مقدمة لجامع الكتاب
القسم الأول: في نوادر الملوك والخلفاء
النوادر الأولى
النوادر الثانية
النوادر الثالثة
النوادر الرابعة
النوادر الخامسة
النوادر السادسة
النوادر السابعة
النوادر الثامنة
النوادر التاسعة
النوادر العاشرة
النوادر الحادية عشرة
النوادر الثانية عشرة
القسم الثاني: في نوادر الفلاسفة والحكماء
الفلاسفة والحكماء
القسم الثالث: في نوادر العظماء
النوادر الأولى
النوادر الثانية
النوادر الثالثة
النوادر الرابعة
القسم الرابع: في نوادر الأذكياء
الأذكياء
القسم الخامس: في نوادر الزاهدين
الزاهدون
مقدمة لجامع الكتاب
القسم الأول: في نوادر الملوك والخلفاء
النوادر الأولى
النوادر الثانية
النوادر الثالثة
النوادر الرابعة
النوادر الخامسة
النوادر السادسة
النوادر السابعة
النوادر الثامنة
النوادر التاسعة
النوادر العاشرة
النوادر الحادية عشرة
النوادر الثانية عشرة
القسم الثاني: في نوادر الفلاسفة والحكماء
الفلاسفة والحكماء
القسم الثالث: في نوادر العظماء
النوادر الأولى
النوادر الثانية
النوادر الثالثة
النوادر الرابعة
القسم الرابع: في نوادر الأذكياء
الأذكياء
القسم الخامس: في نوادر الزاهدين
الزاهدون
نوادر الأدباء
نوادر الأدباء
تأليف
إبراهيم زيدان
مقدمة لجامع الكتاب
لما رأيت الإقبال عظيما على كتابي «نوادر الكرام في الجاهلية والإسلام» و«نوادر العشاق» المطبوعين حديثا آثرت أن ألحقهما بثالث يكون منهما مكان الروح من الجسد، فنشرت هذا الكتاب «نوادر الأدباء» وجمعت فيه ما راق وطاب من نوادر الملوك، والخلفاء، والفلاسفة، والعظماء، والوزراء، والخطباء، والزاهدين، والأذكياء، وغيرهم، راجيا أن يصادف قبولا من القراء وارتياحا في نفوس الأدباء، لا زالوا ملجأ للعلم والأدب في هذا العصر الزاهر.
أقسام الكتاب
القسم الأول:
في نوادر الملوك والخلفاء.
القسم الثاني:
في نوادر الفلاسفة.
القسم الثالث:
في نوادر العظماء «من الوزراء والخطباء وغيرهم».
القسم الرابع:
في نوادر الأذكياء.
القسم الخامس:
في نوادر الزاهدين.
القسم الأول
في نوادر الملوك والخلفاء
النوادر الأولى
في نوادر الملك كسرى
الرشيد وعنبر المغني
قال إسحاق الموصلي: حضرت مسامرة الرشيد ليلة عنبر المغني، وكان فصيحا متأدبا، وكان مع ذلك يملي الشعر بصوت حسن؛ فتذاكروا رقة شعر المدنيين؛ فأنشد بعض جلسائه أبياتا لأحد الشعراء؛ حيث يقول:
واذكر أيام الحمى ثم انثني
على كبد من خشية أن تصدعا
وليس عشيات الحمى برواجع
عليك ولكن خل عينيك تدمعا
بكت عيني اليمنى فلما زجرتها
على الجهل بعد الحلم أسبلتا معا
فأعجب الرشيد برقة الأبيات، فقال له عنبر: يا أمير المؤمنين، إن هذا الشعر مدني رقيق، قد غذي بماء العقيق، حتى رق وصفا، فصار أصفى من الهواء، ولكن إن شاء أمير المؤمنين أنشدته ما هو أرق من هذا وأحلى وأصلب وأقوى لرجل من أهل البادية. قال: فإني أشاء. قال: وأترنم به يا أمير المؤمنين؟ قال: ذلك لك. فغنى لجرير:
إن الذين غدوا بلبك غادروا
وشلا بعينك لا يزال معينا
غيضن من عبراتهن وقلن لي
ماذا لقيت من الهوى ولقينا
راحوا العشية أوجه منكورة
إن حرن حرنا أو هدين هدينا
فرموا بهن سواهما عرض الفلا
إن متن متنا وإن حيين حيينا
قال: صدقت يا عنبر، وخلع عليه، وأجازه.
أفضل الملوك
قيل لكسرى: أي الملوك أفضل؟ قال: الذي إذا جاورته وجدته عليما، وإذا خبرته وجدته حكيما، وإذا غضب كان حليما، وإذا ظفر كان كريما، وإذا استمنح منح جسيما، وإذا وعد وفى وإن كان الوعد عظيما، وإذا اشتكي إليه وجد رحيما.
أنوشروان والفتاة
خرج كسرى أنوشروان إلى الصيد يوما واعتزل عسكره، فعطش، فرأى ضيعة قريبة منه، فقصدها حتى وقف على باب دار قوم، وطلب منهم الماء ليشرب، فخرجت له فتاة، فلما رأته عادت إلى البيت مسرعة، فدقت قصبة سكر، ومزجتها بماء، وخرجت به في قدح إليه، فنظر القدح، فرأى فيه شرابا وقذى، فشرب منه شيئا فشيئا حتى انتهى إلى آخره، ثم قال: نعم الماء لولا ما فيه من القذى! فقالت له الفتاة: أنا ألقيت القذى عمدا. فقال لها: ولم فعلت ذلك؟
فقالت: لما رأيتك شديد العطش خشيت أن تشربه مرة واحدة، فيضر بك شربه. فعجب كسرى من ذكائها وفطنتها، وقال: كم عصرت فيه من قصبة؟ فقالت: عصرت فيه قصبة واحدة. فعجب من ذلك، فلما مضى طلب اسم المكان، وكان قد نسيه، فرأى خراجه قليلا، فحدث نفسه أن يزيد في خراجه، وبعد حين مر بذلك المكان منفردا، ووقف على ذلك الباب، وطلب الماء ليشرب، فخرجت له الصبية عينها، ورأته فعرفته، وعادت مسرعة لتمزج له الماء فأبطأت عليه، فلما خرجت إليه قال لها: قد أبطأت! فقالت له: لم تمزج حاجتك من قصبة واحدة، بل من ثلاث قصبات. فقال: وما سبب ذلك؟! فقالت: من تغير نية الحاكم؛ فقد سمعنا أنه إذا تغيرت نية السلطان على قوم زالت بركاتهم، وقلت خيراتهم. فضحك أنوشروان، وأزال ما كان في نفسه من زيادة الخراج، ثم تزوج بتلك الفتاة؛ لعجبه من فصاحتها.
كسرى وبزرجمهر الوزير
قال أنوشروان لبزرجمهر: أي الأشياء خير للمرء؟ قال: عقل يعيش به. قال: فإن لم يكن؟ قال: فإخوان يسترون عيبه. قال: فإن لم يكن؟ قال: فمال يتحبب به إلى الناس. قال: فإن لم يكن؟ قال: فعي صامت. قال: فإن لم يكن؟ قال: فموت جارف.
كسرى أنوشروان والغلام
أراد كسرى كاتبا لأمر أعجله، فلم يوجد غير غلام صغير يصحب الكتاب، فدعاه فقال: ما اسمك؟ قال: مهرماه. قال: اكتب ما أملي عليك. فكتب قائما أحسن من غيره قاعدا، ثم قال له: اكتب في هذا الكتاب من تلقاء نفسك، ففعل، وضم إلى الكتاب رقعة فيها: «إن الحرمة التي أوصلتني إلى سيدنا لو وكلت فيها إلى نفسي لقصرت أن أبلغ إليها، فإن رأى أن لا يحطني إلى ما هو دونها فعل»، فقال كسرى: أحب مهرماه أن لا يدع في نفسه لهفة يتلهف عليها بعد إمكان الفرصة، وقد أمرنا له بما سأل.
نباهة كسرى
فر كسرى من ملاقاة بهرام جور، فاتبعه الجيش، وكان قد أعد معه فصوصا من زجاج مختلفة الألوان والأصباغ ودنانير من صفرة مغشاة بالذهب، فلما خاف أن يدركه الطلب نثر تلك الدنانير والفصوص على الأرض؛ فاشتغل الناس بجمعها فنجا بنفسه.
الحارث بن كلدة وكسرى أنوشروان
وفد الحارث بن كلدة - طبيب العرب - على كسرى أنوشروان، فأمر له بالدخول، فانتصب بين يديه، فقال له كسرى: من أنت؟ قال: أنا الحارث بن كلدة. قال: أأعرابي؟ قال: نعم من صحيحها. قال: فما صناعتك ؟ قال: طبيب. قال: وما تصنع العرب بالطبيب مع جهلها وضعف عقولها وقلة قبولها وسوء عزائمها؟! فقال: ذلك أجدر - أيها الملك - إذا كانت بهذه الصفة أن تحتاج إلى ما يصلح جهلها، ويقيم عوجها، ويسوس أبدانها، ويعدل إسنادها. قال الملك: كيف لها بأن تعرف ما تعهده عليها لو عرفت الحق لم تثبت إلى الجهل؟ قال الحارث: أيها الملك، إن الله - جل اسمه - قسم العقول بين العباد كما قسم الأرزاق، وأخذ القوم نصيبهم، ففيهم ما في الناس من جاهل وعالم وعاجز وحازم. قال الملك: فما الذي تجد في أخلاقهم وتحفظ من أمزاجهم؟ قال الحارث: أنفس سخية، وقلوب جرية، وعقول صحيحة مرضية، وأحساب نقية؛ فيمرق الكلام من أفواههم مروق السهم من الوتر، أسرع من سفن الماء، وأعذب من الهواء، ويطعمون الطعام، ويضربون الهام، وعزهم لا يرام، وضيفهم لا يضام، ولا يروع إذا نام، لا يقرن بفضلهم أحد من الأقوام، ما خلا الملك الهمام؛ الذي لا يقاس به أحد من الأنام. فاستوى كسرى جالسا، ثم التفت إلى من حوله، فقال: أطوى قومه، فلولا أن تداركه عقله لزم قومه، غير أني أراه ذا عمى! ثم أذن له بالجلوس، فقال: كيف نظرك بالطب؟ قال: ناهيك. قال: فما أصل الطب؟ قال: ضبط الشفتين، والرفق باليدين. قال: أصبت الدواء، فما الداء؟ قال: إدخال الطعام على الطعام هو الذي أفنى البرية، وقتل السباع في البرية. قال: أصبت، فما الجمرة التي تلتهب منها الأدواء؟ قال: هي التخمة؛ إن بقيت في الجوف قتلت، وإن تحللت أسقمت. قال: فما تقول في إخراج الدم؟ قال: في نقصان الهلال، في يوم صحو لا غيم فيه، والنفس طيبة، والسرور حاضر. قال: فما تقول في الحمام؟ قال: لا تدخل الحمام شبعان، ولا تغش أهلك سكران، ولا تنم بالليل عريان، وارفق بجسمك يكن أرجحه لنسلك. قال: فما تقول في شرب الدواء؟ قال: اجتنب الدواء ما لزمتك الصحة، فإذا أحسست بحركة الداء فاحسمه بما يردعه؛ فإن البدن بمنزلة الأرض؛ إن أصلحتها عمرت، وإن أفسدتها خربت. قال: فما تقول في الشراب؟ قال: أطيبه أهناه، وأرقه أمراه، ولا تشرب صرفا يورثك صداعا ويثير عليك من الداء أنواعا، قال: فأي اللحمان أحمد؟ قال: الضأن؛ أسمنه وأبذله.
النوادر الثانية
نوادر الملك النعمان
النعمان وحاتم طيء وأوس بن جارحة
كان بين حاتم طيء وبين أوس بن جارحة ألطف ما كان بين اثنين، فقال النعمان لجلسائه: لأفسدن ما بينهما! فدخل على أوس، فقال: إن حاتما يزعم أنه أفضل منك! فقال: أبيت اللعن صدق! ولو كنت أنا وأهلي وولدي لحاتم لوهبنا في يوم واحد! وخرج فدخل على حاتم فقال له مثل ذلك، فقال: صدق، وأين أقع من أوس وله عشرة ذكور دونهم أفضل مني؟! فقال النعمان: ما رأيت أفضل منكما.
النعمان والمحكوم عليه بالقتل
قيل: إن النعمان جعل له يومين؛ يوم بؤس من صادفه فيه قتله، ويوم نعيم من لقيه أحسن إليه، وكان رجل يدعى الطائي، قد رماه حادث دهره بسهام فاقته وفقره، وأبلاه القدر من قرب عسره، وبعد يسره بما أنساه جميل صبره، وأعاره شكوى ضره، فأحوجته الحاجة إلى مزايلة قراره، وأخرجته الفاقة من محل استقراره، فخرج يرتاد نجعة لعياله؛ إذ أوقفه القدر في منزل النعمان في يوم بؤس، فلما بصر به الطائي علم أنه مقتول، وأن دمه مطلول، فقال: حيا الله الملك، إن لي صبية صغارا، وأهلا جياعا، وقد أرقت ماء وجهي في طلب هذه البلغة الحقيرة لهم، وأعلم أن سوء الحظ أقدمني على الملك في هذا اليوم العبوس، وقد قربت من مقر الصبية والأهل، وهم على شفا تلف من الطوى، ولن يتفاوت الحال في قتلي بين أول النهار وآخره، فإن رأى الملك أن يأذن لي في أن أوصل إليهم هذا القوت، وأوصي بهم أهل المروءة من الحي؛ لئلا يهلكوا جميعا، وعلي عهد الله أني إذا أوصيت بهم أرجع إلى الملك مساء، وأسلم نفسي بين يديه لنفاذ أمره. فلما علم النعمان صورة مقاله، وفهم حقيقة حاله، ورأى تلهفه من ضياع أطفاله رق له، وقال: لا آذن لك إلا أن يضمنك رجل معنا، فإن لم ترجع قتلناه، وكان في مجلسه شريك بن عدي بن شرحبيل - نديم النعمان - فالتفت الطائي إلى شريك وقال له:
يا شريك بن عدي
ما من الموت انهزامي
بل لأطفال ضعاف
عدموا طعم الطعام
بين جوع وانتظار
واحتقار وسقام
يا أخا كل كريم
أنت في قوم كرام
يا أخا النعمان جد لي
بضمان والتزام
ولك الله بأني
راجع قبل الظلام
فقال شريك بن عدي: أصلح الله الملك، علي ضمانه. فمر الطائي مسرعا والنعمان يقول لشريك: إن صدر النهار قد ولى ولم يرجع! وشريك يقول: ليس للملك علي سبيل حتى يأتي المساء. فلما قرب المساء قال النعمان لشريك: جاء وقتك فتأهب للقتل! فقال شريك: هذا شخص قد لاح مقبلا وأرجو أن يكون الطائي، فإن لم يكن فأمر الملك ممتثل، فبينما هم كذلك وإذا الطائي قد أقبل يشتد في عدوه مسرعا، فقدم، وقال: خشيت أن ينقضي النهار قبل وصولي فعدوت. ثم وقف قائما، وقال: أيها الملك، مر بأمرك. فأطرق النعمان ثم رفع رأسه، وقال: والله ما رأيت أعجب منكما! أما أنت يا طائي؛ فما تركت لأحد في الوفاء مقاما يقوم فيه ولا ذكرا يفخر به، وأما أنت يا شريك؛ فما تركت لكريم سماحة يذكر بها في الكرماء، فلا أكون أنا ألأم الثلاثة، ألا وإني قد رفعت يوم بؤسي عن الناس، ونقضت يوم عادتي كرامة؛ لوفاء الطائي وكرم شريك. فقال الطائي:
ولقد دعتني للخلاف عشيرتي
فعددت قولهم من الإضلال
إني امرؤ حبي الوفاء خليقة
وفعال كل مهذب مفضال
فقال النعمان: ما حملك على الوفاء وفيه تلف نفسك؟! قال: ديني؛ فمن لا دين له لا وفاء له. فأحسن إليه النعمان ووصله، وأعاده إلى أهله.
عدي بن زيد والنعمان
خرج النعمان بن المنذر متصيدا ومعه عدي بن زيد، فمرا بشجرة، فقال عدي بن زيد: أيها الملك، أتدري ما تقول هذه الشجرة؟ قال: لا! قال: إنها تقول:
من رآنا فليحدث نفسه
أنه موف على قرب السؤال
وصروف الدهر لا يبقى لها
ولما تأتي به صم الجبال
رب ركب قد أناخوا حولنا
يشربون الخمر بالماء الزلال
عصف الدهر بهم فانقرضوا
وكذاك الدهر حالا بعد حال
ثم جاوزا الشجرة فمروا بمقبرة، فقال له عدي: أيها الملك، أتدري ما تقول هذه المقبرة؟ قال: لا! قال: إنها تقول:
أيها الركب المخبونا
على الأرض المجدونا
كما أنتم كذا كنا
كما نحن تكونونا
فقال النعمان: قد علمت أن الشجرة والمقبرة لا يتكلمان، وأنك إنما أردت أن تعظني، فجزاك الله عني خيرا، فما السبيل الذي تدرك به النجاة؟ قال: تدع عبادة الأوثان وتعبد الله وحده. قال: أفي هذا النجاة؟ قال: نعم. فترك عبادة الأوثان، وعبد الواحد القهار.
النوادر الثالثة
متفرقات من نوادر الملوك
الإسكندر وساكن المقابر
مر الإسكندر بمدينة قد ملكها غيره من الملوك، فقال: انظروا، هل بقي بها أحد من نسل ملوكها؟ فقالوا: رجل يسكن المقابر. فأحضره، وسأله عن إقامته، فقال: أردت أن أميز عظام الملوك من عظام عبيدهم فوجدتها سواء. فقال: هل تتبعني فأحيي شرفك إن كان لك همة؟ فقال: همتي عظيمة إن أنلتنيها. فقال: ما هي؟ قال: حياة لا موت معها، وشباب لا هرم بعده، وغنى لا فقر معه، وسرور لا مكروه فيه! فقال: ليس عندي هذا. فقال: دعني ألتمسه ممن هو عنده. فقال: ما رأيت مثله حكيما.
موت الإسكندر
حكم للإسكندر أنه لا يموت إلا بأرض سماؤه ذهب وأرضه حديد، فلما سقط من دابته حمل على درع وظلل بترس من ذهب؛ فلما أفاق ورأى ذلك فطن لما حكم له، وقال: قاتل الله المنجمين؛ يقولون ولا يفسرون! فكتب إلى والدته: أن اصنعي طعاما، وادعي له من لم تصبه مصيبة، فامتثلت، فبقي الطعام ولم يأتها أحد، ففطنت أنه أرسل يعزيها، وقال:
وما أنا بالمخصوص من بين من أرى
ولكن أتتني نوبتي في النوائب
تأبين الإسكندر
لما مات الإسكندر وضعوه في تابوت من ذهب، وحملوه إلى الإسكندرية، وندبه جماعة من الحكماء يوم موته، فقال بطليموس: هذا يوم عظيم العبرة، أقبل من شره ما كان مدبرا، وأدبر من خيره ما كان مقبلا. وقال ميلاطوس: خرجنا إلى الدنيا جاهلين، وأقمنا فيها غافلين، وفارقناها كارهين. وقال أفلاطون الثاني: أيها الساعي المغتصب، جمعت ما خذلك، وتوليت ما تولى عنك، فلزمتك أوزاره، وعادت إلى غيرك ثماره. وقال مسطور: قد كنا بالأمس نقدر على الاستماع ولا نقدر على الكلام، واليوم نقدر على الكلام ولا نقدر على الاستماع. وقال ثاون: انظروا إلى حلم النائم، كيف انقضى؟ وإلى ظل الغمام، كيف انجلى؟ وقال آخر: ما سافر الإسكندر سفرا بلا أعوان ولا عدة غير سفره هذا. وقال غيره: لم يؤدبنا بكلامه كما أدبنا بسكوته. وقال آخر: قد كان بالأمس طلعته علينا حياة، واليوم النظر إليه سقم.
أزدشير الملك والخطيب
لما استوثق الأمر لأزدشير بن يزدجرد جمع الناس فخطبهم خطبة، حثهم فيها على الألفة والطاعة، وحذرهم المعصية ومفارقة الجماعة، وصفق الناس أربعة، فخروا له سجدا، وتكلم متكلمهم، فقال: لا زلت - أيها الملك - محبوبا من الله، رفيقا للنصر، حاصلا على دوام العافية وتمام النعمة وحسن المزية، ولا زلت تتابع لديك المكرمات، وتشفع إليك الذمامات، حتى تبلغ الغاية التي يؤمن زوالها، ولا تنقطع زهرتها في دار القرار التي أعدها الله لنظرائك من أهل الزلفى والحظوة لديه، ولا زال ملكك وسلطانك باقيين، والشمس والقمر زائدين في زيادة البحور والأنهار حتى تستوي أقطار الأرض معها في علوك عليها ونفاذ أمرك فيها، فقد أشرق علينا من ضياء نورك ما عمنا عموم ضياء الصبح، ووصل إلينا من عظيم رأفتك ما اتصل بأنفسنا اتصال النسيم، فأصبحت وقد جمع الله بك الأيادي بعد اختلافها، وألف بك القلوب بعد تباغضها، وأذهب عنا ألسن الحساد بعد توقد نيرانها بفضلك الذي لا يدرك بوصف، ولا يحد بنعت. فقال أزدشير: طوبى للممدوح إذا كان للمدح مستحقا، وللداعي إذا كان للإجابة أهلا.
بهرام جور والراعي
حكي أن الملك بهرام جور خرج يوما للصيد، فظهر له حمار وحش فاتبعه حتى خفي عن عسكره، فظفر به فمسكه، ونزل عن فرسه يريد أن يذبحه، فرأى راعيا أقبل من البرية، فقال له: يا راع، أمسك فرسي هذا حتى أذبح هذا الحمار ، فمسكه، ثم تشاغل بذبح الحمار، فلاحت منه التفاتة فرأى الراعي يقطع جوهرة في عذار فرسه، فأعرض الملك عنه حتى أخذها، وقال: إن النظر إلى العيب من العيب. ثم ركب فرسه ولحق بعسكره، فقال له الوزير: أيها الملك السعيد، أين جوهرة عذار فرسك؟ فتبسم الملك ثم قال: أخذها من لا يردها، وأبصره من لا ينم عليه، فمن رآها منكم مع أحد فلا يعارضه بشيء بسبب ذلك.
الملك المتعظ
بنى أحد الملوك قصرا، وقال: انظروا من عاب فيه شيئا فأصلحوه وأعطوه درهمين، فأتاه رجل، فقال: إن في هذا القصر عيبين. قال: وما هما؟ قال: يموت الملك ويخرب القصر. قال: صدقت. ثم أقبل على نفسه، وترك الدنيا.
الملك وعبده
بعث الملك إلى عبد له: ما لك لا تخدمني وأنت عبدي؟ فأجابه: لو اعتبرت لعلمت أنك عبد عبدي؛ لأنك تتبع الهوى فأنت عبده، وأنا أملكه فهو عبدي.
الملك والوزير
أشار وزير على ملكه بجمع الأموال واقتناء الكنوز، وقال: إن الرجال وإن تفرقوا عنك اليوم فمتى احتجتهم عرضت عليهم الأموال فتهافتوا عليك، فقال له الملك: هل لهذا من شاهد؟ قال: نعم، هل بحضرتنا الساعة ذباب! قال: لا. فأمر بإحضار جفنة فيها عسل، فحضرت، فتساقط عليها الذباب لوقتها، فاستشار السلطان بعض أصحابه في ذلك فنهاه، وقال: لا تغير قلوب الرجال، فليس في كل وقت أردتهم حضروا، فسأل: هل لذلك من دليل؟ قال: نعم، إذا أمسينا أخبرك، فلما أظلم الليل قال للملك: هات الجفنة، فحضرت ولم تحضر ذبابة واحدة.
ملك الجزيرة والرجل
انكسرت سفينة برجل في البحر فوقع إلى جزيرة، فعمل شكلا هندسيا على الأرض، فرآه بعض أهل الجزيرة، فذهبوا به إلى الملك، فأحسن إليه، وأكرم مثواه، وكتب الملك إلى سائر ممالكه: أيها الناس، اقتنوا ما إذا كسرتم في البحر صار معكم.
الملك الكريم
غضب الملك على بعض حاشيته؛ فأسقط الوزير اسمه من ديوان العطايا، فقال الملك: أبقه على ما كان عليه؛ لأن غضبي لا يسقط همتي.
النوادر الرابعة
نوادر الخليفة هارون الرشيد
الرشيد والمجنون
مر الرشيد بدير في ظاهر الرقة، فلما أقبلت مواكبه أشرف أهل الدير ينظرون إليه، وفيهم مجنون مسلسل، فلما رأى هارون رمى بنفسه بين يديه، وقال: يا أمير المؤمنين، قد قلت فيك أربعة أبيات، أفأنشدك إياها؟ قال: نعم، فأنشد:
لحظات طرفك في العدى
تغنيك عن سل السيوف
وغريم رأيك في النهى
يكفيك عاقبة الصروف
وسيول كفك بالندى
بحر يفيض على الضعيف
وضياء وجهك في الدجى
أبهى من البدر المنيف
ثم قال: يا أمير المؤمنين، هات أربعة آلاف درهم أشتري بها كبيسا وتمرا. فقال هارون: تدفع له. فحملت إلى أهله.
الرشيد والأعرابي
ركب الرشيد في بعض أسفاره ناقة فطلع عليه أعرابي، فناشده:
أغيثا تحمل الناق
ة أم تحمل هارونا؟
أم الشمس أم البدر
أم الدنيا أم الدينا؟
ألا كل الذي قلت
ه قد أصبح مأمونا
فأمر له بعشرة آلاف درهم.
عبد الله العمري والرشيد
قال رجل لعبيد الله العمري: هذا هارون الرشيد في الطواف قد أخلي له المسعى. فقال له: لا جزاك الله عني خيرا، كلفتني أمرا كنت عنه غنيا. ثم جاء إليه، فقال له: يا هارون. فلما نظر إليه قال: يا عم. قال: كم ترى ها هنا من خلق الله؟ فقال: لا يحصيهم إلا الله عز وجل. فقال: اعلم أيها الرجل أن كل واحد منهم يسأل عن خاصة نفسه، وأنت واحد تسأل عنهم كلهم، فانظر كيف تكون؟ فبكى هارون وجلس، وجعلوا يعطونه منديلا، منديلا للدموع، ثم قال له: وفيم؟ قال: إن الرجل ليسرع في مال نفسه، فيستحق الحجر عليه، فكيف فيمن أسرع في مال أمة عظيمة؟!
الرشيد ومالك وسفيان بن عيينة
وجه الرشيد إلى مالك بن أنس ليأتيه فيحدثه، فقال مالك: إن العلم يؤتى. فصار الرشيد إلى منزله، فاستند معه إلى الجدار، فقال: يا أمير المؤمنين، من إجلال الله تعالى إجلال العلم، فقام وجلس بين يديه، وبعث إلى سفيان بن عيينه، فأتاه، وقعد بين يديه وحدثه، فقال الرشيد بعد ذلك: يا مالك تواضعنا لعلمك فانتفعنا به، وتواضع لنا علم سفيان فلم ننتفع به .
الرشيد والعباس والفضل بن عياض
قصد الرشيد زيارة الفضل بن عياض ليلا مع العباس، فلما وصلا بابه سمعاه يقرأ:
أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون (الجاثية: 21)، فقال الرشيد للعباس: إن اتفقنا بشيء فهذا، فناداه العباس: أجب أمير المؤمنين. فقال: وما يعمل عندي أمير المؤمنين؟! ثم فتح الباب وأطفأ السراج، فجعل هارون يطوف حتى وقعت يده عليه، فقال: آه من يد ما ألينها إن نجت من عذاب يوم القيامة! ثم قال: استعد للجواب يوم القيامة، إنك تحتاج أن تتقدم مع كل نفس بشرية. فاشتد بكاء الرشيد، فقال العباس: اسكت يا فضل، فإنك قتلت أمير المؤمنين! فقال: يا هامان، إنما قتلته أنت وأصحابك! فقال الرشيد: ما سماك هامان إلا وقد جعلني فرعون! ثم قال له الرشيد: هذه ألف دينار أرجو أن تقبلها مني. فقال: لا حاجة لي بها رد ها على من أخذتها منه. فقام الرشيد وخرج.
الدهري وأبو حنيفة عند الرشيد
حكي أن دهريا جاء إلى هارون الرشيد وقال: يا أمير المؤمنين، قد اتفق علماء عصرك - مثل أبي حنيفة - على أن للعالم صانعا، فمن كان فاضلا من هؤلاء فمره أن يحضر ها هنا، حتى أبحث معه بين يديك، وأثبت له أنه ليس للعالم صانع، فأرسل هارون الرشيد إلى أبي حنيفة؛ لأنه كان أفضل العلماء، وقال: يا إمام المسلمين، اعلم أنه قد جاء إلينا دهري وهو يد عي نفي الصانع، ويدعوك إلى المناظرة. فقال أبو حنيفة: أذهب بعد الظهر. فجاء رسول الخليفة، وأخبر بما قاله أبو حنيفة، فأرسل إليه ثانية، فقام أبو حنيفة وأتى إلى هارون الرشيد، فاستقبله هارون، وجاء به، وأجلسه في الصدر، وقد اجتمع الأركان والأعيان، فقال الدهري: يا أبا حنيفة لم أبطأت في مجيئك؟ فقال أبو حنيفة: قد حصل لي أمر عجيب فلذلك أبطأت؛ وذلك أن بيتي وراء دجلة، فخرجت من منزلي وجئت إلى جنب دجلة حتى أعبرها، فرأيت بجنب دجلة سفينة عتيقة معطلة قد افترق ألواحها، فلما وقع بصري عليها اضطربت الألواح وتحركت واجتمعت وتوصل بعضها ببعض وصارت السفينة صحيحة بلا نجار ولا عمل عامل، فقعدت عليها وعبرت وجئت إلى ها هنا! فقال الدهري: اسمعوا أيها الأعيان ما يقول إمامكم وأفضل زمانكم! فهل سمعتم كلاما أكذب من هذا؟! كيف تحصل السفينة المكسورة بلا عمل نجار؟! فهو كذب محض قد ظهر من أفضل علمائكم! فقال أبو حنيفة: أيها الكافر المطلق، إذا لم تحصل السفينة بلا صانع ونجار فكيف يجوز أن يحصل هذا العالم من غير صانع؟! أم كيف تقول بعدم الصانع؟! فعند ذلك أمر الرشيد بضرب عنق الدهري، فقتلوه.
