلهية؟
فما هي إذن الصورة التي يدعونا باركلي إلى الأخذ بها في صدد مشكلة خارجية العالم؟ إنها صورة ذهن إلهي شامل، يبعث من ذاته صورا أو إدراكات، وينقل هذه الصور أو الإدراكات بطريقة لا يذكر عنها باركلي أي شيء إلى الأذهان الفردية، التي لا نعلم إن كانت في رأي باركلي مشاركة في الذهن الإلهي أو منفصلة عنه، ويتم هذا النقل حسب قواعد ثابتة هي التي نسميها قوانين الطبيعة، هذه هي الصورة التي يعتقد باركلي أنها أفضل من اعتقادنا الطبيعي بوجود عالم خارجي.
وهكذا نجد باركلي مضطرا إلى افتراض قوة روحية خارجية لتعليل استقلال الظواهر عن إرادتنا، ومضطرا إلى رسم تلك الصورة الغريبة للمعرفة البشرية التي تتم عن طريق نقل الذهن الإلهي إلى الذهن البشري لشريط من الصور المتعاقبة بانتظام، هي التي تكون معرفة الإنسان، والمطلوب منا أن نعد هذا التصوير لمعرفتنا أدق وأحكم «وأرفع» من التصوير الطبيعي «الساذج»! ولكن هل هناك أكثر سذاجة وبعدا عن الروح العلمية من ذلك التفسير «البدائي» الذي يقول به باركلي؟ أجل، إنه تفسير بدائي من غير شك، وإن يكن مغلفا في إطار معقد من الحجج والبراهين، فما هو في الواقع إلا مظهر من مظاهر الرجوع إلى عهد تفسير الظواهر بالقوى الخفية التي تحتشد في الكون فتنمي الزرع، وتسقط المطر، وتحرك الجبال، وتعرض أمام ذهن الإنسان شريط المعرفة!
والآن ما الذي يستطيع الذهن السليم أن يقبله؟ وما الذي يتحتم عليه أن يرفضه في هذا كله؟ إن الذهن السليم يقبل حتما قول باركلي بأن الإدراكات الخارجية مستقلة عن الذات؛ لأنها لا تنبعث كلما أرادت الذات ذلك، بل تحتاج إلى شروط محددة إذا توافرت، فسوف ندرك إدراكات خارجية سواء أرادت الذات ذلك أم لم ترد، فلا بد إذن من البحث عن مصدر خارج عن الذات لهذه الإدراكات، ولكن المصدر الذي يقول به باركلي ينبغي أن يرفض بلا تردد، فهو لم يبرهن على أن الذهن الإلهي يدرك الصور الخارجية، وإنما اكتفى بأن «قرر» ذلك معتمدا على أن أية قضية ترد فيها كلمة «الذهن الإلهي» لن تناقش أو لن تمس! وحتى لو سلمنا بهذا الإدراك الإلهي، فسيظل للمرء أن يتساءل: ما هي قيمة إدراك الذهن الإلهي لهذه الصور بالنسبة إلي؟ وكيف يؤدي إلى ثبات إدراكي للأشياء كلما توافرت شروط هذا الإدراك؟ أو ما هي العلاقة الحقيقية بين ذهني وبين الذهن الإلهي؟ وعلى أي نحو يستطيع ذلك الذهن الإلهي - بإدراكه المستمر - سد الثغرات في إدراكي المتقطع؟ وأخيرا - وهذا سؤال يستنكره باركلي دون شك كل الاستنكار ولكن روح البحث الفلسفي تحتمه - إذا كانت هذه الأفكار ترد إلي من روح إلهية، فمن أين جلبت الروح الإلهية ذاتها هذه الأفكار؟ وما الذي أعطاها إياها؟ أو كيف تكونت لديها إذا كانت مجرد انبثاقات تلقائية؟ فهلا يكون هذا الحل أشبه «بالذات الوحيدة الإلهية
Divine Solipsism » وهلا يكون فيه مجرد إرجاء لخطر فكرة «الذات الوحيدة» التي تهدد المثالية على الدوام عن طريق نقلها إلى المستوى الإلهي، والاعتماد على الروح الإيمانية التي لا تجرؤ على مساس هذا المستوى، والاكتفاء بمثل هذا الحل، أو بالأحرى: هذا الهروب من المشكلة؟
هنا - وللمرة الثانية - تظهر فكرة خارجية العالم على أنها هي العقبة التي لا تستطيع المثالية التخلص منها إلا إذا وضعت فروضا ساذجة أو غير منتمية إلى مجال التفلسف المنطقي، أو بعبارة أخرى: فإن المثالية تعجز - في حدود التفكير المنطقي وحده - عن تعليل خارجية العالم. (5) العالم الخارجي بوصفه مجموعة من الانطباعات عند هيوم
في فلسفة هيوم تحليل واضح قوي للتضاد بين «النظرة الطبيعية» والنظرة الفلسفية، من حيث إن الأولى تؤمن بوجود الأشياء خارج الذات ومستقلة عنها، أما الثانية فتبرهن على أن هذه الأشياء ترتد إلى مجموعة من الانطباعات فحسب، ومما يلفت النظر أن هيوم جعل مصير «النظرة الفلسفية» مرتبطا بهذه النظرية المثالية في المعرفة، ولم يتصور إمكان قيام فلسفة لا تتخذ هذا الطابع المضاد للموقف الطبيعي، «والحق أنه مهما تصور الفلاسفة أن في وسعهم الإتيان بحجج يبرهنون بها على الاعتقاد بوجود أشياء مستقلة عن الذهن، فمن الواضح أن هذه الحجج لن تعرفها إلا القلة القليلة، وليست هذه الحجج هي ما يرتكز عليه الأطفال والفلاحون والجزء الأكبر من البشر حين ينسبون إلى بعض الانطباعات أشياء تنتجها، وينكرون على بعضها الآخر وجود هذه الأشياء، وهكذا نجد أن جميع الاستنتاجات التي يكونها العامة في هذا الصدد مضادة تماما لتلك التي تؤكدها الفلسفة؛ إذ إن الفلسفة تنبئنا بأن كل ما يبدو للذهن ليس إلا إدراكا، وهو إدراك غير مستمر، وغير مستقل عن الذهن، بينما العامة يخلطون بين الإدراكات والأشياء، وينسبون وجودا متميزا مستمرا إلى نفس الأشياء التي يحسون بها أو يرونها، ولما كان هذا الرأي بعيدا تماما عن العقل، فلا بد أنه ناتج عن ملكة أخرى غير الفهم.»
9
في هذا النص يفترض هيوم أن آراء الفلاسفة وحججهم هي الأصل في إيضاح مسألة وجود العالم الخارجي، وأن الاعتقاد بوجود الأشياء الخارجية مستقلة عن الذهن هو اعتقاد عامي يقول به الأطفال والفلاحون! فالأصل هنا هو حجج الفلاسفة العقلية، أما التجربة المباشرة والحكم التلقائي والسلوك العلمي فليست له أية قيمة طالما أنه لا يستند إلى حجج فلسفية، وهنا يعد موقف هيوم بالفعل تلخيصا للموقف المثالي بأسره؛ إذ يشكك في تجربة الناس الفعلية في ميدان ربما كان الحكم الوحيد فيه هو هذه التجربة المباشرة الأصلية، ويطلب برهانا على شيء ربما لم يكن فيه مجال للبرهان؛ لأنه يسبق كل موقف فكري أو عملي لنا.
وعلى أية حال فالمشكلة الرئيسية التي يعالجها هيوم - وهو في صدد بحث موضوع وجود العالم الخارجي - هي مشكلة أصل الاعتقاد بخارجية هذا العالم واستمراره واستقلاله، وهو يفترض أن الاعتقاد باطل؛ لأنه لا يستند إلى العقل، ولا يناقش ذلك الاحتمال القوي في ألا يكون هذا الاعتقاد محتاجا إلى العقل لتأييده، وفي أن يكون سابقا على كل حجج منطقية أو براهين استدلالية، أي إنه يوم يفترض مقدما أن التفكير العقلي إذا لم يؤيد فكرة وجود العالم الخارجي فلن يعود لهذه الفكرة وجود، وهذا افتراض فيه شيء غير قليل من التعسف، ولا ينبغي أن يسمح المرء لنفسه بقبوله دون مناقشة.
ومنذ اللحظة التي يقسم فيها هيوم الإدراكات إلى أفكار وانطباعات، لا يوجد بينهما إلا فارق في الدرجة أو الشدة، منذ هذه اللحظة يتخذ هيوم موقفا مثاليا؛ إذ يتيح له هذا الرأي أن ينسب إليهما طبيعة متشابهة، وبذلك ينكر وجود مصدر خارجي للانطباعات.
ويتجلى هذا الموقف المثالي - بالمعنى الذي أوضحناه من قبل لهذه الكلمة - بكل وضوح حين يتحدث هيوم عن انطباعات الإحساس فيصفها بأنها «تظهر في النفس أصليا، من أسباب غير معروفة.»
10
أو في قوله: «أما عن تلك الانطباعات التي تنشأ عن الحواس، ففي رأيي أن علتها لا يمكن أن تفسر مطلقا عن طريق العقل البشري، وسيظل دائما من المحال أن نقرر - على نحو مؤكد - إن كانت تنشأ عن الموضوع مباشرة، أو تنتجها القوة الخلاقة للذهن، أو تستمد من خالق وجودنا، على أن هذا الموضوع ليست له أهمية على الإطلاق في هذا المقام، ففي إمكاننا أن نستخلص استدلالات من ترابط إدراكاتنا الحسية لنتبين إن كانت صحيحة أو باطلة، وإن كانت تمثل الطبيعة تمثيلا صحيحا، أو أنها مجرد خداع للحواس.»
11
وهكذا يعلن هيوم - في مستهل كتابه - عجزه عن تفسير كيفية ظهور انطباعات الإحساس وأصلها، ويقول ما معناه: «سأقدم إليكم في هذا الكتاب صورة للعالم مخالفة لصورته التي يكونها الإنسان في موقفه الطبيعي، ولكني أعلن لكم منذ البداية أنني لا أستطيع - في ضوء هذه الصورة - تعليل أصل انطباعات الإحساس وكيفية ظهورها.» أليس للمرء كل الحق في أن يشك مقدما في قيمة أي بحث في المعرفة يبنى على أساس أن الإحساس يظهر في النفس من أسباب غير معروفة، في الوقت الذي يعترف فيه التجريبيون أنفسهم بأن المصدر الرئيسي لمعرفتنا هو التجربة الحسية؟
ولقد استفاد هيوم من التطورات الفلسفية السابقة عليه، والتي توطدت فيها الفكرة القائلة: إن الموضوع الذي يمثل للذهن هو «الإدراكات
»، ولم يكن عليه إلا أن يستخلص ما اعتقد أنه نتيجة ضرورية لهذه الفكرة، فليس في وسعنا أن نتصور أي شيء يتجاوز الأفكار والانطباعات؛ لأن الذهن لا يحضر أمامه شيء سوى إدراكاته وانطباعاته وأفكاره، «ومهما كانت درجة تركيزنا لانتباهنا خارج أنفسنا، ومهما تعقبنا خيالنا إلى السماوات أو إلى أقصى أطراف الكون، فلن نتقدم بالفعل خطوة واحدة خارج أنفسنا، ولن نستطيع أن ندرك أي نوع من الوجود سوى الإدراكات التي بدت في هذا النطاق الضيق.»
12
وهكذا فبينما يعتقد الإنسان في موقفه الطبيعي أنه يدرك أشياء خارجية مستقلة، يؤكد له هيوم أنه لا يدرك إلا انطباعات وأفكار ماثلة للذهن، وأن هذه هي الموضوع الوحيد لمعرفتنا، وهنا نرى لزاما علينا أن نثير عددا من الأسئلة قبل أن نستمر في عرض حجج هيوم في هذه المسألة: (1)
لماذا استخدم هيوم تعبير «القصر
Restriction » الذي كان يقول فيه: «إننا لا ندرك إلا ...»؟ إن هذا التعبير معناه أن هيوم يجعل لإدراكنا موضوعات أضيق نطاقا مما يظن الإنسان في موقفه الطبيعي، والدليل على ذلك قوله في النص السابق: إننا لا ندرك سوى ما يبدو «في هذا النطاق الضيق»، ولكن المسألة في حقيقتها ليست مسألة اختلاف في نطاق الإدراك، وإنما في تفسير طبيعته، فالإدراك يظل كما هو على الدوام، ولا يطرأ عليه أي نقص أو تحديد لآراء هيوم، وكل ما تؤدي إليه هذه الآراء هو تفسير مخالف لطبيعة هذا الإدراك، لا تحديد لنطاقه. (2)
يؤكد هيوم أننا لن نتقدم - مهما فعلنا - خطوة واحدة خارج «أنفسنا»، فهل فكر لحظة واحدة في معنى كلمة «خارج أنفسنا» هذه؟ أولا: ما هو المقصود بكلمة «أنفسنا» في هذه الحالة؟ هل يقصد الحيز المكاني الذي يشغله الشخص بوصفه كائنا ماديا له مكان؟ ألن يكون في هذا المعنى تناقض واضح؟ أم يقصد «أنفسنا» من حيث إننا أذهان ذات وجه غير مادي؟ وفي هذه الحالة هل يكون للفظي «خارج» أو «داخل» أي معنى؟ وأخيرا، فإن هيوم يؤكد أن كل إدراكاتنا توجد «داخل» أنفسنا لا خارجها، فهل يمكن أن يعقل وجود «داخل» دون «خارج»، وهل يمكن أن يفهم معنى أحد هذين المتضايفين دون الآخر، وإذا كان كل شيء داخل الذات، فهل يعود لكلمة «داخل» معنى إذا كانت تنطبق على كل شيء؟ (3)
هناك نوع من الإدراكات تبعثه الذات تلقائيا من داخلها كلما أرادت ذلك كالتخيلات بأنواعها، فما الذي يفرق بين هذا النوع وبين تلك الإدراكات التي ننسبها عادة إلى موجود خارجي، أي الانطباعات الحسية؟ إن هيوم - كما قلنا - يعترف بعجزه عن تفسير أصل الانطباعات الحسية، ولكنه يرى في الوقت ذاته أن مسألة الأصل هذه ليست بذات أهمية كبرى؛ لأن ترابط الإدراكات الحسية يكفي وحده لكي يجعلنا نستخلص النتائج اللازمة في أبحاثنا، بغض النظر عن صحة هذه الإدراكات أو بطلانها، ومعنى ذلك أن مسألة صحة المدركات أو بطلانها ستكون معلقة، ولا بد أن تظل كذلك طالما كان هذا هو المنهج المتبع، وإن المرء ليستشف من وراء القول بعدم أهمية التمييز بين الصحة والبطلان بالنسبة إلى أغراض البحث، اعترافا ضمنيا باستحالة تقديم معيار لهذا التمييز في حدود المنهج المتبع.
في ضوء كل هذه المقدمات يخوض هيوم مسألة تعليل الاعتقاد «الطبيعي» بوجود أشياء خارجية لها وجود «مستمر» و«متميز» عن وجود الذهن، وهو اعتقاد يراه باطلا من أساسه؛ إذ إن ما نظن أنه وجود خارجي لا يمكن أن يختلف في النوع عن إدراكاتنا، فهيوم يبدأ بافتراض أن «الانطباع» هو الحقيقة الأساسية، ولما كان الانطباع متوقفا على الذات ومقترنا بممارستها ملكاتها الواعية، فإنه يتساءل بعد ذلك: كيف نشأ لدينا الاعتقاد بوجود حقيقة أخرى من وراء هذا الانطباع ومسببة له، هي حقيقة «الأشياء» الخارجية التي نفترض أنها مستمرة في الوجود ومستقلة عن الذات؟
هذا الاعتقاد لا يمكن أن ينشأ عن الحواس؛ لأن الحواس تنقل إلينا إدراكا واحدا هو الانطباع، ولا بد للاستدلال على ما وراء هذا الانطباع من تجاوز الحواس عن طريق العقل أو المخيلة، فالحواس تقتصر على ما هو «معطى»، ولا تستطيع أن تقوم بالمقارنة اللازمة للاستدلال على استمرار وجود هذا المعطى أو استقلاله عن الذات.
كذلك لا يمكن أن يكون أساس هذا الاعتقاد هو العقل؛ لأن عمل العقل ينحصر في الإتيان بحجج منطقية أو فلسفية، وحتى لو استطاع العقل ذلك، فسيظل الاقتناع بهذه الحجج مقتصرا على فئة قليلة من الناس، فكيف إذن نعلل شيوع هذا الاعتقاد لدى جمهرة الناس دون قيامه لديهم على أي أساس فلسفي؟
لا بد إذن أن يكون هذا الاعتقاد قائما على تدخل «المخيلة»، ولا بد أن بعض الانطباعات يتميز بصفات خاصة تمتزج بالمخيلة على النحو الذي يؤدي بنا إلى الاعتقاد بأن لها وجودا مستمرا ومستقلا، فما هي هذه الصفات؟ إنها ليست صفة كونها غير إرادية، أو كونها شديدة القوة والحيوية؛ لأن الانفعالات والآلام قد تتوافر فيها هذه الصفات دون أن نعتقد أنها خارجية.
13
وهكذا يحدد هيوم تلك الصفة التي تتميز بها انطباعاتنا المنسوبة إلى أشياء خارجية بأنها صفة «الدوام
Constancy » والانتظام والإحكام، فهذه الانطباعات تعود باستمرار بعد انعدام إدراكي لها وقتا ما، وإذا تغيرت كان تغيرها هذا منتظما وخاضعا لقواعد محكمة.
والذي يحدث أننا نستدل - بفضل تعودنا على تكرار انتظام ظهور هذه الانطباعات - على وجود أشياء ثابتة من ورائها، بحيث إنه إذا انقطع إدراكنا فيظل هناك شيء لا ندركه يجمع بينها، وعلى حين أن هذه الإدراكات في الأصل منفصل - إذ تفصل بينها لحظات عدم إدراكنا لهذه الموضوعات - فإن تشابه الترتيب الذي يظهر به إدراكنا لها في كل حالة يؤدي بنا إلى الاعتقاد بأن ما أدركناه في كل الحالات شيء واحد، فنحن نخفي انقطاع الإدراكات، أو نقضي عليه تماما، إذ نفترض أن هناك وجودا واحدا حقيقيا يجمع بين الإدراكات المتقطعة، «فذاكرتنا تقدم إلينا عددا كبيرا من أمثلة الإدراكات التي يشبه كل منها الآخر، والتي تعود في فترات زمنية مختلفة بعد شيء من الانقطاع، وهذا التشابه يخلق لدينا ميلا إلى الربط بينها عن طريق وجود مستمر؛ لكي نبرر هذه الهوية، ونتجنب التناقض الذي يبدو أن الظهور المتقطع لهذه الإدراكات يؤدي بنا إليه ضرورة.»
14
ولست أملك هنا إلا أن أوجه اعتراضا له صبغة «ساذجة» إلى حد ما، ولكن لا مفر منه طالما أنه يوجد بنفس الروح «الساذجة» التي يتصف بها الموقف الطبيعي، فكيف تتم عملية «التوحيد» أو «القضاء على انقطاع الانطباعات» هذه؟ أهي عملية واعية؟ أعني: هل تأتي على الإنسان - من حيث هو فرد أو نوع - مرحلة يعتقد فيها أن إدراكاته متقطعة، ثم يرغب في تجنب النتائج الضارة التي يلحقها به هذا الاعتقاد، «فيقرر» أن يصنع أو يتخيل شيئا يوحدها؟ إن هيوم لا يستطيع - بطبيعة الحال - أن يجيب بالإيجاب؛ إذ سيكون عليه في هذه الحالة أن يحدد لنا زمان ومكان تلك المرحلة التي لم يسمع أحد عنها شيئا، وإذن فهل هذه عملية غير واعية؟ وهل هي تتم تلقائيا في الإنسان بحيث لا يشعر في أي وقت بأنه كانت هناك إدراكات متقطعة ثم «وحدها»؟ إن كان الأمر كذلك فما قيمة تنبيه هيوم إلى ذلك الأصل «المتقطع» الذي يرفضه الإنسان حتما في جميع أحواله؟
ولنتحدث في هذا الموضوع من الناحية العملية: ففي موقفنا الطبيعي نعامل الكرسي الموجود في الحجرة - إذا أدركناه - بانطباعين يفصل بينهما وقت ما، على أنه كرسي لا على أنه انطباعان مختلفان، ومن المحال أن نتصرف في موقفنا الطبيعي على نحو مخالف، ولنتصور النتائج العملية التي تحدث لو نظر الإنسان إلى بيته في كل مرة يدركه فيها على أنه بيت مخالف، أو إلى أهله وأصدقائه على أنهم «إدراكات جديدة» ... إلخ، هنا تصبح حياة الإنسان - بطبيعة الحال - مستحيلة، وقد اعترف هيوم ذاته بهذه الاستحالة، ولكنه أراد أن يضع حدا فاصلا بين موقفنا العملي وما ينبغي أن يكون عليه فهمنا للأمور، ولنتساءل هنا: إلى أي مجال ينتمي إدراكنا للكرسي والبيوت والأشجار، وهي الأمثلة التي ظل هيوم يستخدمها في كتاباته على الدوام؟ إلى مجال الموقف الطبيعي بلا شك، فعندما نكون بصدد إدراك شجرة مثلا، لا تكون مهمتنا هنا هي تحليلها علميا، وإنما إدراكها بحواسنا المعتادة لكي نعرف كيف نتصرف عمليا إزاءها، ومع ذلك فإن هيوم يعترض - في مجال الموقف الطبيعي - على طريقة إدراك الإنسان في هذا المجال، ويحاول تعليل ما يراه فيها من أخطاء بأنه راجع إلى الرغبة في تجنب التناقض الذي يحدث لو عالجنا كل إدراك في هذا المجال على أنه منفصل، أو بعبارة أخرى: فهو يحاول تعليل ما يعتقد أنه «خطأ فلسفي» في الموقف الطبيعي، ولكن ما قيمة هذا الاعتراض إذا كان تأصل هذا الموقف فينا أقوى وأسبق من أي تفلسف، وإذ كانت مجرد حياتنا مستحيلة إن لم نعامل المدركات الخارجية على أنها «أشياء»؟ إن المسألة هنا - كما ذكرنا من قبل - منفصلة تماما عن مسألة مجال مختلف تماما عن مجال الصواب والخطأ: مجال التصرف العملي اليومي، الذي يستحيل أن يتصرف فيه المرء إلا على أساس فكرة «الأشياء»، بغض النظر تماما عما قد يكون عليه حكم العلم أو المنطق على هذه الفكرة.
ولا شك أن الفكرة الجديدة التي أتى بها هيوم في هذا الموضوع - وهي فكرة تأثر فيها إلى حد بعيد باتجاهات الفلاسفة المحدثين السابقين عليه ولا سيما باركلي - هي فكرة رفض الازدواج بين المدركات والأشياء، فالاعتقاد الشائع بأن هناك أشياء «تسبب» مدركاتنا هو اعتقاد متوارث من أوهام قديمة، وطالما أن الحقيقة التي نستطيع أن نكون على ثقة من حضورها المباشر هي المدركات، فلا معنى إذن للقول بوجود حقيقة أخرى من ورائها تكون «سببا» لها.
ولكن إذا كان خطأ الفلسفات القديمة في نظر هيوم هو تصور وجود أشياء مجسمة تسبب الانطباعات، فخطأ هيوم - الذي يزيد على ذلك خطورة - هو «تجسيم» الإدراك وجعله حقيقة قائمة بذاتها، ففي كتاباته يشعر المرء على الدوام بأن الانطباع له «وجود» وأن الإدراك له «كيان» خاص، ولكن التحليل السليم للإدراك يدل على أنه «عملية» فحسب، أو تعبير عن العلاقة بين الذات وبين موضوع، وهو ظاهرة تحدث - كلما تقابلت هاتان الحقيقتان سويا - فيكون حدوثه مجرد مظهر لتقابلهما، أما في ذاته فليس له كيان، وإذن فمن الممكن القضاء على الازدواج بين الشيء وبين إدراكه، ولكن باتباع الطريق الأسلم، وهو إنكار وجود حقيقة مستقلة أو قائمة بذاتها للإدراك، بدلا من اتباع طريق هيوم الذي يوحي بوجود حقيقة مستقلة اسمها الانطباع، لا نستطيع أن نعرف أصلها، ولكن لا يجوز لنا محاولة تجاوزها إلى أية حقيقة أخرى وراءها، فالانطباع ليس واسطة للإدراك، تحجب موضوعات هذا الإدراك أو تحل محلها، وإنما هو مجرد اسم لدخول الذات في علاقة مع هذه الموضوعات، وليس له دون هذه الموضوعات ذاتها أي كيان قائم بذاته.
والسؤال الذي يحسم الخلاف بشأن طبيعة الانطباع هو: هل تستطيع الحواس أن تأتي بشيء من عندها؟ وهل لديها القدرة على أن تدفع ذاتها إلى العمل؟ إن الرد - طبعا - بالنفي، على الأقل في أغلبية الأحيان (وإن كان هيوم يتجنب البحث في أصل انطباعات الحس منذ البداية)، فإذا لم تكن تأتي بشيء عندها، أو تدفع ذاتها إلى العمل، فلا بد أن دور إدراكاتها هو مجرد التعبير عن حدوث تقابل بين ذات وموضوع، إن هيوم يؤكد أنه «ليس ثمة موجودات حاضرة أمام الذهن إلا الإدراكات»، ولكن ما معنى هذا الحضور أمام الذهن؟ هل الذهن يدركها سلبيا؟ أم أنه هو الذي يبعثها؟ إن الرد على هذا السؤال أساسي، وما كان يحق لهيوم أن يراوغ في الإجابة عنه مطلقا؛ لأن الفارق بين سلبية الذهن وإيجابيته في إدراكه للانطباعات هو الذي يحسم مشكلة طبيعة الموضوع الذي أثارها، بل هو الذي يحدد ما إذا كان هذا الموضوع موجودا أم غير موجود.
