النوادر الثانية
نوادر الخطباء
خطبة عبد الله بن الزبير بعد قتل مصعب
لما بلغ عبد الله بن الزبير قتل مصعب صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم سكت، فجعل لونه يحمر تارة ثم يصفر أخرى، فقال رجل من قريش لرجل إلى جانبه: ما له لا يتكلم، فوالله إنه لبيب الخطباء؟! قال: لعله يريد أن يذكر مقتل سيد العرب فيشتد عليه ذلك؛ وغير ملوم. ثم تكلم فقال: «الحمد لله، له الخلق والأمر، والدنيا والآخرة، تؤتي الملك من تشاء، وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء، وتذل من تشاء.
أما بعد: فإنه لم يعز الله من كان الباطل معه، وإن كان معه الأنام طرا، ولم يذل من كان الحق معه، وإن كان بائسا حقيرا، ألا وإن خزان العراق أتانا فأحزننا وأفرحنا؛ فأما الذي أحزننا فإن لفراق الحميم لوعة غير أن دعوى ذوي الألباب إلى الصبر وكريم العزاء، وأما الذي أفرحنا: فإن قتل المصعب له شهادة ولنا ذخيرة، أسلمه النعام المعالم، ألا وإن أهل العراق باعوه بأقل من الثمن الذي كانوا يأخذونه منه، فإن يقتل فقد قتل أخوه وأبوه وابن عمه وكانوا الخيار الصالحين، إنا والله لا نموت خنقا ولكن قصفا بالرماح، وموتا تحت ظلال السيوف، وليس كما يموت ابن مروان، ألا وإنما الدنيا رية من الملك الأعلى الذي لا يبيد ذكره ولا يذل سلطانه، فإن تقبل الدنيا علي لم آخذها أخذ الأشر البطر، وإن تدبر عني لم أبك عليها بكاء الخرق المهين»، ثم نزل.
خطبة عتبة بن أبي سفيان
صعد عتبة بن أبي سفيان المنبر فقال: «يا أهل مصر، قد كنتم تعذرون لبعض المنع منكم ببعض الجور عليكم، فقد وليكم من يقول ويفعل ويفعل ويقول، فإن رددتم ردكم بيده، وإن استصعبتم ردكم بسيفه، ثم رجا في الأمر ما أمل في الأول أن البقية متابعة، قلنا: عليكم السمع والطاعة، ولكم علينا العدل، فأينا غدر فلا ذمة له عند صاحبه، والله ما انطلقت به ألسنتنا حتى عقدت عليها قلوبنا، ولا طلبناها منكم حتى بذلناها لكم ناجزا يناجز، ومن حذركن بشر» قال: فنادوه: سمعا وطاعة. فنادهم: عدلا عدلا.
خطبة جعفر بن محمد
خطب جعفر بن محمد فقال: «أوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله، ولزوم طاعته، وتقويم العمل، وترك الأمل، فإنه من فرط في عمله لم ينتفع بشيء من أمله، أين التعب بالليل والنهار؟ والمقتحم بلجج البحار ومفاوز القفار يسير من وراء الجبال وعالج الرمال، يصل الغدو بالرواح والمساء بالصباح في طلب محقرات الرياح هجمت عليه منيته، فعظمت بنفسه رزيئته، فصار ما جمع بورا، وما اكتسب غرورا، ووافى القيامة محسورا، أيها اللاهي الفائز بنفسه، كأني بك وقد أتاك رسول ربك لا يقرع لك بابا، ولا يهاب لك حجابا، ولا يقبل منك بديلا، ولا يأخذ عنك كفيلا، ولا يرحم لك صغيرا، ولا يوقر فيك كبيرا، حتى يؤديك إلى قعر مظلمة أرجاؤها موحشة كفعلة الأمم الخالية والقرون الماضية، أين من سعى واجتهد، وجهز وعد، وبنى وشيد، وزخرف؟ ونجد بالقليل لم يقنع، وبالكثير لم يمنع، أين من قاد الجنود، ونشر البنود؟ أضحوا رفاتا تحت الثرى أمواتا، وأنتم بكأسهم شاربون، ولسبيلهم سالكون، عباد الله، فاتقوا الله، وراقبوه، واعملوا لليوم الذي تسير منه الجبال، وتشقق السماء بالغمام، وتتطاير الكتب عن اليمين والشمال ، فأي رجل يومئذ قال: هاؤم اقرءوا كتابيه؟ أم يا ليتني لم أؤت كتابيه؟ نسأل من وعدنا بإقامة الشرائع في جنته أن يقينا سخطه، إنما أحسن الحديث وأبلغ الموعظة كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.»
علي بن أبي طالب
Unknown page