الرشيد والجارية والتنوخي
قال التنوخي: كان عند الرشيد جارية من جواريه وبحضرته عقد جوهر، فأخذ يقلبه، ففقده، فاتهمها به، فسألها عن ذلك، فأنكرت، فحلف بالطلاق والعتاق والحج، فصدقته، فأقامت على الإنكار، وهو متهم لها، وخاف أن تكون خرجت في يمينه، فاستدعى أبا يوسف، وقص عليه القصة، فقال أبو يوسف: خلني مع الجارية وخادم معنا حتى أخرجك من يمينك، ففعل ذلك، فقال لها أبو يوسف: إذا سألك أمير المؤمنين عن العقد فأنكريه، فإذا أعاد عليك السؤال فقولي: قد أخذته. فإذا أعاد عليك، فأنكري. وخرج، فقال للخادم: لا تقل لأمير المؤمنين ما جرى. وقال للرشيد: سلها يا أمير المؤمنين ثلاث دفعات متواليات عن العقد؛ فإنها تصدقك، فدخل الرشيد فسألها فأنكرت أول مرة، وسألها ثانية فقالت: نعم قد أخذته. فقال: أي شيء تقولين؟ فقالت: والله ما أخذته، ولكن هكذا قال لي أبو يوسف. فخرج إليه فقال: ما هذا؟ قال: يا أمير المؤمنين، قد خرجت من يمينك؛ لأنها أخبرتك أنها قد أخذته، وأخبرتك أنها لم تأخذه، فلا يخلو أن تكون صادقة في أحد القولين، وقد خرجت أنت من يمينك. فسر ووصل أبا يوسف، فلما كان بعد مدة وجد العقد.
عبد الملك بن صالح والرشيد
دخل عبد الملك بن صالح دار الرشيد فلقيه إسماعيل بن صبيح الحاجب، فقال: اعلم أنه ولد لأمير المؤمنين ابنان فعاش أحدهما ومات الآخر، فيجب أن تخاطبه بحسب ما عرفناك . فلما صار بين يديه قال: سرك الله يا أمير المؤمنين فيما ساءك، ولا ساءك فيما سرك وجعلها واحدة بواحدة تستوجب من الله زيادة الشاكرين وجزاء الصابرين.
ابتهال الرشيد
قال إبراهيم بن عبد الله الخراساني: حججت مع أبي سنة حج الرشيد، فإذا نحن بالرشيد واقف حاسر حاف على الحصباء، وقد رفع يديه وهو يرتعد ويبكي ويقول: يا رب أنت أنت وأنا أنا، أنا العو اد بالذنب وأنت العو اد بالمغفرة، اغفر لي. فقال لي أبي: انظر إلى جبار الأرض، كيف يتضرع إلى جبار السماء؟!
الرشيد وجارية الناطقي
قال الأصمعي: ما رأيت الرشيد مبتذلا قط إلا مرة كتبت إليه عنان جارية الناطقي رقعة فيها:
كنت في ظل نعمة بهواكا
آمنا منك لا أخاف جفاكا
فسعى بيننا الوشاة فأقرر
ت عيون الوشاة بي فهناكا
فسعي لغير ذا كان أولى
بك في حقنا جعلت فداكا
فأخذ الرقعة بيده - وعنده أبو جعفر الشطرنجي - فقال: أيكم يشير إلى المعنى الذي في نفسي، فيقول فيه شعرا، وله عشرة آلاف درهم؟ فظننت أنه وقع بقلبه أمر عنان، فبادره أبو جعفر قائلا:
مجلس ينسب السرور إليه
بمحب ريحانه ذكراكا
فقال يا غلام: ابدره، قال الأصمعي، وقلت:
لم ينلك الرجاء أن تحضريني
وتجافت أمنيتي عن سواكا
قال: أحسنت والله يا أصمعي، لها ولك بهذا البيت عشرون ألفا.
بكر بن حماد وهارون الرشيد وعنان
قال بكر بن حماد الباهلي: لما انتهى إلي خبر عنان، وأنها ذكرت لهارون، وقيل: إنها أشد الناس. خرجت معترضا لها، فما راعني إلا الناطقي - مولاها - وقد ضرب على عضدي، فقال لي: هل لك فيما سنح من طعام أو شراب ومجالسة عنان؟! فقلت: ما بعد عنان مطلب، ومضينا حتى أتينا منزله، فعقل دابته ثم دخل، فقال: هذا شاعر يا عنان يريد مجالستك اليوم؟ فقالت: لا، والله إني كسلانة! فحمل عليها بالسوط، ثم قال لي: ادخل. فدخلت ودمعها يتحدر كالجمان في خدها، فطمعت بها، فقلت:
هذي عنان أسبلت دمعها
كالدر إذ ينسل من خيطه
ثم قلت: أجيزي. فقالت:
فليت من يضربها ظالما
تجف كفاه على سوطه
فقلت لها: إن لي حاجة. فقالت: هاتها. قلت لها: بيت وجدته على ظهر كتابي لم أقرضه ولم أقدر على إجازته. قالت: قل. فأنشدتها:
فما زال يشكو الحب حتى حسبته
تنفس في أحشائه فتكلما
قال: فأطرقت ساعة، ثم أنشدت:
ويبكي فأبكي رحمة لبكائه
إذا ما بكى دمعا بكيت له دما
قلت لها: فما عندك في إجازة هذا البيت:
بديع حسن بديع صد
جعلت خدي له ملاذا
فأطرقت ساعة، ثم قالت:
فعاتبوه فعنفوه
فأوعدوه فكان ماذا
الرشيد والراعي النبيه
كان لراعي مواش دعوى على رجل، فأتى الرشيد يشكو خصمه، وبعد أن بسط دعواه قال: وعلى كل حال الأمر لله ثم لدولتكم؛ فاحكموا بهذه الدعوى حسب ما تقتضيه حكمتكم، وأنا متخذكم لي كالسطل والكلب؛ فإنهما عوني وملجئي! فلما سمع الرشيد ذلك قال له: ماذا تقول؟! فأعاد ما قاله؛ فاستشاط الرشيد غضبا، وأمر حاجبه للحال أن يوثق الراعي بالحبال ويودع السجن ليقتله في اليوم التالي، فلما بلغ الوزير ذلك سأل الرشيد العفو عن الراعي، وأنه لو لم يكن ذا ذكاء وعقل ثاقب لما وصفه بما وصف، والتمس منه أن يسلمه الراعي مدة وجيزة؛ ليدرسه قليلا، وحينئذ يمثله في نادي الرشيد ويطلب إليه أن يصفه، فإن عاد وقال ما قاله قبلا يضرب عنقه وإلا يكرمه.
فأجاب التماسه وسلمه الراعي، فمضى به إلى بيته، وقال له: ماذا حملك على وصف الملك بالسطل والكلب؟ قال: اعلم يا مولاي أنني لم أخطئ بذلك؛ فإن السطل هو الإناء الذي أحفظ به الحليب، والكلب هو الذي يحرس المواشي من الوحوش، وبما أنهما الواسطة الوحيدة لمعيشتي وصفته بهما. فعجب الوزير من ذكائه، وأخذ يدرسه أصول العربية برهة من الزمان، ثم أحضره أمام الرشيد لإتمام وعده له، أما الرشيد فأمر أحد أصحابه أن يسل سيفه، ويقبل ليضرب عنق الراعي إذا عاد فوصف الملك بما وصفه قبلا، فامتثل وسار نحو الراعي وهو مشهر الحسام، فلما رآه أنشد:
يا من حوى ورد الرياض بخده
وحكى قضيب الخيزران بقده
دع عنك ذا السيف الذي جردته
عيناك أمضى من مضارب حده
كل السيوف قواطع إن جردت
وحسام لحظك قاطع في غمده
إن شئت تقتلني فأنت محكم
من ذا يطالب سيدا في عبده
فلما سمع الرشيد شعره أخذه الانذهال، وتحير مما كان، وكيف اكتسب ذلك الراعي من العلم أجمله في وقت يسير؟! وحدثه بما وصفه به قبلا؟ فأجابه الراعي: إنني لم أخطئ قبلا بوصفي إياك بذينك الوصفين؛ فإنهما سند حياتي، ولست أعيش إلا بهما، فحسنت لديه فطنة الرجل وأكرمه.
هارون الرشيد وأبو معاوية
كان هارون الرشيد يتواضع للعلماء، قال أبو معاوية الضرير - وكان من علماء الناس: أكلت مع الرشيد يوما، فصب على يدي الماء رجل، فقال لي: يا أبا معاوية، أتدري من صب الماء على يدك؟ فقلت: لا يا أمير المؤمنين. قال: أنا. فقلت: يا أمير المؤمنين، أنت تفعل هذا إجلالا للعلم؟ قال: نعم.
الأعرابي والرشيد والكاتب
دخل أعرابي على الرشيد فأنشده أرجوزة مدحه بها وإسماعيل بن صبيح يكتب كتابا بين يديه، وكان من أحسن الناس خطا وأسرعهم يدا، فقال الرشيد للأعرابي: صف الكاتب. فقال:
رقيق حواشي العلم حين بكوره
يريك الهوينا والأمور تطير
له قلما بؤس ونعمى كلاهما
سحابته في الحالتين درور
يناجيك عما في ضميرك خطه
ويفتح باب النجح وهو عسير
فقال الرشيد: قد وجب لك يا أعرابي عليه حق كما وجب لك علينا، يا غلام، ادفع له دية الحر، فقال إسماعيل: وعلى عبدك دية العبد.
ابن السماك وهارون الرشيد
قال ابن السماك: بعث إلي هارون الرشيد، فلما انتهيت إلى باب القصر، أخذ بي حارسان، فأعجلاني في دهليز القصر، فلما انتهيت إلى باب القاعة لقيني خصيان، فأخذاني من الحارسين، فأعجلا بي إلى قاعة القصر، فانتهيت إلى البهو الذي هو فيه فقال لهما هارون: ارفقا بالشيخ، فلما وقعت بين يديه، قلت: يا أمير المؤمنين ما مر بي منذ ولدت أتعب من يومي هذا، فاتق الله في خلقه، وأنصحك لنفسك في رعيتك؛ فإن لك مقاما بين يدي الله تعالى أنت فيه أذل من مقامي هذا بين يديك، واتق الله واعلم أنه قادر عليم. فاضطرب على فراشه حتى نزل إلى مصلى بين يدي فراشه، فقلت: يا أمير المؤمنين، هذا ذل الصفة، فكيف لو رأيت ذل المعاينة؟! فكادت نفسه تخرج، فقال يحيى للخصيين: أخرجوه فقد أبكى أمير المؤمنين.
الرشيد والرجل
أحضر الرشيد رجلا؛ ليوليه القضاء، فقال له: إني لا أحسن القضاء، ولا أنا فقيه. فقال له الرشيد: فيك ثلاث خصال: لك شرف؛ والشرف يمنع صاحبه من الدناءة، ولك حلم؛ يمنعك من العجلة، ومن لم يعجل قل خطؤه، وأنت رجل تشاور في أمرك، ومن شاور كثر صوابه، وأما الفقه فنضم إليك من تتفقه به، فولي فما وجد فيه تقصير.
الرشيد والمرأة
دخلت على الرشيد امرأة وقالت له: أتم الله أمرك، وفر حك فيما أعطاك، لقد قسطت بما فعلت زادك الله رفعة. فلما سمع قولها التفت إلى أرباب دولته، وقال: أعلمتم ما قالت المرأة؟ وما القصد من كلامها؟ فقالوا: ما فهمنا من كلامها إلا دعاء لحضرتك بالخير. فقال: لا بل دعاء علي . فقالوا: وكيف ذلك يا أمير المؤمنين؟! فقال: أما قولها: «أتم الله أمرك» أرادت به قول الشاعر:
إذا تم أمر بدا نقصه
توقع زوالا إذا قيل تم
وأما قولها: «فرحك الله بما أعطاك» أرادت بقوله تعالى:
حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة (الأنعام: 44). وأما قولها: «لقد قسطت بما فعلت»: أرادت قوله تعالى:
وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا (الجن: 15)، وأما قولها: «وزادك رفعة»: أرادت به قول الشاعر حيث يقول:
ما طار طير وارتفع
إلا كما طار وقع
ثم التفت إلى المرأة، وقال لها: ما حملك على هذا الكلام؟ قالت: إنك قتلت أهلي وقومي. فقال: ومن أهلك وقومك؟ فقالت: البرامكة. فأراد أن يجزيها ببعض العطايا فلم ترض، وذهبت في حال سبيلها.
الرشيد وابن المهدي وعبد الملك بن صالح
قال إبراهيم بن المهدي: كنت عند الرشيد، فأتاه رسول معه أطباق عليها مناديل ورقعة، فأخذ يقرأ الرقعة ويقول: وصله الله وبره. فقلت: يا أمير المؤمنين، من هذا الذي أطنبت في مدحه؛ لنشاركك في جميل ذكره؟ فقال: عبد الملك بن صالح. ثم كشف عن الأطباق فإذا هي فواكه! فقلت: يا أمير المؤمنين، ما يستحق هذا الوصف إلا أن يكون في الرقعة ما لا نعلمه. فرمى بها إلي، فإذا فيها: «دخلت يا أمير المؤمنين إلى بستان لي قد عمرته بنعمتك، وقد أينعت فواكهه، فحملتها في أطواق قضبان، ووجهت بها إلى أمير المؤمنين ليصل إلي من بركة دعائه مثل ما وصل إلي من نوافل بره»، فقلت: وقال في هذا الكلام ما يستحق الدعاء؟! فقال: أوما تراه كنى بالقضبان عن الخيزران؛ وهي اسم أمنا؟!
أبو العتاهية والرشيد
حبس الرشيد أبا العتاهية الشاعر، فكتب على حائط الحبس:
أما والله إن الظلم شوم
وما زال المسيء هو الظلوم
إلى ديان يوم الدين نمضي
وعند الله تجتمع الخصوم
ستعلم في المعاد إذا التقينا
غدا عند المليك من الظلوم؟!
فقرأ الرشيد ذلك، فبكى بكاء مرا، ودعا بأبي العتاهية؛ فاستحله، ووهب له ألف دينار وأطلقه.
الرشيد والعابد
حج الرشيد فبلغه عن عابد بمكة مجاب الدعوة معتزل في جبال تهامة، فأتاه هارون الرشيد، فسأله عن حاله، ثم قال له: أوصني ومرني بما شئت؛ فوالله لا عصيتك. فسكت عنه ولم يرد عليه جوابا، فخرج عنه هارون، فقال له أصحابه: ما منعك إذ سألك أن تأمره بما شئت وحلف أن لا يعصيك أن تأمره بتقوى الله والإحسان إلى رعيته؟ فخط لهم في الرمل: إني أعظمت الله أن يكون يأمره فيعصيه، وآمره أنا فيطيعني.
النوادر الخامسة
نوادر المأمون
المأمون والرجل
عاب رجل رجلا عند المأمون، فقال له: قد استدللنا على كثرة عيوبك بما تذكر من عيوب الناس؛ لأن طالب العيوب إنما يطلبها بقدر ما هي فيه، لا بقدر ما فيه منها، قال الشاعر:
أرى كل إنسان يرى عيب غيره
ويعمى عن العيب الذي هو فيه
وما خير من تخفى عليه عيوبه
ويبدلها بالعيب عيب أخيه
المأمون وسهل بن هارون
كان المأمون يستقبل سهل بن هارون، فدخل عليه يوما والناس جلوس، وقد أسبلوا براقع الغفلة على وجوه الفطن، والفهم عنهم قد رحل، والتبلد فيهم قد قطن، فلما فرغ المأمون من كلامه أقبل سهل على الناس، وقال: ما لكم تسمعون ولا تعون؟ وتفهمون ولا تفهمون؟! وتشاهدون ولا تعجبون؟! والله إنه ليقول ويفعل في اليوم القصير مثل ما يفعله أبو مروان في الزمن الطويل، عربكم كعجمهم، وعجمكم كعبيدهم، لكن كيف يعرف الدواء من لا يشعر بالداء؟! فاستحسن المأمون منه ذلك، وأنزله منزلته الأولى.
أبو محمد اليزيدي والمأمون
كان أبو محمد اليزيدي ينادم المأمون، فغلب عليه الشراب ذات ليلة فغلبه، فأمر المأمون بحمله إلى منزله برفق، فلما أفاق استحى وانقطع عن الركوب أياما، فلما طال عليه ذلك كتب إلى المأمون:
أنا المذنب الخطاء والعفو واسع
ولو لم يكن ذنب لما عرف العفو
سكرت فأبدى مني الكأس بعض ما
كرهت وما أن يستوي السكر والصحو
ولا سيما إذ كنت عند خليفة
وفي مجلس ما إن يجوز به اللغو
فلما قرأها المأمون وقع في الرقعة: «سر إلينا فقد عفونا عنك، فلا عتب عليك وبساط النبيذ يطوى معه».
أبو دلف والمأمون
دخل أبو دلف على المأمون، وقد كان عتب عليه ثم أقاله، وقد خلا مجلسه: قل أبا دلف وما عسيت أن تقول، وقد رضي عنك أمير المؤمنين، وغفر لك ما فعلت. فقال: يا أمير المؤمنين:
ليالي تدني منك بالبشر مجلسي
ووجهك من ماء البشاشة يقطر
فمن لي بالعين التي كنت مرة
إلي بها في سالف الدهر تنظر
قال المأمون: لك بها رجوعك إلى مناصحته، وإقبالك على طاعته، ثم عاد إلى ما كان عليه.
المأمون ومدعي النبوة
ادعى رجل النبوة في زمن المأمون، فبلغه خبره؛ فأحضره إليه، ثم سأله: ما علامة نبوتك؟ فقال له: علمي بما في نفسك! فقال: وما في نفسي؟ فقال: تقول: إني كاذب. فحبسه ثم أحضره، وقال له: هل أوحي إليك شيء؟! قال: لا. قال: ولم ذلك؟! قال: لأن الملائكة لا تدخل الحبس! فضحك منه وأطلقه.
المأمون والحسن بن سهل
لما ودع المأمون الحسن بن سهل قبل مخرجه من مدينة السلام قال له: يا أبا محمد، ألك حاجة تعهد إلي فيها؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، أن تحفظ علي من قلبك ما لا أستعين على حفظه إلا بك.
ابن قتيبة والمأمون
قال سعيد بن مسلم بن قتيبة للمأمون: لو لم أشكر الله إلا على حسن ما أبلاني في أمير المؤمنين من قصده إلي بحديثه وإشارته إلي بطرفه كان ذلك من أعظم ما توجبه النعمة وتفرضه الصنيعة. قال المأمون: ذلك والله لأن الأمير يجد عندك من حسن الإفهام إذا حدثت، وحسن الفهم إذا حدثت ما لا يجده عند غيرك.
المأمون والرجال الثلاثة
قال المأمون: ما عجزت عن جواب أحد قط مثلما عييت عن جواب ثلاثة. فقال بعض أصحابه: من أولئك يا أمير المؤمنين؟ قال: أما الأول: فرجل من أهل الكوفة، وسبب ذلك أن أهل الكوفة رفعوا قصة يشكون فيها عاملا عليهم، فقعدت يوما، وقلت لهم: إن خاصمتموني كلكم مللت، ولكن اختاروا رجلا منكم أتولى مناطقته ويقوم مقامكم. قالوا: قد اخترنا رجلا غير أنه أصم، فإن احتمله أمير المؤمنين فهو لساننا! قلت: قد احتملته. وأحضروه، فلما مثل بين يدي قلت له: ما تقول؟ فقال: يا أمير المؤمنين، وليت علينا رجلا ثلاث سنين، فاستأصل أموالنا، ويريد أرواحنا، ففي السنة الأولى: نفدت أموالنا، وفي السنة الثانية: بعنا ضياعنا، وفي الثالثة: خرجنا من ديارنا وأوطاننا للشر الذي نالنا والمسكنة التي حلت بنا. فقلت له: كذبت، وأنت أهل لذلك، بل وليت عليكم ثقة عندي على أموالكم مأمونا فاضلا. فقال يا أمير المؤمنين: صدقت وبررت، وأنا كذبت وأفكت، وأنت خليفة الله في بلادنا وأمينه على عباده، فكيف خصصتنا بهذا العادل المؤتمن الفاضل ثلاث سنين ولم توله غير بلاده؛ فينشر عدله في البلاد، ويحيا به العباد كما انتشر علينا، ويفيض من عدله على رعيتك ما أفاض علينا؟! فضحكت، وقلت له: قم فقد عزلته عنكم. وأما الثاني: فأم الفضل، دخلت عليها لما كثر بكاؤها وحزنها على الفضل، فقلت لها: يا أم الفضل، لا تكثري البكاء والحزن على ذي الرئاستين؛ فأنا لك ولد مكانه. فاشتد بكاؤها، فأعدت عليها القول، فقالت: يا أمير المؤمنين، كيف لا أحزن على ولد أكسبني مثلك؟ فلم أجد كلاما بعده، وخرجت من عندها. وأما الثالث: فإني أتيت برجل يدعي النبوة، فأمرت بحبسه، ثم تفرغت من شغلي، فأمرت بإحضاره، وقلت له: زعمت أنك نبي؟! قال: نعم. قلت: إلى من بعثت؟ قال: أوتركتموني أبعث إلى أحد؟! بعثت الغداة وحبست نصف النهار! فقلت: من أنت من الأنبياء؟ قال: موسى بن عمران. قلت له: إن موسى كانت له دلائل وبراهين. قال: وما كانت براهينه؟ قلت: كان إذا ضم يده إلى جيبه أخرجها بيضاء، وإذا ألقى العصا صارت حية. قال: نعم، إنما ذلك لأجل فرعون لما قال: أنا ربكم الأعلى. فإن شئت ترى ذلك قل كما قال فرعون؛ حتى أظهر لك الآيات. فضحكت من كلامه، وأمرت له بجائزة.
اليزيدي والمأمون
قال محمد اليزيدي النحوي: دخلت على المأمون يوما وهو في حديقة له، ريانة أغصانها، غضة أوراقها في فصل الربيع، والدنيا قد تبرجت بثياب الرياض، وعنده جاريته منعم - وكانت أجمل أهل دهرها - تغنيه بهذه الأبيات:
وزعمت أني ظالم فهجرتني
ورميت في قلبي بسهم نافذ
فنعم ظلمتك فاغفري وتجاوزي
هذا مقام المستجير العائذ
هذا مقام فتى أضر به الهوى
أوليس عندكم ملاذ اللائذ
ولقد أخذتم من فؤادي لبه
لا شل ربي كف ذاك الآخذ
فطرب المأمون طربا شديدا، واستعادها الصوت مرارا، ثم قال: يا يزيدي، هل شيء أحسن مما نحن فيه؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين. فقال: وما هو؟ قلت: الشكر لمن خولك هذا الإنعام الجليل العظيم. فقال: أحسنت وصدقت. ووصلني بصلة، وأمر بإحضار مائة ألف درهم يتصدق بها، وكأني نظرت إلى البدر وقد خرجت وهي تفرق.
ذكاء المأمون
كان عبد الله المأمون يقرأ على الكسائي - والمأمون إذ ذاك صغير - وكان من عادة الكسائي إذا قرأ عليه المأمون يطرق رأسه؛ فإذا غلط المأمون رفع الكسائي رأسه ونظر إليه؛ فيرجع المأمون إلى الصواب، فقرأ المأمون يوما سورة الصف ، فلما قرأ:
يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون (الصف: 2) رفع الكسائي رأسه، ونظر المأمون إليه؛ فكرر الآية، فوجد القراءة صحيحة، فمضى على قراءته وانصرف الكسائي، فدخل المأمون على أبيه الرشيد، فقال: يا أمير المؤمنين، إن كنت وعدت الكسائي وعدا فإنه يستنجزه منك. قال: إنه كان التمس للقراء شيئا ووعدته به؛ فهل قال لك شيئا؟ قال: لا. قال: فما أطلعك على هذا؟ فأخبره بالأمر، فسر من فطنته وحدة ذكائه.
المأمون والحائك
رفع صاحب الخبر إلى المأمون أن حائكا يعمل العام كله لا يتعطل في عيد ولا جمعة، فإذا طلع الورد طوى عمله، وغرد بصوت، وقال:
طاب الزمان وجاء الورد فاصطبحوا
ما دام للورد أزهار وأنوار
فإذا شرب مع ندمائه غنى:
أشرب على الورد من حمراء صافية
شهرا وعشرا وخمسا بعدها عددا
فلا يزال في صبوح وغبوق ما بقيت وردة، فإذا انقضى عاد إلى عمله، وأنشد:
فإن يبقني ربي إلى الورد أصطبح
وندمان صدق عارفين مقاميا
فقال المأمون: لقد نظر الورد بعين جليلة؛ فينبغي أن نعينه على هذه المروءة، وأمر أن يدفع إليه في كل سنة عشرة آلاف درهم.
يحيى بن أكثم والمأمون
قال يحيى بن أكثم: ماشيت المأمون يوما من الأيام في بستان مؤنسة بنت المهدي، فكنت من الجانب الذي يستره من الشمس، فلما انتهى إلى آخره وأراد الرجوع أردت أن أدور إلى الجانب الذي يستره من الشمس؛ فقال: لا تفعل، ولكن كن بحالك حتى أسترك كما سترتني. فقلت: يا أمير المؤمنين، لو قدرت أن أقيك حر النار لفعلت، فكيف الشمس؟! فقال: ليس هذا من كرم الصحبة. ومشى ساترا إياي من الشمس كما سترته.
المأمون والموبذ
حضر الموبذ عند المأمون وهو يكالمه؛ إذ وردت عليه خريطة من الحسن فيها أخبار العراق وموت ابن الموبذ، فقال المأمون: أحسن الله لك العوض وعليه الخلف. فأجابه بصالح الأدعية، فعجب المأمون وقال: أتدري ما أردت؟ قال: لا. قال: تعال إن ابنك مات. قال: قد علمت ذلك. قال: ومن أين علمت ذلك والخريطة الساعة وردت؟! قال: قد علمت ذلك يوم ولد وعلة موته وجوده.
نباهة المأمون
حكي أن أم جعفر عاتبت الرشيد في تقريظه للمأمون دون الأمين ولدها، فدعا خادما، وقال له: وجه إلى الأمين والمأمون خادما يقول لكل واحد منهما على الخلوة: ما تفعل بي إذا أفضت الخلافة إليك؟ فأما الأمين فقال للخادم: أقطعك وأعطيك. وأما المأمون فإنه قام إلى الخادم - بدواة كانت بين يديه - وقال: اسألني عما أفعل بك يوم يموت أمير المؤمنين وخليفة رب العالمين؛ إني لأرجو أن نكون جميعا فداء له. فقال الرشيد لأم جعفر: كيف ترين؟ فسكتت عن الجواب.
محمد بن عمران والمأمون
لما بنى محمد بن عمران قصره إزاء قصر المأمون قيل له: يا أمير المؤمنين، باراك وباهاك. فدعاه، وقال: لم بنيت هذا القصر حذائي؟ قال: يا أمير المؤمنين أحببت أن ترى نعمتك علي؛ فجعلته نصب عينك. فاستحسن المأمون جوابه وعفا عنه.
العباس بن الحسين والمأمون
قال العباس بن الحسين للمأمون: يا أمير المؤمنين، إن لساني ينطلق بمدحك غائبا، وقد أحببت أن يستزيد عندك حاضرا، أفتأذن يا أمير المؤمنين بالكلام؟ فقال له: قل فوالله إنك لتقول فتحسن، وتحضر فتزين وتغيب فتؤتمن. فقال: ما بعد هذا الكلام يا أمير المؤمنين أفتأذن بالسكوت؟ قال: إذا شئت.
المأمون وسوسن والجارية
كان للمأمون جماعة من المغنين وفيهم مغن يسمى سوسنا عليه وسم جمال.
فبينما هو عنده يغني؛ إذ تطلعت جارية من جواريه فنظرت إليه، فعلقته، فكانت إذا حضر سوسن تسوي عودها وتغني:
ما مررنا بالسوسن الغض إلا
كان معي لمقلتي نديما
حبذا أنت والمسمى به أن
ت وإن كنت معه أذكى نسيما
فإذا غاب سوسن أمسكت عن هذا الصوت وأخذت في غيره، فلم تزل تفعل ذلك حتى فطن المأمون، فدعا بها ودعا السيف والنطع، ثم قال: اصدقيني أمرك. قالت: يا أمير المؤمنين، ينفعني عندك الصدق؟ قال لها: إن شاء الله. قالت: يا أمير المؤمنين، اطلعت من وراء الستارة فرأيته فعلقته. فأمسك المأمون عن عقوبتها وأرسل إلى المغني فوهبها له، وقال: لا يقربنا.
المأمون والجاني
وقف رجل بين يدي المأمون وقد جنى جناية، فقال: والله لأقتلنك. فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، تأن علي؛ فإن الرفق نصف العفو. قال: وكيف وقد حلفت لأقتلنك؟! قال: يا أمير المؤمنين، لأن تلقى الله جانيا خير لك من أن تلقاه قاتلا. فخلى سبيله.
المأمون وجلساؤه
قال المأمون يوما لبعض جلسائه: أنشدوني بيتا لملك يدل على أن قائله ملك، فأنشده بعضهم قول امرئ القيس:
أمن أجل أعرابية حل أهلها
جنوب الحمى عيناك تبتدران
فقال: ليس في هذا ما يدل على أنه ملك؛ فإنه يجوز أن يقول هذا سوقي حضري، إنما هذا بيت يدل على أن قائله ملك. وأنشد للوليد بن يزيد:
اسقني من سلاف ريق سليمى
واسق هذا النديم كأسا عقارا
أما ترون إلى إشارته وقوله: «هذا النديم» فإنها إشارة ملك.
المأمون وعلوية المجنون
دخل علوية المجنون يوما على المأمون وهو يرقص ويصفق بيديه ويغني بهذين البيتين:
عزيزي من الإنسان لا إن جفوته
صفا لي ولا إن صرت طوع يديه
وإني لمشتاق إلى ظل صاحب
يروق ويصفو إن كدرت عليه
فسمع المأمون والحاضرون ما لم يستمعوا قبلا، وقال المأمون: ادن يا علوية ورددهما. فرددهما عليه سبع مرات، فقال المأمون: يا علوية خذ الخلافة وأعطني هذا الصاحب.
النوادر السادسة
نوادر الخليفة المنصور
المنصور والرجل
دخل رجل على المنصور فقال له: تكلم بحاجتك، فقال: يبقك الله يا أمير المؤمنين. قال: تكلم بحاجتك فإنك لا تقدر على هذا المقام كل حين. قال: والله يا أمير المؤمنين ما أستقصر أجلك، ولا أخاف بخلك، ولا أغتنم مالك، وإن عطاءك لشرف، وإن سؤالك لدين، وما لامرئ بذل وجهه إليك خيبة أو شين. قال: فأحسن جائزته وأكرمه.