والواقع أن تفكير أرسطو - في هذه المسألة بالتحديد - يبدو أكثر استنارة إلى حد بعيد من تفكير هيوم: فملكة الإحساس في رأي أرسطو توجد «بالقوة»، ولا تنتقل إلى الفعل إلا عند ظهور الموضوع الخارجي، «فمن الجلي أن ما هو حاس هو كذلك بالقوة فحسب لا بالفعل، فقوة الإحساس أشبه بالشيء القابل للاشتعال؛ إذ إن هذا الشيء لا يشتعل بذاته قط، وإنما يحتاج إلى فاعل قادر على البدء بالإشعال، وإلا لأشعل ذاته، ولما احتاج إلى نار فعلية لإيقاده.»
15
ولو كان هيوم قد تأمل جيدا فكرة وجود الإحساس - وبالتالي الانطباع بالقوة - لما حاول أن يجعل للانطباع كيانا يغني عن الموضوع؛ إذ إن فكرة أرسطو ذاتها لا تنطوي على القول بازدواجية بين الانطباع والشيء، بل تجعل الانطباع إمكانية كامنة يحققها ظهور الشيء، ولا تكون هي ذاتها إلا تعبيرا عن هذا الظهور. (6) العالم الخارجي بوصفه ظاهرة عند كانت
الأشياء الخارجية تتميز - قبل كل شيء - بأنها أشياء توجد في المكان، والمكان عند كانت صورة للحدس، أي صورة ذاتية تجعل التجربة الحسية ممكنة، وإذن فخارجية الأشياء ترجع إلى نشاط الذات حين تضفي على الأشياء هذه الصورة الخارجية، «فعن طريق الحاسة الخارجية - وهي صفة لذهننا - نمثل لأنفسنا الأشياء على أنها خارجة عنا ، وموجودة كلها بلا استثناء في المكان.»
16
هذه هي نقطة بداية بحث كانت في مشكلة العالم الخارجي، وهي نقطة بداية تنطوي في ذاتها على كل النتائج المثالية، رغم ما سنراه من تأرجح موقف كانت بين قبول المثالية في صورتها المتطرفة وبين القول بنوع مخفف من المثالية «اللاأدرية»، ومنذ هذه اللحظة الأولى، يقرر كانت معارضة الموقف الطبيعي؛ إذ يجعل خارجية الأشياء راجعة إلى «صفة لذهننا»، ومنذ هذه اللحظة أيضا يستخدم كانت اللغة المثالية بلا تحفظ، وبكل ما فيها من افتقار إلى التحديد، فما معنى كوننا «نمثل لأنفسنا الأشياء على أنها خارجة عنا»؟ لنتساءل مرة أخرى - كما قلنا ونحن في صدد شرح نظرية هيوم: هل هذه العملية واعية مقصودة لدى الإنسان؟ أي هل كانت للأشياء طبيعة أخرى ثم «مثلناها لأنفسنا» على نحو مخالف؟ أم أنها عملية تحدث تلقائيا ودون وعي منا؟ وإذا كانت كذلك، فعلى أي أساس عرف بها كانت؟ وعلى أي أساس عرف أن طبيعتنا غيرت الأشياء ومثلتها على أنها خارجة عنا؟ ثم ما هو المقصود بكلمة «نحن» في هذه الحالة؟ هل المقصود منها «نحن» بوصفنا أذهانا فردية أم أذهانا جماعية أم أجساما أم مجرد نوع إنساني؟ وإذا كان يبدو أن المعنى الأخير هو الأقرب إلى قصد كانت - الذي يتحدث كثيرا عن «طريقتنا في الإدراك» - فهل لا يوجد لدى الحيوان إحساس مكاني؟ وإن كان مثل هذا الإحساس موجودا لديه، فبأي معنى إذن ننسب المكان إلى «التركيب الذاتي لذهننا».
وهكذا تظهر جميع صعوبات المثالية في ذلك النص الذي يستهل به كانت الفصل الخاص ب «الحساسية الترنسندنتالية» من كتاب «نقد العقل الخالص»، وتتحدد معالم الموقف المثالي بوضوح منذ أن يقلب كانت العلاقة المألوفة بين فكرة المكان والتجربة الخارجية: فنحن نعتقد - في موقفنا الطبيعي - أن تجربتنا للأشياء الخارجية هي التي توحي إلينا بفكرة المكان، وأننا نرى الأشياء في الداخل وفي الخارج وفوق وتحت وعلى اليمين واليسار، فنستنتج من كل هذا - وبالتجريد - فكرة «المكان» بوجه عام، أما كانت فيرفض هذا الأصل التجريبي لفكرة المكان؛ إذ إن فكرة الخارجية ذاتها، وكذلك فكرة التجاور واليمين واليسار ... إلخ، كل هذه تفترض مقدما تصور المكان، وإذن فليست فكرة المكان مستمدة من التجربة الخارجية، بل إن التجربة الخارجية لا تصبح ممكنة إلا بفضل فكرة المكان.
وقد يكون رأي كانت هذا صحيحا بالنسبة إلى المرحلة الحالية لتفكير الإنسان المتمدين الناضج، ولكن أية نظرة إلى هذه المشكلة من الزاوية التاريخية - التي أهملها كانت في كتاباته إهمالا تاما - تجعلنا نقتنع، دون تفكير طويل، بأن معنى المكان، في الأدوار «التكوينية» للإنسان، لا بد أن يكون قد استمد بالتجريد من علاقات الأشياء الخارجية، فليس صحيحا أن الإنسانية قد كونت فكرة المكان أولا، أو اهتدت إليها في ذاتها بوصفها جزءا من تركيبها الباطن، ثم استمدت منها معنى الخارجية على أساس أنها ما يكون في مكان مغاير، بل يحدث عكس ذلك: إذ يبدأ الإنسان بالمرور ب «التجارب المكانية» - كالقرب والبعد واليمين واليسار - أولا، ومنها يستخلص فكرة المكان بالتجريد، وليس من المستبعد أو من المستحيل مطلقا أن نتصور إنسانا، أو مجتمعا كاملا، يستخدم المعاني المكانية، دون أن تكون لديه فكرة عن هذا التصور المجرد، أي المكان، ولكن هذه - بطبيعة الحال - طريقة في التفكير تقتضي النظر إلى الأمور من الزاوية التاريخية أو الاجتماعية التي لم يقم لها كانت أي وزن.
وهكذا يؤدي رأي كانت في طبيعة المكان بوصفه صورة للحساسية وشرطا ذاتيا لإمكان التجربة تؤدي هذه الفكرة ذاتها إلى فكرة «ظاهرية» العالم الخارجي مباشرة: «فلا شيء مما يدرك بالحدس في المكان هو شيء في ذاته، وليس المكان صورة كامنة في الأشياء ذاتها بوصفه صفة متأصلة فيها، ولا سبيل لنا مطلقا إلى معرفة الأشياء في ذاتها، وليس ما نسميه بالأشياء الخارجية إلا مجرد تمثلات لحساسيتنا، التي يكون المكان صورتها.»
17
وكما أدى بحث «صورة الحدس» إلى هذه النتيجة، فكذلك يؤدي إليها استنباط التصورات الخالصة للذهن، ولا سيما «الاستنباط» كما ورد في الطبعة الأولى ل «نقد العقل الخالص»، فالاستنباط يؤدي بكانت إلى القول بأننا «نحن أنفسنا الذين نبعث في المظاهر ذلك الترتيب والنظام الذي نسميه «بالطبيعة»، وما كان في وسعنا أن نجد ذلك الترتيب والنظام في المظاهر، ما لم نكن نحن أنفسنا - أو طبيعة ذهننا - نبعثها أصلا ...»
18
ومرة أخرى، يستخدم كانت كلمة «نحن» دون تحديد لمعناها بأي قدر من الدقة، ويتحدث عن «المظاهر» التي «نبعث فيها» النظام والترتيب، وكأن هذه عملية ترتيب واعية نقوم بها على مادة لم يكن لها في الأصل مثل هذا الترتيب، وكما كانت الطبيعة في نظر باركلي تعبيرا عن الإرادة الإلهية، فإنها في نظر كانت تعبير عن ذلك النوع الخاص من التنظيم الذي يبعثه الذهن الإنساني في الظواهر، وهي في الحالتين غير تلك «الطبيعة» التي نعرفها في موقفنا الطبيعي، والتي لا يكون الإنسان إلا جزءا منها، ولا يكون للذهن دور إلا في فهم قوانينها لا في خلقها.
وإذن، فمن الواضح أن كانت - في قوله بتحكم الذات (بما فيها من صور للحساسية وصور أو مقولات للذهن) في تشكيل الموضوع وجعله «ظاهرة» بالنسبة إلينا - كان مثاليا بالمعنى الصحيح، ولكن من الواضح - من جهة أخرى - أن كانت لم يعترف بهذه المثالية، أو على الأقل حاول تخفيفها بأن أسماها بالمثالية الترنسندنتالية أو المثالية «الاحتمالية»، التي تختلف - في نظره - عن المثالية التوكيدية أو المادية وتقل عنها حدة بكثير، ومهمتنا الآن هي أن نناقش هذه الدعوى التي قال بها كانت، ونجيب على السؤال الآتي: هل تختلف مثالية كانت عن أي مذهب مثالي آخر في خروجها على الموقف الطبيعي أو رفضها له؟
يعرف كانت المثالية الترنسندنتالية بأنها «المذهب القائل أن المظاهر كلها لا ينبغي أن ينظر إليها إلا على أنها تمثلات، لا أشياء في ذاتها، وأن المكان والزمان ليسا إلا الصور الحسية للحدس، لا تحديدات معطاة بوصفها موجودة بذاتها، ولا شروطا للموضوعات منظورا إليها على أنها أشياء في ذاتها.»
19
ووجه التفرقة بين المذهب المثالي التوكيدي ومثالية كانت الترنسندنتالية هو أن القائل بهذا المذهب الأخير قد يكون أيضا من القائلين ب «الثنائية»، أي من المعترفين بوجود «مادة» خارجية، ولكنه يظل على الدوام غير موقن بطبيعة هذه المادة من حيث هي «شيء في ذاته»، مؤكدا أن ما نعرفه منها هو ما تضفيه عليها الذات من صور الحساسية والمقولات، أي إنها تعرف بوصفها «ظاهرة» فحسب، وسبب الاقتصار على فكرة الظاهرة هذه - كما يشرحه كانت - هو أنني لا أعرف مباشرة إلا إدراكات، وهي مقدمة كان تأثير هيوم وباركلي فيها واضحا كل الوضوح، وتتعرض لجميع الانتقادات التي سبق أن وجهناها إلى هذين الفيلسوفين، فإذا حاولت أن أستدل من هذه الإدراكات على «سببها»، فلن أستطيع الوصول أبدا إلى أي يقين؛ لأن مثل هذا المعلول قد يكون له أكثر من علة، أي قد تكون علته جسما خارجيا أو ذات داخلية، وهكذا أظل على الدوام غير متأكد إن كان «ما يسمى بالإدراكات الخارجية مجرد ناتج عن الحس الباطن أم أن علاقتها بالموضوعات الخارجية الفعلية هي علاقة علة بمعلول.»
20
ولهذا كان يتحتم علي أن أكتفي بما هو مؤكد، أي بإدراكاتي وقوالبي الذاتية التي تنظمها، وأن أسمي الأشياء الخارجية ظواهر أو تمثلات تنتمي إلى الحس الخارجي، أما أصل هذه التمثلات فلا يمكن معرفته إلا باستدلال يظل دائما غير مؤكد، وإن كان من واجبي دائما ألا أستبعد كون هذا الأصل «شيئا في ذاته»، لا أعرف عنه شيئا.
ويزيد كانت فكرته هذه إيضاحا في «المدخل إلى كل ميتافيزيقا»، فيفرق بين مذهبه وبين المثالية على أساس أن الأخيرة تقول بأنه لا وجود إلا للموجودات المفكرية، وأنه لا شيء في الخارج يطابق ما نعتقد أنه موجودات خارجية: «أما أنا فأقول بعكس ذلك: فهناك أشياء معطاة لنا، هي موضوعات لحواسنا وخارجة عنا، غير أننا لا نعلم شيئا عما يمكن أن تكونه في ذاتها، ولا نعلم منها إلا الظواهر، أي التمثلات التي تنتجها فينا بتأثيرها في حواسنا، فأنا إذن أعترف بأن خارجنا أجساما - أي أشياء - هي بالفعل مجهولة لدينا تماما من حيث ما قد تكونه في ذاتها، ولكنا نعرفها بالتمثلات التي تتكون لدينا نتيجة لتأثيرها في حساسيتنا، وهي أشياء نسميها بالأجسام، وهي تسمية لا نعني بها إلا أنها ظاهرة لذلك الموضوع الذي هو مجهول لدينا، ولكنه مع ذلك حقيقي، أو يمكن تسمية هذا المذهب بالمثالية؟ إنه في الحق عكسها.»
21
على هذا النحو حاول كانت أن يفرق بين مذهبه وبين المثالية المعتادة أو التوكيدية، بل حاول أن يدفع عن مذهبه أصلا تهمة المثالية، كما نرى في هذا النص، ولنتساءل هنا: أي فارق هناك بين إنكار وجود الموضوعات الخارجية، والقول: إنها موجودة ولكنها غير معروفة لنا على حقيقتها؟ أو بعبارة أخرى: أي فارق هناك بين القول: إن ما نسميه بالموضوعات الخارجية راجع إلى الذات المفكرة، وبين القول: إن «ما نعرفه» عن هذه الموضوعات راجع إلى صورنا وقوالبنا الذاتية؟ إن هذين الموقفين - اللذين علق كانت أهمية كبرى على الفارق بينهما - ليس بينهما، في واقع الأمر، أي اختلاف جدي، ففي الحالتين تغلب فاعلية الذات على الموضوع الخارجي، أي إن الذهن إما أن «يخلق» هذا الموضوع أو «يشكله»، وليس هذا بالفارق الخطير؛ لأن الموقفين معا مضادان تماما للموقف الطبيعي، فالذهن في نظر الموقف الطبيعي يفهم أو يدرك الموضوعات التي تحتفظ باستقلالها عنه، أما في نظر كانت فهو العنصر الأساسي في إعطاء هذه الأشياء صورتها التي ندركها عليها، فإذا أدركنا أن العنصر الذي نعرفه من الأشياء هو العنصر الذي يهمنا فيها، وإذا أدركنا أن هذا العنصر - في نظر كانت - ذاتي لتبين لنا إلى أي حد يكون الاختلاف بين مثاليته «الاحتمالية» وبين المثالية التقليدية اختلافا لفظيا، إن كانت يؤكد أن الأشياء موجودة خارجنا، ويضيف إلى ذلك قوله: ولكنا لا نعرف عنها إلا ما وضعناه نحن - بوصفنا ذوات - فيها، أي إن الوجه المعروف للأشياء ذاتي، وقد يكون لها وجه موضوعي ولكنه مجهول تماما، وهنا نجد أن أهمية ذلك الوجه الموضوعي تتضاءل إلى حد لا يعود معه إلا تكملة فكرية للبناء المذهبي فحسب، فما قيمة ذلك الشيء الذي نقول عنه: إنه موجود، إن كنا لا نعرف عنه أي شيء؟ إنه «كيان عقلي
nouméne » يفترضه الذهن بالاستدلال، ولكن جهلنا التام به يجعله في حكم المنعدم، وعلى أية حال فإن المثالية التوكيدية حين أكدت أن الأشياء - من حيث هي أشياء في ذاتها لا وجود لها خارج الفكر - قد مهدت الطريق لخطوة كانت التالية، والقائلة: إن الأشياء - بوصفها ظواهر - توجد في المكان الذي هو «صورة الحاسة الخارجية»، والعلاقة الحقيقية بين كانت وبين المثالية هي علاقة اختلاف في اللغة المستخدمة فحسب، لا علاقة اختلاف أساسي في المذهب.
أما ذلك الاختلاف اللغوي الذي نتحدث عنه، فينحصر في أن كانت قد أكد أن الأشياء توجد بالفعل خارجنا، بمعنى أنها توجد في المكان، وإلى هذا الحد يبدو رأيه مضادا تماما للمثالية التوكيدية، ولكنه أكد في الوقت ذاته أن فكرة المكان نفسها ذاتية، وأن «الحس الخارجي» هو الذي يضفي على الأشياء هذا «الوجود في المكان»، وهنا تعود المثالية إلى الظهور من خلال هذه اللغة الجديدة التي استخدمها كانت، لغة المكان بوصفه «صورة ذاتية للحس الخارجي»، والموضوعات بوصفها «ظواهر» لا أشياء في ذاتها.
ولو بحثنا عن الأصل الأول لهذه اللغة الجديدة التي استخدمها كانت لوجدنا أنه الرأي القائل باستحالة الاستدلال من الإدراكات على الموضوع المسبب لها استدلالا مؤكدا، وباحتمال كون هذه العلة داخلية لا خارجية، فنتيجة لهذا الرأي وصل كانت إلى فكرة الموضوعات الخارجية بوصفها ظواهر، واستبعد تماما كل نظرة إليها على أنها أشياء في ذاتها، ولكن هل يجوز أن يطوف بالذهن مثل هذا الشك، أو يخطر له مثل هذا الاحتمال؟ إن كانت يصور الأمر كما لو كانت الذات تنسب بعض إدراكاتها إلى الحس الخارجي والبعض الآخر إلى الحس الباطن، ولكن كيف يحدث هذا؟ وما الذي يدفع الذات إلى هذا التقسيم؟ أهو تقسيم اعتباطي؟ أم أن هناك شيئا في طبيعة فئة من «الإدراكات» هو الذي يدفع الذات إلى أن تعدها «خارجية»؟ ومن أين أتت لدينا صورة المكان وفكرة الخارجية التي ننسبها إلى الأشياء؟ إن كانت ليعجز تماما عن الإجابة على هذا السؤال، فهو حين يتساءل: «كيف يكون من الممكن - في ذات مفكرة - وجود حدس خارجي، أي حدس للمكان بما تشغله من أشكال وحركات؟» يجيب بقوله: إن «هذا سؤال لا يتسنى لأحد أن يجيب عنه، فتلك الثغرة في معرفتنا لا يمكن ملؤها بأية حال، وكل ما يمكن عمله هو أن نشير إلى هذه الثغرة بأن ننسب المظاهر الخارجية إلى ذلك الموضوع الترنسندنتالي الذي هو سبب هذا النوع من المظاهر، والذي لا نعرف عنه - مع ذلك - أي شيء، ولن يكون لدينا أبدا أي تصور عنه.»
22
وهكذا يعترف كانت بعجزه عن تفسير تلك التفرقة التي تقوم بها الذات للتمثلات إلى فئتين تنتمي إحداهما إلى الحس الخارجي والأخرى إلى الحس الباطن، ويعترف بعجزه عن تفسير أصل ذلك الحدس الخارجي بما فيه من مكان، وحتى لو قال كانت بأن فكرة ترابط الإدراكات أو تسلسها حسب قاعدة معينة هي التي تفرق بين التمثلات التي ترتبط بموضوع وتلك التي لا ترتبط، فسنظل مع ذلك عاجزين عن الاهتداء إلى أساس للتفرقة بين النوعين، فكانت لا يحل المشكلة على الإطلاق حين يقول: إن الصفة التي تكتسبها التمثلات المرتبطة بموضوع هي «خضوع تلك التمثلات لقاعدة، بحيث يصبح من المحتم علينا ربطها في صورة محددة ما، وبالعكس لا تكتسب تمثلاتنا معنى موضوعيا إلا بقدر ما يكون من المحتم إخضاعها لقاعدة معينة من حيث علاقتها الزمنية.»
23
ولا جدال في أن هذه التفرقة صحيحة من حيث هي معيار لتلك المجموعة من الظواهر التي نسميها بالخارجية، ولكن وجه الاعتراض في هذه الحالة هو: كيف يمكن الانتفاع من هذه التفرقة في ضوء فلسفة كانت؟ ولنتساءل هنا أيضا: من أين أتت هذه القاعدة التي تخضع لها الظواهر المرتبطة بموضوع في ترتيبها الزمني؟ إذ إن القول بأنها تنتمي إلى تركيب الذات أو إلى طريقتنا الخاصة في الإدراك، لا يحل المشكلة: فلو كان الأمر كذلك، فسنظل نتساءل: لم كانت بعض الإدراكات ذاتية خالصة - كالأحلام - وبعضها الآخر ذاتية خاضعة في ترتيبها الزمني لقاعدة معينة كالإدراكات المرتبطة بالموضوعات؟ إذا كان سبب وجود هذه القاعدة هو طريقة الذات في المعرفة لكان من الواجب أن تسري هذه الطريقة على كل تمثلات الذات، ولكنها في الواقع تسري على فئة معينة من هذه التمثلات، فلا بد أن يرد انتظام هذه القاعدة إلى طبيعة الموضوع نفسه.
24
والواقع أننا لو سلمنا تماما مع كانت بوجود «طريقة للذات في المعرفة» - من صور للحس ومقولات للذهن - فسيظل من الخطأ أن يؤكد المرء أهمية هذا العنصر الذاتي ويركز جهده فيه كما فعل كانت، فهذا العنصر - لو سلمنا بوجوده - سيكون هو «الثابت» الذي لا يتبدل في المعرفة، ولو تدخلت الذات فسيكون ذلك في كل مرة على نحو مطرد، ولن يكون في وسعها أن تتدخل في الظروف الواحدة إلا على صورة واحدة، فإذا تساءلت عن الفارق بين مدركين يتمان في ظروف واحدة كمنضدة وكرسي متجاورين، فلن نستطيع إرجاع هذا الفارق بينهما إلى العنصر الذاتي، وإنما إلى العنصر الموضوعي الذي يؤدي تغيره إلى تغير الإدراك، ولما كان ما يهمنا حقيقة في المعرفة هو كشف العنصر الذي بفضله تتغير المدركات، ويكون كل مدرك على ما هو عليه، ويتميز به عن غيره، فلا جدوى في هذه الحالة من التنبيه إلى العنصر الذاتي الذي هو مشترك بين كل الإدراكات، بل ينبغي البحث عن سبب التغير في كل حالة، وهو العنصر الموضوعي.
وعلى من يشك في ذلك أن يجيب على هذا السؤال: إذا كانت الذات هي العنصر الإيجابي الفعال دائما في المعرفة، فما الذي يدفعها إلى «بعث» هذه المقولة أو هذه الصورة الحسية؟ إن الذات لو تركت وحدها لكانت استجابتها على الدوام واحدة، ولا بد أن شيئا خارجها هو الذي أدى بها إلى تغيير الصورة التي تصوغ بها المعرفة، حتى على افتراض وجود مثل هذه الصورة، وإذن فمن المستحيل تعليل تغير موضوعات المعرفة عن طريق الذات، بل إن الموضوع هو العنصر الوحيد الهام، ومن المؤسف أن كانت لم يركز جهوده إلا على العنصر الذاتي، وهو العنصر غير الهام في المعرفة، بينما كان الموضوع - سبب كل تغيير في المعرفة - مجرد «س» مجهولة لا يذكر عنها شيء إلا أنها قد تكون موجودة، ولكنا لا نعرف عنها شيئا، ولا يمكننا أن نفعل من أجلها شيئا أكثر من أن نقول: إننا لا نستطيع أن ننكر وجودها، ولكنا لا ندري ما هي! •••
ولعل هذه الأمثلة لآراء الفلاسفة المثاليين في فكرة العالم الخارجي تكفي لإثبات إخفاق المثالية التام في تفسير خارجية العالم، ولا جدال في أن القارئ قد لاحظ أن المعنى الذي استخدمناه لفكرة الخارجية هنا هو معنى «الاستقلال عن الذات»، بينما أهمل إلى حد ما معنى الخارجية المكانية؛ السبب في ذلك هو أن الشيء يكون خارجا عن «شيء آخر» إذا كان في مكان غير مكانه، أما حين تكون المقارنة بين الشيء وبين ذات مدركة، فمن المحال الأخذ بمعنى الخارجية المكانية إلا إذا نظرنا إلى الذات على أنها متجسمة في شكل مادي يشغل حيزا معينا فحسب، ولما كان هذا المعنى الأخير لا يستوعب جميع خصائص الذات المدركة - التي هي «قوة للإدراك» إلى جانب كونها ذات حيز مكاني - فليس من الممكن الأخذ بمعنى المكانية في هذا الصدد، ولا بد من البحث عن معنى آخر للخارجية، ومن هنا كان معنى «الاستقلال عن الذات» هو أفضل معنى لخارجية الأشياء، فحين نقول: إن العالم يوجد خارج الذات، نعني أنه مستقل في وجوده عنها، ومصير فكرة خارجية العالم يرتبط في الواقع بفكرة استقلال العالم في وجود من الذات.
