Nayazik Fi Tarikh
النيازك في التاريخ الإنساني
Genres
تقديم
1 - النيازك في التاريخ
2 - ما بين التصديق والإنكار
3 - ما بين التقديس والازدراء
4 - النيازك في التراث العربي
5 - لماذا ندرس النيازك؟
6 - أخطار النيازك بين الحقيقة والخيال
7 - من أين تأتي النيازك؟
8 - الصدمات النيزكية
9 - كنوز النيازك
Unknown page
10 - أسطورة «أطلانطس» والنيازك
المراجع والهوامش
تقديم
1 - النيازك في التاريخ
2 - ما بين التصديق والإنكار
3 - ما بين التقديس والازدراء
4 - النيازك في التراث العربي
5 - لماذا ندرس النيازك؟
6 - أخطار النيازك بين الحقيقة والخيال
7 - من أين تأتي النيازك؟
Unknown page
8 - الصدمات النيزكية
9 - كنوز النيازك
10 - أسطورة «أطلانطس» والنيازك
المراجع والهوامش
النيازك في التاريخ الإنساني
النيازك في التاريخ الإنساني
تأليف
علي عبد الله بركات
جلال الملك أيام وتمضي
ولا يمضي جلال الخالدينا
Unknown page
أحمد شوقي
من أقوال «جون بويل أوريلي» (1844-1890م) عن الحب والحياة: «النيزك حجر كثيف وداكن في الفضاء، ولكن يشتعل كلهب ناري عندما يندفع في المجال الجوي؛ وكذلك حياتنا المملة مثل نيزك، تتوهج في مجال الحب.»
1
تقديم
يعنى علم دراسة النيازك «ميتوريتكس»، بدراسة المواد الصلبة الحديدية والحجرية، التي تسقط على الأرض من الفضاء الخارجي. وهو من العلوم الحديثة نسبيا، التي يعود تاريخ الاهتمام بها إلى بدايات القرن التاسع عشر، أي منذ حوالي 200 سنة خلت. وأخذ العلم ينمو نموا كبيرا في الآونة الأخيرة، وأصبحت تطبيقاته تغزو مجالات العلوم المختلفة، التي من أهمها أبحاث الفضاء، وما يرتبط به من علوم؛ كنشأة الكون، والمكونات الكيميائية للنجوم والكواكب، وعلاقة الأجرام السماوية بالأرض، وبحث مسألة احتمال وجود حياة خارج الأرض. ويسهم علم دراسة النيازك في تطور علوم الأرض، وتقدم الدراسات الخاصة بمراحل تطورها، وسير العمليات الحيوية عليها، ونشأة بعض المعادن والصخور، التي تتكون من تأثيرات الصدمات النيزكية بالأرض.
وكما كانت النيازك ترتبط ببعض المعتقدات في العصور القديمة، ولا تزال في بعض الثقافات، ترتبط أيضا في الثقافة العلمية الحاضرة بكثير من المسائل العلمية التي تناقشها وسائل الإعلام يوميا وتلقى اهتماما كبيرا من قبل الناس، مثل موضوع انقراض أنواع من الحياة كالديناصورات، بل أيضا موضوع اختفاء حضارات إنسانية كحضارة «أطلانطس»، المفترضة، وخطورتها على الحياة، وقضية وجود حياة على كواكب أخرى في المجموعة الشمسية ، وفوائدها العلمية والمادية، وتأثيراتها في فكر الإنسان عبر العصور، وإسهامها في تطور الفكر العلمي.
ويلمس هذا الكتاب موضوع النيازك، والظواهر المرتبطة بها، من وجهة تاريخية. ولا يقصد بالوجهة التاريخية هنا تاريخ النيازك، فذاك موضوع مختلف ومتخصص، يعنى بتاريخ تكونها في مصادرها الأصلية، وتاريخ سقوطها على الأرض. والمقصود بالوجهة التاريخية هنا، معرفة الإنسان للنيازك وعلاقته بها. ويبدو أن الإنسان سجل سقوط النيازك خلال عصور ما قبل التاريخ؛ إذ توجد رسومات ضمن تلك التي تركها الإنسان خلال تلك العصور، يفسرها البعض على أنها تمثل إشارات صريحة لسقوط النيازك على الأرض. ومن بين تلك الرسومات التي تعد أقدم إشارات لتسجيل سقوط النيازك، تلك التي توجد على جدران كهوف التاميرا الشهيرة في إسبانيا. وكذلك تلك التي توجد على جدران أحد الجلاميد الصخرية بمنطقة جبل العوينات في أقصى جنوب غرب مصر.
وخلال العصور التاريخية، توجد إشارات لسقوط النيازك من السماء في شكل تلميحات لمصدر الحديد الذي توفره النيازك الحديدية، يستدل منها على معرفة الإنسان لظاهرة سقوط النيازك ثم تأتي التسجيلات الصريحة لسقوط الأحجار السماوية، واختلاف الباحثين عبر التاريخ حول هذه الظاهرة، التي استمرت حتى القرن الثامن عشر؛ حيث كان البعض يرفض فكرة إمكانية سقوط الأجسام الصلبة من السماء. وممارسات الإنسان تجاه النيازك، وتأثيراتها في معتقداته وأفكاره العلمية، وما قدمت له من حديد خالص استغله في تشكيل أدواته الحديدية في العصور القديمة، حيث لم يكن يعرف استخلاص الحديد من خاماته الأرضية، وما قدمته من كنوز معدنية، استغلها الإنسان منذ عصور بعيدة.
الفصل الأول
النيازك في التاريخ
Unknown page
«لفهم علم ما، لا بد من دراسة تاريخه.» (أوجيست كونت، 1798-1857م) *** (1) شذرات من التاريخ
عرف الإنسان الأحجار الصلبة التي تسقط من السماء على الأرض (النيازك) قديما في التاريخ، لكن تسجيلاته الأولى والقديمة لها ضاعت في ظلام الحقب الزمنية البعيدة. ولا يجد الباحث في تاريخ النيازك وممارسات الإنسان حيالها سوى إشارات، تارة تكون واضحة وأخرى تكون غامضة مبهمة. وهكذا يجد الباحث نفسه أمام بيانات ناقصة في كثير من الأحيان، عليه أن يكملها، بما لديه من خلفيات تاريخية، وهو يحاول أن يضع صورة تاريخية لعلم وليد. وعلى الرغم من ملاحظة سقوط الأحجار السماوية قديما في التاريخ، فلا توجد إشارات صريحة تذكر كلمة «نيازك» في السجلات التاريخية. ومن طبيعة النيازك ومكوناتها وشغف الإنسان وحفاوته بالفلزات عبر العصور، والظواهر التي تصاحب سقوط النيازك، كالأضواء الخاطفة والأصوات العالية؛ يمكن استقراء تاريخ معرفة الإنسان القديم لها، ويمكن العثور على الإشارات الدالة عليها في الثقافات المختلفة عبر التاريخ، ويمكن من خلال مطالعة رسومات إنسان ما قبل التاريخ، العثور على بعض الرسومات الدالة على سقوط النيازك؛ فقد تشير بعض رسومات كهوف «التاميرا»، الموجودة في إسبانيا، التي تعود إلى قرابة 20000 عام، إلى ظواهر نيزكية، فيما يمكن اعتباره أقدم إشارات إلى سقوط نيازك.
1
وفي الآونة الأخيرة عثر الباحثون على رسم ملون، يعود لسكان ما قبل التاريخ، على جدران أحد الجلاميد الصخرية بوادي كركور طلح، بالقرب من جبل العوينات، في أقصى جنوب غرب مصر، ربما يمثل تسجيلا لحدث نيزكي. ويصور الرسم، الذي يوجد على سطح أحد الجلاميد الجرانيتية الضخمة، جسما ساقطا تنتشر منه ستة خيوط سميكة لأعلى، ويظهر الرسم - بالقرب من الجسم الساقط - رجلا يطلق ساقيه للريح هربا. ويقارب هذا الرسم الملون أو يضاهي الرسومات التي وجدت خلال العصور التاريخية والتي تسجل ظواهر سقوط النيازك على الأرض. ومن الإشارات غير المباشرة التي تعني معرفة الإنسان القديم بالنيازك، ما حققه الباحثون
2
من دلائل، على أن سكان شرق آسيا في العصور الموغلة في القدم، اعتبروا السماء مكونة من مادة حجرية. وتعكس هذه الإشارة أن الناس قديما عرفوا سقوط الأحجار السماوية، تماما كما أشار قدماء المصريين للسماء على أنها سقف من الحديد، في إشارة إلى معرفتهم بسقوط النيازك الحديدية.
رسم على جدران صخور كهوف «التاميرا» بإسبانيا، ربما يكون أقدم إشارة لسقوط النيازك.
رسم على سطح أحد الجلاميد الجرانيتية بمنطقة جبل العوينات يبين الجسم الساقط (على الجانب الأيسر) والرجل الذي يطلق ساقيه للريح هربا.