المنصور ومعن بن زائدة
قال المنصور لمعن بن زائدة: ما أظن ما قيل عنك من ظلمك أهل اليمن واعتسافك عليهم إلا حقا. قال: كيف يا أمير المؤمنين؟! قال: بلغني عنك أنك أعطيت شاعرا لبيت قاله ألف دينار! فأنشده البيت، وهو:
معن بن زائدة الذي زيدت به
فخرا إلى فخر بنو شيبان
قال: نعم يا أمير المؤمنين قد أعطيته ألف دينار، ولكن على قوله:
ما زلت يوم الهاشمية معلما
بالسيف دون خليفة الرحمن
فمنعت حوزته وكنت وقاءه
من وقع كل مهند وسنان
قال: فاستحيا المنصور، وجعل ينكت الأرض بالمخصرة، ثم رفع رأسه، وقال: اجلس يا ابن زائدة.
المنصور وابن طاوس
بعث أبو جعفر المنصور إلى مالك بن أنس وإلى ابن طاوس؛ فدخلا عليه، وإذ هو جالس على فرش قد نضدت له، وبين يديه أنطاع قد بسطت، وجلادون بأيديهم السيوف لضرب رقاب الناس، فأومأ إليهما بالجلوس، وأطرق عنهما طويلا، ثم التفت إلى ابن طاوس، فقال له: حدثني عن أبيك. قال: نعم، سمعت أبي يقول: قال رسول الله: «إن أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل أشركه الله في حكمه؛ فأدخل عليه الجور في عدله»، قال مالك: فضممت ثيابي مخافة أن يملأني دمه.
ثم التفت إليه أبو جعفر، فقال: عظني يا ابن طاوس. قال: نعم، أما سمعت الله يقول:
ألم تر كيف فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد * التي لم يخلق مثلها في البلاد * وثمود الذين جابوا الصخر بالواد
إلى قوله:
لبالمرصاد (الفجر: 6-14)، قال مالك: فضممت ثيابي أيضا مخافة أن يملأني دمه. فأمسك المنصور ساعة، ثم قال: يا ابن طاوس، ناولني الدواة. فأمسك ابن طاوس ولم يناوله إياها وهي في يده، فقال: ما يمنعك أن تناولنيها؟! قال: أخشى أن تكتب بها معصية لله فأكون شريكك فيها. فلما سمع المنصور ذلك قال: قوما عني. قال ابن طاوس: ذلك ما كنا نبغي. قال مالك: فما زلت أعرف لابن طاوس بعدها فضلا.
المنصور وأبو جعفر
لما كتب أبو جعفر أمان ابن هبيرة، واختلف فيه الشهود أربعين يوما، ركب في رجال معه حتى دخل على المنصور، فقال: إن دولتكم جديدة، فأذيقوا الناس حلاوتها، وجنبوهم مرارتها؛ لتسرع محبتكم إلى قلوبهم، ويعذب ذكركم على ألسنتهم، وما زلت منتظرا لهذه الدعوة. فأمر أبو جعفر برفع الستر بينه وبين الرجل، فنظر إلى وجهه، وباسطه بالقول حتى اطمأن قلبه، فلما خرج قال أبو جعفر: عجبا من كل من يأمرني بقتل مثل هذا.
المنصور والشيخ الجريء
كان المنصور متطلعا إلى الإحاطة بأمور الناس عموما، وإلى معرفة أحوال بني أمية خصوصا؛ فبلغه أن من مشايخ أهل الشام شيخا معروفا، وكان بطانة لهشام بن عبد الملك بن مروان، فأرسل إليه المنصور، وأحضره بين يديه، وسأله عن تدبير هشام في حروبه مع الخوارج؛ فوصف له الشيخ ما دبر، وقال: فعل - رحمه الله - كذا وكذا، ودبر كذا وكذا. فقال له المنصور: قم عليك لعنة الله، تطأ بساطي، وتترحم على عدوي؟! فقال الرجل - وهو مول يريد الخروج: إن نعمة عدوك لقلادة في عنقي لا ينزعها إلا غال. فلما سمعه المنصور قال: ردوه. فلما رجع قال: يا أمير المؤمنين، إن أكثر الناس لؤما من لم يجعل دعاءه لمن أحسن إليه، وثناءه عليه وحمده لمعروفه عنده؛ وفاء له، ولو أمكنني القدر وقدرني القضاء على الوفاء لهشام بأكثر من ذلك لوجدني أمير المؤمنين وافيا لديه. فقال له المنصور: ارجع يا شيخ إلى إتمام حديثك، أشهد أنك نهيض حر وولد رشيد. ثم أقبل المنصور على حديثه إلى أن فرغ فدعا المنصور بمال وكسوة، وقال: خذ هذا صلة منا لك. فأخذ ذلك، وقال: والله يا أمير المؤمنين ما بي من حاجة، ولقد مات عني من كنت في ذكره؛ فما أحوجني إلى وقوفي على باب أحد بعده، ولولا جلالة أمير المؤمنين ولزوم طاعته وإيثاري أمره لما لبست نعمة أحد بعده. فقال المنصور: لله أنت لو لم يكن لقومك غيرك كنت أبقيت لهم ذكرا مخلدا ومجدا باقيا بوفائك لمن أحسن إليك. ثم أوصى المنصور برعاية أموره وقضاء حوائجه، وصار يذكره في خلواته ويستحسن ما صدر منه.
المنصور ورجل في المسجد
بينما كان المنصور يطوف بالكعبة ليلا إذ سمع قائلا يقول: اللهم إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض وما يحول بين الحق وأهله من الطمع.
فخرج المنصور وجلس في ناحية المجلس وأرسل إلى الرجل يدعوه، فصلى ركعتين واستلم الركن، ثم أقبل مع الرسول فسلم عليه بالخلافة، فقال له المنصور: ما الذي سمعتك تقول وتذكر من ظهور البغي والفساد في الأرض وما يحول بين الحق وأهله من الطمع؟! فوالله لقد حشوت مسامعي ما أمرضني. قال: يا أمير المؤمنين، إن أمنتني أنبأتك الأمور على جليتها وأصولها، وإلا أجادل عن نفسي. قال له المنصور: أنت آمن على نفسك. فقال: إن الذي داخله الطمع حتى حال بينه وبين إصلاح ما ظهر من البغي والفساد أنت. قال: ويحك! وكيف يداخلني الطمع والبيضاء في قبضتي والحلو والحامض عندي؟!
قال: وهل داخل أحدا من الطمع ما داخلك؟! إن الله تعالى استرعاك المسلمين وأموالهم، وجعلت بينك وبينهم حجابا من الجص والآجر، وأبوابا من الحديد، وحجبة معهم الأسلحة، وأمرتهم أن لا يدخل عليك إلا فلان وفلان - سميتهم لهم - ولم تأمر بإيصال الملهوف، ولا الجائع ولا العاري ولا الضعيف ولا الفقير، وما أحد إلا وله في المال حق، فلما رآك هؤلاء النفر الذين استخلصتهم لنفسك وآثرتهم على رعيتك وأمرت أن لا يحجبوا عنك تجبي الأموال فلا تعطيها، وتجمعها ولا تقسمها، قالوا: هذا خان الله، فما لنا لا نخونه وقد سخر لنا نفسه؟! فاتفقوا على أن لا يصل إليك من أخبار الناس إلا ما أرادوا، ولا يخرج لك عامل فيخالف أمرهم إلا أقصوه ونفوه؛ حتى تسقط منزلته ويصغر قدره، فلما اشتهر ذلك عنك وعنهم عظمهم الناس وهابوهم، فكان أول من صانعهم عمالك بالهدايا والأموال؛ ليتقووا بها على ظلم رعيتك؛ لينالوا به ظلم من دونهم، فامتلأت بلاد الله بالطمع بغيا وفسادا، وصار هؤلاء شركاءك في سلطانك وأنت غافل، فإن جاء متظلم حيل بينه وبين الدخول عليك، فإن أرادوا رفع قصته إليك عند ظهورك وجدك قد نهيت عن ذلك، وأوقفت رجلا ينظر في مظالمهم، فإن جاء ذلك المظلوم إلى الرجل وبلغ بطانتك سألوا صاحب المظالم أن لا يرفع مظلمته؛ فإن المتظلم من له بهم حرمة، أجابهم خوفا منهم، فلا يزال المظلوم يختلف إليه ويلوذ به ويشكو ويستغيث وهو يدافعه ولا يقبل عليه، وإذا جهد واضطر وأخرج وقف وصرخ بين يديك، فيضرب ضربا شديدا مبرحا؛ ليكون نكالا لغيره وأنت تنظر ولا تذكر، فما بقاء الإسلام على هذا؟! وقد كنت يا أمير المؤمنين أسافر إلى الصين، فقدمتها مرة وقد أصيب ملكها بسمعه فبكى بكاء شديدا؛ فعزاه بعض جلسائه، فقال: أما إني لست أبكي على ما نزل بي من ذهاب سمعي، ولكني أبكي لمظلوم يقف يصرخ بالباب فلا يسمع صوته. ثم قال: أما إذا ذهب سمعي فإن بصري لم يذهب، نادوا في الناس أن لا يلبس ثوبا أحمر إلا متظلم، ثم صار يركب الفيل طرفي النهار وينظر؛ هل يرى مظلوما؟! فهذا مشرك بالله تعالى غلبت رأفته بالمشركين شح نفسه، وأنت تؤمن بالله واليوم الآخر غلبك شح نفسك، فإن كنت إنما تجمع المال لولدك فقد أراك الله في الطفل يسقط من بطن أمه وما له على الأرض مال، وما من مال إلا ودونه يد شحيحة تحويه، فما يزال الله - جل وعلا - يلطف بذلك الطفل حتى تعظم رغبة الناس إليه، ولست الذي يعطي، بل الله يعطي من يشاء بغير حساب، وإن قلت: إنما أجمع المال لتشديد السلطان وتقويته، فقد أراك الله تعالى ببني أمية ما أغنى عنهم ما جمعوا من الذهب والفضة، وما أعدوا من الرجال والكراع والسلاح حين أراد الله بهم ما أراد، وإن قلت: إنما أجمعه لطلب غاية هي أجسم من الغاية التي أنا فيها، فوالله ما فوق ما أنت فيه منزلة إلا منزلة لا تنال إلا بخلاف ما أنت عليه يا أمير المؤمنين، هل تعاقب من عصاك بأكثر من القتل أو الصلب؟! قال المنصور: لا. قال: فكيف تصنع يا أمير المؤمنين يوم القيامة عند لقاء الله - عز وجل - الذي خولك ملك الدنيا وهو لا يعاقب من عصاه من عبيده وعمل بخلاف ما أمر به في كتابه بالقتل، ولكن يعاقبهم في الخلود بالعذاب الأليم، وقد ترى ما عقد عليه قلبك، وحملته جوارحك، ونظر إليه بصرك، واجترحته يداك، ومشت إليه قدماك، هل يغني ما شححت عليه من قلب الدنيا إذا انتزعه من يديك ودعاك إلى الحساب على ما خولك؟
فلما أتم الرجل كلامه والمنصور يتململ منه بكى بكاء شديدا ثم قال: يا ليت المنصور لم يخلق. ثم قال للرجل: يا ويحك! كنت أفكر في الانتقام منك عما جبهتني به، والآن قد رأيت العفو عن مقالتك لصدق مقصدك أولى، وشكرك على نصحك أحمد، فكيف احتيالي لنفسي والسلامة مع مؤاخذة الله تعالى على ما أوضحت؟
فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، إن للناس أعلاما يفزعون إليهم في دينهم، ويرصنون بقولهم، فاتخذهم لك بطانة يرشدوك، واستعن بآدابهم وأقوالهم يسعدوك. قال المنصور: قد بعثت إليهم فهربوا مني! قال الرجل: خافوا منك أن تحملهم على طريقتك، فلم يرضوا بها، ولكن افتح باب مجلسك، وسهل حجابك، وانظر في أمور الناس، وانصر المظلوم، واقمع الظالم، وخذ الغنى والأموال مما حل وطاب، واقسم ذلك بالحق والعدل على أهله، وأنا الضامن لك أنك إذا فعلت ذلك أن يأتوك ويساعدوك على صلاح الأمة، فبينما هو والرجل في الحديث دخل المؤذنون، فسلموا عليه للصلاة، فقام وصلى، فلما فرغ من صلاته عاد فطلب الرجل فلم يجده، فما زال المنصور بعد ذلك يذكره، ويقول إذا ذكره: كرهت كلامه ثم حمدته وانتفعت به.
المنصور والرجل
أخبر أحمد بن موسى قال: ما رأيت رجلا أثبت جنانا، ولا أحسن معرفة، ولا أظهر حجة من رجل رفع فيه عند المنصور بأن عنده أموالا لبني أمية؛ فأمر المنصور حاجبه الربيع أن يحضره، فلما حضر بين يديه قال المنصور: رفع إلينا أن عندك ودائع وأموالا وسلاحا لبني أمية، فأخرجها لنا لنجمع ذلك إلى بيت المال.
فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، أنت وارث لبني أمية؟ قال: لا. قال: فلم تسأل إذن مما في يدي من أموال بني أمية ولست بوارث لهم ولا وصي؟! فأطرق المنصور ساعة ثم قال: إن بني أمية ظلموا الناس، وغصبوا أموال المسلمين. فقال الرجل: يحتاج أمير المؤمنين إلى بينة يقبلها الحاكم، تشهد أن المال الذي لبني أمية هو الذي في يديه، وأنه هو الذي غصبوه من الناس ، وأن أمير المؤمنين يعلم أن بني أمية كانت لهم أموال لأنفسهم غير أموال المسلمين التي اغتصبوها على ما يتهم أمير المؤمنين. فسكت المنصور ساعة، ثم قال: يا ربيع، صدق الرجل، ما يجب لنا على الرجل بشيء. ثم قال للرجل: ألك حاجة؟ قال: نعم، قال: ما هي؟ قال: أن تجمع بيني وبين من سعى بي إليك، فوالله يا أمير المؤمنين ما لبني أمية عندي مال ولا سلاح، وإنما أحضرت بين يديك وعلمت ما أنت فيه من العدل والإنصاف واتباع الحق واجتناب المظالم فأيقنت أن الكلام الذي صدر مني هو أنجح وأصلح لما سألتني عنه.
فقال المنصور: يا ربيع، اجمع بينه وبين الذي سعى به، فجمع بينهما، فقال: يا أمير المؤمنين، هذا أخذ لي خمسمائة دينار وهرب، ولي عليه مسطور شرعي. فسأل المنصور الرجل فأقر بالمال، قال: فما حملك على السعي كاذبا؟ قال: أردت قتله ليخلص لي المال! فقال الرجل: قد وهبتها له يا أمير المؤمنين لأجل وقوفي بين يديك وحضوري مجلسك، ووهبته خمسمائة دينار أخرى لكلامك لي، فاستحسن المنصور فعله وأكرمه وأعاده إلى بلده مكرما، وكان المنصور كل وقت يقول: ما رأيت مثل هذا الشيخ قط ولا أثبت من جنانه، ولا من حجتي مثله، ولا رأيت مثل حلمه ومروءته.
المنصور وصاحب الضيعة
غصب أحد الولاة رجلا من العقلاء ضيعة له، فشكاه إلى المنصور فقال له: أصلحك الله، أذكر حاجتي أم أضرب لك قبلها مثلا؟ قال: بل اضرب لي قبلها مثلا، قال: أصلحك الله، إن الطفل الصغير إذا نابه أمر يكرهه فإنه يغير إلى أمه؛ إذ لا يعرف غيرها، وظنا منه أنه لا ناصر فوقها، فإذا ترعرع واشتد فأوذي كان فراره وشكواه إلى أبيه؛ لعلمه بأن أباه أقوى من أمه على نصرته، فإذا بلغ وصار رجلا ووقع به أمر شكا إلى الوالي؛ لعلمه بأنه أقوى من أبيه، فإذا زاد عقله واشتدت شكيته شكا إلى السلطان؛ لعلمه بأنه أقوى من سواه، فإن لم ينصفه السلطان شكا إلى الله - عز وجل - وقد نزلت بي نازلة، وليس فوقك أحد أقوى منك، فإن أنصفتني وإلا رفعت أمرها إلى الله؛ إذ ليس فوقك إلا الله تعالى. قال: بل ننصفك. وأمر بأن يكتب إلى واليه برد ضيعته عليه.
عمارة والمنصور والرجل
جاء عمارة بن حمزة إلى الملك المنصور فأجلسه عنده، وكان ذلك في يوم نظره في المظالم، فقام رجل على قدميه ونادى بأعلى صوته: يا أمير المؤمنين، أنا مظلوم. فقال له: ومن ظلمك؟ فقال: عمارة بن حمزة هذا أخذ ضياعي وعقاري. فأمر المنصور أن يقوم من مجلسه ويساوي خصمه، فقال عمارة: يا أمير المؤمنين، إن كانت الضياع له فلا أعارضه فيها، وإن كانت لي فقد وهبتها له، ولا أقوم من مجلس أكرمني به أمير المؤمنين لأجل ضياع أو عقار.
المنصور وأحد ولد الأشتر
حكي إلى المنصور برجل من ولد الأشتر النخعي ذكر عنه الميل إلى بني علي بن أبي طالب والتعصب لهم، فأمر بإحضاره، فلما مثل بين يديه قال: يا أمير المؤمنين، ذنبي أعظم من نقمتك، وعفوك أعظم من ذنبي، ثم قال:
فهبني شيئا كالذي قلت ظالما
فعفوا جميلا كي يكون لك الفضل
فإن لم أكن للعفو منك لسوء ما
أتيت به أهلا فأنت له أهل
فعفا عنه.
المنصور وشبة بن عقال
جلس المنصور يوما فقال: من يصف صالحا ابني؟ وقد رشحه لأن يوليه بعض أمور؛ فكلهم هاب المهدي، فقال شبة بن عقال: لله دره ما أفصح لسانه! وأحضر جنانه! وأبل ريقه! وأسهل طريقه! وكيف لا يكون كذلك وأمير المؤمنين أبوه والمهدي أخوه؟! ثم أنشد:
هو الجواد فإن يلحق بشأوهما
على تكاليفه ما مثله لحقا
أو يسبقاه على ما كان من مهل
فمثل ما قد ما من صالح سبقا
فقال المنصور: ما رأيت مثله مخلصا، مدحه وأرضاني.
إبراهيم بن هرمة والمنصور
يحكى عن المنصور أن الربيع بن يونس حاجبه قال له يوما: يا أمير المؤمنين، إن الشعراء ببابك وهم كثيرون، وقد طالت أيام إقامتهم، ونفدت نفقاتهم. فقال: اخرج إليهم، واقرأ عليهم السلام، وقل لهم: من مدحنا منكم فلا يصفنا بالأسد؛ فإنما هو كلب من الكلاب، ولا بالحية؛ فإنما هي دويبة سيئة تأكل التراب، ولا بالحلي؛ فإنما هي حجر أصم، ولا بالبحر؛ فإنه ذو مخاوف، فمن كان ليس في شعره شيء من هذا فليدخل، ومن كان في شعره شيء من هذا فليصرف، فانصرف كلهم إلا إبراهيم بن هرمة؛ فإنه قال: أدخلني. فأدخله، فلما مثل بين يديه قال: يا ربيع، قد علمت أنه لا يجيبك أحد غيره، هات يا إبراهيم: فأنشده القصيدة التي أولها:
سرى نومه عني الصبا المتحامل
وأذن بالبين الحبي المزايل
حتى انتهى إلى قوله:
له لحظات في حقافي سديره
إذا كر ها فيها عقاب ونائل
فأما الذي أمنت أمنه الردى
وأما الذي خوفت بالثكل ثاكل
فرفع له الستر، وأقبل عليه مصغيا إليه حتى فرغ من إنشادها، ثم أمر له بعشرة آلاف درهم، وقال: يا إبراهيم، لا تتلفها طمعا في نيل مثلها، فما في كل وقت تصل إلينا وتنال مثلها منا، قال إبراهيم: ألقاك بها يا أمير المؤمنين يوم العرض وعليها خاتم الجهبذ.
المنصور العباسي وأبو عبد الله
كتب المنصور العباسي إلى أبي عبد الله بن جعفر الصادق (رضي الله عنه): لم لا تغشاني كما تغشانا الناس؟ فأجابه: ليس لنا من الدنيا ما نخافك عليه، ولا عندك من الآخرة ما نرجوك له، ولا أنت في نعمة فنهنئك بها، ولا نعدها نقمة فنعزيك لها. فكتب المنصور إليه: تصحبنا لتنصحنا. فكتب إليه أبو عبد الله أيضا: من يطلب الدنيا لا ينصحك، ومن يطلب الآخرة لا يصحبك.
المنصور وخالد وإيوان كسرى
كان المنصور تقدم بهدم إيوان كسرى وحمل نقضه إلى مدينة السلام، فقال له خالد: لا تهدم بناء دل على فخامة قدر بانيه الذي غلبته، وأخذت ملكه فتعجز عنه، فيدل ذلك على عجز منك. فقال: هذا الميل منك إلى المجوس. وأمر بهدمه فعجز عنه، فقال: يا خالد، صرنا إلى رأيك. فقال: الآن أشير أن لا تكف عنه، فإن الهدم أيسر من البناء؛ لئلا تقول الناس: إنك عجزت عن هدم بناء بناه عدوك.
النوادر السابعة
نوادر الخليفة معاوية بن أبي سفيان
وصف ضرار لمعاوية
قال ضرار بن ضمرة: دخلت على معاوية بعد قتل أمير المؤمنين، فقال لي: صف أمير المؤمنين. فقلت: اعفني! فقال: لا بد أن تصفه. فقلت: أما إذا لا بد فإنه كان والله بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلا، ويحكم عدلا، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس بالليل ووحشته، غزير العبرة، طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما خشب، وكان فينا كأحدنا؛ يجيبنا إذا سألناه، ويأتينا إذا دعوناه، ونحن والله مع تقريبه لنا وقربه بنا لا نكاد نكلمه؛ هيبة له، يعظم أهل الدين، ويقرب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، ولقد رأيته مرة تحت جنح الدجى يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، ويقول: يا دنيا غرى غيري، أبي تعرضت، أم إلي تشوقت؟! هيهات هيهات! قد أبنتك ثلاثا لا رجعة فيها، فعمرك قصير، وخطرك يسير، وعيشك حقير، آه آه! من قلة الزاد وبعد السفر، ووحشة الطريق. فبكى معاوية، وقال: رحم الله أبا الحسن كان والله كذلك، فكيف حزنك يا ضرار؟ فقلت: حزن من ذبح ولدها في حجرها فلا ترفأ عبرتها، ولا يسكن حزنها.
معاوية وعمرو بن العاص وعبد الملك بن مروان
دخل عبد الملك بن مروان على معاوية وعنده عمرو بن العاص فسلم ثم جلس، فلم يلبث أن قام، قال معاوية: ما أكرم مروءة هذا الفتى! قال عمرو: إن أخذ بأخلاق أربعة وترك أخلاقا أربعة: أخذ بأحسن البشر إذا لقي، وبأحسن الحديث إذا حدث، وبأحسن الاستماع إذا حدث، وبأيسر المؤنة إذا حولف، وترك مشورة من لا يثق بعقله، وترك مجالسة من لا يرجع إلى دينه، وترك مخالطة لئام الناس، وترك من الكلام كل ما يعتذر منه.
معاوية وبكارة الهلالية
دخلت بكارة الهلالية على معاوية يوما وهو بالمدينة، وكانت قد أسنت وغشي بصرها وضعفت قوتها ترتعش بين خادمين لها، فسلمت وجلست، فرد عليها معاوية السلام، وقال: كيف أنت يا خالة؟ قالت: بخير يا أمير المؤمنين. قال: غيرك الدهر. قالت: كذلك هو ذو غير، من عاش كبر، ومن مات فقد، فقال عمرو بن العاص: هي والله القائلة يا أمير المؤمنين:
يا زيد دونك فاحتفر من دارنا
سيفا حساما في التراب دفينا
قد كنت أذخره ليوم كريهة
فاليوم أبرزه الزمان مصونا
وقال مروان: هي والله القائلة يا أمير المؤمنين:
أترى ابن هند للخلافة مالكا
هيهات ذاك وإن أراد بعيد
منتك نفسك في الخلاء ضلالة
أغراك عمرو للشقا وسعيد
وقال سعيد بن العاص: وهي والله القائلة:
قد كنت أطمع أن أموت ولا أرى
فوق المنابر من أمية خاطبا
فالله أخر مدتي فتطاولت
حتى رأيت من الزمان عجائبا
في كل يوم للزمان خطيبهم
بين الجميع لآل أحمد عائبا
ثم سكتوا، فقالت: يا معاوية، كلامك غشى بصري وقصر حجتي، أنا والله قائلة ما قالوا، وما خفي عليك مني أكثر. فضحك معاوية، وقال: ليس يمنعنا ذلك من برك، اذكري حاجتك. قالت: أما الآن فلا. وانصرفت، فوجه إليها معاوية بجائزة سنية.
معاوية والحسن بن علي
خرج معاوية سنة حاجا فمر بالمدينة ففرق على أهلها أموالا جزيلة، ولم يحضر الحسن بن علي، فلما حضر قال له معاوية: مرحبا مرحبا برجل تركنا حتى نفد ما عندنا وتعرض لنا ببخلنا. فقال الحسن: كيف ينفذ ما عندك وخراج الدنيا يجيء إليك؟! فقال معاوية: قد أمرت لك بمثل ما أمرت به لأهل المدينة وأنا ابن هند. فقال الحسن: قد رددته عليك وأنا ابن فاطمة الزهراء.
معاوية ووالداه
قال أبو حازم الأعرج لسليمان بن عبد الملك: إنما السلطان سوق، فما نفق عنده حمل إليه. ولما قدم معاوية من الشام وكان عمر قد استعمله عليها دخل على أمه هند فقالت له: يا بني، إنه قلما ولدت حرة مثلك، وقد استعملك هذا الرجل، فاعمل بما وافقه؛ أحببت ذلك أم كرهته. ثم دخل على أبيه أبي سفيان، فقال له: يا بني، إن هؤلاء الرهط من المهاجرين سبقونا وتأخرنا عنهم، فرفعهم سبقهم وقصر بنا تأخرنا، فصرنا أتباعا وصاروا قادة، وقد قلدوك جسيما من أمرهم؛ فلا تخالفن أمرهم، فإنك تجري إلى أحد لم تبلغه، ولو قد بلغته لتنبعث فيه. قال معاوية: فعجبت من اتفاقهما في المعنى على اختلافهما في اللفظ.
معاوية وعمرو بن العاص
قال عمرو: رأيت معاوية في بعض أيامنا بصفين خرج في عدة لم أره خرج في مثلها، فوقف في قلب عسكره، فجعل يلحظ ميمنة فيرى الخلل؛ فيبدر إليه من ميسرة، ثم يفعل ذلك بميمنة، فتغنيه اللحظة عن الإشارة، فدخله ذهول لما رأى، فقال: يا ابن العاص، كيف ترى هؤلاء وما هم عليه؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، لقد رأيت من يسوس الناس بالدين والدنيا فما رأيت أحدا أوتي له من طاعة رعيته ما أوتي لك من هؤلاء؟ فقال: أفتدري من يفسد هؤلاء؟ قلت: لا. قال: في يوم واحد. قال: فأكثرت التعجب. قال: إي والله في بعض يوم. قلت: وكيف ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: إذا كذبوا في الوعد والوعيد، وأعطوا على الهوى لا على الغنى فسد جميع ما ترى.
الزرقاء ومعاوية بن سفيان
بينما معاوية بن سفيان جالس في ديوانه بعدما آل الأمر إليه واجتمع هو والحاشية تذاكروا حرب صفين، فقال أحدهم: إنه رأى الزرقاء ابنة عدي بن قيس الهمذانية وهي راكبة على ناقة، واقفة بين الصفين تحرض الناس على القتال، ولم ترهب أحدا من الفريقين! فقال معاوية: أوهي حية إلى الآن؟! فقيل له: نعم؛ هي مقيمة بالكوفة. فقال: يجب أن نستقدمها إلينا، ثم كتب إلى عامله بالكوفة أن يبعث بها مع ثقة من ذوي محارمها وعدة من فرسان قومها، وأن يمهد لها وطاء لينا، ويسترها بستر حصين، ويوسع لها من النفقة، فأرسل إليها فأقرأها الكتاب، فقالت: إن كان أمير المؤمنين جعل الخيار لي فإني لا آتيه، وإن كان حتما فالطاعة أولى. فحملها وأحسن جهازها على ما أمر به، فلما دخلت على معاوية، قال: مرحبا وأهلا، قدمت خير قدوم قدمه وافد، كيف حالك؟ قالت: بخير يا أمير المؤمنين، مات الرأس، وبتر الذنب، ولم يعد ما ذهب، والدهر ذو غير، من تفكر بصر، والأمر يحدث بعده الأمر. قال لها معاوية: أتحفظين ذلك يومئذ؟ قالت: لا، والله لا أحفظه ولقد نسيته. قال: لكني أحفظه، لله أبوك حين تقولين: «أيها الناس، ارعووا وارجعوا، إنكم قد أصبحتم في فتنة غشيتكم بها جلابيب الظلم، وجازت بكم عن قصد المحبة، فيا لها فتنة عمياء صماء بكماء، لا تسمع لناعقها، ولا تنساق لقائدها، إن المصباح لا يضيء في الشمس، ولا تنير الكواكب مع القمر، ولا يقطع الحديد إلا الحديد، ألا من استرشدنا أرشدناه، ومن سألنا أخبرناه، أيها الناس، إن الحق كان يطلب ضالته فأصابها، فصبرا يا معشر المهاجرين على المضض؛ فإنه قد اندمل الشتات، والتأمت كلمة الحق، ودفع العين الظلمة، فلا يجهلن أحد فيقول: كيف؟ وأنى؟ ليقضي الله أمرا كان مفعولا، الآن آن الأوان، خضاب النساء الحناء، وخضاب الرجال الدماء، ولهذا اليوم ما بعده، والصبر خير في الأمور عواقبا»، ثم قال لها: والله يا زرقاء؛ لقد أشركت عليا في كل دم يسفكه! قالت: أحسن الله مشاركتك، وأدام سلامتك، مثلك من يبشر بخير، ويسر جليسه. قال: أويسرك ذلك؟ قالت: نعم، والله لقد سررت بالخبر، فأنى لك بتصديق الفعل؟ فضحك، وقال لها: والله لوفاؤكم له بعد موته أعجب من حبكم له في حياته، اذكري حاجتك. قالت: يا أمير المؤمنين، آليت على نفسي أن لا أسأل أميرا أعنت عليه أبدا. ثم انصرفت، فأرسل لها معاوية جائزتها.
الأحنف ومعاوية بن أبي سفيان
عدد معاوية بن أبي سفيان على الأحنف ذنوبا، فقال: يا أمير المؤمنين، لم ترد الأمور على أعقابها، أما والله إن القلوب التي أبغضناك بها لبين جوانحنا، والسيوف التي قاتلناك بها على عواتقنا، ولئن مددت فترا من غدر لنمد ن باعا من فتر، ولئن شئت لتصفين كدر قلوبنا بصفو حلمك. قال: فإني أفعل.