ولقد تبين لنا من الأمثلة السابقة مدى إخفاق المحاولات التي تبذلها الفلسفة المثالية للقضاء على فكرة استقلال العالم الخارجي هذه، فجميع هذه المحاولات الهادفة إلى تأكيد دور «الذات» في تمثلنا لهذا العالم الخارجي تخفق أساسا في تفسير أصل ذلك الاعتقاد المتأصل بوجود العالم الخارجي أو تعليل التفرقة القاطعة التي تضعها التجربة البشرية بين مجموعتي الظواهر الداخلية والخارجية، حقا إن المثاليين قد ينجحون أحيانا في إثارة الشك في النفوس بالإشارة إلى تلك الحالات «الحدودية» التي لا يكاد المرء يوقن فيها إن كانت التجربة خارجية أو داخلية، كحالات الأحلام وخداع الحواس، غير أن من اليسير إيجاد أساس للتفرقة إذا جمعنا بين معيار «استقلال الظواهر عن الإرادة» الذي قال به ديكارت ومعيار «اتساق الظواهر وترابطها حسب قاعدة محددة» الذي قال به كانت، ففي كل حالات الشك هذه، يكفي لإثبات خارجية موضوع التجربة أن تكون التجربة - من جهة - مستقلة عن إرادة الفرد غير نابعة من تخيله المتعمد، وأن تكون - من جهة أخرى - متسقة مع بقية عناصر التجربة ومرتبطة بها ارتباطا محكما، وكما أثبتنا من قبل فإن أصل هذا الاستقلال عن الإرادة الذاتية والإحكام بين عناصر التجربة البشرية لا يمكن أن يكون هو الذات وحدها، التي يتبدى نشاطها جليا في نوع آخر من التجارب المعتمدة تماما على إرادة الفرد كتخيلات الإنسان التي يبعثها متى شاء ودون أي ارتباط محكم ببقية تجاربه، والأمر الذي أخفقت فيه المثالية إخفاقا أساسيا، هو تعليل تلك الصفات القاطعة التي تتميز بها تلك المجموعة من الظواهر المسماة بالخارجية، فجميع التعليلات «الذاتية» تنتمي - كما رأينا - إما إلى الاعتراف بالعجز عن تفسير عنصر أساسي في التجربة البشرية، وهو عنصر الإحساس أو «المعطى» كما في حالة هيوم وكانت، أو تغطية هذا العجز بافتراض إيماني لا يقدم له أي برهان، ويؤدي إلى تكوين صورة للعالم الخارجي وعلاقته بالذات المدركة أغرب وأبعد عن الفهم ألف مرة من الصورة المألوفة في الموقف الطبيعي، كما في حالة باركلي.
ومن الغريب أن المثاليين - في الوقت الذي يبذلون فيه جهودا جمة من أجل «رد» العالم الخارجي إلى الذات على نحو ما، ويتفننون في تقسيم قوى الذات على النحو الذي يكفل لها «بعث» كل التمثلات المتعلقة بالعالم الخارجي - يصمتون تماما فيما يتعلق بأصل هذه «الذات» نفسها، فهم يبدون روحا نقدية شكاكة بالنسبة إلى طرف واحد، هو الطرف الموضوعي، أما الطرف الثاني فيأخذونه على علاته، وينسبون إليه ما شاءوا من القدرات دون أية محاولة لتعليل أصل هذه القدرات، وإذا كانت الفلسفة قد أسرفت في الكلام عن العالم الخارجي من حيث هو نتيجة لفاعلية الذات، ألا يحق لها أن تبحث قليلا في الذات وفي أصلها، فربما اهتدت عندئذ إلى نوع من التأثير للعالم الخارجي نفسه في تركيب الذات؟ وعلى أية حال، فالتفكير المنطقي ينبغي أن يكون منطقيا في كل شيء، والذهن المنقب لا ينبغي أن يسكت على بعض الظواهر ويفتش عن أصل بعضها الآخر، وسكوت المثالية التام على فكرة الذات وقدراتها وصورها ومقولاتها - التي تفترض افتراضا دون أية محاولة للتعليل - هو، بلا شك، قصور لا يتمشى، على الإطلاق، مع روح الشك التي تبديها إزاء فكرة العالم الخارجي كما تتبدى في الموقف الطبيعي.
دور العقل في مشكلة المعرفة
كثيرا ما نستخدم في أحاديثنا المعتادة عبارة: لن أصدق حتى أرى بعيني! وقد يكون قائل هذه العبارة قد استمع إلى حجج ذات مظهر مقنع تماما من الوجهة العقلية الخالصة، ولكنه - إذ يقول هذه العبارة - يفترض مقدما أن أي برهان منطقي لا يرقى أبدا - في درجة إقناعه - إلى مرتبة «الرؤية» المباشرة، وأن المشاهدة بالعين أصدق إنباء من أية حجة عقلية. وكم حدث أن رويت لنا أمور تبدو غير مقنعة لعقولنا، ثم تبدد كل شك بشأنها حين أكد لنا مصدر موثوق منه أنه شاهد الواقعة موضوع الخلاف بنفسه، أو سمع الأصوات المشكوك فيها بأذنيه، وكلنا نعرف حالة ذلك الشخص المعدم الذي تهبط عليه ثروة مفاجئة، فيظل فترة ما غير موقن إن كان الأمر حقيقة أم أنه في حلم، يكون خلالها في حاجة إلى تنبيه حسي شديد حتى يدرك أنه لا يحلم، وأن ما يحدث حقيقة واقعة!
في كل هذه الحالات تعبير عن إيماننا - عن حق - بأن هناك أمورا معينة تكون شهادة الإدراك المباشر فيها أقوى من شهادة العقل مهما كانت حججه مقنعة، هذه الأمور هي المتعلقة - في معظم الأحيان - بوجود الأشياء، بل إن انتشار قدر كبير من الخرافات كان راجعا، لا إلى اقتناع الناس بها عقليا، بل اعتقادهم بأن موضوعاتها قد أدركت: فإيمان الناس فترة طويلة بوجود الأشباح لم يكن سببه قوة الحجج التي عرضت عليهم لإثبات وجود الأشباح، وإنما كون أشخاص كثيرين قد ظلوا يرددون فترة طويلة - في مختلف الأزمنة والأمكنة - أنهم «رأوا» الأشباح بأعينهم، أو أدركوها على أي نحو آخر من أنحاء الإدراك المباشر، ولا شك في أن شهادة هؤلاء الناس كانت كاذبة، ولكن الإيمان الكامل من ورائها صحيح، وأعني به الإيمان بأن المعيار الحاسم لوجود الأشياء هو إدراكها لا البرهنة عليها، وهو إيمان قد يصل في قوته إلى حد إقناع الجزء الأكبر من البشر وقتا طويلا من تاريخها بوجود أشياء خرافية كالأشباح.
هذا الاعتقاد السليم بأن الإدراك - لا البرهان العقلي - هو المعيار الحاسم في الأمور المتعلقة بوجود الأشياء كان إذن - ولا يزال - متأصلا في نفوس الناس، ولكن الفلسفة المثالية تعكس هذا الاتجاه؛ إذ تحاول منذ البداية أن تركز جهودها في «إثبات» وجود العالم الخارجي، وموضع الخلاف بين الموقف الطبيعي والموقف المثالي أن الإنسان - في الموقف الأول - لا يحاول «إثبات» وجود العالم الخارجي، ولا يثير هذه المشكلة أصلا؛ لسبب بسيط هو أنه إذا وجد الإدراك ووجد الإثبات العقلي - فيما يتعلق بوجود أي شيء - فإنه يرجح كفة الأول على الثاني حتما، بل يعد شهادة الأول هي الحاسمة، ويرى من الضروري أن يطرح الثاني جانبا دون أي تردد، وهكذا لا يستخدم الإنسان عقله - في موقفه الطبيعي - لإثبات وجود الأشياء، أي إنه لا «يفكر» في مشكلة وجود العالم الخارجي، فتكون النتيجة أن يسمى عدم تفكيره هذا «سذاجة»، ويصبح الموقف الطبيعي في نظر الفلسفة تعبيرا عن «الواقعية الساذجة»، ولكن هل دار بخلد الفلاسفة وقتا ما أن هذه قد لا تكون سذاجة، بل قد تكون هي الوسيلة الوحيدة الممكنة للسلوك إزاء مشكلة كهذه؟ وهل خطر لهم أن «جميع براهينهم» لإثبات وجود العالم الخارجي قد تكون سائرة كلها في اتجاه باطل، بغض النظر عن القيمة المنطقية أو الإقناعية لهذه البراهين؛ لأن المسألة - منذ البداية - من ذلك النوع الذي يحسمه قولنا: «أرني إياه!» أكثر مما يحسمه قولنا: «أثبته لي»؟ أو بعبارة أخرى: هل فكروا في احتمال كون الإيمان الطبيعي بوجود العالم الخارجي - نتيجة لإدراكه - أقوى وأفعل ألف مرة من الإيمان به أو إنكاره نتيجة لبرهان عقلي؟ هذه كلها أسئلة مشروعة تماما، وهي ترتد في النهاية إلى إدراك طبيعة مشكلة وجود العالم الخارجي: لو فهمت هذه المشكلة على حقيقتها، وحدد المجال الحقيقي الذي تنتمي إليه، لأمكن حسم الخلاف فيها بطريقة أيسر بكثير مما لو ظل النقاش دائرا حولها دون أي تحليل لطبيعة المشكلة. والواقع أن مشكلة وجود العالم الخارجي - وهي أهم المشاكل التي تعالجها نظرية المعرفة - تختلف عن كثير من المشاكل الفلسفية الأخرى في أنها لا تتعلق بشيء ينبغي استنباطه، بل تتعلق بوجود مدرك بالفعل، فالقواعد الأخلاقية مثلا في حاجة إلى استنباط أو تبرير، وكذلك الحال في القواعد المنطقية والجمالية، أما مشكلة العالم الخارجي فلها طبيعة مختلفة تماما: إنها مشكلة شيء ندركه في موقفنا الطبيعي على أنه موجود فعلا، ولا يثار في ذهننا أي شك بشأنه، ولكن الفلاسفة هم الذين يثيرون هذه الشكوك حين يحاولون إخضاع هذا الوجود للبرهان، أي حين يقولون للإنسان في موقفه الطبيعي: صحيح أنك تدرك هذا العالم وتراه أو تلمسه ... إلخ، ولكن هل لديك إثبات أو برهان عليه؟ والقضية التي ندافع عنها في هذا الفصل هي أن هذا السؤال غير مشروع؛ لأن الإثبات أو البرهان - في المسائل المتعلقة بوجود الأشياء - لا محل له إذا كانت الأشياء مدركة بالفعل، أي إن مهمتنا هنا هي أن نرد على أصحاب الاتجاهات الفلسفية المثالية بقولنا: ولكن المشكلة أصلا تتعلق بميدان لا مجال فيه للبرهان، طالما أن الإدراك يقوم بدوره! فلنبين الآن إلى أي حد أخطأت المثالية بمحاولتها «البرهنة» على وجود العالم الخارجي. •••
من المعروف أن ديكارت قد بدأ تفلسفه بالشك في وجود العالم الخارجي على أسس مختلفة من بينها إمكان خداع الحواس والخلط بين الحلم واليقظة إلخ، وفي هذا الشك عبر ديكارت عن عدم اكتفائه بإدراك العالم بوصفه وسيلة للتأكد من وجوده، وسعى إلى البحث عن وسيلة أخرى من وسائل الإثبات، ومن المعروف أيضا أن ديكارت قد استعاد ثقته في وجود العالم الخارجي بعد أن تأكد من وجود الله، ومن أن الله لا يخدع، وهو يشرح في كتاب مبادئ الفلسفة (القسم الأول من الجزء الثاني) «براهينه» على وجود الأجسام المادية، فيقول: «إن في مشاعر وأحاسيس لا أبعثها في نفسي كلما شئت وكما شئت، بل إن شيئا ما هو الذي يبعثها في، وقد يقال: إن الله هو الذي يبعث فينا إحساسا بوجود هذا الشيء الممتد طولا وعرضا وعمقا، أو إنه يدفع شيئا ليست له مثل هذه الطبيعة إلى بعث هذا الإحساس فينا،
1
ولكن هذا معناه أن الله يخدعنا، وهو أمر مخالف لطبيعته، فلا بد أن يكون هناك بالفعل جوهر ممتد يوجد في العالم، له كل ما نعرفه عنه من خصائص.»
وإذن فديكارت لا يقنع بأن العالم الخارجي موجود؛ لأنه حقيقة مدركة، بل يريد «برهانا» على وجوده، ويستمد هذا البرهان بطريقة غير مباشرة من فكرة الكوجيتو، وهو لا يعترف بوجود هذا العالم إلا على أساس ذلك البرهان الذي يسير فيه شوطا طويلا: من الشك إلى الكوجيتو إلى وجود الله ومنه إلى وجود العالم، ولو لم يوجد الإله الكامل الذي يرتكز عليه الاعتقاد بوجود العالم لما منعنا شيء من الاعتقاد بأن المسألة كلها خداع، والواقع أن مشكلة ديكارت - من أساسها - لم تكن مشكلة عدم اعتراف بوجود العالم الخارجي كما هي الحال لدى كثير من المثاليين التالين، وإنما مشكلة جعل ذلك الوجود مقيدا بشرط الإتيان ببرهان عليه، وترك ذلك العالم معلقا أو موضوعا بين قوسين إلى أن يستطيع العودة إليه عن طريق وسائط أخرى، والسؤال الذي ينبغي ألا يكف المرء عن ترديده في هذه الحالة هو: أليس وجود العالم في غنى عن البرهان؛ لأنه أسبق من البرهان؟ وهل تعد طريقة البرهان العقلي أفضل طريقة للتأكد من هذا الوجود؟ ولو فرضنا أنه ظهرت حجة تزعزع هذا البرهان أو تقضي عليه، فهل يعني ذلك أن اعتقادنا بوجود العالم الخارجي وسلوكنا فيه سيظل معطلا حتى يتم «إصلاح» البرهان أو إبداله؟
فإذا انتقلنا إلى هيوم لوجدناه يعبر عن نفس الفكرة العامة تعبيرا مختلفا إلى حد ما: فعنده أن الإيمان «الطبيعي» بوجود الأشياء وجودا مستمرا ومستقلا عن الذهن هو إيمان لا يقوم على أساس فلسفي، ولا يرتكز على العقل مطلقا، ويحدد هيوم لنفسه مهمة تحليل هذا الإيمان من الوجهة الفلسفية، وإثبات مدى الخطأ العقلي فيه، ويدرك هيوم بكل وضوح أن فكرة وجود الأشياء وجودا متميزا مستمرا هي فكرة بعيدة تماما عن العقل، وأنها لا بد ناتجة عن ملكة أخرى غير الفهم،
2
ولكنه يصر على أن يختبر هذه الفكرة في ضوء العقل، ليثبت أوجه الخطأ فيها، أي إن تلك التجربة التي تمارسها البشرية كلها، وتؤكد صحتها في تصرفاتها العملية، تجربة غير موثوق منها طالما أن التحليل العقلي لا يدعمها.
وكما قلنا من قبل، فليست مهمتنا هنا هي بحث الحجج العقلية التي يرتكز عليها هيوم أو غيره في هذا الصدد، وإنما هي البحث فيما إذا كان وجود العالم الخارجي مشكلة تخضع للحجج العقلية وتحسمها هذه الحجج أصلا، وفي فلسفة هيوم أوضح مثل لحالة المفكر الذي يشك في اعتقادنا بوجود العالم الخارجي بأسره على أساس أن هذا الاعتقاد لا يرتكز على حجج عقلية، وهو لا يثق بتجربة الناس المباشرة في هذا الميدان، ولا يبحث في احتمال كون الاستدلال العقلي غير مثمر في هذا الميدان الذي لا يؤلف معرفة مستمدة، بل تجربة مباشرة أصلية تستمد منها معارف أخرى فيما بعد، وهو يطلب برهانا ودليلا على شيء لا مجال فيه للبرهان؛ لأنه أساس كل معرفة وموقف فكري أو عملي لنا، وبعبارة أخرى: فهيوم وأمثاله من الفلاسفة ذوي الاتجاهات المثالية يبحثون عن «أسباب» لظاهرة لا تحتاج إلى تقديم «أسباب»؛ لأنها قائمة قبل كل تبرير، ولقد روى هيوم عن نفسه أنه كان أحيانا يغادر غرفة مكتبه ويختلط بالآخرين لكي يتأكد من أنهم - ومعهم العالم الخارجي - موجودون بالفعل! وهذه القصة تدل على مدى سيطرة الرغبة في الحصول على براهين عقلية على تفكيره في هذه المسألة، ولكن الأبلغ دلالة من ذلك، هو أن هذه البراهين لم تكن توصله إلى شيء وهو قابع في غرفته، وكان الحل الذي يعيد إليه ثقته بوجود العالم هو أن يطل على الناس أو يختلط بهم، أي أن يمارس تجربة إدراك العالم الخارجي بالفعل، ولا جدال في أن هذه التجربة كانت أقوى إقناعا له - في هذه اللحظات - من جميع الحجج العقلية، ومع ذلك فهل توصل هيوم إلى استخلاص الدلالة الحقيقية لقصته هذه؟!
وينبغي أن يلاحظ أن الرأي الذي نقول به ليس رأيا شاذا وسط إجماع عام من الفلاسفة على الرأي المضاد، بل إن في وسعنا أن نجد تأييدا له لدى بعض الفلاسفة، ففي رسالة إسبينوز لرقم 56 إلى «هوجو بوكسل
Hugo Boxel » يقول: «من الصحيح تماما أننا كثيرا ما نسلك في العالم بالتخمين، ولكن من غير الصحيح أننا نمضي في تأملاتنا بالتخمين، فنحن مضطرون في الحياة المعتادة إلى السير وفقا لما هو مرجح، أما في تأملاتنا النظرية فإن غايتنا هي الحقيقة، وإن المرء ليهلك جوعا وعطشا إذا رفض أن يشرب ويأكل إلا بعد أن يثبت إثباتا كاملا أن المأكل والمشرب نافعان، والأمر ليس كذلك في الفكر.»
3
كذلك يحذرنا شوبنهور من الإفراط في الاعتماد على البرهان، مؤكدا وجود حقائق لا تنفع فيها المعرفة البرهانية، فيتحدث عن وجود خطأ قديم يقول: «إن كل ما يبرهن عليه هو وحده الصحيح صحة مطلقة، ولكن كل برهان أو دليل يقتضي - على العكس من ذلك - حقيقة غير مبرهن عليها ...» وإذن فالحقيقة المباشرة تفضل على الحقيقة المقررة بالبرهان مثلما يفضل ماء النبع على ماء المضخات ... فالأحكام المستمدة من الإدراك مباشرة والمبنية عليه - من دون أي برهان - لا الأحكام المبرهن عليها أو أدلتها، هي التي تكون للعلم بمثابة الشمس للعالم؛ إذ ينبع منها كل ضوء،
4
وصحيح أن شوبنهور كان يرمي من هذا الكلام إلى هدف مخالف تماما لفكرة تأييد وجود العالم الخارجي، ولكنه يتضمن - بلا شك - تحذيرا من الإفراط في استخدام البراهين العقلية، وتنبيها إلى ضرورة البحث في طبيعة الميدان الذي نعالجه لكي نكون على ثقة من أنه ميدان يقبل هذه البراهين أصلا، ومثل هذا التحذير يفيد - بلا شك - فائدة خاصة في مشكلة وجود العالم الخارجي.
أما لوك فإنه يعرب صراحة عن إيمانه بأن معرفتنا بوجود الأشياء لا ينبغي أن ترد إلى الذهن، فالوسيلة الوحيدة لهذه المعرفة في رأيه هي الإحساس، ولا يمكن عن طريق الأفكار الذهنية وحدها إثبات وجود موضوع للفكرة، مثلما لا يمكن إثبات وجود الإنسان من صورته المرسومة: «وإذن فالتلقي الفعلي لأفكار من الخارج هو الذي ينبئنا بوجود الأشياء الأخرى، ويجعلنا ندرك أن شيئا يوجد في ذلك الوقت خارجنا، ويسبب فينا تلك الفكرة، والدليل الأقوى على ذلك هو شهادة الحواس التي يصفها هنا بأنها الحكم الوحيد الصحيح في هذا الميدان،
5
ويؤكد لوك أن من الخطأ تقديم أسباب وبراهين، أو توقع مثل هذه الأسباب والبراهين في الأمور التي لا تقبل البرهنة أو التعليل، ومثل هذا الشخص الذي يطلب البرهنة على كل شيء، ولا يقبل إلا ما هو ثابت بالبرهان، معرض للفناء السريع.
6
بل إن لوك يعبر عن رأيه بصراحة قد يصفها الفلاسفة بأنها «ساذجة» حين يقول: «لا أظن أن أحدا يبلغ به الشك جادا إلى الحد الذي يرتاب معه في وجود الأشياء التي يراها ويحسها.»
7
ولسنا ندري ماذا كان لوك يقول لو اطلع على الاتجاهات المثالية التي ظهرت من بعده والتي تأثر بعض ممثليها بفلسفته هو ذاته، والأغلب أنه لم يكن عندئذ ليشك في «جدية» القائلين بهذه الآراء، وكل ما في الأمر أنه كان سيرجعها إلى الإفراط في طلب البرهنة على الأمور التي لا تحتاج إلى برهان.
ولنلاحظ أن إشارة لوك إلى تعرض من يطلبون برهانا على كل شيء للفناء السريع لها مغزى كبير في هذا الصدد، فهو هنا يشير إلى الضرر العملي الذي يجلبه الإفراط في طلب البراهين؛ إذ إن إمكان حياة الإنسان العملية يقتضي الاكتفاء بالتجارب المباشرة في المواقف التي يتعامل فيها الإنسان مع الأشياء، وعدم الإصرار على طلب برهان على وجود هذه الأشياء؛ أولا: لأن هذا البرهان قد يكون مستحيلا، كما أثبت ذلك فلاسفة كثيرون عجزوا عن الاهتداء إليه، وثانيا: لأنه يعوق سير السلوك العملي في مجراه الطبيعي، بحيث يبدو التفكير الفلسفي الذي يمارس بحثا عن هذه البراهين أشبه بقوة تعطل الحياة عن السير في مجراها الطبيعي، بل تؤدي إلى توقفها التام في نهاية الأمر.
ولنتوسع قليلا في مسألة الصلة بين فكرة وجود العالم الخارجي هذه، وبين سلوك الإنسان العملي في الحياة، فهناك في حياة الإنسان أمور واضحة لا ينكر الإنسان وجودها على الإطلاق، ولكنه يظل دائما عاجزا عن إثباتها، فهل يعني ذلك عدم وجودها؟ ولنضرب لهذه الأمور مثلا مشهورا، هو حجج زينون لإثبات بطلان الحركة، فهذه الحجج ما زالت لها جديتها، وما زال الفلاسفة يناقشونه بوصفها مشكلة فلسفية حقيقية حتى اليوم، ولكن رغم منطقية هذه الحجج، فهل شك أحد في ظاهرة الحركة ذاتها؟ الواقع أن شيئا من ذلك لم يحدث، ولم تكن المشكلة في واقع الأمر هي: هل للحركة وجود بعد كل هذه الاعتراضات؟ وإنما هي: كيف نتخلص من المشاكل المنطقية التي تثيرها حجج زينون؟ وكيف يمكن التغلب على هذه الصعوبات؟ ولكن لماذا لا نشك في وجود الحركة رغم إثارة هذه الحجج التي لا تدحض؟ ذلك لأن ظاهرة الحركة ليست في حاجة إلى تحليل وتبرير منطقي؛ لأنها توجد بالفعل، وتمارس على الدوام في عالم الأحياء وغير الأحياء، ومهما كان للحجة الفلسفية من قوة فليس في وسعها أن تهدم اعتقادنا بوجود ما ندركه أو نمارسه عمليا بلا انقطاع، والواقع أنني لا أعتقد أن حجج زينون لها تلك الأهمية التي ظل المفكرون يعزونها إليها حتى اليوم؛ إذ إنها لا تعدو - في نظري - أن تكون مثالا لمحاولة باطلة لتطبيق البراهين العقلية على ميدان لا يقبل هذه البراهين. ولست أعتقد أن من واجب المفكرين أن يولوا أهمية كبيرة - كما فعل رسل وكثير من المناطقة الرياضيين المحدثين - لحجة كتلك القائلة: إن من المستحيل قطع مسافة ما؛ لأن ذلك معناه قطع نصف المسافة ثم نصف النصف ويليه نصف النصف الباقي، وهكذا إلى ما لا نهاية، مثل هذه الحجة - في رأيي - لا تستحق كل ما أبدى نحوها من الاهتمام؛ لأنها لو طبقت في أي ميدان آخر فستجعل كل الأفعال مستحيلة: فمثلا أستطيع أن أقول: إني لن أشرب كوب الماء كله؛ لأني سأشرب أولا نصفه ثم نصف النصف إلخ، ولن أقرأ هذه الصفحة كلها؛ لأني سأقرأ أولا نصفها ثم نصف النصف ... إلخ، ولن أصعد سلم داري لأني سأصعد أولا نصف الدرج ثم نصف النصف إلخ ...
وهكذا تؤدي نفس الحجة - إذا طبقت على أي فعل بشري (لا على الحركة فحسب) - إلى استحالته تماما، ومثل هذه النتائج الغريبة ذاتها ينبغي أن تؤدي بنا إلى الإقلال من قيمة هذه الحجة، ولا بد أن يكون هناك بطلان في أي استدلال فكري تكون له مثل هذه النتائج؛ لأنني بالفعل أشرب كوب الماء كله، وأقرأ الصفحة كلها، وأصعد كل سلالم داري، ولأن الحركة موجودة، ولولاها لما كانت الحياة.