ومنذ بداية عصور ما قبل التاريخ وحتى العصور الحديثة نسبيا، كان الناس لا يرون النيازك سوى حديد يسقط من السماء، أو حديد يتكون من تأثير الصاعقة على الصخور الأرضية؛ إذ تشمل النيازك الساقطة على الأرض من السماء نوعا مميزا، هو النيازك الحديدية، التي تتشكل من سبيكة طبيعية من الحديد والنيكل؛ ومن ثم يوفر سقوطها الحديد الفلزي. ويصاحب سقوط النيازك الأضواء الخاطفة، والكرات النارية، والأصوات العالية المفزعة. ومن هذه الخيوط يستشف الباحثون - بطريقة غير مباشرة من قراءة إشارات الإنسان القديم لمصادر الحديد الفلزي - مدى معرفة الإنسان قديما بوجود النيازك. فماذا تذكر الكتابات القديمة عن مصادر الحديد؟ تكشف الدراسات الأركيولوجية عن وجود إشارات إلى المصادر السماوية للحديد، في عدد من الكتابات القديمة؛ فالكتابات المصرية القديمة، أطلقت على الحديد، خلال القرن الرابع عشر قبل الميلاد تسمية: «آن بار نا»، التي تعني معدن أو فلز السماء، مما يعني معرفة قدماء المصريين بسقوط النيازك الحديدية من السماء. وما يؤكد ذلك تصورهم الكون على أنه عبارة عن صندوق كبير بيضاوي إلى مثلثي الشكل، طويل من الشمال إلى الجنوب، وقصير نسبيا من الشرق إلى الغرب، تشغل مصر وسطه، وتحد سلسلة من الجبال شرقه وغربه، وتمثل السماء غطاءه.
3
Unknown page
ومن الطريف أنهم تخيلوا السماء سقفا من الحديد. وهذا يؤكد معرفتهم بالنيازك الحديدية التي تسقط من السماء.
4
إشارة قدماء المصريين للحديد على أنه فلز سماوي.
وتوجد إشارات للنيازك في اللغة اللاتينية، التي أطلقت على الحديد تسمية «سيدروس»، المشتقة من الكلمة «سيدوس»، التي تعني نجما، في إشارة إلى أصله السماوي. ومن الإشارات الدالة على المصدر السماوي للحديد، إشارة السومريين القدماء للحديد باسم «آن بار»، التي تعني في رأي بعض الباحثين «نار السماء»،
5
في إشارة صريحة للنيازك التي تسقط مصحوبة بالنيران. وكذلك كتابات الحيثيين (2000-1200ق.م.)، التي أشارت، في رأي بعض الباحثين، للحديد باسم «كو آن» والتي تعني أيضا «نار السماء»، وفي رأي البعض الآخر، باسم «آن بار»، والتي تعني فلز أو عنصر السماء. ويؤكد بعض الباحثين أن هذه الإشارة تعني الحديد السماوي تحديدا، ولا تعني شيئا آخر؛ إذ ورد في نفس تلك النصوص إشارات لبعض المواد التي من بينها الحديد مشفوعة بمصادرها الأرضية، كما وجد في نص شعائري بمناسبة تشييد منزل: «الديوريت (حجر أرضي من الصخور النارية) الذي أحضروه من الأرض. الحديد الأسود السماوي الذي أحضروه من السماء. النحاس والبرونز الذي أحضروه من «تاجاتا» في «ألاسيا»، قبرص».
6
ويرى الباحثون أن الإشارة إلى الحديد هنا تعني أنه من مصادر سماوية في إشارة واضحة وجلية إلى النيازك الحديدية تحديدا. ومما يؤكد ذلك أن النص وصف الحديد النيزكي، بأنه الحديد الأسود، في إشارة إلى الطبقة السوداء البراقة التي تغطي النيازك، والتي تتكون من احتراق الجزء الخارجي من الجسم النيزكي أثناء مروقه في الغلاف الجوي للأرض. وقد اعتبر الباحثون وصف الحديد باللون الأسود، يعني أن هذا النص يفرق بين مصدرين للحديد، حديد سماوي وحديد أرضي، ورد ذكره أيضا في نفس الكتابات مجردا. فمثل هذه الإشارات في الكتابات القديمة للحديد على أنه معدن أو فلز سماوي، تعني معرفة القدماء بظواهر سقوط الأجسام الصلبة من السماء، خاصة الحديدية. وغني عن القول أن هذه التفسيرات مجرد اجتهادات، لا ترقى لدرجة اليقين بأي حال من الأحوال؛ إذ قد يفسرها باحثون آخرون بطريقة مخالفة.
رسم تخطيطي حديث يصور فكرة قدماء المصريين عن الكون.
ويرى بعض المهتمين بتاريخ تسجيلات حوادث سقوط النيازك أن الوثائق التاريخية تحوي العديد من الإشارات الدالة على سقوط النيازك. ويعتبر حدث سقوط نيزك على «فرجيا» (مملكة قديمة في الأناضول بآسيا الصغرى، تقابلها الآن تركيا) في حوالي عام 2000ق.م. أقدم حدث مسجل في تاريخ علم النيازك. ويشير عدد من المؤرخين إلى أن هذا النيزك حفظ لسنوات طويلة في أحد المعابد حتى ينال التقدير والتبجيل، بوصفه جسما مقدسا لأنه سقط من السماء. وخلال تمدد وسطوة نفوذ الإمبراطورية الرومانية، طلب «الملك أتالوس»
Unknown page
King Attalus
في عام 204ق.م. نقل الحجر إلى روما في حفاوة كبيرة. ووصف الحجر بعض المؤرخين الرومان على أنه مخروطي الشكل له قاعدة مستديرة عريضة، وينتهي إلى قمة ضيقة نسبيا ولونه أسود. وبقي الحجر في روما مصانا لحوالي 500 عام ؛ حيث فقد بعدها ولا يعرف مصيره. ويذكر أن الحجر ظل في معبد بمدينة «بيسينوس» الأثرية التي تقع في الجزء الآسيوي من تركيا الحالية على نهر «ساكارياط» (سانجاريوس)، حيث كان يقدس باعتباره «سيبيل»
Cybele ، أو «أم الجبل» أو رب الأرض. وتمت عملية نقل الحجر من «فرجيا» إلى روما؛ بناء على إعلان أحد الكهان أن امتلاك هذا الحجر يضمن الازدهار والرفاهية لروما.
ويذكر «تيتوس ليفيوس»
Titus Livius (59ق.م.-17م)، المعروف في اللغة الإنجليزية ب «ليفي»، في تاريخه عن مدينة روما والرومان، الذي عنونه «فصول من تأسيس المدينة» وتناول فيه الأساطير والأقوال الخاصة بروما من بداية التأسيس، التي امتدت للوراء حتى عام 753ق.م. يذكر حادثة سقوط وابل من الأحجار على «جبل البان»، في حوالي 652ق.م. فأقر مجلس الشيوخ آنذاك القيام باحتفالية لمدة تسعة أيام، حفاوة بهذا الحدث.
ويعد الصينيون القدماء أول من عني بتسجيل الحوادث النيزكية في الحوليات التاريخية. وحقق باحثون حوالي 300 حدث نيزكي وجدت مسجلة في الحوليات الصينية التاريخية بداية من عام 700ق.م. حتى عشرينيات القرن العشرين. ومن الأحداث النيزكية المسجلة في حولية صينية تاريخية، كتبها المفكر والفيلسوف الصيني «كونفوشيوس» (551-479ق.م.) يطلق عليها «حولية الربيع والخريف»؛ حدث سقوط خمسة أحجار نيزكية على منطقة «سونج» في 24 ديسمبر، عام 645ق.م.
7
وسجل اليونانيون والرومان القدماء حوادث سقوط النيازك ضمن الحوادث التاريخية ذات الدلالة على تاريخ الإنسان. وحقق باحثون أن أقدم نيزك سجله قدماء اليونانيين والرومان هو حدث نيزك «إيجوسبوتامي»، الذي سقط على منطقة «ثراسيان تشيرسونسيس» (شبه جزيرة جاليبولي الحالية)، ما بين 469-467ق.م. وسجل هذا الحدث على لوحة رخامية توجد في «المدخل 57 من سجل الباريان»، كسرت إلى ثلاث قطع في عام 264ق.م. وتسجل هذه اللوحة أهم الأحداث التاريخية؛ كالطوفان وسقوط طروادة ... إلخ، بداية من عام 3800ق.م. حتى عام 264ق.م. ويعد هذا الحدث من أكثر الأحداث النيزكية القديمة وضوحا وشهرة؛ إذ ورد ذكره في العديد من الحوليات التاريخية، وشاع في الأدب اللاتيني والروماني. ويرى بعض الباحثين أن هذا الحدث أثر في فكر اثنين من فلاسفة الإغريق، فيما قبل عصر سقراط، هما: «أناكساجوراس» من «كلازومينا»، و«دياجونس »، من «أبولونيا»، عن الكون والأجسام السماوية؛ فذكر الأول أن الشمس والقمر والنجوم أجسام حجرية نارية تتكون من ثورات بعضها البعض، وأن الشمس والقمر والأجسام التي ترتبط بهما ولا ترى نظرا لصغرها، تقع أسفل الشمس. أما «دياجونس» فقد تصور أن الأجسام السماوية هي أجسام حجرية نارية (ملتهبة)، مثل الصخور التي تقذفها البراكين ملتهبة في الجو. وأهم إسهام له في مجال الأحجار السماوية قوله إن هناك أجساما غير مرئية تدور في فلك الأجسام السماوية المرئية.