معاوية وعبد الله بن عامر
قال معاوية لعبد الله بن عامر: إن لي إليك حاجة. قال: بحاجة أقضيها يا أمير المؤمنين، فسل حاجتك. قال: أريد أن تهب دورك وضياعك بالطائف . قال: قد فعلت. قال: وصلتك برحم فسل حاجتك. قال: حاجتي إليك أن تردها علي يا أمير المؤمنين. قال: قد فعلت.
معاوية وسودة بنت عمارة
دخلت سودة بنت عمارة الهمدانية على معاوية بعد موت أمير المؤمنين علي، فجعل يؤنبها على تحريضها عليه أيام صفين، وآل أمره إلى أن قال: ما حاجتك؟ فقالت: إن الله مسائلك عن أمرنا، وما افترض عليك من حقنا، ولا زال يعدد علينا من قبلك من يسمو بمكانك، ويبطش بسلطانك، فيحصدنا حصد السنبل، ويسومنا الخسف، ويذيقنا الحتف، هذا بشر بن أرطأة قدم علينا، فقتل رجالنا، وأخذ أموالنا، ولولا الطاعة لكان فينا عز ومنعة، فإن عزلته عنا شكرناك وإلا كفرناك، فقال لها معاوية: تهدديني بقومك؟! لقد هممت بأن آمر فينفذ فيك الحكم. فأطرقت سودة ساعة، ثم أنشدت:
صلى الإله على روح تضمنها
قبر فأصبح فيه العز مدفونا
قد حالف الحق لا يبغي به بدلا
فصار الحق والإيمان مدفونا
فقال معاوية: من هذا يا سودة؟! قالت: والله هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، والله لقد جئته في رجل كان وصيا علينا، فجار، فصادفته قائما يصلي، فلما رآني انفتل من صلاته، ثم أقبل علي بوجهه برفق ورأفة وتعطف، وقال: ألك حاجة؟! قلت: نعم. وأخبرته، فبكى، ثم قال: اللهم أنت الشاهد علي وعليهم أني لم آمرهم بظلم خلقك ولا بترك حقك، ثم أخرج قطعة من جلد، فكتب فيها: «بسم الله الرحمن الرحيم:
قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين (الأعراف: 85) فإذا قرأت كتابي هذا فاحتفظ بما في يديك من عملنا حتى يقدم من يقبضه منك والسلام»، ثم دفع الرقعة إلي فجئت بها إلى صاحبه، فانصرف عنا معزولا. فقال معاوية: اكتبوا لها ما تريد، واصرفوها إلى بلادها غير شاكية.
معاوية والأحنف
خطب معاوية يوما فقال: إن الله تعالى يقول:
وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم (الحجر: 21)، فعلام تلومونني؟! فقال الأحنف : إنا والله ما نلومك على ما في خزائن الله، ولكن على ما أنزله من خزائنه فجعلته في خزائنك وحلت بيننا وبينه.
معاوية وعبد الله بن الزبير
كان لعبد الله بن الزبير أرض وكان له فيها عبيد يعملون فيها، وإلى جانبها أرض لمعاوية وفيها أيضا عبيد يعملون فيها، فدخل عبيد معاوية في أرض عبد الله بن الزبير، فكتب عبد الله كتابا إلى معاوية يقول له فيه: «أما بعد يا معاوية، فإن عبيدك قد دخلوا أرضي فانههم عن ذلك، وإلا كان لي ولك شأن، والسلام»، فلما وقف معاوية على كتابه وقرأه دفعه إلى ولده يزيد، فلما قرأه قال له معاوية: يا بني، ما ترى؟ قال: أرى أن تبعث إليه جيشا يكون أوله عنده وآخره عندك فيأتوك برأسه! فقال: بل غير ذلك خير منه يا بني، ثم أخذ ورقة وكتب فيها جواب كتاب عبد الله بن الزبير يقول فيه: «أما بعد؛ فقد وقفت على كتاب ابن الزبير، وساءني ما ساءه، والدنيا بأسرها هينة عندي في جنب رضاه، نزلت عن أرضي لك؛ أضفها إلى أرضك بما فيها من المال والعبيد، والسلام»، فلما وقف عبد الله بن الزبير على كتاب معاوية كتب إليه: «وقفت على كتاب أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، ولا أعدمه الرأي الذي أحله من قريش هذا المحل، والسلام»، فلما وقف معاوية على كتاب عبد الله بن الزبير وقرأه رمى به إلى ابنه يزيد، فلما قرأه تهلل وجهه وأسفر، فقال له: يا بني، من عفا ساد، ومن حلم عظم، ومن تجاوز استمال إليه القلوب، فإذا ابتليت بشيء من هذه الأدواء فداوه بمثل هذا الدواء.
النوادر الثامنة
نوادر الخليفة عمر بن عبد العزيز
زياد وعمر بن عبد العزيز
لما دخل زياد على عمر بن عبد العزيز قال: يا زياد، ألا ترى ما ابتليت من أمر الأمة؟! فقال زياد: يا أمير المؤمنين، والله لو أن شعرة منك نطقت ما بلغت كنه ما أنت فيه، فاعمل لنفسك في الخروج مما أنت فيه، يا أمير المؤمنين، كيف حال رجل له خصم ألد؟ قال: سيئ الحال. قال: فإن كان له خصمان ألدان؟ قال: أسوأ الحالة. قال: فإن كانوا ثلاثة؟ قال: لا يهنأه عيش. قال: فوالله ما أحد من أمتك إلا وهو خصمك. فبكى عمر حتى تمنيت أن لا أكون قلت له ذلك.
عمر بن عبد العزيز والمؤذن
قال ميمون بن مهران: كنت عند عمر بن عبد العزيز، فقال لآذنه: من بالباب؟ قال: رجل أناخ الآن زعم أنه ابن بلال مؤذن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فأذن له، فلما دخل قال: حدثني. فقال: حد ثني أبي أنه سمع النبي
صلى الله عليه وسلم
يقول: «من ولي شيئا من أمور الناس ثم حجب عليه حجب الله عنه يوم القيامة»، فقال عمر لحاجبه: الزم بيتك. فما رئي بعدها على بابه حاجب، وقال: لا شيء أضيع للمملكة، وأهلك للرعية من شدة الحجاب.
بلال وعمر بن عبد العزيز والعلاء
وفد بلال بن أبي بردة على عمر بن عبد العزيز فجعل يدعي الصلاة، فقال عمر: ذلك للتصنع. فقال له العلاء - وكان حاضرا: أنا آتيك بخبره، فجاءه وهو يصلي فقال له: ما لي عندك إن بعثت أمير المؤمنين على توليتك العراق؟ قال: عمالتي سنة. وكان مبلغه عشرين ألف درهم، فقال: اكتب به خطك. فكتب إليه، فجاء العلاء إلى عمر فأخبره، فقال: أراد أن يغرنا بالله.
عمر بن عبد العزيز وابن عبد الملك
كان عمر بن عبد العزيز واقفا مع سليمان بن عبد الملك - أيام خلافته - فسمع صوت رعد؛ ففزع سليمان منه، ووضع صدره على مقدم رحله، فقال له عمر: هذا صوت رحمته، فكيف صوت عذابه؟!
عمر بن عبد العزيز والفتى الزاهد
دخل قوم على عمر بن عبد العزيز يعودونه في مرضه وفيهم شاب ذابل ناحل، فقال له عمر: يا فتى، ما بلغ بك ما أرى؟ قال: يا أمير المؤمنين، أمراض وأسقام. قال له عمر: لتصدقني؟ قال: بلى يا أمير المؤمنين، ذقت من حلاوة الدنيا فوجدتها مرة عواقبها، فاستوى عندي حجرها وذهبها، وكأني أنظر إلى عرش ربنا وإلى الناس يساقون إلى الجنة والنار؛ فأظمأت نهاري وأسهرت ليلي، وقليل كل ما أنا فيه في جنب ثواب الله وخوف عقابه.
عمر بن عبد العزيز والغلام
لما استخلف عمر بن عبد العزيز قدم عليه وفود أهل كل بلد، فتقدم إليه وفد أهل الحجاز فاشرأب منهم غلام للكلام، فقال عمر: يا غلام، ليتكلم من هو أسن منك. فقال الغلام: يا أمير المؤمنين، إنما المرء بأصغريه؛ قلبه، ولسانه، فإذا منح الله عبده لسانا لافظا، وقلبا حافظا؛ فقد أجاد له الاختيار، ولو أن الأمور بالسن لكان ها هنا من هو أحق بمجلسك منك. فقال عمر: صدقت، تكلم فهذا السحر الحلال. فقال: يا أمير المؤمنين، نحن وفد التهنئة لا وفد الترزئة، ولم يقدمنا إليك رغبة ولا رهبة؛ لأنا قد أمنا في أيامك ما خفنا، وأدركنا ما طلبنا. فسأل عمر عن سن الغلام، فقيل: عشر سنين. فعجب من فصاحته وقوة جنانه.
عمر بن عبد العزيز وخالد بن عبد الله
دخل خالد بن عبد الله المقري على عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة فقال: يا أمير المؤمنين، من تكون الخلافة قد زانته فأنت قد زنتها، ومن تكون شرفته فأنت قد شرفتها، كما قال الشاعر:
وإذا الدر زان حسن وجوه
كان للدر حسن وجهك زينا
فقال عمر: أعطي صاحبكم مقولا، ولم يعط معقولا.
سليمان بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز
قال سليمان بن عبد الملك لعمر بن عبد العزيز - وقد أعجبه سلطانه: كيف ترى ما نحن فيه؟ فقال عمر: سرور لولا أنه غرور، وحرم لولا أنه عدم، وملك لولا أنه هلك، وحياة لولا أنه موت، ونعيم لولا أنه عذاب أليم! فظهر في وجه سليمان الكآبة من كلام عمر، ولم ينتفع بنفسه بعد ذلك.
مروءة عمر بن عبد العزيز
قام عمر بن عبد العزيز يوما وأصلح السراج لجلسائه، فقال أحدهم: ألا أمرتني يا أمير المؤمنين، فكنت أكفيك إصلاحه؟ فقال: ليس من المروءة أن يستخدم المرء جليسه، قمت وأنا عمر ورجعت وأنا عمر.
عمر بن عبد العزيز والسكارى
قال المدائني: بينما أبرهة بن الصباح الكندي عند عمر بن عبد العزيز وإذا بفتية سكارى لهم جمال وحشمة، فأمر عمر بضربهم، فقال أبرهة: بالله أيها الأمير، لا تفضح هؤلاء بمصرنا. فقال: إني أقيم الحق فيهم وفي غيرهم واحدا. فقال أبرهة: يا غلام آتني من شرابهم في القدح فناوله قدحا فشمه وشربه، وقال: أصلح الله الأمير، ما نشرب في بيوتنا على عادتنا إلا من هذا. قال: أطلقوهم. فلما خرج أبرهة قيل له: أتشرب الخمر؟! قال: الله يعلم أني ما شربتها قط، ولكن كرهت أن يفضح مثل هؤلاء في بلدة أنا فيها.
عمر بن عبد العزيز والحسن البصري
كتب عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة إلى الحسن بن أبي الحسن البصري أن يكتب إليه بصفة الإمام العادل، فكتب إليه:
اعلم يا أمير المؤمنين، أن الله جعل الإمام العادل قوام كل مائل، وقصد كل جائز، وصلاح كل فاسد، وقوة كل ضعيف، ونصفة كل مظلوم، ومفزع كل ملهوف، والإمام العادل - يا أمير المؤمنين - كالراعي الشفيق على إبله، الرفيق الذي يرتاد له أطيب المرعى، ويذودها عن مراتع التهلكة، ويحميها من السباع، ويكتنفها من أذى الحر والقر، والإمام العادل - يا أمير المؤمنين - كالأب الحاني على ولده، يسعى لهم صغارا، ويعينهم كبارا، يكتسب لهم حياته، ويذخر لهم بعد مماته، والإمام العدل - يا أمير المؤمنين - كالأم الشفيقة البرة الرفيقة بولدها، حملته كرها ووضعته كرها، وربته طفلا، تسهر بسهره، وتسكن بسكونه، ترضعه تارة وتفطمه أخرى، وتفرح بعافيته وتغتم بشكايته، والإمام العدل - يا أمير المؤمنين - وصي اليتامى، وناصر المساكين، يربي صغيرهم، ويحمي كبيرهم، والإمام العدل - يا أمير المؤمنين - كالقلب بين الجوانح؛ تصلح الجوانح بصلاحه، وتفسد بفساده، والإمام العدل - يا أمير المؤمنين - هو القائم بين الله وبين عباده، ويسمع كلام الله، ويسمعهم، وينظر إلى الله، ويريهم، وينقاد إلى الله، ويقودهم، فلا تكن يا أمير المؤمنين، فيما ملكك الله كعبد ائتمنه سيده واستحفظه ماله وعياله؛ فبدد المال وشرد العيال، فأفقر أهله، وفرق ماله، واعلم - يا أمير المؤمنين - أن الله أنزل الحدود؛ ليزجر بها عن الخبائث والفواحش، فكيف إذا أتاها من بابها؟! وأن الله أنزل القصاص حياة لعباده، فكيف إذا قتلهم من يقتص لهم؟! فاذكر يا أمير المؤمنين الموت وما بعده، وقلة أشياعك عنده وأنصارك عليه، فتزود له لما بعده من الفزع الأكبر، واعلم يا أمير المؤمنين، أن لك منزلا غير منزلك الذي أنت فيه، يطول فيه ثواؤك، ويفارقك أحباؤك، يسلمونك في قصره فريدا وحيدا، فتزود لهما، يصحبك يوم يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبه وبنيه، واذكر - يا أمير المؤمنين - إذا بعث من في القبور، وحصل ما في الصدور، فالأسرار ظاهرة، والكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، فالآن - يا أمير المؤمنين - وأنت في مهل قبل حلول الأجل، وانقطاع الأمل، لا تحكم - يا أمير المؤمنين - في عباد الله حكم الجاهلين، ولا تسلك بهم سبيل الظالمين، ولا تسلط المستكبرين على المستضعفين؛ فإنهم لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، فتبوء بأوزارك وأوزار مع أوزارك، وتحمل أثقالك وأثقالا مع أثقالك، ولا يغرنك الذين يتنعمون بما فيه بؤسك، ويأكلون الطيبات في دنياهم بإذهاب طيباتك في آخرتك، لا تنظر إلى قدرتك اليوم، ولكن انظر إلى قدرتك غدا وأنت مأسور في حبائل الموت، وموقوف بين يدي الله في مجمع من الملائكة والنبيين والمرسلين، وقد عنت الوجوه للحي القيوم، إني - يا أمير المؤمنين - وإن لم أبلغ بعظتي ما بلغه أولو النهى من قبلي فلم آلك شفقة ونصحا، فأنزل كتابي إليك كمداوي حبيبه، يسقيه الأدوية الكريهة؛ لما يرجو له في ذلك من العافية والصحة، والسلام.
عمر بن عبد العزيز والعجوز
1
لما رجع عمر من الشام إلى المدينة انفرد عن الناس؛ ليعرف أخبار رعيته، فمر بعجوز في خباء لها، فقال: ما فعل عمر؟ قالت: قد أقبل من الشام سالما. فقال: ما تقولين فيه؟ فقالت: يا هذا، لا جزاه الله عني خيرا. قال: ولم؟! قالت: لأنه ما أنالني من عطائه منذ ولي أمر المسلمين دينارا ولا درهما. فقال: وما يدري عمر بحالك وأنت في هذا الموضع ؟ فقالت: سبحان الله! والله ما ظننت أن أحدا يلي على الناس ولا يدري ما بين مشرقها ومغربها! فبكى عمر، فقال: وا عمراه! كل أحد أفقه منك حتى العجائز يا عمر! ثم قال لها: يا أمة الله، بكم تبيعينني ظلامتك من عمر فإني أرحمه من النار؟ فقالت: لا تهزأ بنا يرحمك الله! فقال عمر: لست أهزأ بك، ولم يزل بها حتى اشترى ظلامتها بخمسة وعشرين دينارا، فبينما هو كذلك إذ أقبل علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود فقالا: السلام عليك يا أمير المؤمنين. فوضعت العجوز يدها على رأسها، وقالت: وا سوأتاه! شتمت أمير المؤمنين في وجهه؟! قال لها عمر: لا بأس عليك يرحمك الله. ثم طلب قطعة جلد يكتب فيها، فلم يجد، فقطع من مرقعته، وكتب فيها: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما اشترى عمر من فلانة ظلامتها منذ ولي الخلافة إلى يوم كذا بخمسة وعشرين دينارا، فما تدعي عليه عند وقوفه في المحشر بين يدي الله تعالى فعمر بريء منه، شهد علي ذلك وابن مسعود. ثم دفعها إلى ولده، وقال له: إذا أنا مت فاجعلها في كفني ألقى بها ربي.
جرير وعمر بن عبد العزيز
قدم جرير بن الخطفي على عمر بن عبد العزيز عن أهل الحجاز، فاستأذن في الشعر، فقال: ما لي وللشعر يا جرير، إني لفي شغل عنه؟! فقال: يا أمير المؤمنين، إنها رسالة عن أهل الحجاز. فقال: فهاتها إذا. فقال:
كم من طرير أمير المؤمنين لدى
أهل الحجاز دهاه البؤس والفقر
أصابت السنة الشهباء ما ملكت
يمينه فحناه الجهد والكبر
ومن قطيع الحشا عاشت مخبأة
ما كانت الشمس تلقاها ولا القمر
لما جلتها صروف الدهر كارهة
قامت تنادي بأعلى الصوت يا عمر
النوادر التاسعة
نوادر الخليفة عبد الملك بن مروان وأولاده
عبد الملك بن مروان والحجاج
قال العتبي: لما اشتدت شوكة العراق على عبد الملك بن مروان خطب في الناس، وقال: إن نيران أهل العراق قد علا لهبها، وكثر حطبها، فجمرها حار، وشهابها وار، فهل من رجل ذي سلاح عتيد وقلب حديد أبعثه لها؟! فقام الحجاج وقال: أنا يا أمير المؤمنين. فقال: ومن أنت؟! قال: أنا الحجاج بن يوسف بن الحكم بن عامر. فقال له: اجلس. ثم أعاد الكلام، فلم يقم أحد غير الحجاج، فقال: كيف تصنع إن وليتك؟ قال: أخوض الغمارات، وأقتحم الهلكات، فمن نازعني حاربته، ومن هرب مني طلبته، ومن لحقته قتلته، أخلط عجلة بتأن، وصفوا بكدر، وشدة بلين، وتبسما بازورار، وعطاء بحرمان، وما على أمير المؤمنين إلا أن يجرب، فإن كنت للأوصال قطاعا، وللأرواح نزاعا، وللأموال جماعا، وإلا فليستبدل بي. فقال عبد الملك: لا، من تأدب وجد بغيته، اكتبوا له كتابه.
عبد الملك بن مروان والرجل
وجد عبد الملك بن مروان على رجل فجفاه وأطرحه، ثم دعا به ليسأله عن شيء؛ فرآه شاحبا ناحلا، فقال له: متى اعتللت؟ فقال: ما مسني سقم، ولكن جفوت نفسي إذ جفاني الأمير، وآليت أن لا أرضى عنها حتى يرضى عني أمير المؤمنين. فأدناه إلى نفسه.
عبد الملك بن مروان وبعض العلماء
اجتمع عند عبد الملك بن مروان في الحرة علماء كثيرون من العرب، فذكروا بيوت العرب، فاتفقوا على خمسة أبيات؛ بيت بني معاوية الأكرمين في كندة، وبيت بني جشم في بكر تغلب، وبيت ابن ذي الجوشن في بكر، وبيت زرارة في تميم، وبيت بني بدر في قيس، وفيهم الأحيرز بن مجاهد الثعلبي - وكان أعلم القوم - فجعل لا يخوض معهم فيما يخوضون فيه، فقال له عبد الملك: ما لك يا أحيرز ساكتا منذ الليلة؛ فوالله ما أنت بدون القوم علما؟! قال: وما أقول؟! سبق أهل الفضل في نقصانهم، والله لو أن للناس كلهم فرسا سابقا لكانت غرته بنو شيبان، ففيم الإكثار؟! وقد قال المسيب:
تبيت الملوك على عتبها
وشيبان إن عتبت تعتب
فكالشهد بالراح أخلاقهم
وأحلامهم منهما أعذب
وكالمسك ترب مقاماتهم
وترب قبورهم أطيب
عاتكة وعبد الملك
لما أراد عبد الملك الخروج إلى مصعب تعلقت به عاتكة وهي تبكي وتقول: قاتل الله القائل:
إذا ما أراد الغزو لم يثن همه
جياد عليها نظم در يزينها
عبد الملك والغلام
هرب عبد الملك من الطاعون، فركب ليلا، وأخرج غلاما معه، وكان ينام على دابته، فقال للغلام: حدثني. فقال: ومن أنا حتى أحدثك؟! فقال: على كل حال حدث حديثا سمعته. فقال: بلغني أن ثعلبا يخدم أسدا ليحميه ويمنعه ممن يريده، فكان يحميه، فرأى الثعلب عقابا فلجأ إلى الأسد؛ فأقعده على ظهره، فانقض العقاب واختلسه، وصاح الثعلب: يا أبا الحارث، أغثني واذكر عهدك لي. فقال: إنما أقدر على منعك من أهل الأرض، وأما أهل السماء فلا سبيل لي إليهم. فقال عبد الملك: وعظتني وأحسنت، انصرف، فانصرف ورضي بالقضاء.
عمر وسليمان بن عبد الملك
حج سليمان بن عبد الملك ومعه عمر بن عبد العزيز، فلما أشرفا على عقبة عفان نظر سليمان إلى السرادقات قد ضربت له، فقال له: يا عمر كيف ترى؟ قال: أرى دنيا عريضة يأكل بعضها بعضا، وأنت المسئول عنها، المأخوذ بها. فبينما هما كذلك؛ إذ طار غراب من سرادقات سليمان في منقاره كسرة فصاح، فقال سليمان: ما يقول هذا الغراب؟ قال عمر: ما أدري ما يقول، ولكن إن شئت أخبرتك بعلم. قال: أخبرني. قال: هذا الغراب طار من سرادقاتك في منقاره كسرة أنت بها مأخوذ وعنها مسئول: من أين دخلت؟ ومن أين خرجت؟ قال: إنك لتخبرنا بالعجائب. قال: أفلا أخبرك بأعجب من هذا؟ قال: بلى. قال: من عرف الله كيف عصاه؟! ومن عرف الشيطان كيف أطاعه؟! ومن أيقن بالموت كيف يهنيه العيش؟! قال: لقد نغصت علينا ما نحن فيه! ثم ضرب فرسه وسار.
الأعرابي وعبد الملك بن مروان
امتحن عبد الملك بن مروان أعرابيا من الشعراء، فقال: صف لي الخمر. فأطرق الأعرابي وقال:
شموس إذا شيمت لدى الماء مرة
لها في عظام الشاربين دبيب
تريك القذا من دنها وهي دونه
لوجه أخيها في الوجوه قطوب
فقال عبد الملك: شربتها يا أخا العرب ووجب عليك الحد! فقال: ومن أين لك ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: لأنك وصفتها بصفتها. فقال: وإني قد رابني من أمير المؤمنين ما رابه بأن يكون أيضا شربها؛ إذ عرف أني وصفتها بصفتها. فضحك منه، وأحسن جائزته.
عبد الملك بن مروان وخالد بن عبد الله
جلس يوما عبد الملك بن مروان وعند رأسه خالد بن عبد الله بن أسيد، وعند رجليه أمية بن عبد الله بن أسيد، وأدخلت عليه الأموال التي جاءت من قبل الحجاج حتى وضعت بين يديه، فقال: هذا والله التوفير، وهذه الأمانة، لا ما فعل هذا (وأشار إلى خالد) استعملته على العراق فاستعمل كل مسلط فاسق، فأدوا إليه العشرة واحدا، وأدى إلي من العشرة واحدا، واستعملت هذا على خراسان (وأشار إلى أمية) فأهدى إلي برذونين حطمين، فإن استعملتكم أضعتم، وإن عزلتكم قلتم: استخف بنا وقطع أرحامنا! فقال خالد بن عبد الله: استعملتني على العراق وأهله رجلان؛ سامع مطيع مناصح، وعدو مبغض مكاشح، فأما السامع المطيع المناصح: فإنا جزيناه ليزداد ودا إلى وده، وأما المبغض المكاشح: فإنا رأينا خفته وحللنا حقده، وأكثرنا له المودة في صدور رعيتك، وإن هذا جبى الأموال، وزرع لك البغضاء في قلوب الرجال، فتوشك أن تثبت البغضة بلا أموال ولا رجال. فلما خرج ابن الأشعث قال عبد الملك: هذا والله ما قال خالد.
عطاء بن أبي رباح وهشام بن عبد الملك
قال عثمان بن عطاء الخراساني: انطلقت مع أبي يزيد هشام بن عبد الملك، فلما قربنا إذا بشيخ على حمار أسود وعليه قميص دنس، وجبة دنسة، وقلنسوة لاطية دنسة، وركاباه من خشب، فضحكت منه، وقلت لأبي: من هذا الأعرابي؟ قال: اسكت، هذا سيد فقهاء الحجاز عطاء بن أبي رباح. فلما قرب منا نزل أبي عن بغلته، ونزل هو عن حماره فاعتنقا وتساءلا، ثم عادا فركبا وانطلقا حتى وقفا على باب هشام، فما استقر بهما الجلوس حتى أذن لهما، فلما خرج أبي قلت له: حدثني ما كان منكما. قال: لما قيل لهشام: إن عطاء بن أبي رباح بالباب أذن له، فوالله ما دخلت إلا بسببه، فلما رآه هشام قال: مرحبا مرحبا ها هنا ها هنا. ولا زال يقول له: ها هنا. حتى أجلسه معه على سريره، ومس بركبته ركبته، وعنده أشراف الناس يتحدثون، فسكتوا، فقال له: ما حاجتك يا أبا محمد. قال: يا أمير المؤمنين، أهل الحرمين أهل الله، وجيران رسوله، تقسم عليهم أرزاقهم وعطياتهم. قال: يا غلام، اكتب لأهل مكة والمدينة بعطاياهم وأرزاقهم لسنة. ثم قال: هل من حاجة غيرها يا أبا محمد؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، أهل الحجاز وأهل نجد هم أصل العرب وقادة الإسلام، ترد فيهم فضول صدقاتهم. قال: نعم، يا غلام، اكتب بأن ترد فيهم فضول صدقاتهم، وهل من حاجة غيرها يا أبا محمد؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، أهل الثغور يرون من ورائكم، ويقاتلون عدوكم، تجري لهم أرزاقا تدرها عليهم، فإنهم إن هلكوا ضاعت الثغور. قال: نعم، يا غلام، اكتب بحمل أرزاقهم إليهم، هل من حاجة غيرها يا أبا محمد؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، أهل ذمتكم لا يجبى صغارهم ولا ينتفع كبارهم، ولا يكلفون ما لا يطيقون، فإن ما تجبونه منهم معونة لكم على عدوكم. قال: نعم، يا غلام، اكتب لأهل الذمة بأن لا يكلفوا ما لا يطيقون، هل من حاجة غيرها يا أبا محمد؟ قال: نعم، اتق الله في نفسك، فإنك خلقت وحدك، وتموت وحدك، وتحشر وحدك، وتحاسب وحدك، ولا والله ما معك من أحد. فأكب هشام ينكث في الأرض وهو يبكي، فقام عطاء، فلما كنا عند الباب إذا برجل قد تبعه بكيس لا أدري ما فيه دنانير أم دراهم، فقال: إن أمير المؤمنين أمر لك بهذا. فقال: أنا لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على رب العالمين. فوالله ما شرب عنده قطرة ماء.
ابن المهلب والوليد وسليمان بن عبد الملك
أخذ الحجاج بن يوسف يزيد بن المهلب وعذبه، واستأصل موجوده، وسجنه، فاحتال يزيد بحسن تلطفه، وأرغب السجان واستماله، وهرب هو والسجان، وقصد الشام إلى سليمان بن عبد الملك، وكان الخليفة إذ ذاك الوليد بن عبد الملك، فلما وصل يزيد بن الملهب إلى سليمان بن عبد الملك أكرمه وأحسن إليه وأقام عنده، فكتب الحجاج إلى الوليد يعلمه أن يزيد هرب من السجن، وأنه عند سليمان بن عبد الملك أخي أمير المؤمنين، فكتب الوليد إلى أخيه سليمان بذلك، فكتب سليمان: «يا أمير المؤمنين، إني أجرت يزيد بن المهلب؛ لأنه مع أبيه وإخوته أحباء لنا من عهد أبينا، ولم أجر عدوا لأمير المؤمنين، وقد كان الحجاج عذبه وغرمه دراهم كثيرة ظلما، ثم طلب منه بعدها مثل ما طلب أولا، فإن رأى أمير المؤمنين أن لا يخزيني في ضيفي فليفعل؛ فإنه أهل الفضل والكرم»، فكتب إليه الوليد: «إنه لا بد من إرسال يزيد مقيدا مغلولا»، فلما ورد ذلك الكتاب على سليمان أحضر ولده أيوب فقيده، ثم دعا بيزيد بن المهلب وقيده، ثم شد قيد هذا إلى قيد هذا بسلسلة، وغلهما جميعا، وحملهما إلى أخيه الوليد، وكتب إليه: «أما بعد؛ يا أمير المؤمنين، فقد وجهت إليك يزيد وابن أخيك أيوب بن سليمان، وقد هممت أن أكون ثالثهما، فإن هممت يا أمير المؤمنين بقتل يزيد فبالله عليك فابدأ بقتل أيوب، ثم اجعل يزيدا ثانيا، واجعلني إن شئت ثالثا، والسلام»، فلما دخل يزيد بن المهلب وأيوب بن سليمان على الوليد - وهما في سلسلة - أطرق الوليد؛ استحياء، وقال: لقد أسأنا إلى أبي أيوب؛ إذ بلغنا به هذا المبلغ. فأخذ يزيد يتكلم ويحتج لنفسه، فقال له الوليد: ما يحتاج إلى الكلام، قد قبلنا عذرك، وعلمنا بحكم الحجاج. ثم استحضر حدادا فأزال عنهما الحديد، وأحسن إليهما، ووصل أيوب ابن أخيه بثلاثين ألف درهم، ووصل يزيد بن المهلب بعشرين ألف درهم، وردهما إلى سليمان، وكتب كتابا للحجاج مضمونه: «لا سبيل لك على يزيد بن المهلب، فإياك أن تعاودني فيه بعد اليوم»، فسار يزيد بن المهلب إلى سليمان بن عبد الملك، وأقام عنده في أعلى المراتب وأفضل المنازل.