ونستطيع أن نقول: إن هذا هو الفارق بين طريقة التفكير التي ترتكز على الموقف الطبيعي وطريقة التفكير المثالية، فإذا صادفت الأولى حجة تؤدي إلى نتيجة مستحيلة كالنتائج السابقة رفضتها على التو، مهما بدا لهذه الحجة من قيمة منطقية، طالما أن نتائجها تناقض الواقع الفعلي الملموس، ومن الممكن أن يأتي بعد ذلك تفنيد منطقي مفصل لهذه الحجة،
8
ولكن المهم في الأمر أن منافاة نتائجها للواقع الفعلي تكفي «وحدها» لاستبعاد الحجة فورا، أما طريقة التفكير المثالية فتقبل الحجة على أساس ما يبدو لها من تماسك منطقي، ولا تجد غضاضة في إنكار الواقع الملموس ذاته إذا تنافى معها.
والواقع أن هناك أمورا عديدة واضحة كل الوضوح، ويثبتها الواقع العملي كل لحظة، ولكن يصعب - وربما يستحيل - إيجاد «برهان» لها، بل إنه يبدو أنه كلما ازداد الشيء وضوحا، كان الإتيان ببرهان لإثباته أصعب، ولكن النقد في مثل هذه الحالات ينبغي أن يوجه إلى محاولة البحث عن برهان، لا إلى وضوح الشيء ذاته، فما أصعب أن يثبت المرء أن هذه الورقة التي أكتب عليها بيضاء (إلا بقياس ذبذبة الصوت، وهي عملية عظيمة التعقيد، ولا تؤلف «برهانا» بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة)، ولنفرض أنك أبديت لصديقك في يوم مشمس إعجابك بالدفء الذي تبعثه الشمس، فأجاب: أثبت لي أن الشمس طالعة، فهل يكون من السهل الإتيان بمثل هذا الإثبات؟ وهلا يكون أفضل رد في هذه الحالة هو الإشارة إلى عملية الإدراك ذاتها، واستبعاد طلب الإثبات في الحالات التي تحدث فيها هذه العملية؟
إن الاستدلال أو البرهان العقلي - في نهاية الأمر - لا يعدو أن يكون مجموعة من الأفكار، والأفكار لا تستطيع وحدها أن تنفي وجود شيء ندركه بالفعل؛ لأن هذا خارج عن نطاق قدرتها، والواقع أن الحاجة إلى البرهنة على وجود شيء تقوم في الحالات التي لا يستطيع المرء فيها أن يدرك الموضوع أو أن يحسه مباشرة، وربما كان تعريف البرهان ذاته - في الحالات المتعلقة بوجود الأشياء - هو أنه إثبات ما لا يدرك، أي إن عدم القدرة على الإدراك شرط أساسي لمجرد التفكير في البحث عن برهان، فنقطة البداية في أي بحث عن وجود شيء ما ينبغي أن تكون السعي إلى إثبات كون موضوعه قابلا للإدراك المباشر، فإذا أمكن ذلك عدت النتيجة منتهية، أما إذا لم يكن فعندئذ يبدأ البحث عن برهان، وبعبارة أخرى: فإن السعي إلى البرهنة على الوجود في الحالات التي يكون فيها الشيء قابلا لأن يدرك - أي في حالة مثل وجود العالم الخارجي - هو فكرة منافية لطبيعة البرهان ذاته.
المثالية ومحتوى المعرفة
يتناول هذا الفصل بالمناقشة مشكلة تأثير المثالية في موقف الإنسان من الوقائع الفعلية، ويبحث في تلك الظاهرة الفريدة: ظاهرة التضاد التام بين المواقف العملية والأفكار النظرية للفيلسوف المثالي، ويحاول استخلاص دلالة هذا التضاد.
ومن الواضح أن للمرء كل الحق في أن ينتظر من المثالية أن تؤثر في مواقف الإنسان العملية إزاء موضوعات أو أشياء هذا العالم؛ ذلك لأن المثالية تبدي رأيا محددا واضح المعالم في «طريقة وجود» هذه الموضوعات وعلاقتها بنا، ومن المعقول تماما أن يكون لهذا الرأي انعكاس على تصرفاتنا إزاء هذه الأشياء: فعندما كان الناس يؤمنون بأن محاصيلهم هبة من إله الزرع أو الخصب، كانوا يركزون جهودهم في الصلاة لذلك الإله ويتركون زرعهم تحت رحمته، أما عندما أصبحوا يؤمنون بأن جودة محاصيلهم تتوقف على ما يبذلونه فيها من جهد، فإن نشاطهم تحول من الصلاة لإله الزرع إلى رعاية الأرض وتعهد النبات، وهكذا يؤدي تغيير طريقة التفكير النظري في الأشياء إلى تغيير في طريقة التعامل مع هذه الأشياء، ومن هنا كان من المشروع جدا أن ننتظر من المثالية - طالما أنها تفكر نظريا في مشكلة العالم الخارجي على نحو مخالف للطريقة التي تفكر بها في موقفنا الطبيعي - أن تؤدي إلى تصرفات عملية مخالفة لتصرفات الإنسان المألوفة إزاء العالم الخارجي في ظل الموقف الطبيعي، أو بعبارة أخرى: فإن الإنسان في موقفه الطبيعي يعد الأشياء ذات وجود خارج ومستقل عنه، ويتصرف عمليا على هذا الأساس، وها هو ذا المثالي يعد الأشياء ذات وجود غير مستقل عن الذهن - بمعان مختلفة لهذه الكلمة - فلماذا إذن لا يتصورها على أساس اعتقاده هذا؟ ولماذا لم نجد مثاليا واحدا يعامل الأشياء كما لو كانت «ذهنية» بالفعل، أي يستخرج النتائج العملية المتوقعة من تفكيره النظري، ويتصرف على أساسها؟
إن باحثي الفلسفة - فيما أعلم - لم يعيروا اهتماما كبيرا لمشكلة التباين بين التفكير النظري والتصرف العملي للفلاسفة المثاليين، وربما كانوا ينظرون إلى المشكلة على أنها - في أساسها - «ساذجة»، ولكني لا أرى على الإطلاق ما يدعو إلى الاستخفاف بها، بل إنني أعتقد أن من الواجبات المقدسة لكل باحث نزيه في الفلسفة أن يفكر مليا في هذا التعارض، ويحاول استخلاص دلالته الحقيقية، وعلينا دائما - إذا شئنا أن نناقش هذه المسألة مناقشة لا تغفل أي طرف من أطرافها - أن نسأل المثالي: إذا كنت حقا تؤمن بأن العالم الخارجي معتمد على الذهن، فلماذا لا تتعامل مع ذلك العالم على هذا الأساس؟ ولماذا تسلك دائما في حياتك العملية كما لو كنت مؤمنا «بالواقعية الساذجة» التي تعد الخروج عنها أول شروط التفلسف؟
ولست أدري ماذا ستكون إجابة المثالي على هذا السؤال، ولكن الإجابة الواضحة في رأيي - سواء أتت من جانب المثالي أو غيره - هي أن التعامل مع العالم الخارجي مستحيل إلا على أساس الموقف الطبيعي، فالشخص الذي يعامل الأشياء على أنها «ذهنية»، ويتصرف في حياته العملية تصرفا متسقا مع هذا التفكير، معرض للفناء لتوه، والشخص الذي يتعامل مع بقية الناس على أساس إنكار وجود الأذهان الأخرى أو الشك في وجود هذه الأذهان - وهي فكرة غير أصيلة - معرض للاصطدام الدائم - وربما الضار - بهؤلاء الناس، ولا أظن أن تاريخ الفكر قد عرف شخصا استطاع أن يوفق بين اعتقاداته المثالية وطريقة نظرته إلى الأشياء وإلى بقية الناس.
وبعبارة أخرى: فالمثالية - على الرغم من أنها تتناول نظريا مشكلة الموضوعات الفعلية الموجودة في هذا العالم - لا تؤدي إلى أي تغيير فعلي في موقف الإنسان العملي من هذه الموضوعات، أي إن صورة العالم كما ترسمها المثالية ستظل، من الوجهة العملية، هي نفسها صورة العالم كما يكونها الإنسان في موقفه الطبيعي، ولكن مصوغة في «لغة أخرى»، فلنحاول إذن أن نثبت - بشيء من التفصيل - الفكرة القائلة: إن المثالية مجرد «لغة أخرى» لا تؤثر في صورة العالم الفعلية أدنى تأثير. •••
ففي فلسفة باركلي المثالية تظهر محاولة من أكثر المحاولات تطرفا لإنكار الوجود المستقل والمتميز للعالم الخارجي، ومع ذلك فقد اعترف باركلي نفسه بأن صورة العالم النهائية لن تتغير - من الناحية العملية - عن صورته المألوفة في الموقف الطبيعي، «فإذا كنت تعني بالأفكار
ideas
الموضوعات المباشرة للفهم، أو الأشياء المحسوسة التي لا يمكن أن توجد غير مدركة أو خارج ذهن، فإن هذه الأشياء (الشمس، القمر، النجوم، الأرض، إلخ ...) أفكار، أما تسميتك لها بالأفكار فأمر ليست له أهمية كبرى؛ إذ الفارق كله يدور حول اسم، وسواء احتفظ بهذا الاسم أم لم يحتفظ به فإن معنى الأشياء وحقيقتها يظل كما هو، ونحن في حديثنا المعتاد لا نسمي موضوعات حواسنا أفكارا وإنما أشياء، فلتظل تطلق عليها هذا الاسم، شريطة ألا تنسب إليها أي وجود خارجي مطلق، ولن أتنازع معك أبدا حول كلمة.»
1
وهنا يظهر بوضوح أن هدف باركلي الأساسي هو إنكار الوجود الخارجي المطلق للأشياء، مع الاعتراف بأن الأشياء - من حيث حقيقتها وواقعيتها - ستظل كما هي، وتتحدد هذه الفكرة بمزيد من الوضوح في مواضع أخرى كثيرة من كتابات باركلي يحرص فيها على أن يؤكد أن حقيقة العالم لا تتأثر على الإطلاق بنظريته، وأن كل الظواهر والقوانين الطبيعية تظل كما هي، وكل ما في الأمر أنها في فلسفته تفسر على أساس الأفكار لا المادة.
2
ويضرب باركلي مثلا له دلالة بالغة في هذا الصدد: «فلنفرض - وهو فرض لا ينكر أحد إمكانه - أن هناك عقلا يتأثر، دون مساعدة أجسام خارجية، بنفس سلسلة الإحساسات أو الأفكار التي تتأثر أنت بها، منطبعة في ذهنه بنفس الترتيب والحيوية، فهل تكون لدى هذا الذهن من أسباب الاعتقاد بوجود جواهر مادية تمثلها أفكاره، وتثير هذه الأفكار في ذهنه ما لديك أنت للاعتقاد بالأمر نفسه؟ هذا أمر لا جدال فيه، وهو يكفي وحده لتشكيك أي عاقل في قوة أية حجة قد يعتقد أنها تبعث فيه الاعتقاد بوجود الأجسام دون الذهن.»
3
وتتضح قيمة هذا المثل في أنه يؤدي إلى الاعتراف بأن الفارق بين الحالتين: حالة كون الأشياء مجرد أفكار تثار في الذهن، وحالة كونها واقعية بالفعل، ليس فارقا ينعكس على الصورة العملية للعالم وطريقة تصرفنا فيه، وإنما هو فارق في «تفسير» العالم فحسب، ويظل ذلك العالم على ما هو عليه، مهما اختلف التفسير، ويلاحظ أيضا أن من الممكن استخدام هذه الحجة ذاتها بمعنى عكسي، فكما قلنا من قبل: نستطيع أن نفترض عالما آخر فيه أشياء حقيقية فعلية، وعقولا تدرك هذه الأشياء الفعلية من خلال حواسها، وسنجد أن هذه العقول سيتولد لديها نفس الشك المثالي في أن تكون الأشياء المدركة مجرد صور أو أفكار ذهنية، لا تناظر وجودا خارجيا، وعلى أية حال فالفارق بين الحالتين لن يعدو أن يكون فارقا في تفسير العالم، ومن المحال أن يؤدي إلى اختلاف في طريقة التعامل مع الأشياء.
ولو تأملنا قضية باركلي الرئيسية - وأعني بها «وجود الشيء هو كونه مدركا» - لوجدناها مؤدية في نهاية الأمر إلى تأييد الرأي الذي نقول به ها هنا من أن المثالية لغة نتحدث بها عن العالم، وتفسير لا يؤثر في سلوكنا الفعلي إزاء ما فيه من أشياء، فالمقصود من هذه القضية مجرد تعريف لفكرة «وجود الشيء»، وطالما ردد باركلي - وهو يبرر هذه الفكرة - قوله: هل في استطاعتك أن تعرف معنى وجود أي شيء إلا بكونه مدركا؟ لو أتيت بتعريف آخر فسوف أتنازل عن رأيي وأسلم، وعلى أية حال، فمن الواضح أن مناقشة هذا الموضوع هي منذ البداية مناقشة تتعلق بالتفسير وحده: فإثارة حالة إمكان (أو عدم إمكان) وجود الشيء إن كان غير مدرك، هي إثارة لحالة مستحيلة، بل غير عملية على الإطلاق؛ لأن التحقق من وجود الشيء في حالة عدم إدراكه ليس من الأمور التي يمكن تصورها عمليا، ومن هنا كان إثبات هذه القضية أو نفيها لا يؤدي إلى أي تغيير في موقف الإنسان من هذا الشيء الموجود. •••
وفي مستهل الفصل الثاني من الباب الرابع من كتاب هيوم الرئيسي «بحث في الذهن الإنساني»، يذكر هيوم أن هدفه هو البحث في «الأسباب» التي تدفعنا إلى الاعتقاد بوجود الجسم (أو العالم الخارجي)، لا البحث في هذا الاعتقاد ذاته؛ إذ إن من العبث التساؤل عما إذا كان ثمت جسم أم لا.»
4
ويفسر «برايس» معنى هذه العبارة الأخيرة - ولا سيما لفظ «من العبث»
its in Vain - بأنه من المستحيل نفسيا، أو مما ليس له معنى من الوجهة المنطقية
logically nonsensical ،
5
ولكن التفسير المعقول لهذه العبارة في رأينا هو أنه من غير العملي توجيه هذا السؤال؛ لأننا في مواقفنا العملية نعترف حتما بوجود الأشياء، ومما يؤيد هذا التفسير المعنى العملي الواضح الذي تحمله كلمة «من العبث».
وتبعا لهذا الرأي الذي نقول به يكون هيوم قد اعترف بأن أي موقف نتخذه في مسألة وجود العالم الخارجي إنما هو موقف تفسيري فحسب، وبأننا في الميدان العملي لا نثير هذا السؤال على الإطلاق. وهكذا كان هدفه يتجه إلى البحث في «أسباب» الاعتقاد، أي إلى بحث تفسيري لا يؤثر في المواقف العملية، ومما يؤيد هذا الفهم لرأي هيوم كل التأييد ذلك النص الذي يتعرض فيه هيوم لمسألة الاعتقاد بالوجود المستمر للأشياء، فيقول: «ولنبدأ بأن نلاحظ أن الصعوبة في هذه المسألة لا تتعلق بالأمر الواقع، أو بما إذا كان الذهن يستخلص مثل هذه النتيجة المتعلقة بالوجود المستمر لإدراكاته، وإنما تتعلق المسألة بالطريقة التي تستخلص بها هذه النتيجة، والمبادئ التي تستمد منها، فمن المؤكد أن البشر كلهم تقريبا - بل والفلاسفة أنفسهم - ينظرون إلى إدراكاتهم، خلال الجزء الأكبر من حياتهم، على أنها هي ذاتها موضوعاتها، ويفترضون أن ما يتمثل للذهن هو ذاته الجسم الحقيقي أو الوجود المادي.»
6
وإذا كان هيوم قد تحدث هنا عن البشر كلهم «تقريبا» - والفلاسفة أنفسهم «في الجزء الأكبر من حياتهم» - على أنهم يتصرفون عمليا حسب الموقف الطبيعي، فلنضف إلى ما قاله أن هذا ينطبق على البشر كلهم بلا استثناء أي بكل ما فيهم من فلاسفة، وذلك خلال حياتهم كلها، باستثناء لحظات التأمل المنعزل في العالم من وجهة النظر المثالية (لأن التفكير في حوار أو في محادثة يفترض وجود الأذهان الأخرى، وبالتالي وجود حقيقة خارج الذهن الفردي)، والتأمل المنعزل - على أية حال - لا ينتمي إلى التصرفات العملية. •••
ولنتأمل طبيعة «الفلسفة الترنسندنتالية» كما عرضها كانت، في ضوء رأينا القائل بأن المثالية مجرد لغة أو نظرة تفسيرية لا تؤثر في الواقع كما نتعامل معها عمليا، فالفلسفة الترنسندنتالية - حسب تعريفها - تبحث في «شروط إمكان المعرفة»، ومعنى ذلك أنها محتوى المعرفة ذاته لا يمس في هذه الفلسفة، بل يدور البحث كله في «شكلها» أو الشروط الممهدة لها، فالكرسي الذي أدركه يظل على ما هو عليه في كل الحالات، سواء نظرت إليه من وجهة النظر الطبيعية أو الترنسندنتالية، وفهمي له وتصرفي إزاءه لا يتأثر على الإطلاق، وإنما تنحصر المسألة كلها في تحديد الشروط التي جعلت معرفتي له ممكنة، وحتى حين يتم الوصول إلى أن هذه الشروط ذاتية فلن يتغير شيء على الإطلاق، بل ستتغير «اللغة» التي فسرته بها فحسب، وليس هذا ما يحدث في حياتي الفعلية: فعندما أكتشف مثلا أن ما ظننته شبحا هو قط أسود يتغير تصرفي الحالي، فينعدم الخوف الذي كان يلازمني، وأستطيع أن أقترب من هذا القط وألمسه إلخ، وإذا اكتشفت أن ما أظنه نارا مشتعلة تحول بيني وبين السير إلى الأمام هو مجرد خيال أثارته حالتي المرضية، فسأتابع سيري إلى الأمام، ويتغير سلوكي إزاء الموضوع تغيرا أساسيا، أما في حالة اهتداء كانت إلى أن شروط المعرفة ذاتية فإن شيئا لا يتغير على الإطلاق، ويظل كل شيء على ما هو عليه، ولقد كان كانت ذاته هو الذي أكد أن مثاليته لا تؤثر في وجود الأشياء، ولا تؤدي إلى القول بأن الطبيعة كلها خداع شامل، بل تؤكد فقط أن تمثلنا الحسي للأشياء يتم عن طريق الزمان والمكان، وهما مجرد طرق للتمثل، لا أشياء أو تحديدات كامنة في الأشياء ذاتها،
7
بل إن كانت لينتقد ديكارت لشكه في وجود الأجسام خارجنا، وكل ما في الأمر أنه يود أن تفهم كلمة أجسام بمعنى «ظواهر» لا أشياء في ذاتها، وأن تفهم كلمة «خارجنا» بأنها تعني الوجود في المكان لا خارج أفكارنا،
8
وهكذا فكل ما تؤدي إليه مثالية كانت هو الحديث عن الأشياء الخارجية بلغة «الظواهر»، و«صور الحساسية أو الذهن» بدلا من لغة الأشياء في ذاتها أو الوجود خارج الذهن.
وهذا هو الفارق الأساسي بين «الانقلاب الكبرنيكي» الذي أحدثه كانت في الفلسفة وبين الانقلاب الكبرنيكي الحقيقي، فقد بدا في وقت ما أن نظريات كبرنك لم تحدث تغييرا فعليا في علاقة الإنسان بالكون، وإنما هي «تفسير» مخالف لما كان سائدا قبلها فحسب، أي إن علاقة الأرض بالشمس والمجموعة الشمسية والكواكب هي على ما هي عليه، وتنبؤاتنا الفلكية مستمرة كما هي (إذ كانت التنبؤات الخاصة بالكسوف والخسوف ممكنة بدقة في ظل النظام البطليموسي)، ولكن تفسيرنا للظواهر هو وحده الذي اختلف، ومع ذلك فمما لا شك فيه أن كل التطورات العملية التالية قد أيدت رأي كبرنك، وأصبحت المسألة في وقتنا الحالي تزيد على مجرد فرض تفسيري، وأصبح القول بأن الأرض هي الثابتة متعارضا مع عدد هائل من الوقائع العلمية المؤكدة، وهكذا أصبح الانقلاب الكبرنيكي - في ميدان الفلك - يمثل تغييرا نظريا وعمليا في الآن نفسه، ويؤدي إلى اختلاف أساسي في طريقة تعاملنا مع موضوعات علم الفلك، أما في ميدان الفلسفة، فماذا كان ذلك «الانقلاب الكبرنيكي» الذي أحدثه كانت في نظرية المعرفة، حين جعل الأشياء تدور حول الذات بدلا من أن تدور الذات حول الأشياء؟ لا شيء من وجهة النظر الفعلية، فلم يطرأ على موقف الفلاسفة أو العلماء أو الناس العاديين من العالم الخارجي تغيير، ولم يحدث في «محتوى» معرفتنا بذلك العالم أدنى تحول، ولم تكن المسألة - كما قال كانت ذاته، وكما أشرنا من قبل - إلا «فرضا» نجرب به طريقة أخرى لتفسير الأشياء: فرضا نجرب به المنهج - الذي أدى إلى جعل الرياضة والطبيعة علمين دقيقين - على الميتافيزيقا وعلى نظرية المعرفة بوجه خاص، «فقبل الآن كان الفرض السائد هو أن معرفتنا ينبغي أن تطابق الأشياء، ولكن كل محاولة لتوسيع نطاق معرفتنا بالأشياء عن طريق إيجاد شيء متعلق بها «أوليا» - بواسطة التصورات - كانت تنتهي على أساس هذا الفرض إلى الإخفاق؛ لذلك كان من واجبنا أن نرى إن كنا نحرز نجاحا أعظم في ميدان الميتافيزيقا إذا افترضنا أن الأشياء ينبغي أن تتفق مع معرفتنا.»
9
وعلى أية حال، فإن الفرض الذي يتخذ من الذات - أو من طريقة معرفتنا لا من الأشياء - نقطة بداية، يؤدي إلى نتائج ممتنعة من وجهة النظر المنطقية، على النحو الذي أشرنا إليه من قبل، وليس أدل على مدى تعارض هذا الفرض مع الموقف الطبيعي من أنه يثير أسئلة تبدو في نظر ذلك الموقف غريبة حقا: مثل: «كيف تكون الطبيعة ممكنة.»
10
وهنا تصبح الطبيعة في حاجة إلى مبرر، وتكون وسيلة إمكان الطبيعة - تبعا لرد كانت على هذا السؤال - هي التركيب الخاص لحساسيتنا وذهننا، ومن الطبيعي أن يتبادر السؤال التالي إلى ذهن المرء بعد ذلك مباشرة: وكيف يكون تركيب حساسيتنا وذهننا ممكنا؟ فيكون الرد غير المقنع الذي يأتي به كانت: «هنا تتوقف الحلول والإجابات؛ إذ إن هذه الأمور أي الحساسية إلخ، هي التي ينبغي أن نلجأ إليها دائما من أجل كل إجابة وكل تفكير عن الأشياء.»
11
وهكذا يقدم كانت حلا دائريا واضحا للمشكلة، أي إنه إذا سئل: كيف تكون الطبيعة ممكنة؟ أجاب: لأن تركيبنا من شأنه أن يسمح بإمكانها، وإذا سئل: وكيف يكون تركيبنا ممكنا؟ أجاب: لأنه هو الذي يسمح بإمكان الطبيعة (أو تجربتها)!
وهكذا يقدم كانت فرضا تفسيريا محضا لا يغير من محتوى المعرفة على الإطلاق، وحتى من حيث الشكل ذاته يثير ذلك الفرض أسئلة مفرطة الطموح مثل السؤال عن كيفية إمكان الطبيعة، وهو السؤال الذي يفترض أن الذات هي الثابتة والطبيعة هي التي تحتاج إلى مبرر، ولكنه يعجز عن المضي في التبريرات الشكلية للفرض الذي وضعه، ويطلب منا أن نسلم مقدما بأمور معينة لا يستطيع المرء أن يمتنع عن التساؤل عنها، حتى يتسنى لنا المضي في فرضه إلى النهاية، فتكون النتيجة إخفاقا للفرض حتى من الناحية الشكلية ذاتها. •••
ومما يؤيد القول بأن المثالية موقف تفسيري لا يغير شيئا من محتوى المعرفة البشرية بالعالم الخارجي: ظاهرة تهرب كثير من المثاليين من مذهبهم، وحرصهم على إخفاء الوجه المثالي لذلك المذهب، والظهور بمظهر مخالف لحقيقته.
فالمحاولات التي بذلها «كانت» لنقد المثالية معروفة، وهو يحرص على تفنيد «المثالية المادية» بنوعيها: الإشكالية
والتوكيدية
dogmatic ،
12
ويؤكد أن وجود الموضوعات الخارجية أمر لا سبيل إلى الشك فيه، بشرط أن تفهم على أنها «ظواهر» لا أشياء في ذاتها، أي إنك تستطيع أن تحتفظ بكل آرائك ومعارفك عن الأشياء الخارجية، وتعاملها دائما على نفس النحو، وكل ما هو مطلوب منك هو أن تفسرها من خلال لغة «الظواهر» لا «الأشياء في ذاتها»، وعلى أية حال فقد نظر كانت إلى فلسفته ذاتها على أنها تمثل نوعا آخر من المثالية الترنسندنتالية أو النقدية، وهي مذهب يؤكد مثالية «شروط المعرفة»، ويدع كل شيء على ما هو عليه بشرط أن يفهم من خلال شروط المعرفة المثالية هذه، وكما أوضحنا من قبل، فليس الفارق بين مثالية كانت والأنواع الأخرى التي انتقدها من المثالية خطيرا إلى الحد الذي يبرر نظر كانت إليها على أنها مذهب «يفنده» مذهبه الخاص في المثالية.