8
وذكر «أرسطو» (384-322ق.م.) هذا الحدث في كتاباته، لكنه أنكر كونه جسما ساقطا من السماء، معتبره قطعة من الصخور الأرضية، دفعتها الرياح القوية عاليا في الجو، حيث عادت وسقطت مرة ثانية على الأرض. وذكر حادثة سقوط هذا النيزك «بليني الأكبر» (كايوس بلينيوس سكوندوس
Unknown page
Gaius Plinius Secundus ، 23-79م)، وحدد تاريخ سقوطه، وأضاف أن الحدث وقع في وضح النهار، وأنه يشبه حمل العربة، وأنه لا يزال موجودا في عصره، أي أنه ظل حوالي 550 عاما محفوظا بعد سقوطه.
9
وورد ذكر حدث النيزك في عدد كبير من الكتابات اللاحقة.
وحفل بأحداث سقوط الأحجار من السماء المؤرخون والكتاب العرب الذين سجلوها في شتى المؤلفات، ضمن الحوادث التاريخية والظواهر الطبيعية المهمة، باعتبارها حوادث لها مدلولها العلمي ولها تأثيراتها على الأرض. ويعتبر حدث سقوط نيزك السويداء بسوريا في عام 242ه/856م، أقدم حدث مسجل في التراث العربي؛ إذ سجل المؤرخون العرب سقوط نيزك حجري عبارة عن خمسة أحجار، على قرية السويداء بسوريا. وذكروا أن أحجار النيزك نقلت للأراضي المصرية في ذلك الوقت. وفي ليلة 19 مايو عام 861م، سقط حجر سماوي صغير يزن حوالي 472 جراما، على قرية صغيرة باليابان تدعى «يشو»، بالقرب من مدينة «نوجاتا»، مصحوبا بالأضواء الخاطفة، وبأصوات انفجارات شديدة، وارتطم بالأرض مشكلا حفرة صغيرة غار فيها. وفي الصباح تقصى القرويون الحدث فعثروا على الحجر الساقط، وأخرجوه من الحفرة.
10
ويمثل هذا النيزك، الذي يطلق عليه «نيزك نوجاتا»، أقدم عينة نيزكية معروف تاريخ سقوطها على الأرض حتى الآن.
وفي عام 396ه/1005م سقط نيزك يقدر وزنه بحوالي 260كجم، على منطقة «جوزجانان» [جورجان - جوزجان] التي تقع الآن ضمن حدود أفغانستان. وسجل حادثة السقوط، ووصف النيزك الساقط ابن سينا (980-1037م) في كتابه الطبيعيات ضمن موسوعة «الشفاء»: «المعادن والآثار العلوية».
11
وسجله كذلك عدد من المؤرخين والكتاب العرب. وتعد حادثة سقوط هذا النيزك من أكثر حوادث سقوط النيازك شيوعا في التاريخ، حيث تناوله عدد من الفلاسفة والكتاب والمؤرخين. ومن الوصف الذي قدمه ابن سينا للجسم الساقط في ذلك الوقت، أمكن تحديد طبيعته، وتصنيفه على أنه نيزك حديدي حجري (بالاسيت). وفشل السلطان محمود بن سبكتكين في ذلك الوقت في استغلال حديد النيزك الساقط في تشكيل سيف. وذكر البيروني أن النيزك الذي سقط في هذه الحادثة استخدم أنجرا لتثبيت السفن؛ نظرا لأن حديده لم يكن جيدا.
وعلى نفس المنوال في تسجيل حوادث سقوط الأحجار من السماء، قام مؤرخ صيني يدعى «مو توان لين»
Unknown page
Mu Tuan Lin (1245-1325م)، بجمع التقارير الخاصة بحوادث سقوط الأجسام الصلبة من السماء (النيازك)، خلال قرنين من الزمن ضمن سفر ضخم، يعرف باسم «موسوعة الصين العظيمة»
Great Chinese Encyclopedia .
12
ويورد «ألكساندر فون هومبولدت»،
13
عن تسجيلات تاريخية حدثا فريدا ومهما في موضوع تسجيلات سقوط النيازك، حيث سقط نيزك كبير على هيئة وابل من الأحجار، في عام 1511م، على سهل «لومباردي» بالقرب من ميلان إيطاليا. وتذكر الروايات المسجلة عن هذا الحدث، أن الدنيا أظلمت في ظهيرة يوم 4 سبتمبر 1511م؛ إذ ظهر في السماء فوق مدينة «كريما» شيء هائل مثل الطاووس العملاق، ثم تحول الطاووس العملاق إلى شيء مثل الهرم، الذي عبر السماء من الغرب إلى الشرق في سرعة كبيرة، لم تستغرق بضع دقائق. واختلط خلال تلك الفترة العصيبة دوي الرعود المفزعة مع ومضات البرق التي تخطف الأبصار، والتي كانت تسمع وترى في ربع السماء. وظهرت أضواء شديدة أضاءت المنطقة، حتى إن السكان في «بيرجامو» كان بإمكانهم رؤية كل سهل «كريما» بوضوح تام في تلك الأثناء. وتذكر المدونات التاريخية: وقد يسأل المرء: ما الذي حدث بعد هذه الفوضى العارمة المخيفة في الطبيعة؟ الذي حدث أن سهل «كريما» الذي لم يكن بإمكانك من قبل أن ترى عليه حجرا في حجم بيضة صغيرة، قد غطت سطحه قطع من أحجار كثيفة مختلفة الأحجام، قيل إن عشرة منها تزيد أوزانها عن مائة رطل. وقتلت الأحجار الساقطة في طريقها الطيور والخراف وحتى بعض الأسماك. وبعد كل ذلك، كان بإمكان المرء أن يرى السحابة السوداء التي سقطت منها الأحجار، باقية في السماء بنفس كثافتها. وتلقى «أنجيرا»
Anghiera
بنفسه في إسبانيا، قطعة في حجم قبضة اليد، من تلك الأحجار، وأراها للملك «فيردناند الكاثوليكي»
Ferdinand the Catholic ، في حضور المحارب المعروف «جونزولو دي قرطبة»
Gonzolo de Cordova . وجاء في نهاية خطابه: «... أمدتنا إيطاليا بالأعاجيب والمعجزات، بالفيزياء وعلم اللاهوت، وبالذي يتنبئون به، وكيف يأتون ليمضوا، سوف تتعلم الكثير ريثما جئت إلينا، مكتوب من «بيرجوستو» إلى «فاجيادوس».»
Unknown page
ويذكر «ت. ل. فيبسون»
14
نفس الحدث، ويورد أن حادثة السقوط تلك ذكرها «سارينس كارثيسيان» راهب «كولوجن»، في مذكراته، وذكرها أيضا «كاردان» في مدونته المعروفة ب «دي روم فاريتات». ويضيف أن أحجار النيزك سقطت على موضع يعرف ب: «كريما» على شاطئ نهر «أيدا» قريبا من مدينة «ميلان»، في الساعة الخامسة مساء يوم 4 سبتمبر عام 1511م. وبلغ وزن أكبر الأحجار الساقطة حوالي 120 رطلا. وكانت تلك الأحجار شديدة الصلابة، وكانت تنبعث منها وقت سقوطها رائحة كبريتية. ويذكر أن «بيتروس بارتير» أورد الحدث في مؤلفه الذي يحمل عنوان «أوبيس إبيستولاروم»، وذكر أن عددا كبيرا من الأحجار قدر بحوالي 1120 حجرا، بعضها يزن عدة أرطال، سقط على المنطقة في ذلك الحدث. وقد ضرب أحدها في طريقه أحد الرهبان، فلقي حتفه في الحال. وأصابت الأحجار الساقطة الطيور، والخراف المنتشرة في المنطقة، وقتلت حتى بعض الأسماك في النهر. ولوحظ أن السهل الذي كان خاليا من الأحجار قبل الحدث، قد امتلأ بالأحجار الساقطة من النيزك. وكانت الأحجار الساقطة ثقيلة وذات لون حديدي رمادي، تنبعث منها رائحة كبريتية. وصاحب عملية سقوط الجسم ظهور كرة نارية هائلة، وسحابة سوداء كثيفة، ودوي انفجار عنيف. ويعتبر هذا الحدث من الأحداث المهمة في تاريخ دراسة النيازك. ويشبه حدث سقوط وابل نيزك «سيكوتالين»
Sikhote-Alin
الذي سقط في 12 فبراير 1947م، ووابل نيزك «أليند» الذي سقط في 8 فبراير سنة 1969م.