سليمان بن عبد الملك والشيخ
دخل سليمان بن عبد الملك مسجد دمشق فرأى شيخا فقال: يا شيخ، أيسرك أن تموت؟ فقال: لا والله. قال: لم وقد بلغت من السن ما أرى؟! قال: فني الشباب وشره، وبقي الشيب وخيره، فأنا إذا قعدت ذكرت الله، وإذا قمت حمدت الله، فأحب أن تدوم لي هاتان الحالتان.
ابن أبي الجهم وهشام بن عبد الملك
قال أحمد بن عبيد: كنا عند هشام بن عبد الملك وقد وفد عليه وفد أهل الحجاز، وكان شباب الكتاب إذا قدم الوفد حضروا لاستماع بلاغة خطبائهم، فحضرت كلامهم حتى محمد بن أبي الجهم بن حذيفة العدوي، وكان أعظم القوم قدرا، وأكبرهم سنا، فقال: أصلح الله أمير المؤمنين، إن خطباء قريش قد قالت فيك ما قالت، وأكثرت وأطنبت، ووالله ما بلغ قائلهم قدرك، ولا أحصى خطيبهم فضلك، وإذا أذنت في القول قلت. قال: قل وأوجز. قال: تولاك الله يا أمير المؤمنين بالحسنى، وزينك بالتقوى، وجمع لك خير الآخرة والأولى، إن لي حوائج، أفأذكرها؟ قال: هاتها. قال: كبر سني، ونال الدهر مني، فإن رأى أمير المؤمنين أن يجبر كسري، وينفي فقري؛ فعل. قال: ما الذي ينفي فقرك ويجبر كسرك؟! قال: ألف دينار وألف دينار وألف دينار! قال: فأطرق هشام طويلا، ثم قال: يا ابن أبي الجهم، بيت المال لا يحتمل ما ذكرت! ثم قال له: هيه! قال: ما هيه؟! أما والله أنت الآمر الوالي، والله آثرك لمجلسك، فإن تعطنا فحقنا أديت، وإن تمنعنا فنسأل الذي بيده ما حويت، يا أمير المؤمنين، إن الله جعل العطاء محبة، والمنع مبغضة، والله لأن أحبك أحب إلي من أن أبغضك. قال: فألف دينار لماذا؟ قال: أقضي بها دينا آن قضاؤه، وعناني حمله، وأضر بي أهله. قال: فلا بأس تنفس كربته، وتؤدي أمانته، وألف دينار لماذا؟ قال: أعلم بها من بلغ من ولدي. قال: نعم المسلك سلكت، أغضضت بصرا، وأعففت ذكرا، ورفعت نسلا، وألف دينار لماذا؟ قال: أشتري بها أرضا يعيش بها ولدي، وأستعين بفضلها على نوائب دهري، وتكون ذخرا لمن بقي. قال: فإنا قد أمرنا لك بما سألت. قال: فالحمد لله على ذلك. وخرج، فأتبعه هشام بصره، وقال: إذا كان القرشي فليكن مثل هذا، ما رأيت رجلا أوجز في مقال ولا أبلغ في بيان منه. ثم قال: أما والله إنا لنعرف الحق إذا نزل، ونكره الإسراف والبخل، وما نعطي تبذيرا، ولا نمنع تقتيرا، وما نحن إلا خزان الله في بلاده، وأمناؤه على عباده، فإذا أذن أعطينا، وإذا منع أبينا، ولو كان كل قائل يصدق، وكل سائل يستحق ما جبهنا قائلا، ولا رددنا سائلا، ونسأل الذي بيده ما استحفظنا أن يجريه على أيدينا، فإنه:
يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا
فقالوا: يا أمير المؤمنين، لقد تكلمت فأبلغت، وما بلغ في كلامه ما قصصت أحد كما أبلغت.
عروة وهشام بن عبد الملك
وفد عروة بن أذينة على هشام بن عبد الملك فشكا إليه حاله، فقال: ألست القائل:
لقد علمت وما الإسراف من خلقي
أن الذي هو رزقي سوف يأتيني
أسعى إليه فيعييني تطلبه
ولو قعدت أتاني لا يعنيني
وقد جئت من الحجاز إلى الشام في طلب الرزق؟ فقال: يا أمير المؤمنين، وعظت فأبلغت، وذكرتني ما أنسانيه الدهر. وخرج من عنده، فركب ناقته وكر بها راجعا إلى الحجاز، فلما كان الليل ونام هشام على فراشه ذكر عروة، وقال: «رجل من قريش وفد علي فرددته خائبا» فلما أصبح وجه إليه بألفي دينار، فقرع عليه الرسول باب داره بالمدينة وأعطاه المال، فقال له عروة: أبلغ أمير المؤمنين عني السلام، وقل له: «كيف رأيت قولي؟ سعيت فرجعت خائبا؛ فأتاني رزقي في منزلي.»
النوادر العاشرة
نوادر الخليفة المهدي
المهدي وشريك بن عبد الله
قال علي بن صالح: كنت عند المهدي ودخل عليه شريك بن عبد الله القاضي فأراد أن يخبره، فقال لخادم على رأسه: هات عودا للقاضي. فجاء الخادم بالعود الذي يلهى به، فوضعه في حجر شريك، فقال شريك: ما هذا يا أمير المؤمنين؟! قال: هذا أخذ صاحبه أمس البارحة، فأحببت أن يكون كسره على يد القاضي. فقال: جزاك الله خيرا يا أمير المؤمنين. فكسره، ثم أفاضوا في الحديث، حتى نسي الأمر، ثم قال المهدي لشريك: ما تقول في رجل أمر وكيلا له أن يأتي بشيء يعينه فأتى بغيره فتلف ذلك الشيء؟ فقال: يضمن يا أمير المؤمنين. فقال للخادم: اضمن ما تلف بقضيته.
المهدي وسفيان الثوري
قال سفيان الثوري: لما حج المهدي قال: لا بد لي من سفيان. فوضعوا لي الرصد حول البيت فأخذوني بالليل، فلما مثلت بين يديه أدناني قائلا: لأي شيء لا تأتينا فنستشيرك في أمرنا، فما أمرتنا من شيء صرنا إليه، وما نهيتنا عن شيء انتهينا عنه؟! فقلت له: كم أنفقت في سفرك هذا؟ قال: لا أدري، لي أمناء ووكلاء. قلت: فما عذرك غدا إذا وقفت بين يدي الله تعالى فسألك عن ذلك؟ لكن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) لما حج قال لغلامه: كم أنفقت في سفرنا هذا؟ قال: يا أمير المؤمنين، ثمانية عشر دينارا، قال: ويحك! أجحفنا بيت المال!
المهدي وإياس بن معاوية
لما دخل المهدي البصرة رأى إياس بن معاوية وهو صبي وخلفه أربعمائة من العلماء وأصحاب الطيالسة وإياس يتقدمهم، فقال المهدي: أما كان فيهم شيخ يتقدمهم غير هذا الحدث؟! ثم إن المهدي التفت إليه وقال: كم سنك يا فتى؟ فقال: سني - أطال الله بقاء الأمير - سن أسامة بن زيد بن حارثة لما ولاه رسول الله
صلى الله عليه وسلم
جيشا فيهم أبو بكر وعمر. فقال له المهدي: تقدم بارك الله فيك.
صالح بن بشر والمهدي
دخل صالح بن بشر على المهدي فقال له: عظني، فقال: ألم يجلس في هذا المجلس أبوك وعمك قبلك؟ قال: نعم. قال: فكانت لهم أعمال ترجو لهم النجاة بها؟ قال: نعم. قال: فكانت لهم سيئات تخاف عليهم الهلكة منها؟ قال: نعم. قال: فانظر ما رجوت لهم فيه من النجاة فأته، وما خفت عليهم فيه من الهلكة فاجتنبه.
المهدي وأبو عبيد الله
كتب أبو عبيد الله إلى المهدي بعد عزله إياه عن الدواوين: «لم ينكر أمير المؤمنين حالي في قرب المؤانسة وخصوص الخلطة من حالي عنده قبل ذلك في قيامي بواجب خدمته التي أولتني من نعمته، فلم أبدل - أعز الله أمير المؤمنين - حالي بالتبعيد، وقربني إلى محل الإقصاء، وما يعلم الله مني فيما قلت إلا ما علم أمير المؤمنين، فإن رأى - أكرمه الله - أن يعارض قولي بعلمه بدأ، أو عاقبة فعل إن شاء الله»، فلما قرأ كتابه شهد بتصديقه قلبه، فقال: ظلمنا أبا عبيد الله؛ فليرد إلى حاله، ويعلم ما تجدد له من حسن رأيي فيه.
وفاة المهدي
نام المهدي يوما فأنشد في نومه هذه الأبيات:
كأني بهذا القصر قد باد أهله
وأوحش منه ركنه ومنازله
فلم يبق إلا ذكره وحديثه
ينادي بليل معولات ثواكله
فاستيقظ مرعوبا ثم نام فأنشد:
أبا جعفر حانت وفاتك وانقضت
سنوك وأمر الله لا بد واقع
فهل كاهن أعددته ومنجم
أبا جعفر عنك المنية رافع
فما أتت عليه عشرة أيام حتى مات.
النوادر الحادية عشرة
نوادر الإمام عمر بن الخطاب، والخليفة المعتصم
عمر بن الخطاب والمرأة
نظر عمر بن الخطاب إلى حسناء وبها ندب في وجهها، فقال: ما هذه الندوب يا حسناء؟! قالت: من طول البكاء على أخوي . قال لها: أخواك في النار. قالت: ذلك أطول لحزني عليهما أني كنت أشفق عليهما من النار، وأنا اليوم أبكي لهما من النار، وأنشدت:
وقائلة والنعش قد فات خطوها
لتدركه يا لهف نفسي على صخر
ألا ثكلت أم الذين غدوا به
إلى القبر ماذا يحملون إلى القبر
ثم تمثلت بقول الآخر:
أخ طالما سرني ذكره
فقد صرت أشجي إلى ذكره
وقد كنت أغدو إلى قصره
فقد صرت أعدو إلى قبره
وكنت أراني غنيا به
عن الناس لو مد في عمره
وكنت إذا جئته زائرا
فأمري يجوز على أمره
عمر بن الخطاب وأم كلثوم
قال أنس بن مالك: خرج أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في ليلة من الليالي في الظلمة يطوف لافتقاد أحوال المسلمين؛ فرأى بيتا من الشعر مضروبا لم يكن قد رآه بالأمس، فدنا منه فسمع أنين امرأة، ورأى رجلا قاعدا، فدنا منه، وقال له: من الرجل؟ فقال: من أهل البادية، قدمت إلى أمير المؤمنين أصيب من فضله. قال: فما هذا الأنين؟! قال: امرأة تتمخض وقد أخذها الطلق. قال: فهل عندها أحد؟ قال: لا. فانطلق عمر والرجل لا يعرفه فجاء إلى منزله، فقال لامرأته أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب: هل لك في أجر قد ساقه الله إليك؟ فقالت: وما هو؟ قال: امرأة تتمخض وليس عندها أحد. قالت: إن شئت. قال: خذي ما يصلح للمرأة من الخرق والدهن، وجيئيني بقدر وشحم وحبوب. فجاءت، فحمل القدر، ومشت خلفه حتى أتى البيت، فقال: ادخلي إلى المرأة. وجاء حتى قعد إلى الرجل، فقال: هات لي نارا. ففعل، فجعل عمر ينفخ النار ويضرمها تحت القدر حتى أنضجها، وولدت المرأة، فقالت أم كلثوم: يا أمير المؤمنين، بشر صاحبك بغلام، فلما سمع الرجل قولها: «يا أمير المؤمنين» ارتاع لذلك، وقال: يا أمير المؤمنين؟! وا خجلتاه منك! أهكذا تفعل بنفسك؟! فقال: يا أخا العرب، من ولي شيئا من أمور الناس ينبغي أن يتطلع على صغير أمرهم وكبيره؛ فإنه مسئول عنه، ومتى غفل عنهم خسر الدنيا والآخرة. ثم قام عمر وأخذ القدر عن النار، وحملها إلى باب البيت، فأخذتها أم كلثوم، وأطعمت المرأة، فلما استقرت وأسكنت، طلعت أم كلثوم، فقال للرجل: قم إلى بيتك، وكل ما بقي في القدر، وفي غد ائت إلينا. فلما أصبح جاءه، فجهزه بما أغناه وانصرف.
عمر بن الخطاب والمرأة
كان عمر بن الخطاب يعس المدينة، فمشى حتى أعيا فاتكأ إلى جدار؛ فإذا امرأة تقول لابنة لها صغيرة: قومي إلى ذلك اللبن فامزجيه بالماء. فقالت: يا أماه، أوما علمت ما كان من عزم أمير المؤمنين؟ قالت: وما كان من عزمه؟ قالت: إنه أمر مناديه فنادى أن لا يشرب اللبن بالماء، فقالت: امزجيه فإنك بموضع لا يراك عمر ولا منادي عمر! فقالت الصبية: والله ما كنت لأطيعه في الملأ وأعصيه في الخلا.
عمر بن الخطاب وعمرو بن معدي كرب
سأل عمر بن الخطاب عمرو بن معدي كرب فقال: ما تقول في الرمح؟ قال: أخوك وربما خانك. قال : فالنبل؟ قال: منايا تخطئ وتصيب. قال: فالدرع؟ قال: مشغلة للفارس، متعبة للراجل، وإنها لحصن حصين. قال: فالترس؟ قال: مجن وعليه تدور الدوائر. قال: فالسيف؟ قال عنده: ثكلتك أمك، قال عمر: بل أنت.
رسول قيصر وعمر بن الخطاب
أرسل قيصر رسولا إلى عمر بن الخطاب؛ لينظر أحواله ويشاهد أفعاله، فلما وصل المدينة سأل أهلها، وقال: أين ملككم؟ فقالوا: ما لنا ملك! بل لنا أمير قد خرج إلى ظاهر المدينة. فخرج الرسول في طلبه؛ فرآه نائما في الشمس على الأرض فوق الرمال الحارة وقد وضع درته كالوسادة، والعرق يسقط من جبينه إلى أن بل الأرض، فلما رآه على هذه الحالة وقع الخشوع في قلبه، وقال: رجل يكون جميع الملوك لا يقر لهم قرار في هيبته وتكون هذه حاله، ولكنك يا عمر عدلت؛ فأمنت؛ فنمت، وملكنا يجور؛ فلا جرم إذا ظل ساهرا خائفا.
عمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص
كتب عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص: إن الله إذا أحب عبدا حببه إلى خلقه، فاعتبر منزلتك من الله بمنزلتك من الناس، واعلم أن ما لك عند الله مثل ما للناس عندك.
عمر بن الخطاب وأحد الزهاد
قام عمر بن الخطاب بالجبانة فإذا هو بأعرابي، فقال: ما تصنع ها هنا يا أعرابي في هذه الديار الموحشة؟ قال: وديعة لي ها هنا يا أمير المؤمنين. قال: وما وديعتك؟ قال: ابن لي دفنته فأنا أخرج إليه كل يوم أندبه؟ قال: فاندبه حتى أسمع! فأنشأ يقول:
يا غائبا ما يئوب من سفره
عاجله موته على صغره
يا قرة العين كنت لي سكنا
في طول ليلي نعم وفي قصره
شربت كأسا أبدل شاربها
لا بد يوما له على كبره
يشربها والأنام كلهم
من كان في بدوه وفي حضره
فالحمد لله لا شريك له
الموت في حكمه وفي قدره
قد قسم الموت في العباد فما
يقدر خلق يزيد في عمره
وفاة الإمام عمر
قال ابن عمر: لما حضرت الوفاة والدي عمر غشي عليه، فأخذت رأسه فوضعته في حجري، فقال: ضع رأسي بالأرض؛ لعل الله يرحمني. فمسح خديه بالتراب، وقال: ويل لمن لا يغفر له الله ذنبا. فقلت: إن حجري والأرض سواء! فقال: ضع رأسي بالأرض كما آمرك، فإذا قضيت فأسرعوا بي إلى حفرتي، وإنما هو خير تقدموني إليه، أو شر تضعونه عن رقابكم. ثم بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: خبر السماء؛ لا أدري إلى جنة ينطلق بي أو إلى نار؟!
تميم بن جميل والمعتصم
قال أحمد بن أبي داود: ما أتينا رجلا نزل به الموت فما شغله ذلك ولا أذهله عما كان يحب أن يفعله إلا تميم بن جميل؛ فإنه كان على شاطئ الفرات، وأتى به الرسول إلى باب أمير المؤمنين المعتصم في يوم الموكب حين يجلس للعامة، ودخل عليه، فلما مثل بين يديه دعا بالنطع والسيف فأحضرا، فجعل تميم بن جميل ينظر إليهما ولا يقول شيئا، وجعل المعتصم يصعد النظر فيه ويصوبه، فكان جسيما وسيما، ورأى أن يستنطقه؛ لينظر أين جنانه ولسانه من منظره، فقال: يا تميم إن كان لك عذر فأت به، أو حجة فادلها، فقال: أما إذ قد أذن لي أمير المؤمنين فإني أقول: الحمد لله الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين، ثم جعله نسله من سلالة من ماء مهين، يا أمير المؤمنين، إن الذنوب تخرس الألسنة، وتصدع الأفئدة، ولقد عظمت الجريرة، وكبر الذنب، وساء الظن، ولم يبق إلا عفوك أو انتقامك، وأرجو أن يكون أقربهما منك وأسرعهما إليك أولاهما بامتنانك وأشبههما بخلافتك. ثم أنشأ يقول:
أرى الموت بين السيف والنطع كامنا
يلاحظني من حيثما أتلفت
وأكبر ظني أنك اليوم قاتلي
وأي امرئ مما قضى الله يفلت
ومن ذا الذي يدلي بعذر وحجة
وسيف المنايا بين عينيه مصلت
يعز على الأوس بن ثعلب موقف
يسل علي السيف فيه وأسكت
وما جزعي أني أموت وإنني
لأعلم أن الموت شيء موقت
ولكن خلفي صبية قد تركتهم
وأكبادهم من حسرة تتفتت
كأني أراهم حين أنعى إليهم
وقد خمشوا تلك الوجوه وصوتوا
فإن عشت عاشوا خافضين بغبطة
أرد الردى عنهم وإن مت موتوا
فكم قائل لا يبعد الله روحه
وآخر خذلان يسر ويشمت!
قال: فتبسم المعتصم، وقال: كاد والله يا تميم أن يسبق السيف العذل، اذهب فقد عفوت لك الصبوة، وتركتك للصبية.
المعتصم والمغني
ذكر المعتصم جارية كانت غلبت عليه وهو بمصر، ولم يكن يخرج بها معه، فدعا مغنيا له: فقال له: ويحك! إني ذكرت جارية فأقلقني الشوق إليها، فهات صوتا يشبه ما ذكرت لك! فأطرق مليا ثم غنى:
وددت من الشوق المبرح أنني
أعار جناحي طائر فأطير
فما لنعيم لست فيه بشاشة
وما لسرور لست فيه سرور
وإن امرأ في بلدة نصف قلبه
ونصف بأخرى غيرها لصبور
قال: والله ما يجدون ما في نفسي. وأمر له بجائزة، ورحل من ساعته.
المعتصم وعبد الله بن طاهر
كتب المعتصم إلى عبد الله بن طاهر في أيام اعتلاله:
أعزز علي بأن أراك عليلا
أو أن يكون بك السقام نزيلا
فوددت أني مالك لسلامتي
فأعيرها لك بكرة وأصيلا
فتكون تبقى سالما بسلامتي
وأكون مما قد عراك بديلا
هذا أخ يشتكي ما تشتكي
وكذا الخليل إذا أحب خليلا
المعتصم وأبو تمام الشاعر
لما أنشد أبو تمام قصيدته في المعتصم التي مطلعها:
السيف أصدق أنباء من الكتب
في حده الحد بين الجد واللعب
قال له: لقد جلوت عروسك يا أبا تمام، فأحسنت جلاءها. قال: يا أمير المؤمنين، والله لو كانت من الحور العين لكان حسن إصغائك إليها من أوفى مهورها.
النوادر الثانية عشرة
متفرقات من نوادر الخلفاء
الخليفة وحامل الجرة
استدعى بعض الخلفاء شعراء مصر، فصادفهم شاعر فقير، كان بيده جرة فارغة ذاهبا بها إلى البحر ليملأها ماء فتبعهم إلى أن دخلوا دار الخلافة، فبالغ الخليفة في إكرامهم والإنعام عليهم، ورأى ذلك الرجل والجرة على كتفه، ونظر إلى ثيابه الرثة، فقال: من أنت؟ وما حاجتك؟ فأنشد:
ولما رأيت القوم شدوا رحالهم
إلى بحرك الطامي أتيت بجرتي
قال: املئوا له جرته ذهبا وفضة. فحسده بعض الحاضرين، وقال: هذا فقير مجنون لا يعرف قيمة هذا المال وربما أتلفه وضيعه! فقال الخليفة: هو ماله يفعل به ما يشاء، فملئت له، وخرج إلى الباب، ففرقها على الجميع، وبلغ الخليفة ذلك فاستدعاه، فعاتبه على ذلك، فقال:
يجود علينا الخيرون بمالهم
ونحن بمال الخيرين نجود
فأعجبه ذلك، وأمر أن تملأ له عشر مرات، وقال: الحسنة بعشرة أمثالها.
المعتضد بالله وقطر الندى
لما زفت قطر الندى بنت خمارويه بن أحمد بن طولون إلى المعتضد بالله أحبها حبا شديدا، وإنه وضع يوما رأسه في حجرها فنام، فتلطفت في إزالة رأسه من حجرها، ووسدته، وخرجت من البيت، فلما استيقظ ناداها فأجابته من قرب، فقال: سلمت نفسي إليك فذهبت عني؟! فقالت: والله لم أزل كالفة لأمير المؤمنين. قال: فما أخرجك عني؟! قالت: إن مما أدبتني به أني لا أجلس مع النيام، ولا أنام مع الجلوس. فاستحسن ذلك منها.
عبد الرحمن القوصي والملك المظفر
اتفق أن الذكي عبد الرحمن القوصي حضر مجلسا عند الملك المظفر قبل أن يلي حماة فأنشد:
متى أراك ومن تهوى وأنت كما
تهوى على رغمهم روحين في بدن
هناك أنشد والآمال حاضرة
هنئت بالملك والأحباب والوطن
فوعده إذا ملك حماة أعطاه ألف دينار، فلما ملكها أنشده:
مولاي هذا الملك قد نلته
برغم مخلوق من الخالق
والدهر منقاد لما شئته
وذا أوان الموعد الصادق
فدفع له ألف دينار وأقامه معه، ولزمته أسفار وهو بخدمته، فأنفق فيها المال الذي أعطاه إياه ولم يحصل بيده زيادة عليه، فقال:
ذاك الذي أعطوه لي جملة
قد استردوه قيلا قليل
فليت لم يعطوا ولم يأخذوا
وحسبنا الله ونعم الوكيل
فبلغ ذلك الملك المظفر، فأخرجه من دار كان قد أنزله بها، فقال:
أتخرجني من كسر بيت مهدم
ولي فيك من حسن الثناء بيوت
فإن عشت لم أعدم مكانا يضمني
وإن مت تدري ذكر من سيموت
فحبسه المظفر، فقال: ما ذنبي إليك؟ قال: «حسبي الله ونعم الوكيل»، ثم أمر بخنقه، فلما أحس بذلك، قال:
أعطيتني الألف تعظيما وتكرمة
يا ليت شعري أم أعطيتني بدمي
أبو العباس والأعرابي
خرج أبو العباس أمير المؤمنين متنزها بالأنبار، فأمعن في نزهته، وانتبذ من أصحابه طواف خباء لأعرابي، فقال له الأعرابي: ممن الرجل؟ قال: من كنانة. قال: من أي كنانة؟ قال: من أبغض كنانة إلى كنانة! قال: فأنت إذا من قريش؟ قال: نعم. قال: فمن أي قريش؟ قال: من أبغض قريش إلى قريش! قال: فأنت إذا من ولد عبد المطلب؟ قال: نعم. قال: فمن أي ولد عبد المطلب أنت؟ قال: من أبغض ولد عبد المطلب إلى ولد عبد المطلب! قال: فأنت إذا أمير المؤمنين! السلام عليك يا أمير المؤمنين. فاستحسن ما رأى منه وأمر له بجائزة.
الخليفة والأصمعي
من ألطف ما اتفق أن بعض الخلفاء كان يحفظ الشعر من مرة، وعنده مملوك يحفظه من مرتين، وجارية من ثلاث مرات، وكان بخيلا جدا، فكان الشاعر إذا أتاه بقصيدة قال له: إن كانت مطروقة بأن يكون أحد منا يحفظها نعلم أنها ليست لك فلا نعطيك عليها جائزة، وإن لم نكن نحفظها فعطيتك وزن ما هي فيه مكتوبة. فيقرأ الشاعر القصيدة، فيحفظها الخليفة من أول مرة ولو كانت ألف بيت، ويقول للشاعر: أسمعها علي فإني أحفظها! وينشدها بكمالها، ثم يقول: وهذا المملوك أيضا يحفظها - وقد سمعها المملوك مرتين: مرة من الشاعر، ومرة من الخليفة فيحفظها ويقرأها - ثم يقول الخليفة: وهذه الجارية التي وراء الستر تحفظها أيضا - وقد سمعتها ثلاث مرات: مرة من الشاعر، ومرة من الخليفة، ومرة من المملوك، فتقرأها بحروفها - فيخرج الشاعر صفر اليدين، وكان الأصمعي من جلسائه وندمائه، فنظم أبياتا مستصعبة، ونقشها في أسطوانة، ولفها في ملاءة، وجعلها على ظهر بعير، ولبس جوخة بدوية مفرجة من وراء ومن قدام، وضرب له لثاما لم يبن منه غير عينيه، وجاء إلى الخليفة، وقال: إني امتدحت أمير المؤمنين بقصيدة. قال: يا أخا العرب إن كانت لغيرك فلا نعطيك لها جائزة، وإن كانت لك نعطيك زنة ما هي مكتوبة فيه. قال: قد رضيت. وأنشد:
صوت صفير البلبل
هيج قلب الثمل
الماء والزهر معا
مع حسن لحظ المقل
وأنت حقا سيدي
وسؤددي وموللي
وطاب لي نوح الحما
م قوققو بالزجل
قد فاح من لحظاتها
عبير ورد الخجل
قلت وصوص وصوص
فجاء صوت من عل
وقال لا لا لا للا
وقد غدا مهرولي
وفتية يسقونني
قهيوة كالعسل
شممتها في أنففي
أذكى من القرنفل
في بستتان حسن
بالزهر والسرولل
والعود دندن دندن
والطبل طبطب طبلي
والرقص ارطب طبطب
والماء شقشقشقلي
شووا شووا شووا
على وريق السفرجل
وغرد القمري يصيح
من ملل من مللي
فلو تراني راكبا
على حمار أعزل
أمشي على ثلاثة
كمشية المرتجل
والناس قد ترحمني
في السوق بالتعلل
والكل كع كع ككع
خلفي ومن حويللي
لكن مشيت هاربا
من خشية في عقللي
إلى لقاء ملك
معظم مبجل
يأمر لي بخلقه
حمراء كالدململ
أجر فيها مأربا
ببغدد كالدلدل
فلما فرغ من إنشادها بهت الملك فيها ولم يحفظها الخليفة؛ لصعوبتها، ثم نظر إلى المملوك فأشار إليه أنه ما حفظ منها شيئا، وفهم من الجارية أنها ما حفظت منها شيئا، فقال الخليفة: يا أخا العرب، إنك صادق، وهي لك بلا شك، فإني ما سمعتها قبل ذلك، فهات الرقعة التي هي مكتوبة فيها حتى نعطيك زنتها. فقال: يا مولاي إني لم أجد ورقا أكتب فيه، وكان عندي قطعة رخام من عهد أبي وهي ملقاة في الدار ليس لي بها حاجة فنقشتها فيها! ولم يسع الخليفة إلا أن أعطاه زنتها ذهبا، فنفد جميع ما في خزانة الملك من المال، فأخذ الأصمعي ذلك وانصرف، فلما ولى، قال: يغلب على ظني أن هذا الأعرابي هو الأصمعي! فأحضره وكشف عن وجهه، فإذا هو الأصمعي، فتعجب من صنيعه، ورجع عما كان يعامل به الشعراء، وأجراهم على عوائد الملوك.
أبو النواس وأحد الخلفاء
حكي عن أبي النواس أنه دخل على أحد الخلفاء فوجده جالسا وإلى جانبه جارية سوداء، تدعى خالصة، وعليها من أنواع الحلي والجواهر ما لا يوصف، فصار أبو النواس يمتدحه، وهو يسهو عن استماعه، فلما خرج كتب على الباب:
لقد ضاع شعري على بابكم
كما ضاع در على خالصه
فمرت الجارية، فقرأت البيت، فأطلعت الخليفة عليه، فغضب الخليفة، وأمر بإحضار أبي النواس، وكان مختبئا وراء الباب، فمسح العينين اللتين في لفظة «ضاع»، وأحضر بين يديه، فقال له ما كتبت على الباب؟ قال: كتبت:
لقد ضاء شعري على بابكم
كما ضاء در على خالصه
فأعجبه ذلك، وأنعم عليه، فخرج أبو النواس وهو يقول: لله درك من شعر؛ قلعت عيناه فأبصر!
هشام والرجل
لما مات هشام بن عبد الملك بكى ولده عليه، فقال أحدهم: جاد لكم هشام بالدنيا وجدتم عليه بالبكاء، وترك لكم ما كسب وتركتم عليه ما اكتسب، ما أسوأ حال هشام إن لم يغفر الله له!
الخليفة والمسجون
حبس بعض الخلفاء شخصا على غير ذنب، فبقي سنين عديدة، فلما حضرته الوفاة كتب رقعة، وقال للسجان: سألتك بالله أني إذا مت فأوصل هذه الرقعة إلى الخليفة، فمات، فأخذها إليه، فإذا مكتوب فيها: أيها الغافل! إن الخصم قد تقدم والمدعى عليه بالأثر، والمنادي جبريل والقاضي لا يحتاج إلى بينة.
ابن السكيت والمعتز بالله
قال ابن السكيت: أحضرت لتعليم المعتز بالله، فقلت له: بأي شيء نبدأ اليوم؟ فقال: بالخروج، فقلت: نعم، فعدا من بين يدي وعثر على المرمر، فقال:
يموت الفتى من عثرة بلسانه
وليس يموت المرء من عثرة الرجل
فقلت للمتوكل: جئتم بي لتأديبه وهو آدب مني، فأمر لي بعشرة آلاف درهم.
هشام وأحد الشرفاء
غضب هشام على رجل من أشراف الناس فشتمه، فوبخه الرجل، فقال: أما تستحي أن تشتمني وأنت خليفة الله في أرضه؟! فأطرق هشام واستحى، وقال له: اقتص. قال: إذا سفيه مثلك! فقال: خذ عن ذلك عوضا من المال. قال: ما كنت لأفعل. قال: فهبها لله. قال: هي لله ثم لك. فنكس هشام رأسه، وقال: والله لا أعود لمثلها.