كذلك ينتقد شوبنهور مثالية فشته الذاتية، ويؤكد أن مذهبه ليس ماديا ولا مثاليا،
13
هذا في الوقت الذي ينطق فيه كتابه «العالم إرادة وتمثلا» بلغة المثالية منذ أول جملة فيه، وفي الوقت الذي انتقد فيه كانت لأنه حذف في الطبعة الثانية من «نقد العقل الخالص» كثيرا من الأفكار «المثالية» التي تضمنتها طبعته الأولى،
14
وعلى أية حال فإن شوبنهور يؤيد الرأي الذي نقول به تأييدا أوضح؛ إذ يقول: «إن المثالية تترك الحقيقة التجريبية للعالم دون مساس.»
15
وكل ما في الأمر أن معنى موضوعية ذلك العالم لا يفهم إلا من خلال الذات.
ومثل هذا الموقف - الذي كان فيه دون شك متأثرا بتعاليم كانت - يدل على إدراك ضمني للطبيعة التفسيرية لمذهبه الخاص في المثالية.
وإذا كنا نصف المثالية هنا بأنها لغة أو تفسير لا يمس محتوى المعرفة بل يمس شكلها فحسب، ولا يؤثر آخر الأمر في تعاملنا الفعلي مع الأشياء، فإن هذا يتضمن نقدا للاتجاهين: الاتجاه القائل إن المثالية تؤدي إلى نوع جديد من المعرفة بالأشياء، والاتجاه القائل إنها تعوقنا عن معرفة الأشياء.
أما عن الاتجاه الأول، فمن الواضح - من كل ما ذكرنا في هذا الفصل - أن تعاملي الفعلي مع موضوعات العالم الخارجي سيظل على ما هو عليه سواء أكنت مثاليا أم ماديا، ولن يستطيع أحد أن يجد فارقا بين صاحب المذهب المثالي وصاحب المذهب المادي في نظرته إلى الشمس أو البحر أو الجبل أو المنضدة من حيث هي أشياء يتعامل معها (ولنكرر هنا ما قلناه من قبل من أن الفلاسفة يبحثون في موضوعات الموقف الطبيعي، أو في العالم الأكبر المنظور والملموس، ولا يمكنهم اتخاذ الموقف العلمي إلا بطريقة غير مباشرة، وبعملية اقتباس مستمدة من مجال العلم، وعلى العموم فمثل هذه الموضوعات أو الأشياء السابقة هي التي كان الفلاسفة المثاليون يحاولون إثبات مثاليتها)، وسيظل كل منهما يسلك نحو هذه الأشياء نفس السلوك، ويفهمها نفس الفهم، وإن يكن «يفسرها» بلغة مختلفة.
ونفس هذا الرد ينبغي أن يوجه إلى أصحاب الاتجاه الثاني، فالمثالية - من حيث هي نظرية في معرفتنا لموضوعات العالم الخارجي - لا تعوقنا عن معرفة شيء، وهي لا تنكر أي موضوع من موضوعات ذلك العالم، ولكنها تفسره بلغة مختلفة فحسب، ولم يحدث أن قال شخص من المتأثرين بالمثالية: إن هذا الجبل صورة في ذهني، أو راجع إلى صورة كهذه، فليس هناك ما يدعوني إلى كشفه أو ارتياده، ففي مجال التعامل مع الأشياء الواقعية تستوي المثالية والمادية معا، ولا ينعكس رأي أي مذهب منهما على سلوك الإنسان الفعلي مع هذه الأشياء، أو على درجة معرفته لها.
وإذا كنا قد اتخذنا هنا موقفا مضادا للمثالية على الدوام، فليس هذا راجعا إلى اعتقادنا بأنها تعوق معرفتنا بالعالم الخارجي أو تؤثر فيها على أي نحو من الأنحاء، وإنما لأنها تقدم تفسيرا «يتناقض» مع سلوك الإنسان الفعلي، أي لأن الإنسان لا يستطيع أن يسلك في هذا العالم إذا حاول أن يطبق الآراء المثالية على سلوكه هذا تطبيقا حرفيا، فهناك إذن «هوة» بين الآراء المثالية النظرية وبين سلوك الإنسان الفعلي، وهي هوة أشار إليها الفلاسفة المثاليون أنفسهم حين أكدوا أن الإنسان - والفيلسوف نفسه - يعيش في «معظم» أوقات حياته حسب الموقف الطبيعي، ويسلك كما لو كانت الأشياء ذات وجود خارجي بالفعل.
لهذا السبب كان اعتراضنا على المثالية رغم كونها لا تؤثر في «محتوى المعرفة» أدنى تأثير، ولكن هل يعني هذا أن الموقف المثالي لا تأثير له على الإطلاق؟ وهل يعني ذلك أن اتخاذ فيلسوف معين لهذا الموقف إنما هو مجرد اختيار اعتباطي لا يعبر عن شيء؟ وهل الفارق بين الموقف المثالي والموقف الطبيعي فارق في الشكل أو في لغة التفسير، ولا ينعكس على المجال العملي على أي نحو من الأنحاء؟
ليس هذا ما نرمي إليه على الإطلاق، فللمثالية - من حيث هي موقف فلسفي - تأثير فعلي، وهي تعبر فعلا عن شيء، بل إن لها أصداء عملية غاية في الأهمية، ولكن هذا الصدى أو التأثير يتعلق «بالإنسان» نفسه، وهذا هو موضوع الفصل التالي من هذا البحث.
المثالية والإنسان
قد يبدو ما نقوله هنا من أن للمثالية تأثيرات عملية هامة مناقضا لما قلناه في الفصل السابق من أن المثالية لا تؤثر في مواقف الإنسان العملية أدنى تأثير، ولكن الواقع أن المقصود بالمواقف العملية في الفصل السابق هو تعامل الإنسان مع موضوعات العالم الخارجي بمختلف الصور المعرفية والسلوكية لهذا التعامل، أما في الحالة الأولى - التي هي موضوع هذا الفصل - فالمقصود من التأثيرات العملية للمثالية هو تأثيرها في الإنسان نفسه، ولا سيما في مواقفه الأخلاقية واتجاهاته الاجتماعية ... إلخ، فليست للمثالية نتائج عملية من حيث مدى معرفة الإنسان بالعالم الخارجي أو تصرفه مع موضوعات هذا العالم من حيث هي موضوعات لمعرفته، ولكن لها نتائج عملية هامة من حيث سلوك الإنسان الأخلاقي وتعامله مع بقية الناس.
ولقد أوضحنا من قبل رأينا القائل: إن المثالية مجرد لغة وتفسير للوقائع لا يتناول محتوى معرفتنا لهذه الوقائع، وذكرنا كيف أن هذه اللغة تتناقض مع التصرف العملي للإنسان - بوجه عام - بالنسبة إلى موضوعات العالم الخارجي، أي إننا بينا أن اللغة المثالية ليست هي التي تصلح للتعبير عن العلاقة الفعلية للإنسان بالعالم الخارجي، والمشكلة التي نعالجها في هذا الفصل هي: ما الذي يدعو الإنسان إلى استخدام هذه اللغة المثالية؟ وما نتائج هذا الاستخدام بالنسبة إلى المثالي؟ بل ما هي الدلالة الأصلية لاختيار فيلسوف ما لمثل هذه اللغة؟
ولا شك في أن كشف العوامل التي تدعو فئة معينة من الناس إلى اتخاذ الموقف المثالي هو - في رأينا - من أهم الموضوعات التي تستحق البحث في صدد هذه الفلسفة؛ لأن كل ما تدعيه من تغيير لصورة العالم لا يطابق أي شيء في الواقع، ولا يؤدي إلا إلى تغيير داخلي في الإنسان فحسب، فما هو إذن هذا التغيير؟
إن المثالية - في رأينا - تعبير عن موقف معنوي أو أخلاقي
moral
بأوسع معاني هذه الكلمة، وليس تعبيرها المعرفي أو الميتافيزيقي إلا نتيجة لهذا الموقف المعنوي للإنسان، نتيجة ينبغي أن تكون لها المرتبة الثانية لا المرتبة الأولى، ومن الملاحظ أن مؤرخ الفلسفة - متأثرا في ذلك بالفيلسوف المثالي نفسه - يصور الأمر كما لو كانت النظريات المعرفية أو الميتافيزيقية للمثالي تظهر أولا، ثم تستخلص منها نتائج عملية أخلاقية فيما بعد، ولكن الأمر لا يمكن أن يكون كذلك: فالمثالية من حيث هي نظرية معرفية أو ميتافيزيقية مناقضة للموقف الطبيعي للإنسان، وبوصفها مذهبا يتنافى مع إمكان تعامل الإنسان مع العالم الخارجي، لا يمكن أن تظهر «تلقائيا» في ذهن الإنسان، بل لا بد أن قوة «معنوية» معينة هي التي تدفع الإنسان إلى تجاهل ميله الطبيعي إلى معاملة العالم الخارجي على أنه خارجي بالفعل، وتجعله يقول بمثل هذا المذهب الذي يتعارض تطبيقه العملي في مجال المعرفة، مع إمكان تعامل الإنسان مع العالم ومع بقية الأذهان. لا بد أن نوعا معينا من الأخلاق أو من النظرة إلى مجتمع الناس هي التي تدفع الإنسان إلى القول بهذا المذهب، ومن الجلي أن هذه الأخلاق وهذه النظرة إلى المجتمع ينبغي أن يكون لها صلة بالزهد وباحتقار العالم المادي؛ إذ إن المثالية تنكر الوجود المادي للعالم الخارجي، وتؤكد أنه يوجد - بمعنى ما يختلف من مذهب إلى آخر - في الذهن، وهو عادة مرتبط بالنفس أو بالروح أو بالمبدأ غير المادي وغير الجسمي في الإنسان، فإذا أصبح كل شيء «ذهنا» بمعان مختلفة أيضا، فلا شك في أن هذا يؤدي إلى دعم نوع معين من الأخلاق، ونوع معين من تقويم الإنسان ومجتمعه، هذا النوع من الأخلاق ومن التقويم هو القوة الأولى الدافعة إلى ظهور المثالية، وليست النظريات المثالية المعرفية أو الميتافيزيقية إلا نتيجة لاحقة له، وتأييدا تاليا لاتجاهه. •••
ومن الجلي أن الأمثلة التي سنختارها لتأييد هذا الرأي ينبغي أن تبدأ بأفلاطون: فعند أفلاطون يظهر أول - وربما أوضح - ارتباط بين القول بمثالية المعرفة، وبين نزعة أخلاقية ومعنوية معينة، يمكن وصفها عموما بأنها زاهدة.
ونستطيع أن نقول: إن محاورة «فيدون» تمثل بأسرها تأييدا مفصلا للرأي الذي نقول به ها هنا، ففي هذه المحاورة تعبير واضح عن ارتباط الحط من دور الحواس في المعرفة، وبالتالي الخروج عن الموقف الطبيعي، بالاعتقاد بضرورة ضآلة دور الحواس في حياة الإنسان المعنوية، وباحتقار الحس والجسم بوجه عام، وفي فيدون يتحدث أفلاطون عن الحواس بوصفها شواهد غير دقيقة في اكتساب المعرفة، وذلك «في سياق» حملته على الجسم ودعوته إلى تخليص النفس من شروره «فالوجود الحقيقي يتكشف للنفس في الفكر ... والفكر يكون أصلح ما يكون عندما ينطوي الذهن على ذاته ولا يعكر صفوه شيء من هذه الأشياء كالمسموعات أو المرئيات أو الألم أو اللذة، وعندما تنصرف النفس عن البدن، ولا تربطهما به إلا أدنى صلة، ولا تعود لديها حاسة أو رغبة جسدية، بل تصبو إلى الوجود الحق.»
1
وهنا يظهر الارتباط والامتزاج واضحا بين الدعوة إلى تأكيد دور الفكر في المعرفة - وهي القضية التي يرتد إليها كل مذهب مثالي - وبين نوع من الاحتقار الأخلاقي للحس وللجسم، وهذا الارتباط أمر معترف به لدى أفلاطون، ولكن الأمر الذي لا يعترف به بمثل هذا القدر من الشيوع هو الارتباط السلبي بين هاتين الظاهرتين، فعلى عكس النظرة الشائعة إلى الوجه الأخلاقي أو الاجتماعي لفلسفة ما على أنه ثمرة للتفكير النظري في هذه الفلسفة، نود هنا أن نؤكد أن التفكير المثالي النظري لم يكن إلا نتيجة لمذهب أخلاقي أو اجتماعي معين، وأن الاحتقار المعنوي للحس وللجسم قد تولدت عنه محاولة نظرية للإقلال من شأن الحواس في المعرفة، ولإنكار وجود حقيقة أصيلة للجسم، وبالتالي للأجسام الأخرى، وللعالم الخارجي بأسره.
ولنضرب مثلا آخر لفكرتنا هذه في فلسفة ديكارت، ففي الجزء الرابع من المقال في المنهج - حين يعرض ديكارت شكه المنهجي الذي أدى به في نهاية الأمر إلى الكوجيتو - ترد تلك العبارة ذات الدلالة البالغة: «رأيت أنني أستطيع أن أتصور نفسي بغير بدن، وبغير عالم أو مكان أكون فيه.» وهنا لا يستطيع الإنسان الذي يحتفظ بقدر من سلامة الموقف الطبيعي إلا أن يهتف: كيف؟! وعلى أي أساس؟! من هذا الذي يستطيع أن يتصور نفسه بغير بدن وبغير عالم وبغير مكان يوجد فيه؟ أهو إنسان؟ محال! إن الذهن الإنساني ليستبعد تماما إمكان تصور هذه الحالة، حتى لو كان المقصود من هذا التصور حالة من الشك الافتراضي الذي سيتجاوز فيما بعد، فليس في وسع الذهن أن يتصور ذاته - حتى من حيث هو مفكر فحسب - إلا من حيث هو مرتبط بالإنسان كله، من عقل وجسم معا، ومن حيث هو ناتج عن الطبيعة الكاملة للإنسان الحاضر ، بكل ما فيها من عناصر.
فكيف إذن تسنى لديكارت - بهذه البساطة وبهذه الجرأة - أن يصرح بهذه القضية الخطيرة جدا، والمشكوك فيها إلى أبعد حد؟ لا يمكن تفسير ذلك إلا على أساس وجود رأي مثالي سابق، ذي طبيعة أخلاقية أو معنوية، ينطوي على نوع من الإقلال من شأن الجسم إلى الحد الذي يتيح التفكير في استبعاده،
2
وعلى أية حال، فإن وجود مثل هذا الاستعداد المعنوي لدى ديكارت واضح كل الوضوح في موقفه النهائي في مشكلة العالم الخارجي، الذي لم يعترف به ديكارت - كما لاحظنا من قبل - إلا بعد ارتكازه على الإيمان ب «الصدق الإلهي»، وهو أساس يدخل - في واقع الأمر - في باب المواقف المعنوية العملية أكثر مما يدخل في باب الحجج العقلية.
أما فلسفة باركلي، فإنها تحفل بالبراهين على القضية التي نحاول إثباتها، ومن هنا كنا نستطيع أن نعدها حالة نموذجية في الفلسفة المثالية بوجه عام.
ففي كتاب «محاورات بين هيلاس وفيلونوس» يوضح باركلي الفارق بينه وبين سائر المؤمنين بالمسيحية، من خلال فكرته القائلة إن الله يدرك صور الأشياء وإنها توجد فيه، فيقول: «إن الناس يعتقدون عادة أن الله يدرك أو يعرف جميع الأشياء؛ لأنهم يؤمنون بوجود الله، أما أنا فأستنتج وجود الله مباشرة وبالضرورة؛ لأن كل الأشياء المحسوسة ينبغي أن تدرك بواسطته.»
3
في هذا النص يصور باركلي الأمر كما لو كانت فكرة الله في فلسفته نتيجة لوجوب وجود كائن يدرك الأشياء المحسوسة حين تغيب عن إدراكنا، حتى يحفظ لها دوام بقائها، أي كما لو كان الموقف المعنوي - الذي ينتمي إليه الإيمان بفكرة الله وما يرتبط بها من مواقف أخلاقية - «نتيجة» للرأي النظري الذي قال به باركلي بشأن وجود الأشياء الذي لا يمكن أن يكون إلا كونها مدركة. وفي رأيي أن عرض باركلي لفلسفته على هذا النحو مضلل إلى حد بعيد؛ إذ إن آراءه النظرية التي تربط وجود الأشياء بكونها مدركة، كانت هي ذاتها نتيجة لآرائه الأخلاقية والدينية ولموقفه المعنوي بوجه عام، وليس من العسير على الإطلاق الإتيان بأمثلة متعددة من كتابات باركلي تثبت أن التسلسل الصحيح لتفكيره بدأ من الموقف المعنوي - ولا سيما الديني وما يرتبط به من أخلاق - إلى التفكير النظري المثالي لا العكس.
ففي تصدير كتاب «مبادئ المعرفة البشرية»، يحدد باركلي الغرض من كتابه هذا قائلا: إن ما ورد فيه من الآراء مفيد «وخاصة لأولئك الذين تساورهم روح الشك، أو يحتاجون إلى برهان على وجود الله ولا ماديته، أو الخلود الطبيعي للنفس.»
4
وإذن فالهدف الذي وضعه باركلي لنفسه من كتابه الرئيسي هذا ينتمي في الأساس إلى المجال الديني، وهو القضاء على الشك في وجود الله ولا ماديته وخلود النفس، ويبدو منذ بداية الكتاب أن باركلي كان يريد أن يجعل لفكرة الله دورا مستمرا، فمهد الطريق لذلك بفكرة «وجود الشيء هو كونه مدركا»، بما تنطوي عليه من ضرورة الإدراك الإلهي المستمر.
وكثيرا ما كان باركلي يؤكد الارتباط بين «الإلحاد» وبين فكرة وجود الجوهر المادي (وكأن الاعتقاد السائد في الموقف الطبيعي بوجود مثل هذا الجوهر يؤدي بدوره إلى الإلحاد!) فإذا كان الملحدون في رأيه يجدون في هذه الفكرة عونا كبيرا، أليس لنا أن نشك في أن الأصل في نقد «الأسقف» باركلي لفكرة وجود العالم الخارجي بصورته المعروفة في الموقف الطبيعي كان راجعا إلى دوافع منتمية إلى المجال المعنوي، لا إلى المجال الفلسفي بالمعنى الدقيق؟ ويزداد موقف باركلي وضوحا حين يقول: «عندما يرى أصحاب المبادئ الأفضل أن أعداء الدين يولون مثل هذا الاهتمام الكبير للمادة غير المفكرة ... فلا شك في أنهم يطربون؛ إذ يرونهم قد حرموا من سندهم الأكبر وطردوا من تلك القلعة الوحيدة التي ما كان يتسنى للأبيقوريين وأنصار هبز وأمثالهم أن يستندوا إلى حجة واحدة بدونها.»
5
ولم يكن باركلي على استعداد لمهاجمة الاعتقاد بوجود العالم الخارجي وحده لدعم موقفه الديني، بل كان أيضا على استعداد لمهاجمة كل علم متفرع عن ذلك الاعتقاد، بل كل معرفة ذات صبغة مستقلة عن الروح الدينية، وإذا كانت مهاجمته لفكرة وجود العالم الخارجي تتخذ شكل حجج يعترف بها الفلاسفة، فإن مهاجمته للعلوم لم تكن قائمة على أي أساس يقبله العلماء أنفسهم، ومنها يظهر بكل وضوح أن هدفه الاصلي كان دعم الإيمان بالصورة التي ارتآها هو، وفي سبيل هذا الهدف هاجم كل ما اعتقد أنه يضر بهذا الإيمان، ولو كان ذلك أرسخ العلوم في عصره، فهو في الجزء الأخير من «مبادئ المعرفة البشرية» يحمل على الوضع السائد في الفلسفة الطبيعية والرياضيات، ويرى ضرورة تكملة آراء نيوتن بنظرة أخرى إلى العالم من خلال «الروح»، تنكر المكان المطلق والزمان المطلق والحركة المطلقة، حق لا يكون في هذه الأفكار ما يؤدي إلى الاعتقاد بوجود مطلق للعالم الخارجي؛
6
وعلى هذا الأساس نفسه يهاجم الرياضيات بنفس العنف،
7
بل إن الأمر يصل به في بعض الأحيان إلى حد القول بأن رأيه هذا هو الذي يتمشى مع «الأناجيل المقدسة».
8
وكأن المنتمين إلى عقائد أو أديان أخرى ليس لهم أي مكان في مذهبه، أو ليست لهم معرفة على الإطلاق!
ونستطيع أن نقول: إن كتاب
Alciphron
ليس إلا محاولة للدفاع عن وجهة النظر المسيحية في النواحي الأخلاقية واللاهوتية، وهو دفاع يظهر منه بوضوح أن النزعة الدينية كانت لديه أقوى من النزعة الفلسفية، وأن أفكاره العقلية لم تكن إلا محاولة لتبرير إيمانه، وبالمثل يهاجم باركلي يقينية الرياضة في كتابه
The Analyst ، ولا يخفى أن سبب خصومته لهذا العلم هو إيمانه الذي لا يريد أن ينافسه في اليقين شيء. أما في
Siris
فينصب النقد على العلم الطبيعي السائد في عصره، ويحتشد الكتاب بآراء صوفية مضادة تماما للروح العلمية الأصيلة (مع ملاحظة أن الكتاب قد ظهر في عام 1744، وأن أواسط القرن الثامن عشر كان نقطة بداية الحركة العلمية الضخمة التي دفعتها إلى الأمام أفكار نيوتن).
وهكذا يريد باركلي للعالم أن يكون مظهرا لروح تدب فيه، فتصور أن إدراكاتنا كلها نابعة عن الله الذي يبعثها فينا، بحيث تصبح الأشياء، وأذهاننا في حاجة دائمة إلى الروح الإلهية وعلى صلة مستمرة بها، وفي سبيل ذلك يفضل تصوير الشعوب القديمة للعالم على أنه حيوان حي، بوصفه تصويرا أكثر روحية، ويمهد مباشرة لتصور العالم على أنه يحيا بالروح الإلهية العاقلة المنبثة فيه،
9
ويصل إلى قمة التصوف حين يقول: «لا الحامض ولا الملح ولا الكبريت ولا الهواء ولا الأثير ولا النار الجسمية المنظورة ولا شبح القدر أو الضرورة هو الفاعل الحقيقي، بل إننا نصعد - عن طريق تحليل مؤكد وارتباط وارتقاء منتظم - من خلال كل هذه الوسائط إلى إدراك لمحة من المحرك الأول، غير المنظور وغير الجسمي وغير الممتد، الذي هو المصدر العقلي للحياة والوجود.»
10
وإذن، فلم تكن المسألة عند باركلي مسألة تفكير نظري حول طبيعة المعرفة أو طبيعة العالم الخارجي، يستخلص منه رأي معين في فكرة الله أو نتائج معينة في الأخلاق، كما حاول باركلي أن يقنعنا في النص الذي أوردناه في بداية الحديث عنه، وإنما كانت نقطة بدايته موقفا معنويا معينا، يتضمن عناصر دينية وأخلاقية واجتماعية ... إلخ، هو الذي أملى عليه الاتجاه المثالي الذي سارت فيه فلسفته النظرية في ميدان نظرية المعرفة والميتافيزيقا، ولنختم هذه المناقشة بإيراد الفقرة الأخيرة من كتاب «مبادئ المعرفة البشرية»، وهي فقرة يستخلص منها بوضوح الهدف الأصيل لفلسفته: «إن ما يستحق المكان الأول من دراستنا هو البحث في الله وفي واجبنا، «ولما كان القيام بذلك البحث هو الدافع والهدف الأول لأعمالي»، فإني سأعد هذه الأعمال عقيمة لا جدوى منها إن لم أثر في قرائي - بما قلته - إحساسا ورعا بحضور الله، وإن لم أتمكن - بإظهار زيف أو عقم تلك الأبحاث التي ينصرف إليها رجال العلم - من أن أجعل هؤلاء أكثر استعدادا لاحترام حقائق الكتاب المقدس المباركة والإحاطة بها، وهي حقائق تسمو معرفتها وممارستها بطبيعة البشر إلى أشرف مراتب الكمال.»
11
ولنشر أخيرا إشارة موجزة إلى كانت، فننبه إلى ما صرح به في كثير من كتاباته من أن الاعتبارات الأخلاقية كان لها المقام الأول في تفكيره، ومن أمثلة ذلك قوله: «من الواضح أن الغاية القصوى للطبيعة في نعمتها الحكيمة علينا موجهة - في تركيب الذهن - إلى الاعتبارات الأخلاقية وحدها.»
12
بل إنه يحدد هدفه في مقدمة نقد العقل الخالص بكل وضوح على أنه تضييق المجال المتاح للعقل النظري، وهو هدف سلبي لكي يتسع المجال أمام العقل العملي، وهو الهدف الإيجابي، ويشبه مهمة النقد في هذا الصدد بمهمة الشرطة، التي تبدو في ظاهرها مهمة سلبية، وهي منع الجريمة، ولكنها في واقع الأمر إيجابية؛ إذ تتيح للناس الاستمرار في أعمالهم في اطمئنان، ويحدد موقفه بوضوح تام إذ يقول: «لذلك وجدت لزاما علي أن أنكر المعرفة حتى أفسح الطريق للإيمان، وإن التوكيدية الميتافيزيقية، أي الرأي الذي يجزم مقدما بإمكان المضي في الميتافيزيقا دون نقد سابق للعقل الخالص، إنما هي مصدر كل ذلك الافتقار إلى الإيمان، الذي هو دائما مفرط في التوكيدية، والذي يشن الحرب على الأخلاقية.»