وفي سنة 679ه/1280م، سجل بعض المؤرخين العرب حادثة سقوط نيزك حديدي، على الجبل الأحمر شرق القاهرة، ووصف الحدث على أنه صاعقة أحرقت الحجر الأرضي الذي أصابته، وكونت نتيجة لذلك قطعة من الحديد. وفي ظهيرة السابع من نوفمبر عام 1492م، سقط نيزك حجري كبير يزن حوالي 280 رطلا مصحوبا بأصوات انفجارات شديدة رجت المنطقة، وأصابت السكان بالفزع، على حقل مزروع بالقمح في قرية صغيرة تدعى «إنيشيم»
Ensiheim ، من إقليم «ألساس»، التي تقع الآن في نطاق الأراضي الفرنسية، والتي كانت في ذلك الوقت تخضع لألمانيا. ولا يزال هذا النيزك محفوظا حتى الآن، وهو ثاني أقدم نيزك معروف في تاريخ سقوط النيازك. وفي أبريل عام 1621م سقط على منطقة «جولاندهار» بإقليم البنجاب، التي تقع في حدود الهند الآن، نيزك حديدي يزن حوالي 150 «تولاس»، مصحوبا بالأضواء الشديدة، والأصوات العالية، وأحدث فزعا بين سكان القرية. ووصف الحدث الإمبراطور «جهانكير» الذي حكم في الفترة من 1605 إلى 1627م، الذي وقع الحدث في نطاق مملكته. وكان هذا الإمبراطور يتمتع بحس علمي مرهف؛ إذ أبدى اهتماما ملحوظا بالظواهر الطبيعية، حيث سجل كسوفين حدثا للشمس في عصره.
وفي 13 ديسمبر عام 1795م سقط على منطقة «والد كوتج»، بالمملكة المتحدة،
15
نيزك حجري كبير. ووقع الحدث في نهار يوم خال من الغيوم، وشاهده عدد كبير من الناس؛ ومن ثم لم يساور الناس شك في كونه شيئا آتيا من الفضاء؛ حيث لا توجد غيوم في السماء، يمكن أن ينسب إلى اصطكاكها تكون الجسم الساقط، كما كان شائعا في ذلك الوقت. ولقي الحدث اهتماما شعبيا كبيرا؛ إذ أقيم في عام 1799م نصب تذكاري يسجل الحدث في الموضع الذي سقط عليه النيزك، ويذكر التوقيت الذي سقط فيه ووزنه.
Unknown page
الفصل الثاني
ما بين التصديق والإنكار
«إنه لمن الأشياء التي لا يجب أن تغتفر في هذا الوقت أن نصدق مثل تلك المزاعم ...» (النمساوي أندرياس كازفييه ستوتز، 1747-1806م) ***
على الرغم من ملاحظة سقوط الأحجار السماوية قديما في التاريخ، فقد مر الاعتراف العلمي الصريح بوجود ظاهرة سقوط المواد الصلبة من السماء، بمنعطفات كثيرة ما بين التصديق والإنكار. ويعد المفكر والمؤرخ والفيلسوف اليوناني «أناكساجوراس»
Anaxagoras ، أول من ترك معلومات مدونة عن الأصل السماوي للنيازك. ولد «أناكساجوراس» في «كلازومينا»، والتي تهجى أيضا كلازوميني
Klazomenai
أو
Clazomenae ، التي تقابلها في العصر الحاضر مدينة «كيليزمان»
Kilizman
بتركيا، في عام 500ق.م. وتوفي في عام 428ق.م. ويعتبر «أناكساجوراس» من أصحاب التاريخ الثري في تاريخ الفكر العلمي. وله مقولة شهيرة صدر بها «فيلكس إم. كليف» كتابه عن فلسفة «أناكساجوراس»، تقول: «كل شيء يدار بالعقل»
Unknown page
All Has Been Arranged by Mind . ويذكر أنه أول من أدخل الفلسفة إلى أثينا، حيث نقلها من «آيونيا»
Ionia
في آسيا الصغرى. وحاول أن يقدم تفسيرات علمية للظواهر الطبيعية، ككسوف الشمس، وقوس قزح، والشهب، والشمس التي اعتبرها جسما ناريا متقدا أكبر من «بيلوبونيس»
، وهي شبه جزيرة كبيرة في جنوب اليونان. واتهم على إثر ذلك بالتجديف في الدين؛ ومن ثم حكم عليه بالطرد إلى مدينة «لامبساكوس»
Lampsacus ، التي يقابلها في الوقت الحاضر «لابيسكي»
Lapseki ، حيث أسس مدرسة للفلسفة كان لها تأثير كبير في نشر العلم والمعرفة، طوال العقدين الأخيرين من حياته التي حفلت بالنشاط العلمي.
1
ويعتبر بعض الباحثين أن الفيلسوف الإغريقي «دياجونس»
Diogenes
2
Unknown page
الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، أشار إلى أن النيازك ترتبط بالنجوم؛ ومن ثم يعد ذلك اعترافا بوجود مادة صلبة تسقط من السماء. ولا توجد إشارات أخرى معروفة في كتابات الأقدمين عن الأحجار السماوية، حتى عصر «أرسطو» (384-322ق.م.) الذي لمس الموضوع في كتاباته عن الموضوعات الجيولوجية في مؤلفه المعروف ب «الآثار العلوية»؛ حيث تطرق إليها ضمنا في محاولته تفسير ظاهرة البرق، التي تختلط مع ظاهرة سقوط الأجسام الصلبة من السماء، معتبرها بمثابة دخان أرضي، يصعد عاليا في الأجواء حيث يتكاثف، ليعود ويسقط ثانية على الأرض بقوة: «... والزفير الجاف عندما يخرج إلى الفضاء، وتحت ظروف خاصة يسبب الرعد والبرق والظواهر الأخرى. وفي أوقات أخرى قد يتجمع كغيمة سوداء تتكاثف لتشكل الحجارة التي تقذف بقوة نحو الأرض؛ لذا فقد سميت «القذائف الرعدية»
Thunder bolts .
3
ويذكر بعض الباحثين أن «أرسطو» أنكر ظاهرة سقوط أجسام صلبة من السماء، وفسر ظاهرة سقوط بعض الأحجار من السماء، كما في حادثة سقوط نيزك «إيجوسبوتامي» التي سبق الإشارة إليها، إلى أنها ناتجة عن اندفاع قطع من الصخور الأرضية بالرياح، ثم ما تلبث أن تسقط ثانية على الأرض، مما كان له أثر في تراجع الاعتقاد بوجود ظاهرة سقوط الأحجار السماوية على الأرض.
4
وتعتبر كتابات ابن سينا (القرن العاشر-الحادي عشر الميلادي) عن الصواعق؛ أهم الإسهامات المباشرة في هذا المجال، والبداية الحقيقية لميلاد علم دراسة النيازك؛ فلقد أشار - في معرض حديثه عن تكون الأحجار في كتابه «الشفاء» - إلى أن النيازك تأتي من مصادر سماوية، باعتبارها ضربا من تكون الأحجار من تحول نيران الصاعقة إلى مواد صلبة، حديدية أو حجرية. وقد خالف بذلك الآراء التي كانت شائعة آنذاك من أنها نواتج الزفير الأرضي، الذي يندفع في الجو، ثم يتكاثف ليسقط ثانية على الأرض، لكن أهم وأكبر إسهام لابن سينا في مجال تطور علم النيازك، هو ما قام به من دراسة وتحليل ما اعتبره نيازك، وخلص إلى طبيعة مكوناتها المعدنية والكيميائية. ويعتبر ذلك أول محاولة معروفة من نوعها في تاريخ علم النيازك، لتحليل الأجسام الساقطة من السماء والوقوف على مكوناتها الكيميائية. ثمة إسهام آخر لابن سينا في هذا المجال؛ هو وصفه لحادثة سقوط نيزك كبير على «جوزجانان» (ضمن حدود أفغانستان الآن) في القرن الحادي عشر الميلادي، حيث سجل صوت الانفجارات الهائلة التي صاحبت عملية السقوط تلك، والرعب والفزع اللذين أصابا الناس، والرجة العنيفة التي أحدثها الجسم لحظة ارتطامه بالأرض. ثم تطرق إلى ما يعد وصفا تفصيليا لتراكيب
Structures
النيزك، ومكوناته المعدنية، ومحاولة نقله من مكانه الذي سقط عليه، ومحاولات اقتطاع أجزاء منه ووزنه. وأشار في وصفه الجسم الساقط إلى أنه يتكون من الحديد وحبيبات مستديرة صغيرة، تشبه حبات «الجاورس» (الذرة الشامية). وقد مكن هذا الوصف الدقيق والوافي لطبيعة ومكونات الجسم؛ الباحثين في العصر الحالي من معرفة نوع النيزك الذي سقط آنذاك، والتحقق من كونه أول نيزك يوصف في تاريخ علم النيازك، من طائفة النيازك الحديدية الحجرية (مجموعة البالاسيت).
5
واستمر الحال سجالا في مجال علم النيازك، ما بين تقدم وانحسار. ومن أشد أوقات انحسار هذا العلم النصف الثاني من القرن الثامن عشر، الذي يعد عصر ازدهار العلوم المختلفة؛ فخلال تلك الفترة ساد اعتقاد يكاد يكون عاما ينكر ظاهرة سقوط الأحجار السماوية. ومن الأحداث المشهودة في ذلك الوقت إنكار واحد من أشهر الباحثين في علم المعادن (النمساوي أندرياس كازفييه ستوتز 1747-1806م) لسقوط الأحجار السماوية، وسخريته من التقارير التي تتعامل مع مثل تلك الحوادث؛ إذ انتقد بشدة وسخر من تقرير سجل وصفا لحادثة سقوط نيزك حديدي في عام 1785م على مدينة «هراشينا» التي تقع في كرواتيا الحالية.