ذخر الدولة والمعتمد
قال ذخر الدولة: استدعاني المعتمد على الله محمد بن عباد الأندلسي ليلة قد ألبسها البدر رداءه وأوقد فيها أضواءه، وهو على البحيرة الكبرى، والنجوم قد انعكست فيها، تخالها زهرا، وقابلتها المجرة، فسالت فيها شهرا، وقد أرجت نوافح الند، وماست معاطف الرند، وحسد النسيم الروض، ففشى بأسراره، وأفشى حديث آسه وعراره، ومشى مختالا بين لبات النور وأزراره، بدمع منسجم، وزفرات تترجم، فلما نظرت إليه استدعاني، وقربني، وشكى إلي من الهجران ما استغربته، وأنشد:
أيا نفس لا تجزعي واصبري
وإلا فإن النوى متلف
حبيب جفاك وقلب عصاك
ولاح لحاك ولا ينصف
شجون منعن الجفون الكرى
وعوضنها أدمعا تنزف
فانصرفت عنه، ولم يعلمني بقصته، ولا كشف لي عنه غصته.
الشبلي وأمير المؤمنين
قال الشبلي في مجلس وعظه: لله الهيبة، فسمعه شاب فصرخ صرخة فمات، فخاصمه أولياؤه إلى السلطان، وادعوا عليه أنه قاتل ابنهم، فقال له السلطان: ما تقول؟ فقال: يا أمير المؤمنين، روح حنت؛ فرنت؛ فدعيت؛ فأجابت، فما ذنبي؟! فبكى أمير المؤمنين، ثم قال لأوليائه: خلوا سبيله فلا ذنب له.
المعزي والحسن والخليفة
كان الحسن بن علي يوما جالسا فجاءه رجل وسأله شيئا من الصدقة، ولم يكن عنده ما يسد به رمقه فاستحيا أن يرده، فقال: ألا أدلك على شيء يحصل لك منه البر؟ فقال: ماذا تدلني عليه؟ قال: اذهب إلى الخليفة، فإن ابنته توفيت، وانقطع عليها، وما سمع من أحد تعزية؛ فعزه بهذه التعزية يحصل لك بها الخير. فقال: حفظني إياها. قال: قل له: «الحمد لله الذي سترها بجلوسك على قبرها، ولا هتكها بجلوسها على قبرك»، فذهب إلى الخليفة وعزاه بهذه التعزية؛ فسمعها، فذهب عنه الحزن فأمر له بجائزة، وقال: بالله عليك أكلامك هذا؟ قال: لا، بل كلام فلان. فقال: صدقت؛ فإنه معدن الكلام الفصيح. وأمر له بجائزة أخرى.
عدل عضد الدولة
وقال أيضا: بلغني عن عضد الدولة أنه كان في بعض أمرائه شاب تركي، وكان يقف عند روزنة ينظر على امرأة فيها، فقالت المرأة لزوجها: قد حرم علي هذا التركي أن أتطلع في الروزنة؛ فإنه طول النهار ينظر إليها، وليس فيها أحد، فلا يشك الناس أن لي معه حديثا، وما أدري كيف أصنع؟ فقال زوجها: اكتبي إليه رقعة، وقولي فيها: لا معنى لوقوفك فتعال إلي بعد العشاء إذا غفل الناس في الظلمة، فإني خلف الباب. ثم قام وحفر حفرة طويلة خلف الباب، ووقف له فلما جاء التركي فتح له الباب فدخل، فدفعه الرجل فوقع، وطموا عليه، وبقي أياما لا يدرى ما خبره؟ فسأل عنه عضد الدولة؛ فقيل له: ما لنا به خبر، فما زال يعمل فكره إلى أن بعث يطلب مؤذن المسجد المجاور لتلك الدار، فأخذه أخذا عنيفا في الظاهر، ثم قال له: هذه مائة دينار خذها وامتثل ما آمرك، إذا رجعت إلى مسجدك فأذن الليلة بالليل واقعد في المسجد، فأول من يدخل عليك ويسألك عن سبب إنفاذي إليك فأعلمني به. فقال: نعم، ففعل ذلك، وكان أول من دخل ذلك الشيخ، فقال له: قلبي عليك، وأي شيء أراد منك عضد الدولة؟ فقال: ما أراد مني شيئا، وما كان إلا الخير، فلما أصبح أخبر عضد الدولة بالحال فبعث إلى الشيخ، فأحضره ثم قال له: ما فعل التركي؟ فقال: أصدقك الخبر، لي امرأة رشيدة مستحسنة، كان يراصدها ويقف تحت روزنتها، فرحت - من خوف الفضيحة بوقوفه - ففعلت به كذا وكذا. فقال: اذهب إلى دعة الله، فما سمع الناس ولا قلنا.
القسم الثاني
في نوادر الفلاسفة والحكماء
الفلاسفة والحكماء
وصية لقمان لابنه
قال لقمان لابنه: لا تركن إلى الدنيا، ولا تشغل قلبك بها؛ فإنك لم تخلق لها، وما خلق الله خلقا أهون عليه منها، فإنه لم يجعل نعيمها ثوابا للمطيعين، ولا بلاءها عقوبة للعاصين، يا بني، لا تضحك من غير عجب، ولا تمش في غير أدب، ولا تسأل عما لا يعنيك، يا بني، لا تضع مالك وتصلح مال غيرك، فإن مالك ما قدمت ومال غيرك ما تركت، يا بني، إن من يرحم يرحم، ومن يصمت يسلم، ومن يقل الخير يغنم، ومن يقل الباطل يأثم، ومن لا يملك لسانه يندم، يا بني، زاحم العلماء بركبتيك، وانصت إليهم بأذنيك، فإن القلب يحيا بنور العلماء كما تحيا الأرض الميتة بمطر السماء.
لقمان ومولاه
كان لقمان عبدا أسود لبعض أهل الأيلة، فقال له مولاه: اذبح لنا شاة، وأتنا بأطيب مضغة. فأتاه باللسان، فقال له: اذبح لي أخرى وائتني بأخبث مضغة. فأتاه باللسان! فقال له في ذلك، فقال: ما شيء أطيب منه إذا طاب، ولا أخبث منه إذا خبث.
سقراط وأحد الفلاسفة
كان سقراط الحكيم قليل الأكل خشن اللباس، فكتب إليه بعض الفلاسفة: «أنت تحسب أن الرحمة لكل ذي روح واجبة، وأنت ذو روح فلا ترحمها بترك قلة الأكل وخشن اللباس.» فكتب في جوابه: «عاتبتني على لبس الخشن، وقد يعشق الإنسان القبيحة ويترك الحسناء، وعاتبتني على قلة الأكل، وإنما أريد أن آكل لأعيش وأنت تريد تعيش لتأكل، والسلام»، فكتب إليه الفيلسوف: «قد عرفت السبب في قلة الأكل، فما السبب في قلة الكلام؟ وإذا كنت تبخل على نفسك بالمأكل فلم تبخل على الناس بالكلام؟»، فكتب في جوابه: «ما احتجت إلى مفارقته، وتركه للناس فليس لك، والشغل بما ليس لك عبث، وقد خلق الحق سبحانه لك أذنين ولسانا؛ لتسمع ضعف ما تقول، ولا لتقول أكثر مما تسمع، والسلام.»
فيثاغورس الفيلسوف وسائلوه
قيل لفيثاغورس الفيلسوف: من الذي يسلم من معاداة الناس؟ قال: من لم يظهر منه خير ولا شر. قيل: وكيف ذلك؟! قال: لأنه إن ظهر منه خير عاداه الأشرار، وإن ظهر منه شر عاداه الأخيار!
طاليس الفيلسوف والعجوز
بينما كان طاليس خارجا من محله لرصد الكواكب؛ إذ مر بحفرة عميقة فوقع فيها، فرأته عجوز فأخرجته منها، ثم قالت له: أتزعم يا طاليس أنك تعلم جميع ما في السماء مع أنك لم تعلم ما تحت رجليك؟!
سولون الفيلسوف وأهل أثينا
جرت قديما حروب بين الأثينيين والمغاريين بسبب جزيرة سلامينا، وانتهى الأمر بينهم إلى أن انهزم الأثينيون تعبا بسبب سفك الدماء، حتى أجمع رأيهم على أن كل من تكلم في شأن المغاريين لأجل جزيرة سلامينا وطلب تجديد الحرب معهم يكون جزاؤه الموت ما دام المغاريون مستولين عليها، فرأى سولون الفيلسوف أنه إذا تكلم في ذلك أضر بنفسه، وإذا سكت يعود الضر على وطنه وأهل مملكته، فتظاهر بالجنون خديعة لهم ليبدي ما يخطر له، فشاع في المدينة خبر جنونه، فأنشأ أبيات شعر محزنة حفظها جيدا ثم خرج لابسا ثياب صوف رثة، وفي عنقه حبل، وعلى رأسه طيلسان قديم، فاجتمع عليه أهل المدينة، فطلع إلى مرتفع مخصص للمناداة وأنشد تلك الأشعار المحزنة، ثم قال بأعلى صوته: ليتني ما كنت من أهل هذه البلدة، وا حسرتاه! أتمنى لو كنت مولودا في بلاد الأعجام أو البرابرة أو في أي مكان آخر؛ فإن ذلك أهون علي من أن يراني الناس ويشيروا إلي ويقولون: إن هذا الرجل من أهل أثينا الذين فروا من حرب سلامينا، فأسرعوا في أخذ الثار، وامحوا عنا هذا العار الذي لحقنا، وتنبهوا حتى نأخذ هذه المدينة التي أخذها أعداؤنا ظلما وعدوانا. فأثر قوله ذلك في عقول أهل أثينا، وأبطلوا اتفاقهم، وأخذوا سلاحهم، ومضوا إلى حرب المغاريين.
أكرسيوس صديق يولون الفيلسوف
أسر قيروس ملك العجم إستياجس الملك جد أكرسيوس أبا أمه، وأخذ جميع ملكه رغما عن إرادة أكرسيوس، فغضب لذلك أكرسيوس، وأخذته الحمية على جده، وقصد حرب بلاد العجم؛ لأنه رأى نفسه ذا ثروة عظيمة، ورأى أن أهل مملكته أشجع في الحرب من جميع العالم، فضمن لنفسه الظفر، ولكن لسوء حظه انهزم إلى مدينة سارديس في مروره فيها مدة أربعة عشر يوما، ثم أخذوه أسيرا بالسلاسل والأغلال، وأحضروه إلى قيروس، فأمر أن يوضع مغلولا في مستوقد من حطب، ووضعوا حوله أربعة عشر غلاما، وأمر بأن يحرقوه بالنار بمشاهدة قيروس وجميع العجم، وهموا بوضع النار في الحطب، وإذا بأكرسيوس وقد تذكر كلاما سمعه من سولون الفيلسوف وصاح آسفا حزينا: سولون، سولون، فعجب قيروس، وبعث يسأله عن ذا الاسم الذي قد تذكره؛ أهو من أسماء الآلهة فينقذه؟ فما أجابه أكرسيوس، فشددوا عليه، فقال بصوت ملؤه الأسف: إن من ذكرته رجل يجب على الملوك أن يستصحبوه ويقربوه منهم، ويعتبروه ويسمعوا كلامه، فإنه أنفع من خزائنهم وجميع ما عندهم من الأشياء النفيسة، فقالوا: حدثنا عنه سريعا. فقال: إنه من أعظم حكماء اليونان، وقد كنت أرسلت له سابقا لأستشيره في جميع أموري، فقال لي عفوا: «ما هذه الحياة الدنيا إلا باطل زائل، وأنه ينبغي على الأديب أن يتوقع آخر عمره، ولا يغتر بسعادته، ولا يعتمد عليها؛ لأنها معرضة لأكثر المصائب التي تفوق الإحصاء»، فقد عرفت الآن حقيقة ما قاله لي. وفيما هو يتكلم اشتعلت النار في الحطب من تحت المستوقد، وابتدأت تتصاعد إلى أعلى، فعند ذلك حصل لقيروس الشفقة، واتعظ بكلامه، وهاجه حالة أكرسيوس المحزنة، وذكر سابق مجده وما كان عليه من العز والرخاء، فأمر للحال بإطفاء النار، وإطلاق أكرسيوس من السلاسل التي كان مقيدا بها، وأحسن إليه، واعتمد على مشورته في سائر أموره.
بيتاقوس الفيلسوف والمستشير
جاء بيتاقوس يوما رجل فقال: أريد أن أتزوج بإحدى اثنتين؛ واحدة منهما تساويني في الحسب، وأخرى أغنى مني وأعلى نسبا، فآخذ لي واحدة منهما. فرفع عليه عصا كان يتوكأ عليها، وقال: اذهب إلى مجمع الصبيان الذي يلعبون فيه واسمع ما يقولون واعمل به! فمضى الرجل إلى ملعب الصبيان؛ فسمعهم ينبهون بعضهم، ويقولون: «كل واحد يأخذ مثله»، فاعتبر الرجل بذلك، وجنح عن أخذ التي فوقه في الغنى والنسب، وأخذ التي تماثله في الصفات والأخلاق.
عدل بيتاقوس الفيلسوف
كان تيري بن بيتاقوس الفيلسوف يوما في حانوت رجل حجام مع جماعة من الشبان الذين كانوا يجتمعون عادة هناك للتحدث والاستخبار، وبينما هو كذلك؛ إذ سقطت عليه حديدة من يد صانع - غير عامد - فكسرت رأسه، فهم أهل المدينة بقتل ذاك الرجل، وأمسكوه وأحضروه إلى بيتاقوس والد المقتول، فبحث عن السبب؛ فرأى أن الرجل الذي ألقى قطعة الحديد على رأس ابنه غير متعمد، فعفا عنه، وقال: إن ذنبا غير مقصود لجدير بالعفو والمسامحة؛ لأن الأعمال بالنيات لا بالمظاهرة.
بياس الفيلسوف والمشركون
كان بياس الفيلسوف يوما في سفينة مع جماعة من المشركين، هبت عليهم ريح عاصفة، أشرفت منها السفينة على الغرق، فخاف المشركون غاية الخوف، وابتهلوا بالدعاء لآلهتهم؛ لتنجيهم من الموت الذي يتهددهم، فقال لهم بياس: عليكم بالصمت؛ لأن آلهتكم لو علمت أنكم في السفينة لأغرقتها وهلكنا جميعا!
بياس الفيلسوف والمحكوم عليه
اضطر بياس يوما أن يحكم بالقتل على أعز أصدقائه؛ عملا باقتضاء الشرع، فما كاد أن ينطق بصيغة الحكم حتى شرع في البكاء وسط المحكمة، فقيل له: ما يبكيك، وأنت الحاكم المطلق تغير الحكم كيف شئت؟! فقال: إنما بكيت أسفا وحنانا على من أصيب بنكبات الدهر، ولكن الشريعة فرضت علي أن لا أعتبر هذه الطبيعة ولا أجري على أميالها.
بياس الفيلسوف والسفينة
تأمل بياس يوما في شحن ألواح السفينة، فتأوه بأعلى صوته، وقال: إن المسافرين في البحر ليسوا بعيدين عن الموت إلا بمقدار أربعة أصابع، فسئل عن آمن السفن، فقال: هي التي تصل إلى البر سالمة.
بياس الفيلسوف ورجل من أثينا
قدم إلى بياس الفيلسوف رجل من أثينا وعيره بأنه من التتار، فقال له: إن بلدي قد فضحتني، وأما أنت فقد فضحت بلدك.
انتيثينوس الفيلسوف
سئل انتيثينوس الفيلسوف يوما: ما الذي ينبغي طلبه من الدنيا؟ فأجاب: موت الإنسان سعيدا.
وحصل له غيظ شديد من حساده الذين كان يرعاهم حسدهم رعي الصدأ للحديد، فكان يقول: لو خيرت بين أن أكون غرابا أو حاسدا لاخترت أن أكون غرابا؛ لأن الغربان لا تأكل الميتة، وأما الحساد فإنهم يأكلون لحوم الأحياء.
سمع ذات يوم كثيرا من الأراذل يمدحونه، فقال: ما الذي صنعت من سيئ الفعال حتى مدحني أولئك الأراذل؟!
أرستيب الفيلسوف ودينيس الملك
اتفق أن دينيس الملك كان في نفسه شيء من أرستيب فلما وصل إليه الطعام وتهيئوا للأكل أمره الملك دينيس أن يجلس في المحل الأخير، فلم يتأثر من ذلك ولم يغضب وقال للملك: يخيل لي أنك أردت أن تشرف بي هذا الموضع.
أرستيب الفيلسوف وأبو التلميذ
أرسل بعض الناس ولده إليه ليعلمه وطلب منه أن يعتني بتعليمه فطلب منه أرستيب خمسين درهما، فاستعظم ذلك أبو الغلام وقال: كيف أدفع خمسين درهما مع أني قادر على شراء مملوك بها؟! فقال له أرستيب: اذهب واشتر بها مملوكا يكمل لك خادمان.
أرستيب وديوجينوس الفيلسوف
كان ديوجينوس الفيلسوف يوما يغسل حشائش على عادته، فبينما هو كذلك إذ مر به أرستيب، فقال له ديوجينوس: لو أمكنك أن تقنع بمثل هذه الحشائش لما اضطررت للذهاب إلى الملوك وسمعت منهم ما لا يلذك. فقال أرستيب: وأنت لو عرفت صناعة مجالسة الملوك لكرهت هذه الحشائش.
أرستيب الفيلسوف وأثخينس
وقع بين أرستيب وأثخينس منازعة عظيمة أدت إلى إعراض كل منهما عن صاحبه، فذهب أرستيب إلى أثخينس وقال له: هل لك في الصلح؛ فنكف عنا لسان الساخرين؟ فقال أثخينس: الصلح بغيتي وعين مرامي. فقال أرستيب: لا تنس أني أنا الذي سعيت في الصلح وطلبته منك مع أني أكبر منك سنا.
أرستيب الفيلسوف والرجل
أخذ أحدهم يسب أرستيب يوما ويذمه بحضرته، فتركه أرستيب وذهب فذهب خلفه وقال: لم تذهب يا قبيح؟ فقال له أرستيب: أنت رجل قادر على السب، أما أنا فلست مأذونا بسماعه.
أرستيب الفيلسوف والملك
لما أكثر أرستيب الذهاب إلى مدينة سراقوسة واعتاده أضمر دينيس الملك في نفسه أن يسأله عن ذلك، فسأله: ماذا تصنع في هذه المدينة؟ فقال له أرستيب: آتي لأعطيك ما عندي، وأستعيض عنه بما عندك.
أكسينوقراط الفيلسوف وتابع الإسكندر
كان أكسينوقراط الفيلسوف قنوعا للغاية، فاتفق أن الإسكندر بعث له جملة من الدراهم، فلم يأخذ منها إلا ثلاثة ورد الباقي، وقال لحامل الهدية: إن للإسكندر خلقا كثيرا يطعمهم؛ فيحتاج للدراهم أكثر مني.
ديوجينس الفيلسوف والرجل
أراد أحدهم أن يظهر دقة عقله لديوجينس فقال له: إنك لست أنا، وأنا رجل، فلست أنت برجل! فقال له ديوجينس: لو قلت أنت لست أنا واقتصرت لأنتجت بنفسها أنك لست برجل.
ديوجينس الفيلسوف والطفل
رأى ديوجينس يوما في سيره طفلا يشرب بكفيه؛ فاستحيا من ذلك جدا، وقال: كيف تكون الأطفال أشد معرفة مني بالأشياء التي يدرك التخلي عنها؟ وأخرج عند ذلك قدحه من خرجه وكسره؛ لأنه رآه غير نافع له.
ديوجينس الفيلسوف وديموثينس
اتفق أن ديموثينس أكل يوما في حانة؛ فحانت منه التفاتة؛ فأبصر ديوجينس فاختفى، فلما لمحه ديوجينس قال: كلما اختفيت في مثل ذا المكان تمكنت فيه.
ديوجينس الفيلسوف ومعيروه
عيره أراذل الناس بالفقر وعابوه به؛ فقال لهم: لم أر أحدا عوقب على فقره، ورأيت كثيرا من الناس أرباب القبائح والخيانات يعاقبون على خيانتهم.
ديوجينس الفيلسوف وصديقه
أتى ديوجينس صديق مدة أسره؛ لكي ينقذه من ذل يد العبودية، فقال له ديوجينس: أبك جنون، أم تهزأ بي؟! أما علمت أن الأسد ليس أسيرا عند من يطعمه، إنما المطعم للسبع هو أسيره.
ديوجينس الفيلسوف وأفلاطون
كان أفلاطون يقول في تعريف الإنسان: إنه حيوان ذو رجلين لا ريش له! فأخذ ديوجينس ديكا ونتفه وخبأه تحت عباءته، ولما دخل المكتب أخرجه وطرحه في الوسط، وقال: هذا إشارة أفلاطون! فاضطر أفلاطون لتصحيح تعريفه أن يزيد عليه: «ذو أظفار عريضة»!
ديوجينس الفيلسوف في ميغاره
مر ديوجينس يوما بمدينة ميغاره فرأى أطفالهم عراة ورأى الغنم مرتدية بصوفها، فقال: غنم هذه المدينة أسعد من بني آدم!
ديوجينس وحامل الخشبة
كان أحدهم يحمل خشبة طويلة على ظهره، فصدم بها ديوجينس على حين غفلة ثم قال له: ق نفسك. فقال له ديوجينس: لقد ضاربتني ثانية بهذه الكلمة.
ديوجينس والرجل المسرف
رأى ديوجينس رجلا مسرفا سائرا في طريق فسأله دينارا؛ فقال له ذلك المسرف: لم طلبت مني دينارا وتطلب من غيري درهما فقط؟! فقال: لأنه يعطيني مرة ثانية، وأشك في أن أراك مرة أخرى قادرا على إعطائي!
ديوجينس وأهل التلميذ
أتوا ديوجينس يوما بتلميذ ومدحوه له بالعقل والمعارف والنباهة وحسن الأخلاق، فلما أتموا كلامهم قال: من كانت هذه صفاته فلا حاجه له بي، ولم جئتم به إلي؟!
بيرهون الفيلسوف وركاب السفينة
بينما كان بيرهون في سفينة صغيرة؛ إذ هبت ريح عاصفة على غفلة، فغدت السفينة في خطر أزعج من كان معه، أما هو فلم يكترث، بل ظل يأكل ساكنا دون خوف ولا حذر، ثم أشار إلى غنمة كانت بجانبه تأكل، وقال: يجب على العاقل أن يدرك بقوة القلب والجنان رتبة هذا الحيوان الصغير.
بيون الفيلسوف والملك
بلغ بيون الفيلسوف يوما أن أحد الأعداء وشى به وعرض برداءة أصله لدى الملك أنتيفونوس، فلم يكترث ولا تأثر من ذلك، مظهرا أنه غير عالم به، فأرسل الملك إلى بيون زاعما أنه يفحمه بتلك الحجج ويحيره، فقال له: ما اسمك؟ واسم بلدك؟ وأصلك؟ وحرفة أهلك؟ فلم يتحير من ذلك، وقال: كان أبي رجلا عتيقا، وكان يبيع دهن الخنزير والسمن، ولا أعلم إذا كان جميلا؛ لأن وجهه الآن مشوه بآثار ضرب سيده، وكان تتاري الأصل، مقيما في بلدة على شاطئ نهر يورثينوس، ولا أدري ما ارتكبه أبي من الذنب حتى بيع مع زوجته وأولاده؟! وكنت أنا إذ ذاك فتى جميلا، فابتاعني أحد الخطباء، وأوصى لي بجميع أمواله، فلما مات مزقت الوصية وحرقتها في النار، وذهبت إلى أثينا، وتعلمت الفلسفة، وهذا كل ما يقال عني وعن أهلي أيها الملك. فعجب من تواضعه وذكاء فؤاده.
زينون الفيلسوف
كان زينون آتيا من «قيتيا» ومعه شيء من أرجوان الصينيين، فكسرت به السفينة، وتلف ما كان معه بمينا «بيري» فاغتم لتلك الخسارة، وجاء مدينة أثينا، فدخل على بائع كتب، فقرأ المقالة الأولى من كتاب زنفون الفيلسوف؛ ليسلي همه بها، فسر بقراءتها كثيرا، وسأل الكتبي عن أماكن الذين يتكلم عنهم زنفون، وإذا بأقراطيس الكلبي مارا بالصدفة، فأشار إليه الكتبي، وقال لزينون: اتبع هذا الرجل، وكان زينون في الثلاثين من العمر شديد الحياء والخجل، فلما رآه أقراطيس على ذي الحال أراد أن يقوي عزمه؛ فأعطاه ذات يوم قدرا ممتلئة عدسا، وأمره أن يدور بها في طرق المدينة، فاحمر وجه زينون خجلا من ذلك، واختفى خشية أن يرى من أحد أصحابه، فقال له أقراطيس: لم هربت يا مكار مع أنه لا يضرك ذلك بل يمهد لك سبيل الدعة والتواضع؟!
الفيلسوف والولد
دخل ولد صغير على فيلسوف وطلب إليه أن يعطيه جمرة نار، ولم يكن معه وعاء يأخذ فيه النار، فتعجب من أمره، وقال له: كيف تأخذ النار وأنت لم تأت بوعاء لها؟! قال: إن شئت أعطني وها قد جئت بالوعاء اللازم. قال هذا وغرف رمادا ملء كفه، وقال: ضع النار هنا، أرأيت ما أحسن هذا الوعاء. فتعجب الفيلسوف من فطنته، وقال: حقيقة إن الإنسان مهما تعلم يبق قاصرا.
زينون الحكيم والرجل
رأى زينون الحكيم رجلا على شاطئ البحر مفكرا حزينا على الدنيا، فقال له: يا فتى، ما تلهفك على الدنيا؟! لو كنت في غاية الغنى وأنت راكب لجة البحر، وقد انكسرت بك السفينة، وأشرفت على الغرق أما كانت غاية مطلوبك النجاة، وأن يذهب كل ما بيديك؟ قال: نعم. قال: ولو كنت ملكا وأحاط بك من يريد قتلك، أما كان مرادك النجاة من يده ولو ذهب جميع ما تملك؟ قال: نعم. قال: فأنت ذلك الغني الآن، وأنت ذلك الملك. فتسلى الرجل بكلامه.
الرجل الحكيم بألف رجل
قيل لرجل من عبس: ما أكثر صوابكم في مباشرة ما تأتون ومجانبة ما تعرضون عنه! قال: نحن ألف رجل، وفينا رجل واحد حازم ذو رأي ومعرفة، فنحن نشاوره في الجليل والحقير، ونعمل برأيه، فكأننا إذا عملنا برأيه ومشورته قد عملنا برأي ألف حازم، وجدير بألف حازم أن يصيبوا.
وصية بعض الحكماء
أوصى بعض الحكماء ملكا فقال: «لا يكونن العدو الذي كشف لك عن عداوته بأحقر عندك من الظنين الذي يستتر لك بمخاتلته، فإنه ربما تخوف الرجل السم الذي هو أقتل الأشياء، وقتله الماء الذي هو محيي الأشياء، وربما تخوف أن تقتله الملوك التي تملكه ثم تقتله العبيد التي يملكها.»
عمر بن عبد العزيز والحسن
كتب عمر بن عبد العزيز إلى الحسن: اجمع لي أمر الدنيا، وصف لي أمر الآخرة. فكتب إليه: «إنما الدنيا حلم، والآخرة يقظة، والموت مستيقظ، ونحن في أضغاث أحلام، من حاسب نفسه ربح، ومن غفل عنها خسر، ومن نظر في العواقب نجا، ومن أطاع هواه ضل، ومن حلم غنم، ومن خاف سلم، ومن اعتبر أبصر، ومن فهم علم، ومن علم عمل، فإذا زللت فارجع، وإذا ندمت فاقلع، وإذا جهلت فاسأل، وإذا غضبت فأمسك، واعلم أن أفضل الأعمال ما أكرهت النفوس عليه.»
ابنة حاتم
اجتاز بعض الأمراء باب حاتم الأصم، فاستسقى ماء فلما شرب رمى إليهم شيئا من المال، ووافقه أصحابه، ففرح أهل الدار سوى بنية صغيرة لحاتم فإنها بكت، فقيل لها: ما يبكيك؟! قالت: مخلوق نظر إلينا نظرة فاستغنينا، فكيف لو نظر إلينا الخالق سبحانه وتعالى؟!
القسم الثالث
في نوادر العظماء
من الوزراء والأمراء والخطباء والقضاة وغيرهم
النوادر الأولى
نوادر الوزراء والأمراء
ابن مقلة والواشي
وشى حاسد بابن مقلة الوزير الكاتب المتفرد في أمانته، وادعى أنه غدر الملك في بعض الأمور، فأمر الملك بقطع يده، فلما فعل به هذا الأمر لزم بيته، وانصرفت عنه الأصدقاء والمحبون، ولم يأته أحد إلى نصف النهار، فتبين للملك أن الكلام عليه باطل، فأمر بقتل الذي وشى بابن مقلة ورده إلى ما كان عليه، فلما رأى إخوانه أن نعمته عادت له عادوا يهنئونه وأقبلوا يعتذرون، فأنشد:
تحالف الناس والزمان
فحيث كان الزمان كانوا
عاداني الدهر نصف يوم
فانكشف الناس لي وبانوا
ومكث يكتب بيده اليسرى بقية عمره.
أبو بكر وأبو العباس بن صارة
اجتمع الوزير أبو بكر وأبو العباس بن صارة في يوم جلاد ذهب برقه، وأذاب ورق ورقه، والأرض قد ضحكت لتعبيس السماء، واهتزت وربت عند نزول الماء؛ فقال ابن صارة:
هذي البسيطة كاعب أبرادها
حلل الربيع وحليها النوار
فقال أبو بكر:
فكأن هذا الجو فيها عاشق
قد شفه التعذيب والأضرار
فقال ابن صارة:
وإذا شكا فالبرق قلب خافق
وإذا بكى فدموعه الأمطار
فقال أبو بكر:
من أجل ذلة ذا وعزة هذه
يبكي الغمام وتضحك الأزهار
الفضل بن مروان وابن فراس الشاعر
كان الفضل بن مروان وزير المعتصم ظالما غاشما متبجحا بالظلم متجبرا متكبرا، وكان المعتصم يقول: الفضل بن مروان أسخط الله وأرضاني؛ فسلطني الله عليه. دخل عليه الهيثم بن فراس الشاعر متظلما من بعض عماله، فصرف وجهه عنه، ولوى عطفه؛ فخرج من عنده وهو ينشد:
تجبرت يا فضل بن مروان فانتظر
فقبلك كان الفضل والفضل والفضل
ثلاثة أملاك مضوا لسبيلهم
أبادهم التغيير والموت والقتل
فإن تك قد أصبحت في الناس ظالما
ستودي كما أودي الثلاثة من قبل
فلما سمع الفضل أبياته قال: ما الذي عنى بقوله؟ فقيل: إنه أراد الفضل بن يحيى، والفضل بن سهل، والفضل بن الربيع. فتغير وجهه، ولم يلبث إلا أياما يسيرة حتى قبض عليه.