13
وهنا يحق لنا أن نتساءل: إلى أي حد يكون من المثمر بحث فلسفة كانت من خلال هذا الترتيب الذي قدمه كانت ذاته، والذي طالما تجاهله عارضو فلسفته، أعني بحثها على أساس أن نقطة بدايتها هي الأخلاق، وأن الآراء النظرية فيها وسيلة قصد بها تبرير أسبقية العقل العملي فحسب؟
ألا نكون قد أطعنا تعاليم كانت ذاته إذا عالجنا فلسفته على أن التفكير النظري فيها قائم على أسس غير نظرية، وأن غرضه الأصلي كان إثبات أولوية العقل العملي، وفي سبيل ذلك وضع للعقل الخالص حدودا لا يستطيع تجاوزها، وأكد أن القضايا الميتافزيقية الرئيسية لا تحل إلا على مستوى العقل العملي (وفكرة وجود حدود للعقل الخالص هي - كما هو معروف - المركز الذي تتجمع حوله كل آراء كانت في التفرقة بين الظواهر والأشياء في ذاتها، وفي إرجاع صور الحاسية ومقولات الذهن إلى أصل ذاتي). •••
ولو تتبعنا نوع الموقف «المعنوي» الذي يرتبط بالمذاهب المثالية لوجدنا أنه - منذ أفلاطون حتى آخر المثاليين - موقف ينطوي على نوع من الاحتقار لشأن الجسم وللعالم المادي بأسره، ومن أصعب الأمور أن يتسنى للمرء الاهتداء إلى حالة واحدة لفيلسوف له آراء مثالية وأفكار غير زاهدة - بالمعنى الواسع لهذه الكلمة - في المجال العملي، وهكذا نستطيع أن نقول: إن التشكيك في الحواس وفي وجود العالم الخارجي - من جهة - هما أمران يرتبطان سويا ارتباط النتيجة بالسبب، أي إن أفلاطون نظر إلى عالم الظاهر على أنه خداع؛ «لأنه» كان يؤمن بالزهد الأخلاقي وبما يرتبط به من أفكار اجتماعية مناظرة، وباركلي أنكر مادية العالم الخارجي؛ «لأنه» أراد دعم الدين ونظر إلى هذه الفكرة - صوابا أو خطأ - على أنها تقف في وجه الدين، وكانت وصف العالم الخارجي بأنه عالم ظواهر؛ «لأنه» أراد أن يفسح مجالا للأخلاق المطلقة ولفكرة وجود الله وخلود النفس في العقل العملي الذي لا يتقيد بحدود عالم الظواهر كما نعرفه، وشوبنهور أكد أن العالم «تمثلي»، وأن المبادئ المتحكمة في إدراكنا له ناشئة عن الذات؛ «لأنه» كان يدعو إلى نوع من الزهد وإنكار إرادة الحياة على نحو لا يمكن معه أن يكون هذا العالم إلا خداعا ظاهريا.
والمشكلة في هذا كله هي أن الفلاسفة كانوا في معظم الأحيان يعرضون آراءهم بالترتيب العكسي، كما لو كانوا قد توصلوا إلى أفكارهم النظرية أولا ثم «استخلصوا» منها ما يتسق معها من النتائج العملية، وهدفهم من ذلك - ولا شك - هو إظهار مذاهبهم بمظهر منطقي صرف: بحيث تكون اعتبارات التفكير النظري هي وحدها التي أملت عليهم آراءهم في صورة العالم، بل في الميدان العملي ذاته، وربما كان الفيلسوف ذاته غير واع بالأصول الحقيقية لتفكيره في كثير من الأحيان، وحتى لو أدرك بعضها، فعليه أن يتبع العرف الشائع لدى الفلاسفة، الذي كان دائما ينطوي على احترام للتفكير النابع من أصول نظرية خالصة، بل على اعتقاد بأن الفلسفة الحقة لا تعمل حسابا لأي اعتبار سوى الاعتبارات النظرية الخالصة، وهكذا يظهر التفكير الفلسفي كأنه كان كله عملية واعية لا ترجع إلى أي أصل سوى مقتضيات التفكير المنطقي، وهو مظهر للفلسفة يعجز المرء معه عن تفسير ذلك التنوع الهائل بين المذاهب، وهو التنوع الذي لا يمكن أن يكون راجعا إلى اعتبارات المنطق وحدها، كما يعجز عن تفسير ذلك الميل الدائم إلى الخروج عن الموقف الطبيعي، وقبول التناقض بين التفكير النظري والسلوك العملي، والقول بآراء عن طبيعة العالم الخارجي لا تؤثر على الإطلاق في موقف الإنسان الفعلي من ذلك العالم.
وهناك ملاحظتان ينبغي أن نلفت إليهما الأنظار في ختام هذا الفصل؛ الأولى: هي أن «الموقف المعنوي» الذي نقول: إنه سبب الأفكار النظرية المثالية وأصلها، يشمل كل الجانب العملي من مظاهر حياة الإنسان: من أخلاق ودين وتفكير اجتماعي ووضع اقتصادي ... إلخ، وهذه المظاهر كلها متضافرة بحيث إن رأي المفكر في واحد منها يؤثر حتما في رأيه في بقية المظاهر ويصبغها بصبغة محددة، ولكنها تتفاوت ظهورا وخفاء، ولا تتساوى في درجة قابليتها للاكتشاف.
والملاحظة الثانية: هي أن الرأي الذي نقول به هنا يحتاج - قطعا - إلى إثبات أوسع نطاقا بكثير مما ذكرناه في هذا الفصل، وكل ما نهدف إليه هو أن نقدم فرضا يبدو لنا محتما في ضوء ما قلناه من قبل عن طبيعة المثالية بوصفها تفسيرا أو لغة، ولكن الإثبات التفصيلي لهذا الفرض يحتاج إلى جهد أضخم بكثير مما قمنا به في هذا الصدد، ولكم يكون من المثمر أن يكتب تاريخ الفلسفة - وتاريخ الفلسفة المثالية بوجه خاص - في ضوء هذا الفرض: أي أن تكون نقطة البداية - التي تكون أساس المذهب - هي الاعتبارات العملية، أو رأي الفيلسوف في «الإنسان»، ثم تعرض الآراء النظرية بوصفها نتيجة أو تبريرا لاحقا لهذا الرأي، ألا تبدو الفلسفة - على هذا النحو - ألصق بواقع الإنسان العيني؟ ألا يكون تعليل ما فيها من تجريدات تعليلا «إنسانيا» أمرا أيسر بكثير؟ ألن نستطيع عندئذ أن نتخلص من النظرة الشائعة إلى طريقة ظهور المذاهب الفلسفية على أنها انبثاق فجائي بلا مقدمات وبلا أصول؟ إن هذه النتائج وحدها لكفيلة بأن تجعل هذه المحاولة جديرة بأن تجرب.
خاتمة
نظرية المعرفة والعلم
إن الفلسفة - من غير شك - في حاجة إلى عملية إعادة تقويم أساسية لحدودها وقدراتها، حقا إن محاولات كثيرة كهذه قد ظهرت خلال تاريخ الفلسفة، ولكن هذه المحاولات كانت تنطوي في معظم الأحيان على قدر من المبالغة في مهمة الفلسفة لا يقل عما استهدفت هذه المحاولات ذاتها انتقاده، وها نحن أولاء - بعد خمسة قرون من التقدم العلمي المستقل بدرجات متفاوتة عن الفلسفة - نعالج في الفلسفة موضوعات مشابهة إلى حد بعيد لتلك التي كانت تعالجها الفلسفة اليونانية مثلا، والأغرب من ذلك أننا نعالجها بنفس الروح التي كان يعالجها بها الفيلسوف اليوناني، فحين يأتي فيلسوف في عصرنا الحديث بنظرية جديدة في المعرفة، أو في طبيعة العالم مثلا، نظن فعلا أن هذه نظرية جديدة، بالمعنى الذي نقول فيه عن التطورية: إنها نظرية، أو عن النسبية: إنها نظرية، ويعرض الفلاسفة المحترفون هذه النظرية كما لو كان شيء جديد قد كشف، وكما لو كانت إضافة جديدة إلى علوم الإنسان قد حدثت.
ونستطيع أن نلتمس للمفكرين القدماء كل العذر حين كانوا يقدمون فلسفاتهم على هذا النحو، ففي ذلك الحين كان الخلط بين التفكير العلمي والتفكير الفلسفي شائعا دون أن يتنبه إليه أحد، بل كانت الفلسفة هي ذاتها العلم، وهكذا كان الفيلسوف يخوض ميدان الرياضة مثلا، فيأتي فيه بآراء تعد مساهمة حقيقية في العلم، ويبحث في «الأنتولوجيا» فيأتي بآراء لا تزيد من العلم ولا تنقصه، ويبحث في الفلك فتكون بعض نتائجه إضافات إلى العلم وبعضها الآخر لغوا لا قيمة له، كل ذلك وهو يعتقد أنه في جميع هذه الحالات يقوم بنشاط فكري «مطرد» و«من نوع واحد»، أي إنه يساهم في معارف البشر حين يبحث - على سبيل المثال - في الأنتولوجيا مثلما يساهم فيها حين يأتي بنظرية رياضية أو فلكية ذات طابع علمي.
ونستطيع أن نقول: إن هذا الخلط ما زال قائما في الفلسفة إلى حد بعيد حتى في وقتنا الحالي، على الرغم من الانفصال الواضح الذي حدث منذ أمد بعيد بين مجال الفلسفة ومجال العلم، ويتمثل هذا الخلط في عدم إدراك الطبيعة الحقيقية للتفكير الفلسفي، فما زال الفلاسفة حتى اليوم لا يدركون دلالة ذلك الانفصال الأصيل بين حياة الإنسان الفعلية وبين مضمون معظم النظريات الفلسفية، وما زالوا - في اللحظات القليلة التي يتنبهون فيها إلى مجرد هذا الانفصال - يعزونه إلى نوع من التفاهة أو السطحية لتلك الحياة العملية، التي تسمى ب «اليومية» أو العقيمة أو الساذجة، ثم يظن الفيلسوف أنه قد تخلص بهذه التسمية من تلك الهوة العقيمة التي وضعها تفكيره بين آرائه النظرية وحياته الفعلية.
ولن يتسنى التخلص من هذا التناقض الأساسي بين التفكير الفلسفي وبين العالم الفعلي إلا بإدراك الطبيعة الحقيقية للتفكير الفلسفي، وقد تضمن هذا البحث محاولة لتحليل هذه الطبيعة في مجال من أهم مجالات الفلسفة، وهو نظرية المعرفة، وفي هذا التحليل انتهينا إلى أن المثالية التي تمثل أكثر الاتجاهات الفلسفية شيوعا في هذا المجال، والتي أثرت آراؤها حتى في كثير من خصومها الظاهريين، هي مذهب تفسيري فحسب، فالنظرية الجديدة في المعرفة لا تضيف شيئا إلى محتوى المعرفة البشرية، ولا تؤدي إلى تغيير في تصرف الإنسان أو سلوكه إزاء العالم الخارجي، ومع ذلك فكم من المفكرين ينظرون إلى مهمة الفلسفة في هذا المجال على هذا النحو؟ وكم منهم لا يعرضون نظريات المعرفة على أنها فعلا «نظريات» وعلى أنها تتضمن فعلا «معرفة» جديدة؟
إن هناك أسسا عديدة شائعة للتفرقة بين الفلسفة وبين العلم، ولكن هذه الأسس في نظرنا تغفل مسائل رئيسية تتحدد بها العلاقة بين الفلسفة والعلم بصورة أوضح، وهذا الإغفال راجع - قبل كل شيء - إلى الاعتقاد بأن النظريات الفلسفية التفسيرية - التي تكتفي بوصف العالم بلغة أخرى دون أن تغير من محتوى معرفتنا له أو سلوكنا فيه شيئا - هي نظريات بالمعنى العلمي لهذه الكلمة، ولا بد أن يعدل هذا الفهم لطبيعة نظريات الفلسفة، وبالتالي مشكلاتها، على نحو يزيد من إيضاح الفارق بين التفكير الفلسفي والعلمي، ولنشر هنا إلى بعض العناصر الرئيسية لطبيعة النظريات والمشكلات الفلسفية في علاقتها بالنظريات والمشكلات العلمية كما تستخلص من هذا البحث: (1)
تتميز المشكلات الفلسفية بنوع من الثبات لا يمكن أن يتمثل في مشكلات أي فرع من فروع العلم، ولو تأملنا قائمة المشكلات الرئيسية، التي يحاول كل من العالم والفيلسوف الإجابة عنها في عصور مختلفة، لوجدنا الفارق هائلا بين تغير الأولى وثبات الثانية، فالأسئلة الرئيسية التي كانت تحير العلم أيام نيوتن مختلفة عنها أيام لافوازييه أو أيام دارون، بل هي اليوم تختلف من عقد إلى آخر، وفي بعض الأحيان من سنة إلى أخرى، أما أسئلة الفلسفة فتكاد تظل كما هي، إذا استثنيا إضافة مبحث فلسفي جديد - كالبحث في القيم أو علم الجمال - من آن إلى آخر، وإن تكن الأسئلة الرئيسية في هذه المباحث الجديدة تظل بدورها متماثلة، فالفلسفة تنفرد بتلك الظاهرة الغريبة، وهي أن الأسئلة التي كان يتساءلها أفلاطون وأرسطو منذ أكثر من ألفي عام لا تبدو غريبة في نظر دارسيها المعاصرين، بل إنها تؤلف جزءا كبيرا - وفي نظر البعض الجزء الأكبر - من المشكلات التي تحاول الفلسفة اليوم إيجاد حل لها، بل إن نفس إجابات القدماء على هذه الأسئلة ما زال لها احترامها، وما زالت تعد إجابات قابلة للمناقشة في الأوساط الفلسفية، وهذا وضع غريب تنفرد به الفلسفة عن جميع علوم البشر وأبحاثهم، والمهم في هذا الوضع هو أن نحاول تعليله؛ إذ إنه - مع كونه معترفا به لدى الأغلبية الكبرى من الفلاسفة - لا يعلل تعليلا شافيا على الإطلاق.
وفي رأينا أنه إذا كان هناك ما يسمى بالعنصر الثابت في الفلسفة، فإنه راجع إلى ارتباط الفلسفة بالموقف الطبيعي لا العلمي، فكل المعارف التي ترتبط بالموقف العلمي تتطور مع العلم في تاريخه الذي سار في تغير مطرد كان بطيئا أول الأمر، ثم أصبحت سرعته الآن لا تكاد تسمح بملاحقته، أما الموقف الطبيعي فلا تغير فيه: فإدراك الإنسان للعالم الخارجي هو هو لم يتغير، ولا نستطيع أن نقول: إن الإنسان كان يدرك الجبل أيام أفلاطون بطريقة تختلف عن طريقة إدراكه له اليوم، أو كان يستخدم قدميه في تسلقه بطريقة مغايرة، وكما قلنا من قبل، فإن الفلسفة قد اتخذت من هذا الموقف الطبيعي موضوعا لتفكيرها، وإن تكن في معظم الأحيان قد أتت «بنظريات» تخالفه (على المستوى الفكري لا العملي)، وفي رأينا أن هذا الارتباط بين موضوع التفكير الفلسفي وعناصر الموقف الطبيعي هو الذي أضفى على المشكلات الفلسفية هذا الثبات، وإذا كانت الفلسفة هي المبحث الوحيد الذي لم يطرأ عليه تغير يناظر أو يقترب من تغير أبطأ العلوم تطورا؛ فذلك راجع أيضا إلى أنها هي المبحث الوحيد الذي لا يملك من المنهج ومن الأساليب أو الوسائل ما يمكنه من النظر إلى موضوعاته من الزاوية العلمية، وإنما يضطر إلى اتخاذ نقطة بدايته من عالم الإنسان كما يحيا حياته اليومية، فما حدث عندما قال باركلي - مثلا - بلا مادية العالم الخارجي، لم يكن تجربة علمية توصل منها إلى أي شيء، ولم يكن نظرة إلى موضوعات إدراكنا بوسائل غير الوسائل التي ندركها أو نفكر فيها بها، وإنما قال: «إن نفس هذه المنضدة التي أدركها في موقفي الطبيعي على أنها مادية لا بد أن تكون غير مادية؛ لأن استدلالاتي المنطقية التي طبقتها عليها تؤدي إلى هذه النتيجة.» ولما كانت هذه المنضدة ذاتها - أو «الأشياء» المحيطة بنا - هي نفسها موضوع تفكير أفلاطون وأرسطو وديكارت وكانت (مع اختلاف النتائج التي وصلوا إليها بشأنها)، فليس من الصعب عندئذ أن نفسر ثبات موضوعات التفكير الفلسفي.
والذي يحدث هو أن الباحثين في نظرية المعرفة - من الفلاسفة - كانوا يعملون على تحليل الطريقة التي يعرفون بها هذا العالم المحيط بنا - وهو نفس العالم على الدوام - عن طريق ما يمكن أن نسميه ب «الاستبطان المعرفي»: أي إن كلا منهم كان يرقب ما يحدث في نفسه حين يقول إنه يعرف، وعلى أي نحو تكون علاقته بالموضوعات عندئذ، ثم يطلع علينا بنظريته، ولا شك في أن اتجاه ونتيجة هذه النظرية - ولا سيما من حيث مخالفتها أو موافقتها للموقف الطبيعي - يتوقف على العامل «المعنوي» الذي أشرنا إليه في الفصل السابق، ولكن المنهج الذي يتبعه الفيلسوف، والوسائل التي يبرر بها نتائجه، لا تعدو أن تكون ملاحظة ووصفا لما يحدث بالفعل خلال تلك العملية التي يسميها بعملية المعرفة، وهنا أيضا نجد مبررا لثبات الأبحاث الفلسفية في هذا الميدان الذي لا يمكن أن يطرأ على الوسائل المتوافرة لدى الفلاسفة فيه تغير.
وإذن، ففي وسعنا أن نجد تعليلا لثبات الأبحاث الفلسفية - في ميدان نظرية المعرفة - بتأمل «موضوع» تلك الأبحاث، وهو الذي يتخذ نقطة بدايته من عالم الأشياء كما تتبدى للإنسان في موقفه الطبيعي، وبتأمل «وسيلة» أو «منهج» تلك الأبحاث، وهو تحليل الفيلسوف لتجربته في المعرفة، وهي تجربة قد يتغير محتواها ولكن شكلها وإطارها الرئيسي لا يتغير، وإذن فالتعليل الوحيد لثبات الأبحاث الفلسفية - في الميدان الذي نتناوله في هذا البحث - هو ارتباطها بالموقف الطبيعي، وصحيح أن النتائج التي ينتهي إليها معظم الفلاسفة تخالف هذا الموقف، ولكن المهم في الأمر هو أنه يمثل نقطة بداية الأبحاث الفلسفية، والمعيار الذي تقاس به الخلافات بين المذاهب. (2)
وتؤدي الصفة السابقة مباشرة إلى صبغ التطور الفلسفي بصبغة تختلف تماما عن التطور العلمي، فالتطور العلمي في أساسه تراكمي، يستفيد فيه الجديد من القديم ويكمله ويدمجه - في معظم الأحيان - في نسق أوسع، ومهما حدث من طفرات في العلم فإنها تكون دائما متأثرة بالتطورات السابقة، وباعثة لسلسلة جديدة من التطورات، أما الفلسفة فإن مسارها ليس تراكميا على الإطلاق، ولا يمكن أن يقال: إن التطور فيها من القديم إلى الجديد يتم بانتظام حسب تسلسل منطقي، وليس معنى ذلك أن التاريخ لا قيمة له في تطور الفلسفة، فتأثر الفيلسوف بعصره وبالتيارات السابقة عليه أمر لا ينكر، ولكن النتائج والحلول التي يتوصل إليها الفلاسفة ليست متكاملة بالضرورة، بل إن أي فيلسوف يستطيع أن يتخلى تماما عن جميع السوابق، ويأتي بحل - أو على الأصح بتحليل - جديد للمشكلة دون أن يلومه أحد على تجاهل الحلول السابقة، كذلك فإن دارس الفلسفة يستطيع أن يرفض رأي أي فيلسوف حديث في مشكلة ما، ويفضل عليه رأي فيلسوف قديم، دون أن يجد أحد في هذا أية غرابة، وهكذا رأينا «هويتهد» مثلا يقول: إن أحدا لم يفق أفلاطون، وهي عبارة لا تطلق بمعنى أن أفلاطون متفوق على غيره نسبيا فحسب، بل قد تستخدم كذلك بمعنى مطلق، أي بمعنى أننا نستطيع أن نجد لدى أفلاطون حلولا للمشاكل الفلسفية تفوق كثيرا من الحلول الحديثة، أو على الأقل استباقا لمعظم المشاكل التي انشغلت بها الفلسفة حتى الآن، وهكذا أيضا كنا نجد في الفلسفة حركات إحياء لاتجاهات فكرية قديمة ينظر إليها على أنها هي التي أتت بالحل الصحيح لمشاكلنا الحالية: فالكانتية الجديدة تظهر بعد قرن من وفاة الفيلسوف الذي انتسبت إليه، بل إن «التومية الجديدة» تظهر بعد «توما الإكويني» بسبع مئة عام، وتتخذ من فلسفته مرجعا، دون أن تضيف إليها سوى بعض التفسيرات أو التفصيلات التي لا تؤدي إلى تغيير جوهري في الأصل.
ولقد كان كانت من الفلاسفة القلائل الذين لم يكتفوا بإدراك هذا الفارق بين تطور الفلسفة وتطور العلم، بل رأوا أنه يمثل نقصا في الفلسفة، وأخذوا على عاتقهم تدارك هذا النقص، ففي مستهل تصدير الطبعة الثانية ل «نقد العقل الخالص» ينعى كانت على الفلسفة افتقارها إلى الدقة العلمية، ويرى أن معيار هذا الافتقار إلى الدقة هو توقف المعرفة بعد جهود متواصلة متكررة، وبعد أن يبدو أنها قد اقتربت من هدفها، ثم اضطرارها إلى الرجوع والبدء من جديد، وعدم اتفاق المشتركين فيها على أية خطة مشتركة للعمل، وهذه الصفات كلها في رأي كانت تتجمع في الميتافيزيقا، وهكذا حدد كانت هدفه منذ البداية بأنه جعل الميتافيزيقا تسير في «طريق العلم المأمون» الذي تستطيع فيه التخلص من عيوبها القديمة هذه وتسير في الطريق الذي تقدمت العلوم بفضل سيرها فيه، أي أن تصبح الميتافيزيقا معرفة يكمل الجديد فيها القديم ويستفيد منه، ولا يحاول الحلول محله وإخراجه تماما من الميدان.
وإذن، فها هو ذا فيلسوف أدرك بكل وضوح ذلك الفارق الذي أشرنا إليه بين تطور الفلسفة وتطور العلم، وركز جهده في محاولة إزالة ذلك الفارق وجعل الفلسفة تقتدي بالعلم في تطوره، ولكن إلى أي حد نجح ذلك الفيلسوف في تحقيق هذا الهدف؟
إن فلسفة كانت قامت على بضع دعائم أساسية: أولها إمكان الأحكام التركيبية الأولية، ثم رأيه في الزمان والمكان، ولوحة الأحكام وما تؤدي إليها من المقولات، فإذا انهارت هذه الدعائم الأساسية المرتبطة فيما بينها كان في ذلك انهيار للبناء كله، وهذا بالفعل ما حدث بعد فترة وجيزة من وفاة كانت: ففكرة الأحكام التركيبية الأولية ذاتها قد نقدت نقدا عنيفا، ونفى كثير من علماء الطبيعة والرياضة أن أحكامهم من هذا النوع، وكان مجرد ظهور الهندسة اللاإقليدية عاملا على هدم معظم آراء كانت في طبيعة الرياضة، وبالتالي في «الحساسية الترنسندنتالية»، أما لوحة الأحكام التي بنيت عليها آراؤه في التحليل الترنسندنتالي ومعظم تقسيماته وتصنيفاته الفلسفية، فقد كانت لوحة عتيقة سرعان ما ثار عليها المنطق الحديث ولم يعد يربط بينها وبين التركيب الضروري للذهن على الإطلاق.
وهنا يكون من المفيد إلى حد بعيد أن نقارن بين تفكير كانت وتفكير نيوتن: فصحيح أن آراء نيوتن لم تعد هي المسيطرة على العلم اليوم، غير أنها كانت - بلا شك - عاملا ممهدا لكل التطورات التالية التي لا يمكن أن تفهم بدونها، وما زالت فيها إلى اليوم عناصر صالحة في ميادين خاصة، ولا سيما الميكانيكا، أما آراء كانت فإن نقد فكرة القضايا الأولية التركيبية هو وحده كفيل بهدمها من أساسها.
