Nayazik Fi Tarikh
النيازك في التاريخ الإنساني
Genres
1
ونالت النيازك حظا وفيرا من اهتمام المؤرخين العرب، باعتبارها ظاهرة طبيعية فريدة تخرق فكرة الكون الثابت التي علقت بالأذهان قديما وحديثا؛ ومن ثم فقد تبارى المؤرخون العرب في تسجيلها ضمن أهم الأحداث التي وقعت في التاريخ. والأهم من ذلك أنهم حرصوا على نقل أخبارها من كتبهم التاريخية. فنرى كاتبا أو مؤرخا يسجل حدثا نيزكيا وقع في أزمنة بعيدة عن زمنه الذي يعيش فيه تماما، شأنها في ذلك شأن أهم الأحداث التاريخية. ومن الأمثلة المبكرة على دراسة موضوعات دقيقة تتعلق بعلم النيازك، في التراث العربي، ما أورده المرزوقي (أحمد بن محمد بن الحسن أبو علي المرزوقي، عالم بالأدب من أهل أصبهان، المتوفى سنة 421ه/1030م) في كتابه الرائع «الأزمنة والأمكنة»، من مناقشة لقضية من أهم قضايا علم النيازك، وهي تغير معدلات سقوط النيازك على الأرض مع الزمن. وهي قضية تشغل الباحثين في الوقت الحاضر. ففي لمسة طريفة لهذا الموضوع المهم، يذكر في معرض حديثه عن رجم الشياطين بالشهب:
2 «فإن قال قائل: كيف يصح أن يكون انقضاض الكواكب رجما للشياطين ولا يخلو من أن يكون الذي يرمى به الشيطان ليحرقه كوكبا فيجب أن يفارق مكانه وينقص من عدد الكواكب، وقد علمنا منذ عهدت الدنيا لم تنقص ولم تزد؛ أو يكون الذي يرمى به شعاعا يحدث من احتكاك الكواكب واصطكاك بعضها ببعض فيفصل ذلك الشعاع من الكواكب ويتصل بالجني حتى يحرقه؛ إذ لو لم يتصل به لم يحترق وهذا أيضا لا يجوز لأن الكواكب لا تحتك. قيل له: إن كل ما ذكرت غير ممتنع قد يجوز أن يكون هناك كواكب لا تلحقها العين لصغرها، كما قال قوم في المجرة إنها كلها كواكب ولا تبين، فيجوز أن يحتك بخاران عظيمان فيحدث الشعاع ويحترق الجني، وكل ذلك ليس بمستنكر وعلى هذا جاء في القرآن.»
وهذه العبارة، على قصرها، تحتوي على عدد من الظواهر العلمية، مما لا تسعه مجلدات علمية كاملة. فقول المرزوقي عن المجرة: إنها كلها كواكب ولكن لا تبين لصغرها، هو من الأشياء المنظورة علميا الآن، وينصب عليها جانب كبير من اهتمام علماء الفلك، وتطالعنا الأبحاث العلمية بأخبار اكتشاف كواكب تتبع نجوم مجرة درب التبانة. وفي قوله: «قد يجوز أن يكون هناك كواكب لا تلحقها العين لصغرها.» إشارة إلى عدد كبير من الأجسام التي تدور بين المريخ والمشتري، فيما يعرف بحزام الكويكبات، الذي يعد المصدر الرئيسي للنيازك (وهي الأجسام الكبيرة نسبيا) التي تتساقط على الأرض، أو الصغيرة التي تحترق في الجو، وينشأ عن احتراقها في طبقات الجو العليا الضوء اللامع الخاطف، فيما يعرف علميا بظاهرة «الشهب». وفي قوله: «فيجوز أن يحتك بخاران عظيمان فيحدث الشعاع ويحترق الجني.» إشارة إلى تفسير ظاهرة الشهب؛ فالشهب - كما هو معروف - ظاهرة تحدث من احتكاك الأجسام الدقيقة الحجم بغازات جو الأرض. ومثل هذا الاحتكاك هو الذي يقود إلى احتراقها، وتولد الأضواء التي تنبعث منها أثناء مروقها في الجو. والأكثر من ذلك أن عملية الاحتكاك، بين النيازك وغازات جو الأرض، وراء النيران التي تنبعث من هذه الأجسام أثناء اختراقها جو الأرض.