جعفر البرمكي وأبو نواس
بنى جعفر بن يحيى البرمكي دارا وتأنق فيها، وانتقل إليها، فدخل عليه أبو نواس مع من دخل إليه من الشعراء لتهنئته، فأنشد:
أدار البلى إن الخشوع لبادي
عليك وإني لم أخنك ودادي
فمعذرة مني إليك بأن ترى
رهينة أرواح وصوت غوادي
ولا أدرأ الضراء عنك بحيلة
فما أنا منها قائل بسعادي
فإن كنت مهجور الفتاة فما رمت
يد الهجر عن قوس المنون فوادي
فإن كنت قد بدلت بؤسا بنعمة
فقد بدلت عيني قذى برقاد
وختمها بقوله:
سلام على الدنيا إذا ما فقدتم
بني برمك من رائحين وغاد
فتطير جعفر لها وأظهر الوجوم، ثم قال: نعيت إلينا أنفسنا يا أبا نواس. فلم تكن إلا مدة يسيرة حتى أوقع بهم الرشيد.
عبد الله بن جعفر والرجل
بينما عبد الله بن جعفر راكب؛ إذ تعرض له رجل في الطريق، فمسك بعنان فرسه، وقال: سألتك بالله أيها الأمير أن تضرب عنقي! فبهت فيه عبد الله، وقال: أمعتوه؟! قال: لا والله. قال: فما الخبر؟ قال: لي خصم ألد قد لزمني وألح وضيق علي وليس لي به طاقة. فقال: ومن خصمك؟! قال: الفقر! فالتفت عبد الله إلى غلامه، وقال: ادفع له ألف دينار. ثم قال له: يا أخا العرب خذها ونحن سائرون، ولكن إذا عاد إليك خصمك متغشما فأتنا متظلما فإنا منصفوك منه إن شاء الله. قال الأعرابي: والله إن معي من جودك ما أدحض به حجة خصمي بقية عمري. ثم أخذ المال وانصرف.
عبد الله بن جعفر ونصيب الشاعر
وقف الناس يوما من الأيام على باب عبد الله بن جعفر الطيار، وكان أرباب الحاجات ينتظرون خروجه، فنهضوا إليه، فما طلب أحد حاجة إلا قضاها له، وكان فيمن حضر نصيب الشاعر، فلما نظر إلى ما يسمع منه تقدم إليه، وقبل يده، وأنشد:
ألفت (نعم) حتى كأنك لم تكن
عرفت من الأشياء شيئا سوى نعم
وعاديت (لا) حتى كأنك لم تكن
سمعت بلا في سالف الدهر والأمم
فقال له عبد الله: ما حاجتك؟ قال: هذه رواحلي توسقها لي. قال: أنخ أنخ. ثم أوسقها له تمرا، وأمر له بعشرة آلاف درهم وثياب، فلما انصرف نصيب قال قائل لعبد الله: يا ابن الطيار أتعطي هذا العطاء كله لمثل هذا العبد الأسود؟! فقال: إن كان أسود؛ فإن شعره لأبيض، وإن كان عبدا فإن ثناءه لحر، وهل أعطيناه إلا رواحل تمضي، وطعاما يفنى، وثيابا تبلى؟! وكان يعتق في غرة كل شهر مائة عبد.
عبد الله بن جعفر وأحد الأنصار
ابتاع عبد الله بن جعفر حائط نخل من رجل أنصاري بمائة ألف درهم، فرأى ابنا له يبكي، فقال له: ما يبكيك؟! قال: كنت أطلب أنا وأبي أن نموت قبل خروج هذا الحائط من أيدينا، ولقد غرست بعض نخله بيدي. فدعا أباه ورد عليه الصلة، وسوغه المال.
علي بن عيسى وأصحابه
لما نكب علي بن عيسى الوزير لم ينظر ببابه أحدا من أصحابه وآله وإخوانه الذين كانوا ملازمين له في حال تصرفه واشتغاله، فلما ردت إليه الوزارة اجتمعوا إليه وعطفوا عليه، وجعل كل منهم يأخذ في السبق للقياه والنظر إلى محياه، فحين رآهم كذلك أنشد:
ما الناس إلا مع الدنيا وصاحبها
فكيفما انقلبت يوما به انقلبوا
يعظمون أخا الدنيا فإن وثبت
عليه يوما بما لا يشتهي وثبوا
لا يحلبون لحي در نعمته
حتى يكون لهم شطر الذي حلبوا
دواء الخمار
سأل حامد بن العباس وزيره علي بن عيسى - وكان في ديوان الوزارة - عن دواء الخمار؛ فأعرض الوزير عن كلامه، وقال: ما أنا وهذه المسأله في مثل هذا المقام؟! فخجل منه حامد، وكان أبو عمه وقاضي القضاة حاضرا، فتحرك ومكن جلوسه، وتنحنح لإصلاح صوته، ووضع كما على كم، ثم قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى:
وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا (الحشر: 7) وقال النبي: «استعينوا على كل صنعة بصالحى أهلها» والأعشى هو إمام هذه الصنعة في الجاهلية، وقد قال:
وكأس شربت على لذة
وأخرى تداويت منها بها
ثم تلاه شاعر العرب مجنون ليلى فقال:
تداويت من ليلى بليلى من الهوى
كما يتداوى شارب الخمر بالخمر
وتبعهما على ذلك أبو فراس فقال:
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء
وداوني بالتي كانت هي الداء
فتهلل وجه حامد لذلك، وقال لعلي بن عيسى: ما منعك يا بارد أن تجيب ببعض ما أجاب به قاضي القضاة؟ وقد استظهر في الجواب بقول الله، ثم بقول رسوله، ثم بكلام العرب، ثم بقول المولدين، وبين الفتوى، وأدى المعنى، وخلص من العهدة؟! فكان خجل علي بن عيسى من حامد أعظم من خجل حامد منه.
الحجاج والأعرابي
انفرد الحجاج يوما عن عسكره فلقي أعرابيا، فقال له: يا وجه العرب، كيف الحجاج؟ فقال: ظالم غاشم. قال: هلا شكوت إلى عبد الملك بن مروان؟! قال: أظلم وأغشم عليهما لعنة الله! فبينما هو كذلك إذ تلاحقت به عساكره، فعلم الأعرابي أنه الحجاج، فقال الأعرابي: أيها الأمير السر الذي بيني وبينك لا يطلع عليه أحد إلا الله. فتبسم الحجاج وأحسن إليه وانصرف.
الحجاج وآكل الحلوى
حضر أعرابي عند الحجاج فقدم الطعام فأكل الناس منه، ثم قدمت الحلوى، فترك الحجاج الأعرابي حتى أكل منها لقمة، ثم قال: من أكل من الحلوى ضربت عنقه، فامتنع الناس من أكلها، وبقي الأعرابي ينظر إلى الحجاج مرة وإلى الحلوى مرة، ثم قال: أيها الأمير، أوصيك بأولادي خيرا! ثم اندفع يأكل، فضحك الحجاج حتى استلقى على قفاه، وأمر له بصلة.
المهلب ومالك بن بشير والحجاج
لما هزم المهلب بن أبي صفرة قطري بن الفجاءة - صاحب الأزارقة - بعث إلى مالك بن بشير فقال له: إني موفدك إلى الحجاج، فسر؛ فإنما هو رجل مثلك! وبعث له بجائزة فردها، وقال: إنما الجائزة بعد الاستحقاق، وتوجه، فلما دخل على الحجاج قال له: ما اسمك؟ قال: مالك بن بشير. قال : ملك وبشارة! كيف تركت المهلب؟ قال: أدرك ما أمل، وأمن من خاف. قال: كيف هو بجنده؟ قال: والد رءوف. قال: فكيف جنده؟ قال: أولاد بررة. قال: كيف رضاهم عنه؟ قال: وسعهم بالفضل وأقنعهم بالعدل. قال: فكيف تصنعون إذا لقيتم عدوكم؟ قال: نلقاهم بجدنا فنطمع فيهم، ويلقوننا بجدهم فيطمعون فينا. قال: كذلك الجد إذا لقي الجد، فما حال قطري؟ قال: كادنا ببعض ما كدناه. قال: فما منعكم من اتباعه؟ قال: رأينا المقام من ورائه خيرا من اتباعه. قال: فأخبرني عن ولد المهلب. قال: أعباء القتال بالليل حماة السرح بالنهار. قال: أيهم أفضل؟ قال: ذلك إلى أبيهم! قال: لتقولن. قال: هم كحلقة لا يعرف طرفاها. قال: أقسمت عليك؛ هل رويت لغيري هذا الكلام؟ قال: ما اطلع عليه غير الله وأنت. فقال الحجاج لجلسائه: فهو والله الكلام المطبوع، لا الكلام المصنوع.
رؤبة وأبو مسلم صاحب الدعوة
قال رؤبة: قدمت على أبي مسلم صاحب الدعوة فناداني: يا رؤبة. فنوديت له من كل مكان: يا رؤبة. فأجبت:
لبيك إذا دعوتني لبيكا
أحمد ربا ساقني إليكا
الحمد والنعمة في يديكا
قال: في يدي الله - عز وجل - قلت: وأنت لما نعمت حمدت. ثم استأذنته في الإنشاد، فأذن لي، فأنشدته:
ما زال يأتي الملك من أقطاره
وعن يمينه وعن يساره
مشمرا لا يصطلي بناره
حتى أقر الملك في قراره
فقال: إنك أتيتنا وقد خف المال واستنفده الإنفاق، وقد أمرنا لك بجائزة، وهي تافهة يسيرة، ومنك العود، وعلينا المعول، والدهر هادئ مستتب، فلا تلق بجنبك إلا شره. قال: فقلت: الذي أفادني الأمير من كلامه أحب إلي من الذي أفادني من ماله.
أبو دهان وسعد بن مسلم
وفد أبو دهان على سعد بن مسلم ووقف ببابه، فحجبه حينا ثم أذن له، فمثل بين يديه وقال: إن هذا الأمر الذي صار إليك وفي يديك قد كان في يدي غيرك فأمسى - والله - حديثا، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، فتحبب إلى عباد الله بحب البشر وتسهيل الحجاب ولين الجانب، فإن حب عباد الله موصول بحب الله، وبغضهم موصول ببغض الله؛ لأنهم شهداء الله على خلقه، ورقباؤه على من اعوج عن سبيله.
ابن حمران وأبو الفضل الجوهري
لما هجم ابن حمران على مصر في أيام المستنصر بالله وأحرق داره بالزيت وتخطف عسكره، اجتمع الناس إلى أبي الفضل الجوهري الواعظ، فشكوا حالهم إليه؛ فكتب إلى المستنصر: «إن كنت خالقا فارحم خلقك، وإن كنت مخلوقا فخف خالقك والسلام»، فرفع ذلك عنهم.
إحسان محمد بن حميد الطويسي إلى عدوه
حكي عن محمد بن حميد الطويسي أنه كان يوما على غذائه وإذا بضجة عظيمة على الباب، فرفع رأسه، وقال لغلمانه: ما هذه الضجة؟! من كان عند الباب فليدخل؟ فخرج الغلام وعاد، وقال: يا مولاي، إن فلانا أخذ وجيء به موثقا بالحديد، والغلمان والشرط ينتظرون أمرك فيه. فرفع يده عن الطعام سرورا بأخذه، فقال رجل ممن حضر عنده: الحمد لله الذي أمكنك من عدوك، فسبب لك أن تسقي الأرض من دمه! وقال آخر: بل يصلب حيا ويعذب حتى يموت! وتكلم كل أحد بما وفق له، وهو ساكت مطرق، ثم رفع رأسه، وقال: يا غلام، فك عنه وثاقه، وادخله إلينا مكرما! فلم يكن بأسرع مما امتثل أمره وأدخل إليه رجلا لا دم فيه، فلما رآه هش له، ورفع مجلسه، وأمر بتجديد الطعام، وجعل يبسطه ويملقه، حتى انتهى الطعام، ثم أمر له بكسوة حسنة، وصلة جميلة، وأمر برده إلى أهله مكرما، ولم يعاتبه بحرف واحد على جفائه، ثم التفت إلى جلسائه، وقال لهم: إن أفضل الأصحاب من حض الصاحب على المكارم، ونهاه عن ارتكاب المآثم، وحسن له أن يجازي الإحسان بضعفه، والإساءه عمن أساء إليه بصفحه، إنا إذا جازينا من أساء إلينا بمثل ما أساء فأين موضع الشكر عما أتيح من الظفر؟! إنه ينبغى لمن يحضر مجالس الملوك أن يمسك إلا عن قول سديد وأمر رشيد؛ فإن ذلك أدوم للنعمة، وأجمع للألفة، إن الله تعالى يقول:
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم (الأحزاب: 70-71).
الحجاج وأحد بني تميم
لما ظفر الحجاج بمحمد بن عبد الرحمن بن الأشعث - وكان قد خرج عليه، وخلع عبد الملك بن مروان - فأمر بضرب أعناق الجند الذين ظفر بهم حتى أتى على رجل من بني تميم، فقال: والله أيها الأمير لئن أسأنا في الأدب لما أحسنت في العقوبة. فقال الحجاج: أف لهذه الجيف! أما كان فيهم من يحسن مثل هذا؟! وأمر بإطلاق من بقي، وعفا عنهم.
أبو دلامة ومروان بن محمد
خرج مروان بن محمد لمحاربة الضحاك الحروري، فلما التقى الجمعان خرج من أصحاب الضحاك فارس فدعا إلى البراز، فقال مروان: من يخرج إليه وله عشرة آلاف درهم؟ فقال أبو دلامة: أنا. وخرج طمعا في الجائزة، فرأى رجلا عظيم الهامة، وعليه فرو قد أصابته السماء فابتل، ولفحته الشمس فيبس حتى صار كالقطة لا يعمل فيها السيف، فلما رآه الفارس جرى إليه وهو يرتجز:
وخارج أخرجه حب الطمع
فر من الموت وفي الموت وقع
من كان يهوى أهله فلا رجع
فخافه أبو دلامة، فلوى جواده هربا، واتخذ من خوفه في الأرض نفقا، كما اتخذ الحوت لنجاته في البحر سربا، فقال مروان: من هذا الفاضح لا أنجاه الله؟ فقال أبو دلامة: فر لا أنجاه الله، خير من قتل ورحمه الله!
عزيز الدين والمهلب
كان المهلب بن شاهين الشاعر عاملا بنهر فروه ونهر رجا لعزيز الدين، فظهرت عليه خيانة، فأشخصه وتوعده، فلما مثل بين يديه قال:
قل للعزيز أدام ربي عزه
وأناله من خيره مكنونه
إني جنيت ولم يزل جبل الورى
يهبون للخدام ما يجنونه
ولقد جمعت من الجنون فنونه
فاجمع من الصفح الجميل فنونه
من كان يرجو عفو من هو فوقه
فليعف عن جرم الذي هو دونه
فعفا عنه وأعاده إلى عمله.
السائل وأحد الأمراء
وفد رجل على بعض الأمراء فسأله حاجة فقضاها، ثم سأله أخرى فقضاها، حتى قضى سبع حاجات، فلما خرج من عنده قيل له: ما فعل بك؟ قال: ما أدري! ثم قال:
لكني أخبركم عنه بنادرة
لم يأتها قبله عرب ولا عجم
قرأ عليه كتابا منه كاتبه
إلى أخ وجبت منه له نعم
حتى إذا ما مضت (لا) في رسالته
قال استمع ثم لا تمض لك الصمم
لا تكتبن بلا فيها إلى أحد
شق الكتاب ومر فليكسر القلم
الحجاج وقتيبة والأسير
أمر الحجاج بقوم ممن خرج عليهم، فأمر بهم فضربت أعناقهم، وأقيمت صلاة المغرب وقد بقي من القوم واحد، فقال لقتيبة بن مسلم: انصرف به معك حتى تغدو به علي. قال قتيبة: فخرجت والرجل معي، فلما كنا ببعض الطريق قال لي: هل لك في خير؟ قلت: وما ذاك؟! قال إني والله ما خرجت على المسلمين ولا استحللت دماءهم، ولكن ابتليت بما ترى، وعندي ودائع وأموال، فهل لك أن تخلي سبيلي وتأذن حتى آتي أهلي وأرد على كل ذي حق حقه، وأوصي، ولك علي أن أرجع حتى أضع يدي في يدك؟! قال قتيبة: فعجبت له، وتضاحكت لقوله، فمضينا هنية ثم أعاد علي القول، وقال: إني أعاهد الله لك على أن أعود إليك. قال قتيبة: فوالله ما ملكت نفسي حتى قلت له: اذهب. فلما توارى عني شخصه أسقط في يدي، فقلت: ماذا صنعت بنفسي؟! وأتيت أهلي مهموما مغموما، فسألوني عن شأني فأخبرتهم، فقالوا: لقد اجترأت على الحجاج، فبتنا بأطول ليلة، فلما كان عند أذان الغداة إذا بالباب يطرق، فخرجت فإذا أنا بالرجل، فقلت: أرجعت؟! قال: سبحان الله! جعلت لك عهد الله علي فأخونك ولا أرجع؟! فقلت: أما والله إن استطعت لأنفعنك، وانطلقت به حتى أجلسته على باب الحجاج، ودخلت، فلما رآني، قال: يا قتيبة أين أسيرك؟ قلت: أصلح الله الأمير، بالباب، وقد اتفق لي معه قصة عجيبة، قال: ما هي؟ فحدثته الحديث، فأذن له فدخل، ثم قال: يا قتيبة، أتحب أن أهبه لك؟ قلت: نعم. قال: هو لك، فانصرف به معك. فلما خرجت به، قلت له: خذ أي طريق شئت، فرفع طرفه إلى السماء، وقال: لك الحمد يا رب. وما كلمني بكلمة ولا قال لي: أحسنت، ولا أسأت! فقلت في نفسي: مجنون والله! فلما كان بعد ثلاثة أيام جاءني، وقال لي: جزاك الله خيرا، أما والله ما ذهب عني ما صنعت، ولكن كرهت أن أشرك مع حمد الله حمد أحد.
أبو العيناء وعيسى بن فرخان
كان عيسى بن فرخان شاه يفد على أبي العيناء في حال وزارته، فلما انصرف عنها لقي أبا العيناء في بعض الطرق فسلم عليه سلاما خفيفا، فقال أبو العيناء لغلامه: من هذا؟ قال: أبو موسى. فدنا منه حتى أخذ بعنان بغلته، وقال: لقد كنت أقنع بإيمائك دون بيانك، وبلحظك دون لفظك، فالحمد لله على ما آلت إليه حالك، فلئن كانت أخطأت فيك النعمة لقد أصابت فيك النقمة، ولئن كانت الدنيا أبدت قبائحها بالإقبال عليك لقد أظهرت محاسنها بالإدبار عنك، ولله المنة إذ أغنانا عن الكذب عليك، ونزهنا عن قول الزور فيك، فقد والله أسأت حمل النعمة، وما شكرت حق المنعم. ثم أطلق يده من عنانه، ورجع إلى مكانه، فقيل له: يا أبا عبد الله، لقد بالغت في السب، فما كان الذنب؟! فقال: سألته حاجة أقل من قيمته فردني عنها بأقبح من خلقته.
خرقاء وسعد بن أبي وقاص
لما نزل سعد بن أبى وقاص بالقادسية أميرا عليها، وهزمت الفرس، وقتل رستم أتت خرقاء بنت النعمان بن المنذر في جماعة من قومها وجواريها وهن في زيها، عليهن المسوح والمقطعات السود، مترهبات تطلب صلته، فلما وقفن بين يديه أنكرهن سعد، فقال: أيكن خرقاء؟ قالت: ها أنا ذا. قال: أنت خرقاء؟ قالت: نعم، فما تكرارك في استفهامي؟! ثم قالت: إن الدنيا دار زوال لا تدوم على أهلها انتقالا، وتعقبهم بعد حال حالا، كنا ملوك هذا المصر يجيء لنا خراجه، ويطيعنا أهله مدى الإمرة وزمان الدولة، فلما أدبر الأمر صاح بنا صائح الدهر؛ فشق عصانا، وشتت شملنا، وكذلك الدهر يا سعد؛ إنه ليس يأتي قوما بمسرة إلا ويعقبهم بحسرة، ثم أنشأت تقول:
وبينا نسوس الناس والأمر أمرنا
إذا نحن فيهم سوقة ليس نعرف
فأف لدنيا لا يدوم نعيمها
تقلب تارات بنا وتصرف
فقال سعد: قاتل الله عدي بن زيد، كأنه ينظر إليها حيث يقول:
إن للدهر صولة فاحذرنها
لا تبيتن قد أمنت الدهورا
قد يبيت الفتى معافى فيرزا
ولقد كان آمنا مسرورا
فبينما هي واقفة بين يدي سعد؛ إذ دخل عمرو بن معدي كرب، وكان زوارا لأبيها في الجاهلية، فلما نظر إليها قال: أنت خرقاء؟ قالت: نعم. قال: فما دهمك، فأذهب بجودات شيمك؟ أين تتابع نعمتك وسطوة نقمتك؟ فقالت: يا عمرو، إن الدهر عثرات وعبرات تعثر بالملوك وأبنائهم فتفضحهم بعد رفعة، وتفردهم بعد منعة، وتذلهم بعد عز، إن هذا الأمر كنا ننتظره، فلما حل بنا لم ننكره. فأكرمها سعد وأحسن جائزتها، فلما أرادت فراقه قالت: حي أختك بتحيات ملوكنا، لا نزع الله من عبد صالح نعمة إلا جعلك سببا لردها عليه. ثم خرجت من عنده، فلقيها نساء المدينة فقلن لها: ما فعل بك الأمير؟ قالت: أكرم وجهي، وإنما يكرم الكريم كريم.
المتنبي وسيف الدولة
كان المتنبي يأبى شرب الخمر ويكرهه، فألزمه سيف الدولة بن حمدان، فشرب ذات ليلة عنده، فصدرت منه هفوة، وندم لوقته، فقام وانصرف، وبقي لا يحضر مجلسه، فأكثر في طلبه حتى حضر، فأمره بالشرب فامتنع، وأقسم أنه لا يشرب أبدا خمرا، وأنشد يقول:
رأيت المدامة قلابة
تهيج للمرء أشواقه
تسيء من المرء تأديبه
ولكن تحسن أخلاقه
وبالأمس مت بها موتة
وهل يشتهي الموت من ذاقه؟!
أهل الحجاز والحجاج
مرض الحجاج مرضا شديدا، فأرجف أهل الحجاز بموته، فخرج مندملا من مرضه حتى صعد ذروة المنبر فقال: ألا إن أهل السواق أهل الشقاق والنفاق نفخ الشيطان في عناصرهم، فقالوا: مات الحجاج! وما مات الحجاج، وإن مت فإني والله ما أحب إلا الموت، وهل أرجو الخير كله إلا بعد الموت؟! وما رأيت الله - علا ذكره وتقدست أسماؤه - رضي بالتخليد لأحد من خلقه إلا لأخسهم وأهونهم عليه؛ إبليس، ولقد سأل العبد الصالح ربه، فقال: هب لي ملكا لا يبقى لأحد من بعدي. ففعل، ثم اضمحل كأنه لم يكن، يا أيها الرجل - وكلكم ذلك الرجل - والله كأني بي وبكم قد صار كل حي منا ميتا، وكل رطب يابسا، ونقل كل امرئ في ثياب طاهرة إلى أربع أذرع طولا في ذراعين عرضا، وأكلت الأرض شعره، ومصت دمه، ورجع الحبيبان: أهله وولده يقتسمان من ماله، ألا إن الذين يعلمون ما أقول حقا. ثم نزل.
الكردي والأمير
حضر بعض مقدمي الأكراد على سماط أمير، وكان على السماط حجلتان مشويتان، فنظر الكردي إليهما وضحك، فسأله الأمير عن ذلك، فقال: قطعت الطريق في عنفوان شبابي على تاجر، فلما أردت قتله تضرع فما أفاد تضرعه، فلما رأى أني قاتله لا محالة التفت إلى حجلتين كانتا في الجبل، فقال: اشهدا عليه أنه قاتلي. فلما رأيت هاتين الحجلتين تذكرت حمقه! فقال الأمير: قد شهدتا! ثم أمر الأمير بضرب عنقه.
النوادر الثانية
نوادر الخطباء
خطبة عبد الله بن الزبير بعد قتل مصعب
لما بلغ عبد الله بن الزبير قتل مصعب صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم سكت، فجعل لونه يحمر تارة ثم يصفر أخرى، فقال رجل من قريش لرجل إلى جانبه: ما له لا يتكلم، فوالله إنه لبيب الخطباء؟! قال: لعله يريد أن يذكر مقتل سيد العرب فيشتد عليه ذلك؛ وغير ملوم. ثم تكلم فقال: «الحمد لله، له الخلق والأمر، والدنيا والآخرة، تؤتي الملك من تشاء، وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء، وتذل من تشاء.
أما بعد: فإنه لم يعز الله من كان الباطل معه، وإن كان معه الأنام طرا، ولم يذل من كان الحق معه، وإن كان بائسا حقيرا، ألا وإن خزان العراق أتانا فأحزننا وأفرحنا؛ فأما الذي أحزننا فإن لفراق الحميم لوعة غير أن دعوى ذوي الألباب إلى الصبر وكريم العزاء، وأما الذي أفرحنا: فإن قتل المصعب له شهادة ولنا ذخيرة، أسلمه النعام المعالم، ألا وإن أهل العراق باعوه بأقل من الثمن الذي كانوا يأخذونه منه، فإن يقتل فقد قتل أخوه وأبوه وابن عمه وكانوا الخيار الصالحين، إنا والله لا نموت خنقا ولكن قصفا بالرماح، وموتا تحت ظلال السيوف، وليس كما يموت ابن مروان، ألا وإنما الدنيا رية من الملك الأعلى الذي لا يبيد ذكره ولا يذل سلطانه، فإن تقبل الدنيا علي لم آخذها أخذ الأشر البطر، وإن تدبر عني لم أبك عليها بكاء الخرق المهين»، ثم نزل.
خطبة عتبة بن أبي سفيان
صعد عتبة بن أبي سفيان المنبر فقال: «يا أهل مصر، قد كنتم تعذرون لبعض المنع منكم ببعض الجور عليكم، فقد وليكم من يقول ويفعل ويفعل ويقول، فإن رددتم ردكم بيده، وإن استصعبتم ردكم بسيفه، ثم رجا في الأمر ما أمل في الأول أن البقية متابعة، قلنا: عليكم السمع والطاعة، ولكم علينا العدل، فأينا غدر فلا ذمة له عند صاحبه، والله ما انطلقت به ألسنتنا حتى عقدت عليها قلوبنا، ولا طلبناها منكم حتى بذلناها لكم ناجزا يناجز، ومن حذركن بشر» قال: فنادوه: سمعا وطاعة. فنادهم: عدلا عدلا.
خطبة جعفر بن محمد
خطب جعفر بن محمد فقال: «أوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله، ولزوم طاعته، وتقويم العمل، وترك الأمل، فإنه من فرط في عمله لم ينتفع بشيء من أمله، أين التعب بالليل والنهار؟ والمقتحم بلجج البحار ومفاوز القفار يسير من وراء الجبال وعالج الرمال، يصل الغدو بالرواح والمساء بالصباح في طلب محقرات الرياح هجمت عليه منيته، فعظمت بنفسه رزيئته، فصار ما جمع بورا، وما اكتسب غرورا، ووافى القيامة محسورا، أيها اللاهي الفائز بنفسه، كأني بك وقد أتاك رسول ربك لا يقرع لك بابا، ولا يهاب لك حجابا، ولا يقبل منك بديلا، ولا يأخذ عنك كفيلا، ولا يرحم لك صغيرا، ولا يوقر فيك كبيرا، حتى يؤديك إلى قعر مظلمة أرجاؤها موحشة كفعلة الأمم الخالية والقرون الماضية، أين من سعى واجتهد، وجهز وعد، وبنى وشيد، وزخرف؟ ونجد بالقليل لم يقنع، وبالكثير لم يمنع، أين من قاد الجنود، ونشر البنود؟ أضحوا رفاتا تحت الثرى أمواتا، وأنتم بكأسهم شاربون، ولسبيلهم سالكون، عباد الله، فاتقوا الله، وراقبوه، واعملوا لليوم الذي تسير منه الجبال، وتشقق السماء بالغمام، وتتطاير الكتب عن اليمين والشمال ، فأي رجل يومئذ قال: هاؤم اقرءوا كتابيه؟ أم يا ليتني لم أؤت كتابيه؟ نسأل من وعدنا بإقامة الشرائع في جنته أن يقينا سخطه، إنما أحسن الحديث وأبلغ الموعظة كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.»
علي بن أبي طالب
قال الإمام علي بن أبي طالب: «أعجب ما في الإنسان قلبه، وله موارد من الحكمة وأضداد من خلافها، فإن سنح له الرجاء أذله الطمع، وإن هاجه الطمع أهلكه الحرص، وإن ملكه اليأس قتله الأسف، وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ، وإن أسعد بالرضا نسي التحفظ، وإن أتاه الخوف شغله الحذر، وإن اتسع له الأمن استقبله العز، وإن أصابته مصيبة فضحه الجزع، وإن استفاد مالا أطغاه الغنى، وإن عضته فاقة بلغ به البلاء، وإن جهد به الجوع قعد به الضعف، وإن أفرط في الشبع كظته البطنة، فكل تقصير به مضر، وكل إفراط له قاتل.
قس بن ساعدة والرجل
قال أحدهم: بينا أنا بجبل يقال له: سمعان، في يوم شديد الحر إذا أنا بقس بن ساعدة خطيب العرب أمام قبرين بينهما مسجد، فقلت له: ما هذان القبران؟ فقال: هذان قبرا أخوين كانا لي فماتا، فاتخذت بينهما مسجدا أعبد الله - جل وعز - فيه حتى ألحق بهما. ثم ذكر أيامهما فبكى، وأنشد:
خليلي هبا طالما قد رقدتما
أجدا كما لا تقضيان كراكما
ألم تعلما ما لي براوند هذه
ولا بخراق من نديم سواكما
مقيم على قبريكما لست بارحا
طوال الليالي أو يجيب صداكما
جرى الموت مجرى اللحم والعظم منكما
كأن الذي يسقي العقار سقاكما
أناديكما كيما تجيبا وتنطقا
وليس مجابا صوته من دعاكما
أمن طول نوم لا تجيبان داعيا
خليلي ما هذا الذي قد دهاكما
قضيت بأني لا محالة هالك
وأني سيعروني الذي قد عراكما
سأبكيكما طول الحياة وما الذي
يرد على ذي عولة أن بكاكما
ثابت قطنة الخطيب
قال محمد بن يزيد: كان ثابت قطنة قد ولي عملا من أعمال خراسان، فلما صعد المنبر يوم الجمعة رام الكلام فتعذر عليه، فقال: سيجعل الله بعد عسر يسرا، وبعد عي بيانا، وأنتم إلى أمير فعال أحوج منكم إلى أمير قوال، ثم أشهر الحسام وأنشد:
وإن لم أقف فيكم خطيبا فإنني
بسيفي إذا جد الوغى لخطيب
فبلغت كلماته خالد بن صفوان، فقال: والله ما علا ذلك المنبر أخطب منه.