وإذن فمن الممكن أن ينهار المذهب الفلسفي من أساسه دون أن يبقى منه شيء إذا كانت مقدماته باطلة، ويظل التطور الفلسفي يتم عن طريق «الاستبدال»، أي سعي كل مذهب إلى الحلول محل الآخر بدلا من تكملته، وهكذا لم يستطع كانت على الإطلاق أن يوجه الميتافيزيقا في «طريق العلم المأمون»، وظلت الفلسفة من بعده تبدأ على الدوام بدايات جديدة كلما بدا لها أنها اقتربت من هدفها. •••
هكذا كان طابع الفلسفة النظرية منذ بدايتها إلى اليوم: مجموعة من المشاكل التي لا يطرأ عليها تغير أساسي، ومذاهب تأتي بحلول «استبدالية» لا «تراكمية» لهذه المشاكل، وكم تضمن تاريخ الفلسفة من محاولات مستمرة للاقتداء بالعلم، كانت تروح على الدوام هباء نتيجة للاختلاف الأساسي بينها وبين العلم في المنهج والوسائل المتوافرة وطريقة التطور، وكم تضمن كذلك من محاولات للتقريب بينها وبين المبحث الأدبي البحت، ولكن هذه المحاولات كانت تتعثر دائما إزاء ادعاء الفلاسفة أنهم يساهمون إيجابيا في توسيع نطاق «محتوى» المعرفة البشرية.
ولو نظرنا إلى أهم المسائل التي كانت موضوعا للبحث الفلسفي حتى اليوم لوجدنا أنها تتعلق بالتساؤل عن أمور يعدها الموقف الطبيعي حقائق مسلما بها، وهو تساؤل كان في معظم الأحيان ينتهي إلى التشكيك في هذه الحقائق أو إنكارها، وهكذا يتساءل الفيلسوف عن وجود الذات أو وجود العالم الخارجي وعن إمكان المعرفة ... إلخ، ولهذا النوع من الأبحاث نتيجتان ممكنتان: فإذا انتهى الفيلسوف من أبحاثه إلى نتيجة إيجابية - وهذا يتمثل في فئة قليلة من الفلاسفة - فكل ما يفعله هو الرجوع إلى النقطة التي يبدأ منها الإنسان العادي، والتي يسلم فيها بأن لديه معرفة، وبأن هناك عالما خارجيا وذوات أخرى ... إلخ، أما إذا انتهى الفيلسوف إلى نتيجة سلبية فإن النتيجة هي التشكيك في أبسط وقائع الموقف الطبيعي، والانتهاء إلى تلك الحالة التي يتناقض فيها التفكير النظري مع السلوك العملي أشد التناقض، وهكذا تنفرد الفلسفة بأنها ذلك المبحث الذي يقضي فيه أناس متخصصون حياتهم كلها في التأمل والتفكير، وينتهون آخر الأمر إلى أن العالم الخارجي غير موجود، أو أن وجود الذوات الأخرى أمر مشكوك فيه، في الوقت الذي لا يكفون فيه عن التعامل مع موضوعات ذلك العالم الخارجي أو مع الذوات الأخرى على نفس النحو الذي يتعامل به معهما من يكتفي بالموقف الطبيعي.
وأعترف هنا في خاتمة هذا البحث - كما اعترفت في مقدمته - بأن دهشة «الإنسان العادي» واستنكاره لمحاولة التشكيك في «وجود العالم أو وجود الذوات الأخرى» لم تفارقني لحظة واحدة طوال دراستي الفلسفية، وإني لأعتقد أن مثل هذا «الإيمان الطبيعي» - بما يتميز به من قوة شديدة، وبفضل عملية التحقيق المستمرة التي يثبت بها سلوكنا العملي أن الموقف الطبيعي هو الوحيد المتسق مع نفسه في مجاله الخاص - كفيل بأن يؤدي بالمرء إلى رفض المواقف المثالية دون أي تأثر بحججها البارعة، ومع ذلك، فإن هذه الحجج قد نوقشت بشيء من التفصيل في هذا البحث الذي لم نلجأ فيه - كما يفعل الكثير من خصوم المثالية - إلى مجرد الإهابة بذلك الإيمان الطبيعي واستنكار المثالية على هذا الأساس وحده؛ ذلك لأن الحجج المثالية قائمة، وكثير منها قوي لا يسهل التخلص منه، ولكن الإيمان الطبيعي كفيل من ناحية أخرى بأن يقنع المرء بضرورة وجود خطأ أو مغالطة في هذه الحجج، وهكذا تبدأ محاولة التفنيد.
إن من العسير إصدار أحكام على المستقبل في ميدان من ميادين المعرفة فريد في بابه كالفلسفة، ولكني أستطيع أن أقول: إن يوما سيأتي على الفلاسفة يكفون فيه عن إثارة مثل هذه المشاكل المتعلقة بالتشكيك في الموقف الطبيعي أو إنكاره، حقا إن الفلسفة ظلت تناقش مثل هذه المشاكل منذ خمسة وعشرين قرنا، غير أن العصر الحاسم الذي نعيش فيه، والذي تتغير فيه وقائع أقدم عهدا من ذلك التاريخ، سيشهد حتما تغييرا مقابلا في ميدان الفلسفة، وسيجيء اليوم الذي ينظر فيه الفلاسفة أنفسهم بدهشة إلى كل من يخطر بباله سؤال مثل: هل الأشياء الخارجية أو الأذهان الأخرى، موجودة؟ أجل، سيجيء اليوم الذي يعرف فيه الفلاسفة حدود الموقف الطبيعي وحدود الموقف العلمي، ولا يخلطون كلا بالآخر، والذي يدركون فيه أن هذا الموقف الطبيعي هو الوحيد الممكن في حدوده الخاصة وبالنسبة إلى أغراضه الخاصة، وعندئذ لن يصبح للفلسفات المثالية - بالمعنى الذي استخدمناه هنا - أي مبرر، ولن يظهر ذلك النمط من المفكرين الذين يقضون حياتهم في سبيل إثبات فكرة يكذبها سلوكهم العملي نفسه في كل لحظة، ولا تؤدي - حتى إذا أخذ بها - إلى أي تغيير في هذا السلوك، أو إلى إضافة أي شيء إلى «محتوى» المعرفة البشرية أو حذف أي شيء منه.
ومما لا شك فيه أن مجال الفلسفة - كما نعرفها اليوم - سيضيق كثيرا إذا حدث مثل هذا التطور؛ إذ إن معظم المسائل التي تثار اليوم في الفلسفة تتخذ من رفض الموقف الطبيعي نقطة بداية لها، ولكن سيظل للفلسفة مع ذلك مجالها الخاص، في حدود جديدة يختفي فيها التنافس القديم بينها وبين العلم، ذلك التنافس الذي جعل الفلاسفة يظنون حتى اليوم أنهم يأتون فعلا بنظريات جديدة عن العالم، وأن آراءهم تؤدي إلى تغيير فعلي في محتوى المعرفة، وسيتحدد مجال الفلسفة بوصفها مبحثا إنسانيا
humanistic
يتضمن تعميمات «مستمدة» من عدة مجالات أخرى، ومحاولة لتنظيم التجارب البشرية في شتى الميادين، واستخلاص أحكام عامة منها و«تاريخا» لتطور الفكر البشري في اجتهاداته الصائبة والباطلة ، وسجلا للانتقال التدريجي البطيء من التفكير الخرافي القديم إلى التفكير العلمي الحديث، ولسنا ندعي أن هذا تعريف أو تحديد للمجال الوحيد الذي يمكن أن يدور في نطاقه التفلسف، وكل ما في الأمر هو أن الفلسفة لو سارت في هذا الطريق فستكون فرص بقائها في عالم المستقبل أعظم كثيرا منها لو ظلت تؤكد أن الأشياء الخارجية غير موجودة، وأن أحدا لا يوقن بوجود الآخرين أو بوجود الذات، وأن أولى خطوات التفلسف هي رفض الموقف الطبيعي للإنسان.
تذييل
حجة الأحلام في نظرية المعرفة
للشكاك والمثاليين طريقة مفضلة يتبعونها كلما حاولوا تشكيك الإنسان في واقعية العالم الذي يعيش فيه، وإثبات مثالية هذا العالم، هذه الطريقة هي الالتجاء إلى أمثلة من «الحالات الشاذة» التي تطرأ على إدراك الإنسان ومعرفته الواقعية لهذا العالم، وعن طريق هذه الحالات الشاذة يهتدون إلى الثغرة التي يمكن أن ينفذ منها النقد الشكي أو المثالي، وذلك عن طريق استدلال يسير دائما - مع بعض الاختلاف في التفاصيل - على النحو الآتي:
إذا كان لديك إدراك شاذ مثل أ أو ب أو ج ... فما الذي يضمن ألا يكون كل إدراك لديك من نفس النمط؟
وهكذا نجد الشكاك والمثاليين يتخذون نقطة بدايتهم من تعديد أمثلة لحالات في الإدراك كحالة «انكسار العصا في الماء» أو «ازدواج الإبصار» أو الهلوسة ... إلخ، وبغض النظر عن صحة أو عدم صحة المبدأ العام الذي يخضع له هذا النوع من الاستدلال، وهو المبدأ القائل: إن شذوذ - أو حتى خطأ - الإدراك في بعض حالاته يبرر الشك فيه كله أو تفسيره بطريقة مضادة للطريقة الواقعية «المألوفة»، فلزام على كل باحث في نظرية المعرفة أن يواجه هذه الحجج الأساسية، ويكون أمامه إما أن يقتنع بها، وينتهي إلى النتائج التي استخلصها منها الشكاك أو المثاليون، وإما أن يناقشها من حيث تفاصيلها ومن حيث مبدؤها العام الذي ترتكز عليه، وعندئذ يكون في ذلك أيضا مناقشة للاستنتاجات الشكية والمثالية ذاتها.
والهدف من هذا المقال هو مناقشة حجة مألوفة من أمثلة «حالات الشذوذ» التي أشرنا إليها من قبل، هي حجة الأحلام، وأول ما يتبادر إلى الذهن أن الحلم ظاهرة مألوفة إلى أبعد حد، وأن من الخطأ بالتالي إدراجها ضمن حالات الشذوذ، ولكن الواقع أن الحلم مألوف من حيث هو ظاهرة نفسية، أما من حيث هو طريقة من طرق الإدراك - على نحو ما يستخدمه الفلاسفة في حجتهم هذه - فهو حالة شاذة بالقياس إلى ما اصطلحنا على تسميته بإدراكنا في «حياة اليقظة».
فلنتتبع إذن أمثلة لتلك الحجة التي يهيب فيها الفيلسوف بإدراكنا في الحلم لكي يؤكد أن كل إدراك لنا - بوجه عام - مشكوك فيه، أو أنه ذو طابع ذاتي، لا يتناول «عالما موضوعيا» على نحو ما نعتقد في «واقعيتنا الساذجة»، وليس هدفنا هنا هو أن نقدم بحثا «استقرائيا» شاملا لطريقة عرض الفلاسفة لهذه الحجة، بل سنختار بعضا من أوضح الأمثلة على سبيل النماذج فحسب؛ لكي ننتهي آخر الأمر إلى إصدار حكم على قيمة هذه الحجة بوصفها جزءا من الاستدلال الشكي أو المثالي في نظرية المعرفة.
ونستطيع أن نقول: إن لحجة الأحلام «أوجها» يؤدي كل منها إلى الآخر، وهذه الأوجه قد تتمثل كلها أو بعضها في تفكير الفيلسوف الواحد، ولكن التميز بينها يفيد في استخلاص نواحي النقد الممكنة التي يمكن أن توجه إليها، وهذه الأوجه - في نظرنا - هي: (1)
التشكيك - ولو مؤقتا - في حقيقة العالم المسمى، في النظرة المعتادة، باسم العالم الموضوعي. (2)
نقد الإدراك الحسي. (3)
تأكيد مثالية العالم. •••
وأوضح حالة تتمثل فيها المرحلة الأولى لحجة الأحلام هي حالة ديكارت، ومن المعروف أن ديكارت قد اتخذ موقف الشك التام وسيلة للوصول إلى نقطة ارتكاز ثابتة يبدأ منها التفلسف على أساس لا يتزعزع، وهنا كان دور حجة الأحلام في الشك الديكارتي أساسيا.
وينبغي في بداية مناقشة أي حجة متعلقة بالشك الديكارتي أن نوضح مسألة على جانب كبير من الأهمية؛ ذلك لأن من الممكن الاعتراض بأن مرحلة الشك عند ديكارت كانت بأسرها مرحلة افتراضية، ممهدة لمرحلة أخرى من اليقين، وأن ما يتقدم به ديكارت من الحجج في هذه المرحلة لا ينبغي أن ينظر إليه حسب قيمته الظاهرة، وإنما على أنه فرض مبالغ فيه، ولا هدف منه إلا هدم جميع المعتقدات المتلقاة لكي يبدأ بداية جديدة تماما، على أن هذا الاعتراض يجب استبعاده؛ إذ لا بد أن ديكارت قد وجد أساسا للحجج التي عرضها في مرحلة الشك، وإلا لما عرضها أصلا، ويجب أن نتوقع منه تقديم حساب عن هذه الحجج؛ إذ لا بد أنه وجد فيها نوعا من الصحة بحيث أدت بالفعل إلى تبرير شكوكه في العالم.
ولقد كانت حجة الأحلام ممتازة بوصفها وسيلة تبرر الشك؛ إذ إن من أقوى الأسباب التي يرجع إليها الاعتقاد «الساذج» بأن إدراكاتنا تسببها «أشياء» موجودة بالفعل في عالم واقعي حدوث هذه الإدراكات رغما عن إرادتنا، وهذه اللاإرادية في فئة معينة من الإدراكات سلاح قوي جدا في يد الواقعي؛ إذ إنه يستطيع دائما أن يحرج المثالي غير الدقيق بقوله: إذا كان العالم ذاتيا كما تقول، فما هو الفارق بين تمثلي لأفكاري الخاصة وتمثلي للموضوعات الخارجية؟ ولماذا أستطيع أن أنتج الأولى بإرادتي بينما الثانية تفرض نفسها فرضا علي، ولا تحدث إلا إذا توافرت شروط معينة لا أستطيع التحكم فيها بنفسي؟ لا بد أن للأولى مصدرا ذا طبيعة مغايرة تماما لمصدر الثانية، وهنا يكون أفضل رد للمثالي هو أن يشير إلى ظاهرة الأحلام التي هي بدورها لا إرادية، ولكن لا يستطيع أحد أن يقول: إن محتوياتها مطابقة لموضوعات فعلية في العالم الخارجي، وهذا بالفعل ما يلجأ إليه ديكارت في «التأمل الثالث»، ففي ظاهرة الأحلام مثال واضح لإدراكات يتعلق الكثير منها بموضوعات خارجية، وتحدث رغما عن إرادة الإنسان، ومع ذلك فمصدرها ليس الأشياء الخارجية.
وهنا تقوى حجة الشك إلى أبعد حد: فإن كانت لدي هذه الفئة من الإدراكات، فما الذي يضمن ألا يكون كل إدراك أسميه حسيا من هذا النوع ذاته؟ هذا هو السؤال الذي لا يفتأ ديكارت يردده كلما كان بصدد التعبير عن شكه المنهجي،
1
وصيغة السؤال في هذه المرحلة لا تتجاوز الطابع السلبي، أي إن الحجة لا تقطع هنا بأي شيء ، بل إن كل ما تؤكده هو أن العالم الخارجي - من الوجهة المنطقية الخاصة - قد يكون خداعا، مما يمهد السبيل للارتكاز على حقيقة أولى لا ترجع حجتها إلا إلى البداهة الذاتية المباشرة، التي لا تتصل بأي موضوع خارجي.
ومن الطريف جدا أن نعيد إلى الأذهان الطريقة التي تخلص بها ديكارت من حجة الأحلام في مرحلتها الأولى هذه، ومما تؤدي إليه من شك في حقيقة العالم الخارجي، فلم يكن تخلص ديكارت من هذه الحجة هنا عن طريق الإتيان بحجج مضادة لها، أو عن طريق تفنيدها منطقيا، بل تم ذلك بفضل استعادة ثقته بالعالم حين أيقن من وجود إله خالق له، ولنحلل بدقة تعبيره ذا الدلالة البالغة عن الطريقة التي استبعد بها شكوكه هذه، وخاصة الشك المتعلق بعدم القدرة على التمييز بين النوم واليقظة: «إذ إنني أدرك بينهما الآن فارقا هائلا، هو أن ذاكرتنا لا تستطيع أبدا أن تربط وتضم أحلامنا بعضها إلى بعض وإلى بقية أطراف حياتنا، مثلما تألف ضم الأشياء التي تمر بنا في يقظتنا ... ولا ينبغي بأية حال أن أشك في حقيقة هذه الأشياء، إذا ما حدث بعد أن حشدت كل حواسي وذاكرتي وفهمي لفحصها، إن لم يرد إلي عن طريق إحدى هذه القوى ما يتنافر مع ما يرد إلي من الأخريات؛ «إذ إن استحالة كون الله خادعا تستتبع بالضرورة ألا أكون في هذا الصدد مخدوعا»، ولكن نظرا إلى أن ضرورة الظروف ترغمنا في كثير من الأحيان على أن نضع قرارا دون أن نكون قد أتيحت لنا المهلة الكافية لفحصه بعناية، فينبغي أن نعرف بأن حياة الإنسان معرضة للخطأ في كثير من الأحيان بالنسبة إلى الأشياء الخاصة، وأن نعترف أخيرا بتهافت طبيعتنا وضعفها.»
2
من الواضح إذن أن الوسيلة التي يراها ديكارت كفيلة باستعادة ثقته بالعالم، وللتمكن من التمييز بين عالم اليقظة وعالم الأحلام، هي (اتساق) أفكارنا الخاصة بالعالم الواقعي أو عالم اليقظة وعدم وجود تنافر بينها، وهنا ينبغي أن نتساءل: هل يعد هذا ردا مقنعا على الشك الكامل الذي أثاره ديكارت في البداية؟ الواقع أن شكه كان أقوى من أن تبدده فكرة الاتساق هذه؛ إذ إنه - في حالة الشك هذه - كان خليقا بأن يقول: إن أحلامه كثيرا ما تتبدى له تامة الاتساق، وأي فارق بينها وبين اليقظة في هذا الصدد سيكون فارقا في الدرجة فحسب، بحيث لا بد أن توجد حالات يعجز فيها المرء عن إيجاد تفرقة قاطعة بين العالمين من خلال فكرة الاتساق وحدها.
وفضلا عن ذلك، فإن كان الاتساق كافيا لتبديد هذه الشكوك، فما الذي منع ديكارت من استنتاج وجود هذا الاتساق منذ البداية، فلا يبقى لشكه أي أثر منذ بداية الأمر؟ إن ديكارت - كما هو واضح - لم يستنتجه من شيء، فلا بد إذن أن نفترض أنه يقول بالاتساق بعد أن هدأت نفسه عندما توصل إلى فكرة الله؛ إذ تأكد عندئذ أن العالم ليس فوضى، وأنه أهل للثقة، وفي ضوء هذه الثقة وحدها يمكننا أن نبرر اكتفاءه بفكرة اتساق اليقظة لتبديد شكوك كانت - بلا شك - أقوى من أن تبدد بهذه السهولة.
أما من الوجهة المنطقية الخالصة، فلم يكن ديكارت محتاجا إلى هذه الرحلة الطويلة التي انتقل فيها من الشك إلى اليقين؛ لأنه لم يستنتج منها منطقيا شيئا في هذا الصدد؛ إذ إن فكرة الاتساق ليست في حاجة إلى الكوجيتو أو فكرة الله، هذا إلى أن آخر ما ينتهي إليه في التأملات ما زال نوعا من الشك أو عدم الثقة في معرفة الإنسان، التي ظل إلى النهاية يعدها ضعيفة هشة معرضة للخطأ.
ففائدة هذه المرحلة المتوسطة إذن لم تكن منطقية، وإنما هي - في رأينا - «نفسية»، وديكارت كان محتاجا إلى دعامة نفسية يستعيد بها ثقته في العالم، وكان يكفيه أن يجد هذه الدعامة في فكرة الله؛ لكي تصطبغ كل الأشياء بصبغة جديدة، ويصبح أكثر استعدادا للاقتناع بأفكار كانت هي ذاتها غير قادرة على تبديد الشك في بداية الأمر. •••
وإذا كان الوجه الأول للحجة يتعلق بالشك في إدراكنا الخارجي، فإن الوجه الثاني يتعلق بالشك في طريقتنا أو وسيلتنا إلى هذا الإدراك ، ولا شك أن بين الأمرين ارتباطا وثيقا: فإذا وصل بنا الأمر إلى حد توجيه السؤال: أليس من الجائز أن يكون إدراكنا للعالم الخارجي مجرد إدراك ذاتي، ما دمنا في حالة الأحلام نمارس مدركات تبدو لنا خارجية، ولا تتوقف بالفعل على إرادتنا، ومع ذلك فنحن على يقين من أن مصدرها ليس هو الأشياء الخارجية؟ إذا وصل الأمر إلى هذا الحد، فمن الطبيعي أن يتضمن هذا الشك شكا آخر في وسيلتنا إلى إدراك هذا العالم؛ إذ إن هذه الوسيلة تؤكد لنا أنه خارجي، بينما (قد يكون) هذا العالم - كما رأينا الآن - داخليا بحتا.
واستخدام حجة الأحلام للشك في المعرفة الحسية قديم مألوف في تاريخ الفلسفة، وإذا كان ديكارت قد جعل هذه الحجة كلاسيكية في كتاباته، فإنه لم يكن على الإطلاق أول من تنبه إليها، فمنذ أفلاطون استخدمت الحجة وسيلة للطعن في صحة المعرفة الحسية ذاتها إلى جانب العالم الحسي، ويتمثل الارتباط بين الوجه الأول والوجه الثاني لحجة الأحلام بوضوح في قول أفلاطون في «تيتاتوس»:
سقراط : ... كيف يمكنك أن تحدد ما إذا كنا في هذه اللحظة نياما وكل أفكارنا حلم، أم أيقاظا يتحدث كل منا إلى الآخر عن وعي؟
تيتاتوس :
الحق أنني لست أدري يا سقراط كيف أرجح أحد الأمرين على الآخر ...
سقراط : ... وهكذا ترى أن من الممكن بسهولة إثارة الشك حول حقيقة الحس، ما دام هناك شك حتى فيما إذا كنا أيقاظا أو نياما، ولما كان وقتنا مقسما بالتساوي بين النوم واليقظة، فإن النفس تؤكد في كل من مجالي الوجود هذين أن الأفكار الحاضرة في أذهاننا في تلك اللحظة صحيحة، فتؤكد صحة أحدهما في أحد نصفي حياتنا، وصحة الآخر في النصف الآخر، ويكون لدينا نفس القدر من الثقة بالأمرين معا.
3
وبغض النظر عن قيمة الحجة التي يقدمها أفلاطون، والتي تناولتها المثالية من بعده وعرضتها بصور شتى، فلنلاحظ هنا - على الأقل - أن عرضه لم يكن موفقا تماما؛ إذ إنه بعد تقسيمه الحياة ب «التساوي» إلى نوم ويقظة، يفترض أن الأحلام تحتل كل هذا النصف المسمى بالنوم، ورغم أن الفارق بين ما يقول به أفلاطون وبين ما يحدث في الواقع - حيث لا يمثل النوم «نصف» وقتنا، ولا تشغل الأحلام من النوم إلا وقتا ضئيلا - فارق في الكم فحسب، فلا جدال في أن قيمة حجة الأحلام كانت تعلو كثيرا لو كان وقت الإنسان مقسما بالتساوي بين نصفين يمتلئ أحدهما بإدراكات يسميها «يقظة» والآخر بإدراكات يسميها «حلما»، غير أن المسألة - لحسن الحظ - ليست معقدة إلى هذا الحد، ولا جدال أنه حتى مع افتراض حالة الشك فإن حياة اليقظة مرجحة - كميا على الأقل - على حياة الأحلام بدرجة كبيرة.
ولو اختبرنا عن كثب هذا النقد الذي يوجه إلى الإدراك الحسي عن طريق حجة الأحلام لوجدنا أنه حتى لو صح، فلا يمكن أن يعد اعتراضا على صحة المعرفة بالحواس، فكل ما يؤدي إليه هذا النقد الذي لم يكن أفلاطون إلا الحلقة الأولى من سلسلة طويلة من موجهيه، هو أننا لا نستطيع أحيانا أن نتأكد إن كانت تجربتنا حسية أم لا، أي إن إدراكنا الحسي يصعب تمييزه بصفة قاطعة من إدراكنا غير الحسي في الأحلام، بحيث لا يستطيع المرء أن يجد معيارا دقيقا يحدد به أيهما هذا وأيهما ذاك، وبعبارة أخرى: فإذا استطعنا أن نهتدي إلى طريقة نميز بها دائما بين الإدراك الحسي وبين الأحلام، فسوف تكون مهمة هذا النقد قد انتهت، وينتهي الإشكال بالنسبة إليه، فدور هذا الوجه من حجة الأحلام ينحصر إذن في التشكيك في إمكان التفرقة بين الإدراك الحسي وإدراك الأحلام، ولكنه ليس على الإطلاق تفنيدا للإدراك الحسي ذاته، بل إنه لا يمسه على الإطلاق، ومن الممكن جدا أن يكون الإنسان مؤمنا كل الإيمان بأن الإدراك الحسي يلعب الدور الأهم في المعرفة - على عكس ما كان يعتقد أفلاطون - ويظل مع ذلك يشكو من وجود ذلك النوع الآخر من الإدراك الذي يشككنا في أصالة إدراكنا الحسي، فليس مما يحط من قدر الإدراك الحسي في ذاته أبدا أن يكون هناك نوع آخر من الإدراك يشبهه إلى حد يجعل الأمر بينهما مختلطا على ذهن الإنسان.
