قال أحمد بن عبيد: كنا عند هشام بن عبد الملك وقد وفد عليه وفد أهل الحجاز، وكان شباب الكتاب إذا قدم الوفد حضروا لاستماع بلاغة خطبائهم، فحضرت كلامهم حتى محمد بن أبي الجهم بن حذيفة العدوي، وكان أعظم القوم قدرا، وأكبرهم سنا، فقال: أصلح الله أمير المؤمنين، إن خطباء قريش قد قالت فيك ما قالت، وأكثرت وأطنبت، ووالله ما بلغ قائلهم قدرك، ولا أحصى خطيبهم فضلك، وإذا أذنت في القول قلت. قال: قل وأوجز. قال: تولاك الله يا أمير المؤمنين بالحسنى، وزينك بالتقوى، وجمع لك خير الآخرة والأولى، إن لي حوائج، أفأذكرها؟ قال: هاتها. قال: كبر سني، ونال الدهر مني، فإن رأى أمير المؤمنين أن يجبر كسري، وينفي فقري؛ فعل. قال: ما الذي ينفي فقرك ويجبر كسرك؟! قال: ألف دينار وألف دينار وألف دينار! قال: فأطرق هشام طويلا، ثم قال: يا ابن أبي الجهم، بيت المال لا يحتمل ما ذكرت! ثم قال له: هيه! قال: ما هيه؟! أما والله أنت الآمر الوالي، والله آثرك لمجلسك، فإن تعطنا فحقنا أديت، وإن تمنعنا فنسأل الذي بيده ما حويت، يا أمير المؤمنين، إن الله جعل العطاء محبة، والمنع مبغضة، والله لأن أحبك أحب إلي من أن أبغضك. قال: فألف دينار لماذا؟ قال: أقضي بها دينا آن قضاؤه، وعناني حمله، وأضر بي أهله. قال: فلا بأس تنفس كربته، وتؤدي أمانته، وألف دينار لماذا؟ قال: أعلم بها من بلغ من ولدي. قال: نعم المسلك سلكت، أغضضت بصرا، وأعففت ذكرا، ورفعت نسلا، وألف دينار لماذا؟ قال: أشتري بها أرضا يعيش بها ولدي، وأستعين بفضلها على نوائب دهري، وتكون ذخرا لمن بقي. قال: فإنا قد أمرنا لك بما سألت. قال: فالحمد لله على ذلك. وخرج، فأتبعه هشام بصره، وقال: إذا كان القرشي فليكن مثل هذا، ما رأيت رجلا أوجز في مقال ولا أبلغ في بيان منه. ثم قال: أما والله إنا لنعرف الحق إذا نزل، ونكره الإسراف والبخل، وما نعطي تبذيرا، ولا نمنع تقتيرا، وما نحن إلا خزان الله في بلاده، وأمناؤه على عباده، فإذا أذن أعطينا، وإذا منع أبينا، ولو كان كل قائل يصدق، وكل سائل يستحق ما جبهنا قائلا، ولا رددنا سائلا، ونسأل الذي بيده ما استحفظنا أن يجريه على أيدينا، فإنه:
يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا
فقالوا: يا أمير المؤمنين، لقد تكلمت فأبلغت، وما بلغ في كلامه ما قصصت أحد كما أبلغت.
عروة وهشام بن عبد الملك
وفد عروة بن أذينة على هشام بن عبد الملك فشكا إليه حاله، فقال: ألست القائل:
لقد علمت وما الإسراف من خلقي
أن الذي هو رزقي سوف يأتيني
أسعى إليه فيعييني تطلبه
ولو قعدت أتاني لا يعنيني
وقد جئت من الحجاز إلى الشام في طلب الرزق؟ فقال: يا أمير المؤمنين، وعظت فأبلغت، وذكرتني ما أنسانيه الدهر. وخرج من عنده، فركب ناقته وكر بها راجعا إلى الحجاز، فلما كان الليل ونام هشام على فراشه ذكر عروة، وقال: «رجل من قريش وفد علي فرددته خائبا» فلما أصبح وجه إليه بألفي دينار، فقرع عليه الرسول باب داره بالمدينة وأعطاه المال، فقال له عروة: أبلغ أمير المؤمنين عني السلام، وقل له: «كيف رأيت قولي؟ سعيت فرجعت خائبا؛ فأتاني رزقي في منزلي.»
Unknown page