Unknown page
6
حيث ذكر صراحة: «إنه لمن الأشياء التي لا يجب أن تغتفر في هذا الوقت، أن نصدق مثل تلك المزاعم.» وفي نفس ذاك الوقت تقريبا، أنكر عالم المعادن السويسري الأصل «ج. أ. ديلوك» هذه الظاهرة، وأضاف مؤكدا أنه: «لو رأى هو شخصيا حادثة سقوط حجر من السماء، فلن يصدق عينيه.» وشاعت في تلك الأثناء الأفكار التي تنكر ظاهرة سقوط الأحجار السماوية، حتى إن أشهر العلماء في ذلك الوقت تورطوا في إنكار هذه الظاهرة. ومن المواقف التي يجب أن يسلط عليها الضوء بهذا الخصوص، موقف الكيميائي الفرنسي المشهور «أنطوان لوران لافوزاييه»
Lavoisier
الذي وقع في عام 1772م مع طائفة من علماء الأكاديمية الفرنسية للعلوم مذكرة أنكر فيها إمكانية سقوط الأحجار السماوية. وهكذا شكك العديد من الباحثين البارزين في ذلك الوقت، في ظاهرة سقوط النيازك، منهم كيميائيون وفيزيائيون. ومن الطريف أنهم فسروا ظاهرة العثور على أجسام غريبة (نيازك) مصاحبة للأضواء الشديدة التي تظهر في السماء، وتضرب الأرض؛ فسروها على أنها ناتجة من تأثير الصواعق على الأرض.
7
وهذا يعود في الأساس إلى بعض الكتاب العرب القدامى الذين ربطوا بين الصاعقة وتكون المواد الحديدية في الأرض، في محاولة منهم لتفسير ظاهرة وجود الأجسام الحديدية (النيازك) التي يعثر عليها، عقب الأضواء الخاطفة، التي تسقط من السماء على الأرض.
ومن بين الذين كانوا يرفضون بقوة فكرة سقوط الأحجار الصلبة من السماء، أي يرفضون وجود النيازك من الأساس، الرئيس الأمريكي «توماس جيفرسون» (1743-1826م) - ثالث رئيس في ترتيب رؤساء الولايات المتحدة ، حيث شغل كرسي الرئاسة في الفترة ما بين عام 1801 إلى 1809م - شأنه شأن غالبية علماء القرن الثامن عشر الميلادي، الذين كانوا ينكرون ظاهرة سقوط الأحجار الصلبة من السماء، ويعتبرون أن ما يلاحظ من سقوط أحجار من السماء ما هي إلا مواد تخلقت في جو الأرض، أو شظايا صخور أرضية دفعتها البراكين أو الرياح إلى الجو، ثم ما تلبث أن تعود وتسقط ثانية على الأرض، فيراها الناس أثناء سقوطها.
8
وتفيد الروايات التي ذكرها بعض الكتاب بهذا الخصوص، أنه في سبتمبر من عام 1803م، تلقى الرئيس الأمريكي «جيفرسون» من صديقه المقرب «أندرو إليكوت» (1754-1813م)، سفير الولايات المتحدة آنذاك في فرنسا، خبرا يقول إن أحجارا من السماء سقطت على فرنسا، وإن الفلاسفة الفرنسيين هناك، في حيرة ما بين إذا كانت هذه الأحجار نشأت أصلا في الغلاف الجوي للأرض، أم أنها أحجار سماوية دفعتها البراكين القمرية للأرض من سطح القمر. وتذكر الرواية الخاصة بهذا الخبر أن «جيفرسون» تلقى هذه الأخبار باستخفاف قائلا: إنه لا يستغرب أن يسمع عن سقوط الأحجار أو حتى الطواحين من السماء على فرنسا؛ إذ يوجد في فرنسا عدد كبير من الفلاسفة، أكبر من عدد الفلاسفة في أي مكان آخر في العالم، لكنه أيضا عدد كبير من الفلاسفة الكاذبين. وتلقى «إليكوت» بعد عامين عددا من الدراسات الفرنسية المنشورة، التي تناولت بالدراسة والوصف تلك الأحجار التي تقول التقارير إنها شوهدت وهي ساقطة من السماء. وتؤكد التقارير أنها تختلف عن الصخور الأرضية العادية، لكنها في نفس الوقت لم تحسم موضوع كونها تكونت في الجو، أم أنها ساقطة من السماء. وأرسل «إليكوت» ليخبر «جيفرسون» بهذه الأبحاث، لكنه أخبره أنه لم ير كل هذه الأبحاث، وإنما قرأ بحث الفرنسي «إزام» عن طبقات الجو. وأضاف أنه لا ينفي أو يصدق الأخبار الواردة بخصوص ما يقال عن سقوط مواد صلبة من السماء.
وبينما الحال على تلك الشاكلة، ظهرت في سماء نيويورك كرة نارية كبيرة آتية من جنوب كندا، وأمطرت مدينة «وستون كونيتيكت» بنيويورك بعدد من الأحجار. ودرست هذه الأحجار من قبل باحثين من «كلية ييل» أحدهما خبير المعادن والجيولوجي والكيميائي «بنيامين سيليمان» (1799-1864م). وسقط حجر يزن 37 رطلا من هذه الأحجار، في حقل «دانيل سلمون»، الذي أرسله على الفور إلى تاجر وخبير المعادن المعروف «أرشيبالد بروس» في نيويورك لفحصه وتبيان طبيعته. واقتبس «سلمون» ما جاء في تقرير «بروس» من نتائج وسطر خطابا للرئيس في عام 1808م، يقول فيه: إن هذا الحجر - بدون شك - من أصل سماوي (نيزكي)، وإنه يشبه تلك الأحجار السماوية التي رآها «بروس» (تاجر وخبير المعادن الذي فحص الحجر الساقط) في كل من لندن وباريس، كما أنه يشبه القطعة التي في حوزته من نيزك «إنستسيم» الفرنسي الشهير، الذي سقط في عام 1492م. وسأل «سلمون» «جيفرسون» عما إذا كان ينبغي له أن يرسل هذا الحجر (الذي أشار إليه بالزائر الجديد في الولايات المتحدة) للرئيس والهيئة التشريعية الوطنية للنظر في أمره. وأجاب «جيفرسون» على خطاب «سلمون» في 15 فبراير، بخطاب يكشف تشككه في رواية أن هذا الحجر من السماء؛ إذ ورد في رده: «لا يمكن للمرء أن ينكر كل ما لا يعرفه من أشياء؛ إذ إن هناك العديد من الظواهر اليومية التي لا نستطيع أن نفسرها.» ويصل لخلاصة رأيه في الموضوع، فيذكر: يصعب فهم كيف جاء هذا الحجر الذي بحوزتك إلى المكان الذي عثر عليه فيه، لكن من السهل تفسير كيف وجد هذا الحجر في السحب التي من المفروض أنه سقط منها على الأرض. وفي الحقيقة، الشيء الذي يجب أن يتم الآن، هو أن يتم فحص هذا الحجر من قبل من هم مؤهلون لذلك،
Unknown page
9
إذ إنه لا يرى جدوى من إرسال الحجر، الذي يقال إنه سقط من السماء على مدينة «ستون»، إلى الرئيس أو النواب. وهذا يعبر عن إصرار «جيفرسون» على عدم الاعتراف بوجود ظاهرة سقوط الأحجار من السماء، وأنها تتكون في جو الأرض ثم تسقط على الأرض. وذكر بعض الباحثين أن «جيفرسون» قال: «من السهل عليه قبول أن الأساتذة الذين درسوا هذا الحجر كاذبون، لكن يصعب عليه تصديق كون هذا الحجر ساقطا من السماء .»
10
وأثرت تلك المفاهيم، التي سادت في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، سلبا على تقدم علم دراسة النيازك، نظرا لأنها جاءت من قبل علماء بارزين لهم إسهاماتهم العلمية، ومن ثم لهم تأثيرهم في انتشار الآراء العلمية أو انحسارها بين الناس. وتخلى عدد من الباحثين، على إثر ذلك، عن دراسة الأجسام التي تسقط من السماء، وهجر الكتاب موضوع النيازك ولم يتطرقوا إليه، ولم يعد أحد يحفل بالتقارير التي تتحدث عن ملاحظة سقوط أجسام صلبة من السماء، وتخلص الباحثون مما كان بحوزتهم من عينات نيزكية كانت في انتظار الدراسة، وتخلصت بعض المتاحف والهيئات العلمية من العينات النيزكية المحفوظة بها. فعلي سبيل المثال تخلص متحف المقتنيات الملكية في «فيينا» من مجموعته النيزكية؛ نتيجة للحملة المعادية لظاهرة وجود أجسام صلبة تسقط من السماء، التي تزعمها «بورن»، أحد العلماء البارزين في مجال الدراسات المعدنية في ذلك الوقت. وهكذا ضاع عدد كبير من النيازك التي كانت بحوزة الأفراد والهيئات العلمية، ببلدان غرب أوروبا في ذلك الوقت.