ويلمس الدارس تسجيلات عرضية لظاهرة الشهب وردت في بعض المؤلفات العربية، على سبيل المثال، يورد المؤرخ الذهبي، شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان بن الذهبي (673-748ه/1274-1348م) في كتابه «تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام»، كثيرا من حوادث وقوع الصواعق وانقضاض الكواكب، وعرض الشهب الكثيفة (التي يطلق عليها نجوما متطايرة مضطربة). ففي معرض تسجيله لأحداث سنة 599ه يذكر:
3 «أنبأنا ابن البزوري قال: في سلخ المحرم ماجت النجوم، وتطايرت كتطاير الجراد، ودام ذلك إلى الفجر، وانزعج الخلق، وخافوا وضجوا بالدعاء لله تعالى. ولم يعهد ذلك إلا عند ظهور رسول الله
صلى الله عليه وسلم .» ثم يضيف في ذات السياق:
4 «وذكر عنه ابن الجوزي مثل ما قدمنا من موج النجوم وتطايرها. وقال العز النسابة: رئي في السماء نجوم متكاثفة متطايرة، شديدة الاضطراب إلى غاية.» (1) الخلط بين النيازك والصواعق
أشار الكتاب العرب - شأنهم شأن جميع الكتاب في ذلك الوقت - إلى ظاهرة سقوط النيازك بعبارات مختلفة، منها: انقضاض الكواكب، وانقضاض النجوم، ووقوع الصواعق. وفي حالات محددة أشاروا إليها بعبارات سقوط الأحجار من السماء . وميزوا في كتاباتهم ما بين الكواكب والنجوم الثابتة، وبين الأجسام التي تظهر عرضا في السماء فتمكث بعض الوقت ثم تختفي دون أن تنقض (المذنبات)، أو تلك التي تظهر عرضا فتهوي أو تنقض، ويكون انقضاضها مشفوعا بظاهرة ضوئية فقط (الشهب)، أو مشفوعا بالأصوات والانفجارات القوية أو الهزات الأرضية، أو يكون انقضاضها نهارا (النيازك). وفرقوا بين النيازك والصواعق؛ حيث حرص بعض المؤرخين على الإشارة إلى عدم وجود غيوم أو سحب وقت الحدث، مما يعني أن الظاهرة تمثل سقوط نيازك على الأرض، لكن في بعض الحالات وصفوا النيازك على أنها صواعق.
وقد سجل كتاب العرب ظاهرة الصاعقة في كتبهم الأدبية والتاريخية، وقدموا تعريفا لها باعتبارها ظاهرة طبيعية ترتبط بالغيوم والسحب التي تظهر في السماء. وقدموا في بعض تسجيلاتهم تعريفا صريحا لظاهرة الصاعقة يختلف عن وصفهم للأحداث المرتبطة بالأحجار السماوية؛ حيث يتمكن المرء من التمييز بسهولة بين الصواعق وبين النيازك، من خلال الأوصاف المرافقة للأحداث؛ فالصواعق العادية لا يتبعها سقوط أحجار، تحدث هدة عظيمة، وإنما يشار إليها بالنيران التي تحرق المنشآت أو الزروع، أو تقتل بعض الناس. وورد تعريف الصواعق في عدد كبير من الكتب العربية؛ ففي كتاب «الكشكول» لبهاء الدين العاملي (محمد بن حسين بن عبد الصمد الحارثي العاملي الهمداني (953-1031ه/1547-1622م))، تعريف الصاعقة على النحو التالي:
Unknown page