ولنضرب لذلك مثلا: فإذا كان لديك عدد من العملات بعضها زائف وبعضها من الذهب الخالص، دون أن يمكنك التمييز بينهما على نحو قاطع، فسوف تشك في قيمة أية واحدة منها إن حاولت تداولها، غير أن مثل هذا الشك لا يعدو أن يكون عجزا عن التفرقة بين الصحيح والمزيف، ومن المحال أن ينطوي على أي تشكيك في قيمة الذهب ذاته، بل إنك لو تمكنت من فصله من غيره على نحو قاطع - بحيث تستخرجه نقيا - فلن يعود شكك الأول منصبا عليه. •••
والوجه الأخير والأكمل لحجة الأحلام هو ذلك الذي تغدو فيه الحجة عنصرا إيجابيا مكملا للرأي المثالي في نظرية المعرفة، وهذا الوجه بدوره لا يمكن فصله بحال عن الأوجه السابقة، التي تعد في الواقع تمهيدا ضروريا؛ إذ إن حجة الأحلام إن كانت تؤدي إلى شكنا في الموضوعات الخارجية وإلى «نقد» المعرفة الحسية، فإن الخطوة الطبيعية التي تلي ذلك هي القول إيجابيا بمثالية المعرفة، والوسيلة التي تستخدم بها حجة الأحكام لإثبات مثالية المعرفة، هي القول إيجابيا بأن عالم الأحلام لا يتميز بالفعل عن عالم الواقع، فهنا يستخدم المثالي حجة الأحلام لا بوصفها تعبيرا عن مرحلة من الشك سرعان ما يتجاوزها، بل بوصفها حجة قائمة عنيدة لا يمكن التخلص منها، وتؤدي بالفعل إلى نوع من محو التفرقة بين عالم اليقظة وعالم الأحلام.
ففي فلسفة باركلي تلعب هذه الحجة دورا هاما؛ لأنها في نظره دليل «إيجابي» على إمكان وجود إدراكات لا تقابلها أجسام خارجية. «فما يحدث في الأحلام يدل على أن من الممكن أن نتأثر بجميع الأفكار التي لدينا الآن دون أن تكون هنالك أجسام تشابهها؛ وعلى ذلك فمن الواضح أن افتراض الأجسام الخارجية ليس ضروريا لإحداث أفكارنا، ما دام من المعترف به أن هذه الأفكار قد تحدث أحيانا - وربما كانت تحدث دائما - بنفس الترتيب الذي نراها به حاليا، دون وجود الأجسام الخارجية.»
4
هنا إذن تستخدم حجة الأحلام لإثبات أن «افتراض وجود الأجسام الخارجية ليس ضروريا لإحداث أفكارنا»، وهو - كما نرى - هدف يتجاوز الهدفين السابقين؛ إذ إنه ليس مجرد «شك» عابر في وجود العالم الخارجي أو نقد لدور إدراكنا الحسي في المعرفة، بل هو النتيجة الضرورية التي يستخلصها المثالي من هذه القضايا السابقة.
والسؤال الذي لا تتضمن فلسفة باركلي ردا صريحا عليه هو: إذا كان التماثل في ترتيب أفكار الأحلام وترتيبها في عالم اليقظة يؤدي إلى القول بأن أفكارنا لا تحتاج في حدوثها إلى موضوعات خارجية، فعلى أي نحو نستطيع أن نميز بين ما نراه في الأحلام وما يحدث في اليقظة؟ ولا شك أنه يكاد يكون من المستحيل - إذا سلم المرء بجميع استنتاجات باركلي - أن يهتدي إلى معيار قاطع ومن المؤكد أنه هو ذاته، بعد أن استخدم الحجة على هذا النحو، لم يحاول تقديم هذا المعيار، وترك الأمر معلقا عند هذا الحد.
وكما كانت «المثالية النقدية» عند كانت هي في عمومها محاولة لإصلاح كثير من أخطاء المثالية «المادية» عند باركلي، فقد حاول كانت أن يسد هذا النقص في فلسفة باركي؛ إذ إنه كان واعيا بما يؤدي إليه رأي باركلي، وأي مذهب مثالي آخر ينكر وجود أشياء خارجية تطابق إدراكاتنا أو «أفكارنا» من عجز عن التفرقة بين فئة «الأفكار» التي ننسبها إلى موضوعات خارجية، وتلك التي تبدو منتسبة إليها، ولكن يعترف بأن لها أصلا داخليا في نهاية الأمر كالهلوسات والأحلام، وأيا ما كان موقف المفكر من مشكلة وجود العالم الخارجي، فلا بد أن يعترف بأن هاتين الفئتين متميزتان في ذهننا على الدوام، وبأن من الضروري - تبعا لذلك - أن يكون هناك معيار ما للتفرقة بينهما، هذا المعيار هو تسلسل الظواهر الزمني تبعا لقاعدة، وهو ما يحدث في حالة العلاقة الموضوعية وحدها: «فإذا ما تساءلنا عن تلك الصفة الجديدة التي تضفيها «العلاقة بموضوع» على تمثلاتنا، وعن الشرف الذي تكتسبه التمثلات بفضل هذه العلاقة، لوجدنا أن تلك العلاقة لا تسفر إلا عن إخضاع التمثلات لقاعدة، وبالتالي تجعل من المحتم علينا ربطها على نحو محدد ما، ولوجدنا مقابل ذلك أن تمثلاتنا لا تكتسب معنى موضوعيا إلا بقدر ما يكون من المحتم إخضاعها لقاعدة معينة فيما يتعلق بعلاقاتها الزمنية.»
5
هذه القاعدة التي تنظم العلاقات الزمنية للتمثلات - هي في رأي كانت - تعاقب العلة والمعلول، «وإذن فعلاقة الظواهر (بوصفها إدراكات ممكنة)، وهي العلاقة التي يتحدد فيها الحادث اللاحق في الزمان بالضرورة ... بشيء سابق عليه وفقا لقاعدة، أعني - بعبارة أخرى - علاقة العلة بالمعلول، هي شرط للصحة الموضوعية لأحكامنا التجريبية فيما يتعلق بسلسلة الإدراكات، وبالتالي بحقيقتها التجريبية، أي إنها هي شرط التجربة.»
6
ولو لم يتوافر هذا الشرط - أي «لو أكدت السابق ولم يتل منه اللاحق بالضرورة - لتحتم علي أن أعد التعاقب مجرد ممارسة لخيالنا، فإذا ما ظللت مع ذلك أتمثله شيئا موضوعيا، فعندئذ يكون علي أن أسميه مجرد حلم.»
7
وفي «المدخل إلى كل ميتافيزيقا» تتخذ فكرة الخضوع لقوانين التجربة هذه اسم «الترابط»، فيقول: «إن الفارق بين الحقيقة
Wahrheit » (كان الأدق استخدام كلمة
Wirklich heit
في هذا المجال) والحلم لا ينتج عن طبيعة التمثلات التي تتعلق بالأشياء - إذ إن هذه التمثلات واحدة في الحالتين - وإنما عن ترابطها تبعا للقواعد التي تحدد ارتباط التمثلات في تصور الموضوع، وبقدر ما يمكن اقتران هذه التمثلات أو عدم اقترانها في تجربة.»
8
وهكذا تعد المثالية النقدية عند كانت تقدما على مثالية باركلي الأقرب إلى السذاجة، إذ إن كانت على الأقل أكثر شعورا بما يمكن أن تؤدي إليه المثالية - في إنكارها وجود الموضوع الخارجي - من عجز عن التفرقة بين عالم اليقظة وعالم الأحلام.
ولا يستطيع المرء إلا أن يعترف مع كانت بأن كثيرا من الأحلام تفتقر إلى الارتباط العلي الذي تتميز به حياة اليقظة، ولكن هذا الرأي - كما لاحظ شوبنهور - يحتاج إلى إيضاح، فكثير من الأحلام تتميز بالتماسك الداخلي وبالارتباط العلي بين حوادثها المفردة،
9
فالافتقار إلى العلية إذن ليس صفة كامنة في الحلم ذاته، يتميز بها عن حياة اليقظة، وإنما هو صفة «للعلاقة» بين حياة اليقظة والأحلام، ولكن يلاحظ من جهة أخرى أن تطبيق هذا المعيار يحتاج إلى انتباه ودقة قلما تتوافر في تجربة الإنسان المعتادة، فقد أتذكر مثلا أنني رأيت صديقي في مكان ما منذ مدة ما، ونظرا إلى غموض هذا التذكر، فقد يداخلني الشك فيما إذا كنت رأيته بالفعل أم حلمت بأنني رأيته، ولكي أطبق معيار كانت، فعلي أن أبحث عن سلسلة الحوادث المرتبطة برؤية صديقي في ذلك الحين حتى أصل حلقة حلقة إلى حادث أجربه في اللحظة الحالية، وهو أمر يكاد في كثير من الأحيان يكون مستحيلا.
ومن جهة أخرى، فإذا كان في حياة اليقظة اتصال، وفي داخل الحلم أيضا اتصال، فكيف نميز بينهما على أساس موضوعي؟ إن التمييز الموضوعي محال في رأي شوبنهور؛ إذ إننا «إذا اتخذنا موقفا في الحكم خارجا عن كليهما، فلن نجد فارقا مميزا في طبيعتهما، وسنضطر إلى التسليم مع الشعراء بأن الحياة حلم طويل.»
10
وربما رد قائل على ذلك بأننا لا نستطيع اتخاذ موقف في الحكم خارج عن الاثنين، إذ إننا دائما مندمجون في إحدى الحالتين، فإما حلم وإما يقظة، وهنا تعود المشكلة كما كانت منذ البداية؛ إذ يرتد السؤال الأصلي: كيف نثق من أننا في هذه الحالة ولسنا في تلك؟ وما المعيار القاطع للتمييز؟
هكذا يبدو أن المعيار الذي أتى به كانت قد أخفق، وهنا لا يجد الفيلسوف المثالي مفرا من الاعتراف بعجزه عن إيجاد تفرقة قاطعة بين المجالين؛ ذلك لأنه ينكر من جهة أن تكون الإدراكات ناتجة عن موضوع خارجي مستقل عن الذات، ومن جهة أخرى يضطر إلى الاعتراف بالأمر الواقع، وهو أن الأحلام بدورها ليس لها مصدر خارجي.
ويمتاز شوبنهور على كانت - من هذه الناحية - بأنه يعترف صراحة بعجزه عن التمييز بين الحلم والواقع من خلال فلسفته الخاصة، ففي الصفحات الأولى من المجلد الثاني من كتابه الرئيسي «العالم إرادة وتمثلا»، يقول: «هكذا ينبغي أن نعترف بأن العالم - في واحد من أوجهه على الأقل - مشابه للحلم، بل يمكن أن يدرج مع الحلم في فئة واحدة؛ ذلك لأن فاعلية المخ التي تخلق خلال النوم، عالما تام الموضوعية مدركا بل ملموسا، لا بد أن يكون لها دور مماثل في تشكيل عالم اليقظة الموضوعي.»
11
وهنا تصل حجة الأحلام إلى قمة فعاليتها؛ إذ تثير هذا السؤال الخطير: أليس من الجائز أن تكون حياتنا بأسرها حلما متصلا؟ والأهم من ذلك أن السؤال لا يثار - في هذه المرحلة - على مستوى الشك المؤقت أو المنهجي، بل يثار بوصفه احتمالا جديا لا يستطيع المثالي بوسائله الخاصة أن يستبعده تماما، وإذ تتخذ الحجة هذا الوجه الهام فإنها تغدو أيضا أداة في يد المثالي لها خطرها الكبير عليه؛ إذ إن إخفاقه في التمييز بين الحلم والواقع هو في الوقت ذاته حكم على مذهبه كله بالإخفاق.
ونستطيع أن نقول: إن هذه النتيجة لحجة الأحلام لا تتعلق بفيلسوف بعينه أو بفترة خاصة من فترات التفكير الفلسفي، وإنما هي في الواقع نتيجة كامنة في طبيعة الموقف المثالي ذاته، الذي أعني به، عموما، موقفا ينكر استقلال الأشياء الخارجية - إما في وجودها أو في صورتها المدركة على الأقل - عن الذاتية المدركة، ويرد هذا الوجود أو هذه الصورة المدركة إلى وجه من أوجه الذاتية، ونستطيع أن نقول بوجه عام: «إن التمييز المنطقي بين الأحلام وحالة اليقظة يغدو أصعب كلما ازداد الفيلسوف تمسكا بالمبادئ المثالية»، فالنظر إلى الحياة على أنها حلم متصل، هي إمكانية قائمة على الدوام في التفكير المثالي الأصيل.
ومن الأدلة على ذلك أن هذه الإمكانية تظهر لدى أقدم ممثلي التفكير المثالي وأحدثهم عهدا.
فلنتأمل قليلا مغزى «أسطورة الكهف» عند أفلاطون، إنها لا تعدو - في واقع الأمر - أن تكون تعبيرا مجازيا عن هذه الفكرة ذاتها، أعني فكرة «العالم بوصفه حلما متصلا أو شاملا»، فهنا توصف حياة الإنسان في هذا العالم بأنها خداع، ومعرفته بأنها معرفة ظلال فحسب، وإن التقابل بين حالة الوجود في الكهف، وبين حالة تأمل الضوء «الحقيقي» ورؤية الأشياء وقد أنارتها «الشمس الحقيقية»، إنما هو مواز تماما للتقابل بين الحلم واليقظة، فهنا يحمل أفلاطون على معرفة الإنسان في هذا العالم بأسرها، لا على لحظات أو نواح معينة في هذه المعرفة، ويثير صراحة إمكانية كون حياة الإنسان في هذا العالم خداعا أو حلما متصلا .
وفي الطرف الآخر من تاريخ الفكر الفلسفي، يجد المرء أمثلة عديدة لمفكرين معاصرين أو قريبي العهد لم يسعهم إلا أن يأخذوا مأخذ الجد تلك الفكرة القائلة باحتمال كون الحياة حلما متصلا.
مثال ذلك: إن عالما ومفكرا مشهورا مثل «هلمهولتس»؛ إذ رأى أن الإحساسات لا تشابه موضوعاتها، وأنها لا تعدو أن تكون «علامات» لا «صورا» لها، قد بدا له أن الأمر ما دام كذلك فربما كانت إحساساتنا لا تشير إلا إلى موضوعات خيالية لا حقيقية، ومن ذلك انتهى إلى قوله: «لست أدري كيف يمكن تفنيد المذهب المثالي الذاتي الذي يذهب إلى حد القول أن الحياة لا تنطوي إلا على أحلام.»
12
ويتحدث «برتراند رسل» عن هذا الاحتمال ذاته - على أساس منطقي بحت - في عدة كتب له، فهو في كتاب «معرفتنا بالعالم الخارجي» يقول: «... إنه لواضح أن من الممكن ألا يكون ما نسميه بعالم اليقظة سوى كابوس متكرر متردد إلى حد غير عادي ... وقد يكون ذلك صحيحا؛ إذ لا يمكن إثبات بطلانه، ومع ذلك فإن أحدا لا يعترف به حقيقة، فهل هناك أي أساس «منطقي» للقول بأن هذه الإمكانية غير محتملة؟»
13 ... ويجيب رسل على هذا السؤال بالنفي، وإلى مثل هذه النتيجة ينتهي رسل في كتابه «مشكلات الفلسفة»، حيث يذهب إلى أن من الممكن - من وجهة النظر الفلسفية - أن تكون الحياة حلما طويلا متصلا،
14
وهكذا يعترف بأن الفلسفة والمنطق يعجزان معا - إذا ما اقتصر على ما لديهما من الوسائل - عن استبعاد هذه الإمكانية.
وتكشف هذه المسألة ذاتها عن نقطة ضعف أخرى في الموقف المثالي، أعني عجزه عن التخلص من مذهب «الذات الوحيدة
splipsism »، فمن المحال أن تثار فكرة كون الحياة حلما متصلا إلا في ظل مذهب مبني على فكرة «الذات الوحيدة» هذه؛ ذلك لأننا إذا تساءلنا: حلم من هذا الحلم المتصل؟ فلن يكون لهذا السؤال من جواب سوى أنه حلم ذات واحدة، ما دام من المستحيل تصور كثرة من الذوات تحلم حلما متصلا، وهكذا فإن فكرة «الذات الوحيدة» هي بدورها من النتائج التي لا يكون للمثالية مفر منها إذا ما مضت إلى أقصى مداها. •••
وفي رأينا أن حجة الأحلام ليس لها من القوة ما يبدو لها لأول وهلة، بل إن من الممكن - في واقع الأمر - تفنيدها من جميع أوجهها، وسوف يكون تفنيدنا للوجهين الأولين (تبعا للترتيب الذي عرضا به في البداية) موجزا، أما الوجه الثالث - الذي يمثل أعلى مراحل الحجة، والذي هو المعيار الحقيقي لقوتها - فسوف يفند بالتفصيل: (1)
ففي الوجه الأول لهذه الحجة، أعني ذلك الذي تؤدي فيه إلى الشك في وجود عالم خارجي، تفترض الحجة مقدما وجود سبب «داخلي أو باطن» للأحلام، وهكذا، ففي وسط كل ذلك الشك الشامل الذي عرض به فيلسوف مثل ديكارت حجة الأحلام في أول أوجهها، يتقرر شيء ما - وأعني به المصدر الداخلي للأحلام - بطريقة توكيدية جازمة، فإذا كان من الأمور اليقينية أن مصدر الأحلام داخلي، فلا شك في أن هذه الفكرة اليقينية تجر وراءها حتما أفكارا يقينية أخرى، فكيف علمنا أن هذا المصدر «داخلي»؟ إن معرفة ما هو داخلي تفترض مقدما معرفة ما هو «خارجي»، ومن المستحيل على المرء أن يؤكد أن فئة معينة من إدراكاته لها مصدر داخلي إلا إذا افترض مقدما أن فئة أخرى منها لها مصدر خارجي، ومجرد كون المرء قادرا على أن يجزم عن مصدر الأحلام على هذا النحو من اليقين، يعني أن هذه الأحلام مميزة عن إدراكات أخرى بصفة خاصة بها، وهذا يتضمن القول بأن لهذه الإدراكات الأخرى طبيعة مقابلة، أي خارجية. (2)
والوجه الثاني للحجة، أي ذلك الذي يؤدي فيه إلى نقد للإدراك الحسي من حيث هو مصدر للمعرفة، يهدم نفسه بنفسه، فمثل هذا النقد يتضمن - بطبيعة الحال - القول بأن المعرفة المستمدة من الذهن - لا من الحواس - صحيحة، ولو سلم المرء بذلك لكان عليه أن يفترض أن الأحلام - بوصفها ظواهر ذهنية - ينبغي أن تكون أدق من الإدراكات الحسية، على حين أنها في واقع الأمر حافلة بالتناقض، هذا التفنيد ينبغي أن يرد إلى «لوك»، وإن كان قد أتى به في سياق مخالف،
15
والواقع أن هذا الوجه من الحجة يمكن أن يؤدي إلى نتيجة مضادة تماما لما تقول به الحجة ذاتها، فمن الممكن أن يقال: إن تناقض الأحلام دليل على الخلط والاضطراب الذي ينتج كلما فقد الذهن صلته بالعالم الخارجي ولم يستعن بالحواس في إدراكه. (3)
أما الوجه الثالث لحجة الأحلام، وهو الوجه الذي تغدو فيه الحجة جزءا لا يتجزأ من النظرة المثالية الذاتية إلى العالم، ويعجز فيه الفيلسوف عن إيجاد تمييز قاطع بين الحلم واليقظة، أما هذا الوجه فلا يفيد فيه أي تفنيد نفساني، فمن العبث أن يؤكد المرء أن حالة اليقظة أوضح وأكثر حيوية من الحلم، أو أن من الممكن - عن طريق الاختبار الواعي - التمييز بين ما هو حلم وما هو يقظة، على أساس أن اليقظة وحدها هي التي تصمد لهذا الاختبار؛ ذلك لأنه سيظل من الممكن دائما الإتيان بأمثلة لأحلام لا تقل حيوية ووضوحا عن أي حادث يمر بنا أثناء اليقظة، أما الاختبار الواعي لحياة اليقظة، فلا يمكن أن يحدث إلا بالنسبة إلى «اللحظة الحاضرة» في هذه الحياة، ومن المحال أن يطبق على حادث مضى لكي ندرك أن ذلك الحادث كان حلما أم حقيقة.
أما معيار الارتباط العلي - كما قال به كانت - فلا شك في أنه معيار سليم، بشرط أن يسبقه تفنيد منطقي لفكرة «الحلم المتصل»؛ ذلك لأن الاعتراض الجدي الوحيد على المعيار الذي وضعه كانت، هو ذلك الاعتراض الذي يثير إمكانية كون الحياة بأسرها حلما طويلا متصلا، فإذا أمكن استبعاد هذا الاحتمال منطقيا، أي إذا ثبت منطقيا أن الأحلام تقترن دائما بواقع ولا يمكن أن تكون شاملة أو تشغل وحدها حياة الإنسان، فعندئذ يغدو معيار كانت - وهو معيار الارتباط العلي - هو الأصلح في التمييز بين هذين الوجهين للحياة بعد أن يثبت ضرورة وجودهما معا.
وهكذا يتضح أن مهمتنا الرئيسية - في هذا الصدد - هي الإتيان بتفنيد منطقي للرأي القائل بأن الحياة قد تكون حلما متصلا، أعني إثبات أن هذه الإمكانية لا يمكن أن تثار في أي بحث فلسفي متسق مع ذاته. (1)
وتظهر لدى لوك - مرة أخرى - وسيلة من وسائل تفنيد هذا الوجه للحجة، فإذا كان كل ما حولنا حلما طويلا، فعندئذ تغدو المعرفة والحقيقة مستحيلة، بل إن نفس الشك الذي يعرب عنه من يثير هذا الاحتمال يكون عندئذ حلما، وبالتالي شيئا لا يعول عليه.
16 (2)
وهناك احتمال آخر مضاد لم يشر إليه أحد من قبل، وإن لم يكن أقل إمكانا من الاحتمال القائل بأن كل شيء قد يكون حلما، فلماذا لا نقول - على العكس من ذلك - أن الحياة بأسرها، وضمنها الأحلام، هي سلسلة متصلة من الحوادث «الحقيقية»؟ ولنفرض أنني حلمت بأني أرى رجلا ذا رأسين، فهل هناك استحالة منطقية في القول بأنني رأيت «بالفعل» رجلا كهذا؟ إننا على استعداد للتسليم بجميع الحجج المؤيدة للرأي المضاد: أعني القول باستحالة وجود تمييز منطقي بين الأحلام واليقظة، وبأن الحلم قد تكون له نفس حيوية أية تجربة «حقيقية» ... إلخ، كل هذه الحجج يمكن أن تستخدم - في الواقع - لتأييد الرأي المضاد، القائل: إن كل ما يحدث في الأحلام قد يكون «حقيقيا» شأنه شأن أي شيء آخر، أما عن امتناع هذا القول الأخير، فلست أظنه أكثر امتناعا من الفرض القائل أن كل شيء قد يكون حلما.
وهكذا فإن نفس المقدمات التي تؤدي إلى فكرة «الحلم الشامل» يمكن أن تؤدي أيضا إلى نتيجة مضادة تماما هي «انعدام الحلم» أو «الحقيقة الشاملة»، فإذا ما وجه المثالي بهذا الاحتمال المضاد، فسوف يضطر هو ذاته إلى البحث عن وسيلة للتمييز بين الحلم وبين حياة اليقظة، وبذلك يتخلى عن فكرة الحلم الشامل. (3)
والتفنيد المنطقي الحاسم للفكرة القائلة إن الحياة قد تكون حلما متصلا، أو إنه ليس ثمت تمييز قاطع بين الحلم والواقع، هو أن لفظي الحلم والواقع أو اليقظة لفظان متضايفان لا يتصور أحدهما دون الآخر، فمن المستحيل «لغويا» الكلام عن حلم بلا واقع، ونفس معنى لفظ «الحلم» مستمد من تقابله مع الواقع، ومن المحال تصور الحلم إلا مغلفا بالواقع ومحاطا به.
هذه هي الحقيقة البسيطة التي غابت على «مناطقة» مثل برتراند رسل، فإذا كانت تؤدي بنا إلى استرداد ثقتنا بالعالم - الذي «لا يمكن» أن يكون حلما متصلا - فعندئذ يمكن استخدام معيار الارتباط العلي «بعد» استبعاد إمكانية كون العالم حلما شاملا.
وينبغي أن نذكر ها هنا أن هذا التفنيد المنطقي لا يقتصر أثره على حجة الأحلام وحدها، بل إنه ينطبق على أية حجج تثير إمكانية وجود خداع شامل في المعرفة البشرية، فالتعبير «خداع شامل» شأنه شأن التعبير «حلم متصل» هو تناقض في الألفاظ، ومجرد كوني أستطيع التحدث عن حلم أو خداع، يعني أن لدي المعيار الذي أميزهما به بما هما كذلك، وكوني أدرك الخداع على أنه خداع، أو الحلم على أنه حلم، يعني أن في وسعي تجاوز حالة الخداع أو الحلم، وهذا - في ذاته - تفنيد للحجة.
وهكذا فإن ظاهرة الإدراك في حلم أو الإدراك الخادع ينبغي أن تستخدم، لا من أجل نقد المعرفة البشرية أو التشكيك فيها، بل من أجل دعمها وتأييدها، طالما أن الكلام عن الحلم أو الخداع يفترض مقدما وجود الواقع والحقيقة، ومعنى ذلك أن على الفيلسوف - حتى قبل أن يتجاوز مرحلة الشك، وحتى قبل أن يصل إلى نقطة بداية يعدها ثابتة راسخة كالكوجيتو - أن يرفض مقدما إمكانية كون العالم حلما متصلا؛ إذ إن المنطق المجرد يحتم عليه بالأحرى أن يقول: الخداع موجود «إذن» فالحقيقة موجودة، أو أنا أحلم «إذن» فالواقع موجود.
Unknown page