ومع نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، بدأت «الأوساط العلمية» المهتمة بالظواهر الطبيعية تناقش بقوة في محافلها ظاهرة النيازك، وظهرت بين أوساط المتعلمين والمثقفين والفلاسفة آراء متباينة غاية التباين حول موضوع سقوط النيازك من السماء؛ فمنهم من يرجع ظاهرة سقوط الأحجار الصلبة من السماء إلى انصهار مواد أرضية، من تأثير البرق الذي يصيب الأرض؛ ومنهم من كان يرى أنها مواد أرضية تنثرها ثورات البراكين في الجو، ثم تعود وتسقط ثانية على الأرض؛ ومنهم من كان يرى أنها تنشأ من تجمعات الأتربة في الغلاف الجوي، ثم تسقط على الأرض على هيئة مواد صلبة؛ ومنهم من يرى أنها مواد غريبة عن كوكب الأرض، أي أنها من أصل سماوي. وممن تبنوا الرأي القائل بالأصل السماوي «لابلاس»
Laplace ؛ حيث أكد أن الأحجار الصلبة التي تسقط على الأرض تأتي من القمر، من تأثيرات ثورات البراكين القمرية.
ويعتبر الفيزيائي «إرنست فلورانس كلاندي» (1756-1827م) عضو «أكاديمية علوم سان بطرسبرج» الروسية؛ أهم الباحثين الذين دفعوا علم دراسة النيازك في العصور الحديثة؛ إذ درس مجموعة من الأجسام الصلبة التي ذكرت التقارير أنها سقطت من السماء، على أماكن مختلفة من أوروبا، وأكد أنها ليست من أصل أرضي، وإنما من أصل سماوي. ووردت نتائج دراساته تلك في كتاب صغير صدر في «ريجا» في عام 1794م، متحديا الأفكار السائدة آنذاك، التي كانت تدعي أنه لا يسقط شيء من السماء، لكن آراء «كلاندي» لم تلق صدى كبيرا في حينها، وإن اعترف بها بعض من العلماء البارزين، من أشهرهم «و. أولبيرس».
الفيزيائي «إرنست فلورانس كلاندي» (1756-1827م).
وفي سابقة هي الأولى من نوعها - في ذلك الوقت - أقدم الكيميائي البريطاني «إدوارد هوارد»، في عام 1802م، على القيام بعمل تحاليل كيميائية على معادن الطور الفلزي، الموجودة ضمن المكونات المعدنية لنيزك «والد كوتج»، بالمملكة المتحدة، الذي سقط في 13 ديسمبر عام 1795م. وخلص «هوارد» من دراسته إلى أن المعادن الفلزية في هذا النيزك الحجري تشبه تلك التي توجد في النيازك الحديدية، والتي قرأ عنها في كتاب «كلاندي». وأسهمت ملاحظات «هوارد» في إذكاء إرهاصات مخاض الروح الجديدة التي تدعم الاعتراف بوجود ظاهرة الأحجار السماوية، والتي بدأ يرسي دعائمها «كلاندي». وتكريما له من قبل الباحثين، أطلق اسمه على مجموعة من النيازك تعرف الآن باسم «هوارديت». ويعد الباحثون في تاريخ تطور علم النيازك «هوارد» أول من قام بعمل تحاليل كيميائية على نيزك. وفي الواقع أن من قام بذلك هو ابن سينا، لكن يمكن اعتبار «هوارد» أول من قام بتحليل معادن الطور الفلزي في النيازك الحجرية.
ثم حدث تحول كبير نحو قبول آراء «كلاندي» بسقوط نيزك كبير على شكل وابل من الأحجار، بالقرب من مدينة «لأجيل» التي تقع في شمال فرنسا، في 26 أبريل عام 1803م. حيث جعل الحدث العلماء يفكرون جديا في أمر الأحجار الساقطة من السماء؛ إذ لا سبيل إلى التسويف إزاء حدث سقوط آلاف الأحجار على مساحة كبيرة من الأراضي، تمكن من مشاهدته عدد كبير من الناس. ووصف حادثة السقوط والأحجار التي جمعت من ذلك الحدث عالم مشهور هو «ج. ب. بويت»، وقدم أدلة واضحة على أن مصادر هذه الأحجار هي من خارج نطاق الأرض، مما اضطر الأكاديمية الفرنسية للعلوم إلى تغيير موقفها، والاعتراف بأن هناك أجساما صلبة تسقط على الأرض، في صورة أحجار أو مواد حديدية، وهي ما يطلق عليها نيازك.
Unknown page
وفي تلك الأثناء، قام باحثون بعمل تحاليل كيميائية على بعض العينات النيزكية المحفوظة في المؤسسات الروسية، ونشرت نتائج التحاليل في «دورية التكنولوجي» التي تصدرها أكاديمية علوم سان بطرسبرج» الروسية.
11
وأصدر الفيزيائي «أفاناسي ستويكوفيتش»، أستاذ الفيزياء بجامعة «كاركوف»، في عام 1807م كتابا مهما بعنوان «عن الأحجار الهوائية وأصلها» بوبه في جزءين، ناقش في الجزء الأول منه حوادث سقوط النيازك المعروفة، وقدم فيه نتائج الدراسات التي أجريت على النيازك التي تم جمعها من حوادث السقوط التي وصفها، متضمنة التحاليل الكيميائية، والدراسات المعدنية، ووصفا لكل النيازك المحفوظة. وفي الجزء الثاني من الكتاب ناقش بالتفصيل كل الآراء المعروفة آنذاك عن أصل النيازك. ومن الطريف أنه فضل الرأي الذي يعتبر النيازك شظايا أو قطعا شبيهة بالكويكبات (وهو الرأي السائد الآن). وكان لهذا الكتاب تأثير كبير في انتشار مفاهيم علم دراسة النيازك في روسيا، التي كانت تحتفظ بأكبر مجموعة من النيازك آنذاك، محفوظة في «أكاديمية علوم سان بطرسبرج»، والتي كانت تحوي عدد 7 نيازك مختلفة، على حسب القائمة المنشورة في عام 1811م.
وفي عام 1819م، صدر كتابان عن النيازك أثريا مفاهيم العلم ولعبا دورا حاسما في انتشاره؛ الأول أصدره «كلاندي» بعنوان: «الكرات النارية وما يسقط معها من أجسام»؛ والثاني أصدره الكيميائي الروسي «إيفين موكين» عن «أكاديمية علوم سان بطرسبرج» الروسية، تحت عنوان: «عن الزخات (الأمطار) غير العادية وعن الأحجار التي تسقط من الجو أو الهوائيات». ويناقش هذا الكتاب ظاهرة الكرات النارية، ويقدم قائمة طويلة بأحداث سقوط الأحجار السماوية، التي حدثت في بلدان مختلفة، منذ أقدم العصور وحتى وقت ظهوره. ولم يشاطر المؤلف في هذا الكتاب «كلاندي» رأيه الخاص بالأصل الكوني للنيازك، بل انتقده معتقدا أن النيازك تتكون في جو الأرض، وإن أشار إلى الحاجة لمعرفة المزيد عن مكونات الغلاف الجوي والنيازك؛ كي يصل الباحثون لرأي قاطع في هذا الخصوص. ويبدو أن مؤلف هذا الكتاب كان ينهج نهج الكتاب العرب، في تسجيله للحوادث التي تسقط فيها الأحجار من السماء. كما أن رأيه في أصل النيازك كان متأثرا بالفروض القديمة التي كانت ترى أن النيازك تتكون في جو الأرض، ثم تسقط ثانية على الأرض.
وخلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لم تعد دراسة النيازك قاصرة على وصف ظواهر السقوط، وما يصاحبها من أضواء وأصوات مفزعة، ومحاولات عمل التحاليل الكيميائية المبدئية على العينات التي يتم جمعها من النيازك الساقطة، ومحاولات فهم ظاهرية لمكوناتها المعدنية؛ إذ أضاف اختراع المجهر (الميكروسكوب) المستقطب، في ستينيات القرن التاسع عشر (حوالي 1860م)، بعدا جديدا لعلم النيازك، حيث أخذ الباحثون يدرسونها كدراسة الأحجار الأرضية العادية؛ ليتعرفوا على تراكيبها الداخلية ومكوناتها المعدنية. وزاد الاهتمام بمثل هذه الدراسات في روسيا، على وجه الخصوص، حيث بدأ الباحثون يهتمون بدراسة ظواهر جديدة في النيازك لم تؤخذ في الاعتبار في الدراسات السابقة. وقام الكيميائي «أ. ف. جيبيل» بالتطرق لأهمية الأشكال الخارجية للنيازك، في دراسة نشرها عام 1868م، وقدم وصفا تفصيليا للشكل الخارجي لنيزك «كركيل» الذي سقط في عام 1840م، على مقاطعة «سيمبالاتبنسك». وأعقب ذلك الاهتمام بالتراكيب الداخلية للنيازك، والوصف التفصيلي للأشكال التي توجد عليها المكونات المعدنية للنيازك. وقد نال معدن الأوليفين الذي يوجد في نيازك البالاسيت اهتماما كبيرا، فنشر الأكاديمي الروسي «ن. ي. كوكتشروف» في عام 1870م نتائج دراسته على الخصائص البلورية لمعدن أوليفين البالاسيت في دراسة خاصة. ويعكس الكتاب المهم الذي أصدره «جوستاف سكيرماك»
Gostav Tschermak ، في عام 1885م بعنوان «النيازك»، أثر المجهر المستقطب على الدراسات النيزكية ؛ إذ جاء كعلامة فارقة في دراسة المكونات المعدنية والتراكيب الداخلية للنيازك، الأمر الذي مكنه من عمل تصنيفات علمية لمجموعات النيازك التي كانت معروفة ومتاحة آنذاك. ولا يزال هذا الكتاب حتى اليوم من الدراسات المهمة التي يرجع إليها الباحثون.
ثم كانت النقلة الكبيرة في هذا العلم في ثلاثينيات القرن العشرين (حوالي عام 1930م) مع تقدم تقنيات التحاليل الكيميائية وتطبيقاتها العامة، حيث أخذ ينظر إلى مكونات النيازك الكيميائية على أنها تمثل المكونات الكيميائية للكون، مما دفع الباحثين لعمل تحاليل دقيقة للنيازك أفضت إلى تحديد محتواها من العناصر الشائعة والعناصر الشحيحة. وكان يتم نشر الأبحاث الخاصة بالنيازك في الدوريات العلمية الخاصة بعلم الفلك والكيمياء والفيزياء والميتالورجي والجيولوجيا. وظهرت في عام 1939م أول مجلة متخصصة لنشر نتائج الأبحاث والدراسات التي تجرى على الأجسام النيزكية، أصدرها «الاتحاد السوفيتي السابق» تحت مسمى «ميتيوريتكا»
Meteoritika . ومنذ هذا التاريخ أخذ العلم في الصعود حتى وقتنا الحاضر؛ حيث تشعبت فروعه وتطورت معارفه، وغدا دعما مباشرا لأبحاث الفضاء التي ارتبط هذا العلم بها في كثير من النواحي. وأصدرت رابطة علم النيازك العالمية بالولايات المتحدة، في الستينيات من القرن العشرين دورية فصلية متخصصة في علم النيازك والعلوم المرتبطة به، أطلق عليها «ميتوريتكس»
Meteoritics ، كانت تزين غلافها الرموز الهيروغليفية: «بيا آن بيت»
bia n pit ، والتي تعني «فلز أو معدن السماء». ثم تغير اسمها إلى مجلة: «النيازك وعلوم الفضاء»
Unknown page
Meteoritics and Planetary Science ، وهي المجلة التي تصدر شهريا الآن.
الفصل الثالث
ما بين التقديس والازدراء
«إن الناس نظروا للأحجار التي تسقط من السماء باعتبارها أجساما تسقط من مواقع مقدسة في السموات.» (طومسن جالي، موسوعة الأديان) إذا رأيت شهابا ساقطا من السماء (النجم الساقط)، فتمن ما تشاء؛ فإن أمنياتك سوف تتحقق. ***
شاهد الناس قديما سقوط النيازك من السماء، وتفاوتت نظرتهم إليها من مكان لآخر، ومن زمن لآخر، ومن مجتمع لآخر، ومن ثقافة لأخرى، ما بين التقديس والازدراء. (1) تقديس النيازك
عبد الإنسان قديما الأحجار التي كانت تمثل بالنسبة إليه أشياء غير عادية؛ فالأحجار التي تظهر في الصحاري والحقول وتشبه صور الحيوانات والناس لفتت أنظار الإنسان القديم. وأهم الأحجار التي لا بد أنها لاقت التقديس من الإنسان القديم، هي بطبيعة الحال النيازك؛ فقد تخيل الناس أن النيازك التي تسقط من السماء على الأرض مصحوبة بالأضواء الخاطفة والأصوات العالية تمثل رسائل من الآلهة لها مدلولاتها؛ ومن ثم نالت منهم النيازك الحديدية (باعتبارها النوع الأكثر شهرة في التاريخ القديم) حظا كبيرا من الإجلال والتقديس.
1
ويذكر «طومسن جالي»، في «موسوعة الأديان»، أن الناس نظروا للأحجار التي تسقط من السماء باعتبارها أجساما تسقط من مواقع مقدسة في السموات؛ ومن ثم نالت التقديس والاحترام من الناس في العصور القديمة. ويذكر مثلا على ما يعرف بال «نومانا» من سكان وادي نهر النيجر بغرب أفريقيا، الذين يقدسون السماء. هؤلاء الناس يقدسون حصوات صخرية صغيرة، يرون أنها ساقطة من السماء. ويشكلون أقماعا من تراب الأرض بارتفاع 3 أقدام، ويضعون هذه الأحجار الصغيرة التي في حجم الحصى فوق قمة الأقماع التي يشكلونها من التراب، ويحجون إليها ويقدسونها. وباعتبار أن هذه الحصى ساقطة من السماء، فإنهم يعتبرونها أحجارا مقدسة من رب السماء.
2
وقد سبقت الإشارة إلى معرفة قدماء المصريين النيازك مبكرا، من خلال إشاراتهم للحديد باعتباره من مصادر سماوية. ونالت لديهم النيازك الحديدية الإجلال والتقديس؛ إذ يرى عالم المصريات الأستاذ زكي إسكندر أن قدماء المصريين كانوا لا يعتدون إلا بحديد النيازك، ولا يعيرون الحديد الأرضي أهمية تذكر.
Unknown page
3
وربما تكون ظاهرة سقوط النيازك وراء اختيار قدماء المصريين للشكل الهرمي الذي شيدوا عليه بعض مقابرهم ومسلاتهم. فمن بين المصادر التي ربما يكون قدماء المصريين استوحوا منها الأشكال الهرمية؛ شكل أشعة الشمس التي تشع من نقطة واحدة ثم تتسع، كما لو كانت قاعدة هرم. ولما كانت النيازك الساقطة على الأرض ترسم في الفضاء مخروطا من الضوء والدخان على نفس شاكلة شعاع ضوء الشمس، فلماذا لا يكون قدماء المصريين تخيلوها في تشكيل أشكال أهراماتهم؟
ويرى بعض الباحثين أن تمثال الإلهة «ديانا»
Diana
في «إفيسوس» والأثر المقدس في معبد «فينوس» في قبرص؛ مشكلان من مواد نيزكية. ومن مظاهر الاعتداد بالحديد النيزكي واعتباره من المواد المقدسة في بعض المتقدات ما حققه بعض الباحثين من أنه في عهد ملك روما «نوما بومبليوس» (753-715ق.م.) سقط نيزك حديدي من السماء، فشكل منه الكهنة درعا صغيرا، نال بدوره حظا وفيرا من التقديس؛ إذ شاع أن اقتناءه يحقق الحظ السعيد والحماية والسيادة. ومن الطريف أن بعض الكهنة - آنذاك - صنعوا أحد عشر درعا صغيرا مزيفا من الحديد الأرضي، على نفس شاكلة الدرع النيزكي، كي يقتنيها الناس تبركا بها.
4
ويرى بعض الباحثين، في مجال النيازك، أن المعابد وأماكن الصلوات والعبادات القديمة، أقيمت في مواضع سقطت عليها أحجار سماوية، أو هي تتضمن في لبناتها ووحدات بنائها أحجارا سماوية. وفي هذا الخصوص يظن بعض الباحثين أن أحد أهم الأحجار المقدسة الذي يوجد في معبد «أبوللو» في ديلفي، أنه حجر سماوي؛ اعتمادا على تفسيرات متضاربة للأساطير اليونانية الرومانية القديمة الخاصة ب «جوبيتر»، الذي تقول عنه الأساطير إنه ابن «ريا» و«ساترون». وكان «ساترون» يأكل أولاده قبل ولادة ابنه «جوبيتر»، فاحتالت «ريا» بعد ولادة «جوبيتر» فأعطته قطعة حجر ملفوفة بالقماش، فأكلها وأنقذت الوليد «جوبيتر». ثم احتالوا بعد ذلك على «ساترون» فجعلوه يتقيأ الحجر الذي أكله. وتستمر الأسطورة فتذكر أن السيكلوب (الكوكلوب) أعطى «جوبيتر» الرعد والبرق كمكافأة على صنيعه. وتصف الأسطورة الحرب بين «جوبيتر» وبين المردة، الذين تسلقوا السماء وأخذوا يقذفون الصخور التي سقط بعضها على البحر فكون الجزر، وسقط بعضها على اليابسة فكون الجبال.
5
وغالبا ما يصور «جوبيتر» على شكل رجل مهيب يجلس على عرش، وبيده اليمنى الصاعقة التي تمثل بكيفيتين؛ شعلة متقدة من طرفها؛ أو آلة مدببة ومزودة بسهمين، وبيده اليسرى آلهة النصر. فالصاعقة في هذه الأسطورة تشير - في رأي بعض الباحثين - للنيازك. والمعبد الذي بني هناك بني في الموقع الذي لفظ عليه الحجر الذي كان قد ابتلعه «ساتورن»، أي نيزك سقط على المنطقة.
6
Unknown page
ويذكر الكاتب الروماني «بوسانياس»
، الذي عاش في القرن الثاني الميلادي (180م)، أنه رأى الحجر هناك، ووصفه بأنه حجر ليس كبيرا جدا، وأضاف أن كهنة معبد «ديلفي» كانوا يطلونه بالزيت كل يوم.
وفي سنة 242ه/856م، سقطت خمسة أحجار على قرية السويداء ناحية مضر، بسوريا. ووقع حجر منها على خيمة أعراب فاحترقت. ووزن حجر من الأحجار الساقطة فكان وزنه حوالي عشرين كيلوجراما. ونقل النيزك إلى مصر؛ إذ ذكرت المصادر أن أربعة من الأحجار الساقطة نقلت إلى الفسطاط وواحدا إلى «تنيس». ولم تذكر الروايات المختلفة التي ذكرت الحادثة في أي مؤسسة أو مكان في الفسطاط أو «تنيس» وضعت هذه الأحجار؟ ولماذا نقلت من مواقعها إلى مصر في ذلك الوقت؟ وهل كان في مصر باحثون بإمكانهم دراستها، أم نقلت لأغراض أخرى؟ ومن ظاهر الرواية أن الناس احتفوا بهذا الحدث؛ بدليل قيامهم بوزن واحد من الأحجار الساقطة، ونقلها إلى مصر.
وفي ليلة 19 مايو عام 861م، سقط حجر سماوي صغير يزن 472 جراما، على قرية صغيرة باليابان تدعى «يشو»، بالقرب من مدينة «نوجاتا»، مصحوبا بالأضواء الخاطفة، وبأصوات انفجارات شديدة، وارتطم بالأرض مشكلا حفرة صغيرة غار فيها. وفي الصباح تقصى القرويون الحدث، فعثروا على الحجر الساقط وأخرجوه من الحفرة، وحفظوه في معبد خاص بطائفة «الشنتو»، بقرية «سوجا جينجا» حيث ظل من وقتها إلى الوقت الحالي. ولم يفطن أحد من الباحثين في تاريخ النيازك لهذه الحالة، حتى عام 1982م، عندما قام باحثون بدراسة العينة، وتبينوا أنها عينة نيزكية. ووجدت العينة محفوظة في صندوق خشبي صغير، مكتوب عليه تاريخ سقوط النيزك بالتقويم «الجولياني»، الذي يوافق 19 مايو عام 861م. واتضح من الدراسة التي أجريت بخصوص هذا النيزك، أن العينة وضعت في الصندوق بعد وقت طويل نسبيا من سقوطها.
7
ويمثل هذا النيزك، الذي يطلق عليه «نيزك نوجاتا»، أقدم عينة نيزكية معروف تاريخ سقوطها على الأرض حتى الآن.
ومن القصص الكاشفة عن مدى الاهتمام والتبرك بالنيازك، ما حدث في ظهيرة السابع من نوفمبر، عام 1492م، من سقوط نيزك حجري كبير، يزن حوالي 280 رطلا، مصحوبا بأصوات انفجارات شديدة، رجت المنطقة وأصابت السكان بالفزع على حقل مزروع بالقمح، في قرية صغيرة تدعى «إنيشيم»
Ensiheim ، من إقليم «ألساس»، التي تقع الآن في نطاق الأراضي الفرنسية، والتي كانت في ذلك الوقت تخضع لألمانيا؛ إذ احتفى الناس بذلك الحدث حفاوة كبيرة، كما أنه حظي بعناية الفنانين والشعراء، فرسم أحد الفنانين على قطعة خشبية لوحة تصور حادثة سقوط النيزك. وتظهر اللوحة اثنين من الرجال يرقبان سقوط النيزك من موقع قريب في الغابة. ونظم الشاعر الألماني «سيباستيان برانت» (1457-1521م) قصيدة باللغة اللاتينية؛ تخليدا لهذا الحدث. وكتب: الكرة النارية (النار التي صاحبت سقوط النيزك)، شوهدت عبر «سويسرا» و«برجانديا»، وأعالي وادي الراين، وأنذر ذلك الحدث بانتشار الأمراض، عبر كل تلك المساحة الشاسعة التي شوهد فيها. ويؤكد بعض الباحثين أن غلاما صغيرا فقط هو الذي شاهد تلك الحادثة، وهو الذي أرشد سكان البلدة للموضع، الذي كانت ترقد فيه أحجار النيزك الساقطة من السماء، والذي كان على هيئة حفرة يبلغ عمقها ثلاث أقدام، فسارع الناس إلى جمع القطع النيزكية الساقطة، واقتطاع أجزاء منها للاحتفاظ بها، باعتبارها مواد لها تأثيرات خارقة، إلى أن أمرهم حاكم المقاطعة بالتوقف عن ذلك. وتفقد موقع الحدث الإمبراطور «ماكسميلين الأول»
Maximilian I ، الذي زار المنطقة بعد ثلاثة أسابيع من وقوع الحادثة، واعتبر النيزك الساقط بمثابة رسالة غضب من الرب على الفرنسيين، الذين يحاربون الإمبراطورية الرومانية المقدسة. وأمر بأن يوضع النيزك في أبرشية القرية؛ تذكيرا بتدخل الرب في النزاع القائم بين الطرفين لصالح الإمبراطورية.
8
Unknown page
وتذكر بعض الروايات التاريخية أن الإمبراطور تبرك بهذه الظاهرة واعتبرها ظاهرة مشجعة للقيام بالحروب الصليبية، وواقية من الغارات التركية على البلاد.
9
وبعد قيام الثورة الفرنسية، صدر النيزك من الكنيسة، ونقل إلى متحف وطني جديد أقيم في «كولمار»
Colmar ، قريبا من القرية. واقتطع الباحثون أجزاء للدراسة من جسم النيزك الرئيسي. كما وزعت قطع منه على المتاحف الخارجية. وبعد عشر سنوات تقريبا أعيد الجزء المتبقي من النيزك، الذي أصبح يزن 122 رطلا فقط، إلى الكنيسة مرة أخرى. ثم ما لبث أن نقل من الكنيسة إلى معرض خاص به في المدينة، حيث يوجد معروضا حتى الآن. وقد كان لسنوات عديدة، يظن أن هذا النيزك يمثل أقدم نيزك معروف حتى عام 1982م؛ حيث اكتشف نيزك «نوجاتا» الياباني الذي سقط عام 861م.
ويروي «فليت» في كتابه «النيازك»، الذي صدر في عام 1887م،
10
أن أفراد قبيلتي «كرى» و«بلاكفيت» من الهنود الحمر، كانوا يحجون سنويا إلى موقع نيزك «أيورن كريك»، على قمة تل عال، يبعد أكثر من 200كم إلى الجنوب من «فيكتوريا»، بمقاطعة «ألبيرتا» بكندا؛ حيث كانوا يطلقون عليه «حجر الروح المقدس»
Manitou stone . وقيل: إن أي فرد من أفراد هاتين القبيلتين أو القبائل المجاورة لا يمكنه المرور بالقرب من موقع النيزك، دون أن يزوره ويتقرب إليه. وكان أفراد القبيلتين يزعمون أن وزنه يزداد مع الوقت، وأنه يمثل علاجا فعالا لشتى الأمراض. وفي عام 1869م نقل المستوطنون البيض هذا النيزك، الذي يبلغ وزنه حوالي 360 رطلا، من موقعه الأصلي إلى «كلية فيكتوريا». واعتبر أفراد القبيلتين من الهنود الحمر عملية نقل النيزك بمثابة كارثة حلت بهم.
ويتناقل أفراد قبيلة «هوبي» من الهنود الحمر، في الولايات المتحدة الأمريكية، أسطورة مفادها أن «الروح العظيم» هبط ذات مرة من مقامة العالي على الأرض، تحيط به النار والرعد، ودخل جوف الأرض من ثغرة كبيرة. ويشيرون إلى الثغرة التي دخل منها الروح العظيم في الأرض، فإذا هي فوهة «الأريزونا» الشهيرة، التي يبلغ قطرها حوالي 1200 متر، وعمقها 175 مترا، والتي نشأت من سقوط نيزك حديدي ضخم في الماضي البعيد. وما يدهش الباحثين حقا في هذه الأسطورة أن النيزك الذي أحدث هذه الفوهة، والذي يعرف بنيزك «كانون ديابلو»، s سقط من زمن بعيد نسبيا (20000-30000 عاما)، أي قبل أن يوجد أسلاف هؤلاء الناس بزمن كبير. فكيف توصلوا لهذه الحكاية؟ لا أحد يدري على وجه اليقين! وتشير الدراسات الأركيولوجية في كل من الولايات المتحدة والمكسيك إلى أن الهنود الحمر اكتشفوا نيزك «كانون ديابلو»، الذي توجد شظاياه متناثرة في الموقع، داخل وحول الفوهة، وتاجروا في قطعه ونقلوها إلى أماكن بعيدة، منذ أزمنة بعيدة، قبل أن يصل «كولومبس» إلى شواطئ العالم الجديد.
11
Unknown page