الإمام علي والمسترشد
سأل رجل الإمام علي بن أبي طالب أن يعظه؛ فقال: لا تكن ممن يرجو الآخرة بلا عمل، ويرجو التوبة بطول الأمل، يقول في الدنيا بقول الزاهدين، ويعمل فيها بقول الراغبين، إن أعطى منها لم يشبع، وإن منع لم يقنع، ينهي ولا ينتهي، ويأمر بما لا يأتي، يحب الصالحين ولا يعمل عملهم، ويبغض المذنبين وهو أحدهم، ويكره الموت؛ لكثرة ذنوبه، إن سقم ظل نادما، وإن صح أمن لاهيا، يعجب بنفسه إذا عوفي، ويقنط إذا ابتلي، إن أصابه بلاء دعا مضطرا، وإن ناله رخاء أعرض مغترا، تغلبه نفسه على ما يظن، ولا يغلبها على ما يستيقن، يخاف على غيره بأدنى من ذنبه، ويرجو لنفسه بأكثر من عمله، إن استغنى بطر وفتن، وإن افتقر قنط ووهن، يقصر إذا عمل، ويبالغ إذا سأل، يصف العبر ولا يعتبر، ويبالغ في الموعظة ولا يتعظ، فهو بالقول مدل، ومن العمل مقل، ينافس فيما يفنى، ويسامح فيما يبقى، يرى الغنم مغرما والغرم مغنما، يخشى الموت ولا يبادر الفوت، يستعظم من معصية غيره ما يستقل أكثر منه من نفسه، يستكثر من طاعته ما يحتقره من طاعة غيره، فهو عن الناس طاعن ولنفسه مداهن، اللهو مع الأغنياء أحب إليه من الذكر مع الفقراء، يحكم على غيره لنفسه ولا يحكم عليها لغيره، فهو يطاع ويعصي ويستوفي ولا يوفي، ويخشى الخلق في غير ربه، ولا يخشى ربه في خلقه.
أبو الدرداء وأهل الشام
لما دخل أبو الدرداء الشام قال: يا أهل الشام، اسمعوا قول أخ لكم ناصح. فاجتمعوا عليه، فقال: ما لي أراكم تبنون ما لا تسكنون؟ وتجمعون ما لا تأكلون؟ إن الذين كانوا قبلكم بنوا شديدا ، وأملوا بعيدا، وجمعوا كثيرا، فأصبح أملهم غرورا، وجمعهم بورا، ومساكنهم قبورا.
خطبة أبي العباس السفاح
ارتج على أبي العباس السفاح؛ فنزل ثم صعد، وقال: أيها الناس، إن اللسان بضعة من الإنسان؛ يكل لكلاله، ويرتجل لارتجاله، ونحن أمراء الكلام، بنا تفرعت فروعه، وعلينا تهدلت غصونه، وإنا لا نتكلم هدرا، ولا نسكت حصرا، بل نسكت معتبرين، وننطق مرشدين.
قتيبة بن مسلم والرجل
خطب قتيبة بن مسلم على منبر خراسان عندما قدمها واليا فسقطت العصا من يده؛ فتطير من ذلك، فقام بعض الأعراب فمسحها وناوله إياها، وقال: أيها الأمير، ليس كما ظن العدو وأساء الصديق، ولكنه كما قال الشاعر:
فألقت عصاها واستقر بها النوى
كما قر عينا بالإياب المسافر
خطبة الإمام علي بن أبي طالب
قال الإمام على: «من حلم ساد، ومن ساد استفاد، ومن استحيا قتل، ومن احتفر لأخيه بئرا وقع فيها، ومن نسي زلته استعظم ذله، ومن هاب خاب، ومن طلب للرئاسة صبر على السياسة، ومن أبصر عيب نفسه غفر عن عيب غيره، ومن سل سيف البغي قتل به، ومن هتك حجاب غيره انهتكت عورات بيته، ومن كابر في الأمور عطب، ومن اقتحم اللجج غرق، ومن أعجب برأيه ضل، ومن استغنى بعقله زل، ومن تجبر على الناس ذل، ومن تعمق في العمل كل، ومن صاحب الأنذال حقر، ومن جالس العلماء وقر، ومن دخل مداخل السوء اتهم، ومن حسن خلقه سهلت له طرقه، ومن حسن مكرمه كانت الهيبة أمامه، ومن خشي الله فاز، ومن استعان بالجهل ترك طريق العدل، ومن عرف أجله قصر أمله، ثم أنشد يقول:
ألبس أخاك على عيوبه
واستر وعظه على ذنوبه
واصبر على بهت السفي
ه وللزمان على خطوبه
ودع الجواب تفاضلا
وكل الظلوم إلى حسيبه
النوادر الثالثة
نوادر القضاة
مرزبان والخراساني والقاضي
باع رجل من خراسان جمالا إلى مرزبان المجوسي وكيل جعفر بثلاثين ألف درهم، فمطله بثمنها وعوقه عن سفره؛ فطال ذلك على الرجل فأتى إلى بعض أصحابه وشاوره؛ كيف يعمل؟ فقال: اذهب إلى مرزبان، وقل له : أعطني ألف درهم، وأحل عليك بالمال الباقي، وأسافر إلى خراسان، فإذا فعل فعرفني حتى أشير عليك. ففعل الرجل وأتى إلى مرزبان، فأعطاه ألف درهم فرجع إلى الرجل فأخبره، فقال له: عد إليه، وقل له: إذا ركبت غدا فاجعل طريقك على القاضي حتى أوكل رجلا يقبض المال منك في دفعات، وأروح أنا إلى خراسان، فإذا جاء وجلس إلى القاضي فادع بمالك كله، فإذا أقر حبسه القاضي وأخذت مالك منه، فرجع الخراساني إلى مرزبان وسأله ذلك؛ فأجابه، فقال: انتظرني غدا بباب القاضي، فلما ركب من الغد قام إليه الرجل، وقال: إن رأيت أن تنزل إلى القاضي حتى أوكل بقبض المال وأروح؟
فنزل مرزبان فتقدما إلى القاضي، وكان حفض بن غياث، فقال الرجل: أصلح الله القاضي، لي على هذا تسعة وعشرون ألف درهم. وادعى عليه، فقال له حفص: ما تقول يا مجوسي؟ قال: صدق، أصلح الله القاضي. قال: قد أقر لك. قال: يعطيني مالي وإلا الحبس. فقال المرزبان: يا مجوسي ما تقول؟ قال: هذا المال مع السيدة أم جعفر. قال له: يا أحمق، تعد ثم تقول هذا على السيدة! ما تقول يا رجل؟! قال: إن أعطاني مالي وإلا حبسته. فقال حفص: يا مجوسي ما تقول؟ قال: المال على السيدة. قال حفص: خذوا بيده إلى الحبس. فلما حبس بلغ الخبر به إلى أم جعفر؛ فغضبت، وبعثت إلى السندي، وقالت: وجه بمرزبان إلي وعجل. فأسرع السندي، فأخرجه من الحبس، وبلغ الخبر إلى حفص أن مرزبان قد أخرج، فقال: أحبس أنا ويخرج السندي؟! والله لا جلست للقضاء أو يرد مرزبان إلى الحبس. وغلق باب بيته، فسمع السندي ذلك فجاء إلى السيدة أم جعفر، فقال: الله الله في! فإن حفصا ممن لا تأخذه في الله لومة لائم، وأخاف من أمير المؤمنين الرشيد يقول لي: بأمر من أخرجته؟ رديه إلى الحبس وأنا أكلم حفصا فيه. فأجابته، وردته إلى الحبس، وقالت أم جعفر للرشيد: قاضيك هذا أحمق حبس وكيلي، واستخف به، اكتب إليه ومره لا ينظر في الحكم، فأمر لها بالكتاب، وبلغ حفصا ذلك، فقال للرجل: أحضر لي شهودا لأسجل لك على المجوسي بالمال. وجلس حفص وسجل على المجوسي، فجاء خادم السيدة ومعه كتاب الرشيد، فقال: هذا كتاب أمير المؤمنين. فقال: اسمع ما يقال لك. فلما فرغ حفص من السجل أخذ الكتاب من الخادم وقرأه، وقال: اقرأ على أمير المؤمنين السلام، وأخبره أن كتابه ورد وقرأته، وقد أنفذت الحكم عليه، فقال الخادم: قد عرفت والله ما صنعت؛ أبيت أن تأخذ كتاب أمير المؤمنين حتى تفرغ مما تريد، والله لأخبرت أمير المؤمنين بما فعلت. فقال له حفص: قل له ما أحببت، فجاء الخادم وأخبر هارون الرشيد بذلك، فضحك وقال للحاجب: مر لحفص بن غياث بثلاثين ألف درهم. فركب يحيى بن خالد فاستقبل حفصا منصرفا عن مجلس الحكم، فقال: أيها القاضي، قد سررت أمير المؤمنين اليوم، وقد أمر لك بثلاثين ألف درهم، فما كان السبب في هذا؟! فقال حفص: تمم الله سرور أمير المؤمنين وأحسن حفظه وكلاءته، ما زدت على ما أفعل كل يوم. قال: ومع ذلك؟ قال: لا أعلم أني سجلت على مرزبان المجوسي بمال وجب عليه. فقال يحيى: فمن هذا سر أمير المؤمنين. قال حفص: الحمد لله كثيرا، من أقام بحقوق الشريعة ألبسه الله رداء المهابة.
ابن عيسى الوزير والقاضي أبو عمرو
كان أبو الحسن علي بن عيسى الوزير يحب أن يبين فضله على كل أحد، فدخل عليه القاضي أبو عمرو في أيام وزارته وعلى القاضي قميص جديد فاخر غالي الثمن، فأراد الوزير أن يخجله؛ فقال: يا أبا عمرو، بكم اشتريت شقة هذا القميص؟ قال: بمائة دينار. فقال أبو الحسن: أنا اشتريت شقة قميصي هذا بعشرين دينارا. فقال أبو عمرو: إن الوزير أعزه الله تعالى يجمل الثياب فلا يحتاج إلى المبالغة فيها، ونحن نتجمل بالثياب فنحتاج إلى المبالغة فيها؛ لأننا نلابس العوام، والوزير أعزه الله تعالى يخدمه الخواص، ويعلمون أن تركه ذلك لمثلي إنما هو عن قدرة.
الأزدي ومحمد بن داود والجارية
قال القاضي أبو عمر محمد بن يوسف الأزدي: كنت أساير أبا بكر محمد بن داود الإمام الأصفهاني ببغداد، وإذا بجارية تغني من شعره هذه الأبيات:
أشكو عليل فؤاد أنت متلفه
شكوى عليل إلى ألف يعلله
سقى يزيد على الأيام كثرته
وأنت في عظم ما ألقى تقلله
الله حرم قتلي في الهوى سفها
وأنت يا قاتلي ظلما تحلله
فقال محمد بن داود: كيف السبيل إلى استرجاع هذا؟ فقلت: هيهات! سارت به الركبان.
النوادر الرابعة
متفرقات من نوادر العظماء
أبو جعفر البغدادي وأبو عيسى
قال أبو جعفر البغدادي: خرجت يوما إلى المسجد الجامع ومعي قرطاس؛ لأكتب فيه بعض ما أستفيده من العلماء، فمررت بباب أبي عيسى بن المتوكل، فإذا ببابه المشدود - وكان من أحذق الناس بالغناء - فقال: أين تريد يا أبا عكرمة؟ قلت: المسجد الجامع لعلي أستفيد فيه حكمة أكتبها. فقال: ادخل بنا على أبي عيسى. فقلت له: مثل أبي عيسى في قدره وجلالته يدخل عليه بغير إذن؟! فقال للحاجب: أعلم الأمير بمكان أبي عكرمة.
قال: فما لبث إلا ساعة حتى خرج الغلمان فحملوني حملا، فدخلت إلى دار لا والله ما رأيت أحسن منها بناء، ولا أظرف فرشا، ولا صباحة وجوه، فحين دخلنا نظرت إلى أبي عيسى، فلما أبصرني قال لي: يا بغيض، متى تحتشم؟ اجلس. فجلست، قال: ما هذا القرطاس بيدك؟ قلت: يا سيدي، حملته لأستفيد منه شيئا، وأرجو أن أدرك حاجتي في هذا المجلس. فمكثنا حينا ثم أتينا بالطعام، ما رأيت أكثر منه ولا أحسن، فأكلنا، وحانت مني التفاتة، فإذا أنا بزنين ودبيس - وهما من أحذق الناس بالغناء - فقلت: هذا المجلس قد جمع الله فيه كل شيء مليح، ثم رفع الطعام وجيء بالشراب، وقامت جارية تسقينا شرابا ما رأيت أحسن منه، في كل كأس لا أقدر على وصفها، فقلت: أعزك الله ما أشبه هذا بقول إبراهيم بن المهدي يصف جارية بيدها خمر:
حمراء صافية في جوف صافية
يسعى بها نحونا خود من الحور
حسناء تحمل حسناوين في يدها
صاف من الراح في صافي القوارير
وقد جلس المشدود وزنين ودبيس ولم يكن في ذلك الزمان أحذق من هؤلاء الثلاثة بالغناء، فابتدأ المشدود فغنى:
لما استقل بأرداف تجاذبه
واخضر فوق حجاب الدر شاربه
وأشرق الورد في نسرين وجنته
واهتز أعلاه وارتجت حقائبه
كلمته بجفون غير ناطقة
فكان من رده ما قال حاجبه
ثم سكت فغنى زنين:
الحب حلو أمرته عواقبه
وصاحب الحب صب القلب ذائبه
أستودع الله من بالطرف ودعني
يوم الفراق ودمع العين ساكبه
ثم انصرفت وداعي الشوق يهتف بي:
ارفق بقلبك قد عزت مطالبه
وقال:
وعاتبته دهرا فلما رأيته
إذ ازداد ذلا جانبي عز جانبه
عقدت له في الصدر مني مودة
وخليت عنه مبهما لا أعاتبه
ثم سكت فغنى دبيس:
بدر من الأنس حفته كواكبه
قد لاح عارضه واخضر شاربه
عاطيته كدم الأوداج صافية
فقام يشدو وقد مالت جوانبه
قالت: فعجبت كيف أنهم غنوا بلحن واحد وقافية واحدة؟! قال أبو عيسى: يعجبك من هذا شيء يا أبا عكرمة؟ فقلت: يا سيدي، المنى دون هذا. ثم إن القوم غنوا على هذا إلى انقضاء المجلس.
عبد الله بن طاهر وابن خليد
لما ولي عبد الله بن طاهر خراسان بعد موت أبيه من قبل الواثق دخل عليه عبد الله بن خليد بن سعد المعروف بأبي العميل بقصيدة يمدحه فيها ويهنئه بالولاية فقال:
يا من يؤمل أن تكون خصاله
كخصال عبد الله أنصت واسمع
اصدق وعف وبر وانصف واحتمل
واكفف وكاف ودار واحلم واشجع
والطف ولن واشتد وأرفق واتئد
واحزم وجد وحام واحمل وادفع
فلقد نصحتك إن قبلت نصيحتي
وهديت للنهج الأسد المهيع
حسانة النميرية وعبد الرحمن بن الحكم
وفدت حسانة النميرية بنت أبي الحسين الشاعر الأندلسي على عبد الرحمن بن الحكم متشكية من عامله جابر بن لبيد والي إلبيرة، وكان الحكم قد وقع لها بخط يده تحرير أملاكها، فلم يفدها، فدخلت إلى الإمام عبد الرحمن فأقامت بفنائه وتلطفت مع بعض نسائه حتى أوصلها إليه وهو في حال طرب وسرور، فانتسبت إليه فعرفها وعرف أباها، ثم أنشدت:
إلى ذي الندى والمجد سارت ركائبي
على إبل تصلى بنار الهواجر
ليجبر صدعي أنه خير جابر
ويمنعني من ذا المظالم جابر
فإني وأيتامي بقبضة كفه
كذي الريش أضحى في مخالب كاسر
جدير لمثلي أن يقال بسرعة
بموت أبي العاص الذي كان ناصري
سقاه الحيا لو كان حيا لما اعتدى
علي زمان باطش بطش قادر
أيمحو الذي خطته يمناه جابر
لقد سام بالأملاك إحدى الكبائر
ولما فرغت رفعت إليه خط والده وحكت جميع أمرها، فرق لها، وأخذ خط أبيه فقبله، ووضعه على عينيه، وقال: تعدى ابن لبيد طوره؛ حتى رام نقض رأي الحكم، وحسبنا أن نسلك سبيله بعده، ونحفظ بعد موته عهده، انصرفي فقد عزلته لك. ووقع لها بمثل توقيع أبيه الحكم؛ فقبلت يده، وأمر لها بجائزة، فانصرفت.
كافور وأبو إسحاق والفضل بن عباس
جلس أبو إسحاق عند كافور الإخشيدي، فدخل عليه أبو الفضل بن عباس فقال: أدام الله أيام مولانا (وكسر ميم أيام) فتبسم كافور إلى أبي إسحاق، ففطن لذلك وقال بديها:
لا غرو أن لحن الداعي لسيدنا
وغص من دهش بالريق أو بهر
فمثل سيدنا حالت مهابته
بين الأديب وبين الفتح بالحصر
وإن يكن خفض الأيام عن غلط
في موضع النصب لا عن قلة البصر
فإن أيامه خفض بلا نصب
وإن دولته صفو بلا كدر
فاستحسن قوله وأحسن إليهم.
فضل الحبر والمداد
كتب إبراهيم بن العباس كتابا؛ فأراد محو حرف، فلم يجد منديلا، فمحاه بكفه، فقيل له في ذلك، فقال: المال فرع، والعلم أصل، وإنما بلغنا هذه الحال وحصلنا على هذه الأموال بهذا العلم والمداد، ثم أنشد:
إذا ما الفكر أضمر حسن لفظ
وأداه الضمير إلى العيان
ووشاه ونمنمه مسد
فصيح بالمقال وباللسان
رأيت حلى البيان منورات
تضاحك بينها صور المعاني
الأحنف والرجل
سمع الأحنف بن قيس رجلا يقول: العلم في الصغر كالنقش في الحجر. فقال الأحنف: الكبير أكثر عقلا، ولكنه أشغل قلبا.
الشعبي والأعربيان والعلم
قال الشعبى: العلم ثلاثة أشبار، من نال منه شبرا شمخ بأنفه وظن أنه ناله، ومن نال الشبر الثاني صغرت إليه نفسه وعلم أنه لم ينله، وأما من نال الشبر الثالث فهيهات لا يناله أحد أبدا، ومما أنذرك به في حالي أني صنعت في البيوع كتابا، جمعت فيه ما استطعت من كتب الناس، وأجهدت فيه نفسي، وكددت فيه خاطري، حتى إذا تهذب واستكمل، وكدت أعجب به، وتصورت أنني أشد الناس اضطلاعا بعلمه، حضرني وأنا في مجلس أعرابيان، فسألاني عن بيع عقداه في البادية على شروط تضمنت أربع مسائل لم أعرف لواحدة منها جوابا، فأطرقت وبحالي وحالها معتبرا، فقالا: ما عندك فيما سألناك جواب وأنت زعيم هذه الجماعة؟! فقلت: لا. فقالا: واها لك! وانصرفا، ثم أتيا من يتقدمه في العلم كثير من أصحابي، فسألاه فأجابهما مسرعا بما أقنعهما، وانصرفا عنه راضيين بجوابه حامدين العلم، فبقيت مرتبكا وبأمري معتبرا، وإني لعلى ما كنت عليه من المسائل إلى وقتي هذا، فكان ذلك زاجر نصيحة ونذير عظة، تذلل بها قياد النفس، وانخفض لها جناح العجب توفيقا منحته ورشدا أوتيته.
حكمة مالك بن دينار
قيل لمالك بن دينار: ادع الله لفلان المحبوس. فقال: مثل محبوسك مثل شاة غدت إلى عجين فقير فأكلته فأتخمت، فصاحبها يقول: اللهم سلمها. وصاحب العجين يقول: اللهم أهلكها! ولا ينفع دعاء صاحبها مع دعاء المظلوم، فقولوا لصاحبكم يرد إلى كل ذي حق حقه؛ فإنه لا يحتاج إلى دعائي حينئذ.
أبو أيوب وعبد الله بن الأعرابي
قال أحمد بن عمران: كنا عند أبي أيوب أحمد بن محمد بن شجاع يوما في منزله، فبعث غلاما من غلمانه إلى أبي عبد الله بن الأعرابي، وسأله المجيء إليه، فعاد الغلام، فقال: قد سألته، فقال: «عندي قوم من الأعراب، فإذا قضيت وطري منهم أتيت»، قال الغلام: وما رأيت عنده أحدا إلا أن بين يديه كتبا ينظر فيها؛ فينظر في هذا مرة وفي هذا مرة! ثم ما شعرنا حتى جاء، فقال له أبو أيوب: يا أبا عبد الله، سبحان الله العظيم! تخلفت وحرمتنا الأنس بك، ولقد قال لي الغلام: إنه ما رأى عندك أحدا، وقد قلت له: أنا مع قوم من الأعراب إذا قضيت إربي منهم أتيت، فقال:
لنا جلساء ما يمل حديثهم
ألباء مأمونون غيبا ومشهدا
يفيدوننا من علمهم علم من مضى
وعقلا وتأديبا ورأيا مفردا
فإن قلت أموات فما أنت كاذب
وإن قلت أحياء فلست مفندا
نباهة وال
أحضر عند بعض الولاة رجلان اتهما بسرقة، فأقامها بين يديه ثم دعا بشربة ماء، فجيء بكوز، فقال لهما: ضعا يديكما عليه. فمد أحدهما فارتاع، وثبت الآخر، فقال لمن خاف: اذهب إلى حال سبيلك، وقال للآخر: أنت الذي أخذت المال. وتهدده، فأقر، وسئل عن ذلك؛ فقال: إن اللص قوي القلب، والبريء يخدع، ولو تحرك عصفور لفزع منه.
الرازي والرجل
قال رجل ليحيى بن معاذ الرازي: إنك تحب الدنيا. فقال يحيى للرجل: أخبرني عن الآخرة؛ بالطاعة تنال أم بالمعصية؟ قال: لا، بل بالطاعة. قال: فأخبرني عن الطاعة؛ بالحياة تنال أم بالممات؟ قال: لا، بالحياة. قال: فأخبرني عن الحياة؛ أبالقوت تنال أم بغير القوت؟ قال: لا، بل بالقوت. قال: فأخبرني عن القوت؛ أمن الدنيا هو أم من الآخرة؟ قال: لا، بل من الدنيا. قال: كيف لا أحب الدنيا قدر لي فيها قوت أكتسب به حياة أدرك بها طاعة أنال بها الآخرة؟! فقال الرجل: إن من البيان لسحرا!
نصر الدين والسراج بن الوراق
كتب نصر الدين المحامي إلى السراج بن الوراق، وكان السراج يسكن بالروضة:
كم قد أردد للباب الكريم لكي
أبل شوقي وأحيي بيت أشعاري
وأنثني خائبا فيما أؤمله
وأنت في روضة والقلب في نار
فكتب الجواب إليه:
الآن نزهتني في روضة عبقت
أنفاسها بين أزهار وأثمار
أسكنتني بشذاها فانثنيت بها
وكل بيت أراه بيت خمار
ولا تغالط فمن فينا السراج ومن
أولى بأن قال: إن القلب في نار
أبو حنيفة وشريكه التاجر
كان بين أبي حنيفة وبين رجل من البصرة شركة في تجارة، فبعث إليه أبو حنيفة سبعين ثوبا ثمينا، وكتب إليه: إن في واحد منها عيبا وهو ثوب كذا، فإذا بعته فبين العيب. فباعها بثلاثين ألف درهم، وجاء بها إلى أبي حنيفة، فقال له: هل بينت العيب؟ فقال: لقد نسيت! فتصدق أبو حنيفة بجميع ثمنها.
رثاء لعلي بن أبي طالب
لما ماتت فاطمة كان علي بن أبي طالب يزور قبرها كل يوم، فأقبل ذات يوم، فانكب على القبر وبكى بكاء مرا، وأنشد يقول:
ما لي مررت على القبور مسلما
قبر الحبيب فلم يرد جوابي
يا قبر ما لك لا تجيب مناديا
أمللت بعدي خلة الأحباب؟!
فسمع كأن هاتفا يقول:
قال الحبيب وكيف لي بجوابكم
وأنا رهين حفائر وتراب
أكل التراب محاسني فنسيتكم
وحجبت عن أهلي وعن أترابي
فعليكم مني السلام تقطعت
مني ومنكم خلة الأحباب
شهاب الدين وفاطمة بنت الخشاب
أرسل شهاب الدين بن فضل الله إلى فاطمة بنت الخشاب قصيدة طويلة مطلعها:
هل ينفع المشتاق قرب الدار
والوصل ممتنع مع الزوار
يا نازلين بمهجتي وديارهم
من ناظري بمطمح الأنظار
هيجتم شجني فعدت إلى الصبا
من بعدما وخط المشيب عذاري
فأجابته المترجمة بقصيدة منها:
إن كان غركم جمال إزار
فالقبح في تلك المحاسن وار
لا تحسبوا أني أماثل شعركم
أنى تقاس جداول ببحار
فلما وصلت القصيدة إلى شهاب الدين القاضي وجدها كلها ألفاظ درية ومعان عبقرية؛ فأكبر مخاطبتها، وأخذها بعين الكمال، ولم يعد يراسلها إلا مراسلة العلماء الأعلام.
يحيى بن خالد وصاحب الخريطتين
يروى أن يحيى بن خالد بن برمك عزم على زفاف حسان ولده؛ فأهدى إليه وجوه الدولة كل منهم بحسب حاله وقدرته، فصنع بعض المتجملين العاجزين بطتين، وملأ إحداهما ملحا مطيبا، وملأ الأخرى سعدا معطرا، وكتب معهما رقعة فيها: «لو تمت الإرادة لأسعفت الحاجة، ولو ساعدت القدرة على بلوغ النعمة لتقدمت السابقين إلى خدمتك وأتعبت المجتهدين في كرامتك، لكن قعدت بي القدرة عن مساواة أهل النعمة، وقعدت بي الجدة عن مباهاة أهل المكنة، وخشيت أن تطوى صحيفة البر وليس لي فيها ذكر، فأنفذت المصلح بيمنه وبركته - وهو الملح - والمختتم بطيبه ونظافته - وهو السعد - باسطا يده المعذرة، صابرا على ألم التقصير، متجرعا غصص الاقتصار على اليسير، والقائم بعذري في ذلك: أنه ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج، والخادم ضارع في الامتنان عليه بقبول خدمته ومعذرته والإحسان إليه بالإعراض من جراءته والرأي أسمى»، ثم دخل دار يحيى ووضع الخريطتين والرقعة بين يديه، فلما قرأ الرقعة أمر أن تفرغا، وتملأ إحداهما دنانير، والأخرى دراهم.
محمد بن واسع وقتيبة بن مسلم
دخل محمد بن واسع على قتيبة بن مسلم والي خراسان في مدرعة صوف، فقال له: ما يدعوك إلى لباس هذه؟! فسكت، فقال قتيبة: أكلمك لا تجيبني؟! قال: أكره أن أقول: زهدا؛ فأزكي نفسي، أو أقول فقرا فأشكو ربي، فما جوابك إلا السكوت، قال ابن سماك لأصحاب الصوف: والله لئن كان لباسكم وفقا لسرائركم فقد أحببتم أن يطلع الناس عليها، وإن كان مخالفا لقد هلكتم.
أبو العلاء وكتاب الفصوص
ألف أبو العلاء صاعد كتبا، منها كتاب الفصوص، واتفق لهذا الكتاب أن أبا العلاء دفعه حين كمل لغلام له يحمله بين يديه وقطع نهر قرطبة، فخانت الغلام رجله فسقط في النهر هو والكتاب، فعلم العريف الشاعر به، فأنشد بحضرة المنصور:
قد غاص في البحر كتاب الفصوص
وهكذا كل ثقيل يغوص
فضحك المنصور والحاضرون، وأردف العريف قائلا:
عاد إلى معدنه إنما
توجد في قعر البحار الفصوص
الحسن بن وهب ومحمد بن عبد الملك
توالى نزول المطر وقتا من الأوقات؛ فقطع الحسن بن وهب عن لقاء محمد بن عبد الملك بن الزيات، فكتب إلى الحسن:
يوضح العذر في تراخي اللقاء
ما توالى من هذه الأنواء
فسلام الإله أهديه مني
كل يوم لسيد الوزراء
لست أدري ماذا أذم وأشكو
من سماء تعوقني عن سماء
غير أني أدعو لهاتيك بالثك
ل وأدعو لهذه بالبقاء
عمرو بن العاص حين الوفاة
لما احتضر عمرو بن العاص الوفاة جمع بنيه فقال: يا بني، ما تغنون عني من أمر الله شيئا؟! قالوا: يا أبت، إنه الموت ولو كان غيره لوقيناك بأنفسنا. فقال: أسندوني. فأسندوه، ثم قال: اللهم إنك أمرتني فلم أأتمر، وزجرتني فلم أزدجر، اللهم لا قوي فأنتصر، ولا بريء فأعتذر، ولا مستكبر بل مستغفر أستغفرك وأتوب إليك، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فلم يزل يكررها حتى مات.
القسم الرابع
في نوادر الأذكياء
الأذكياء
أحمد بن طولون والسائل
جلس أحمد بن طولون يوما في منتزه له يأكل، فرأى سائلا في ثوب خلق، فوضع يده في رغيف ودجاجة وقطع لحم وقطعة فالوذج، وأمر بعض الغلمان بمناولته إياها، فرجع الغلام وأخبره أنه ما هش له، فقال ابن طولون للغلام: جئني به. فمثل بين يديه، فاستنطقه، فأحسن الجواب، ولم يضطرب من هيبته، فقال له: أحضر لي الكتب التي معك، واصدقني عمن بعث بك، فقد صح عندي أنك صاحب خبر. واستحضر السياط، فاعترف له بذلك، فقال بعض من حضر: هذا والله السحر! فقال أحمد: ما هو بسحر، ولكنه قياس صحيح، رأيت سوء حال هذا فوجهت إليه بطعام يسر إذا أكله الشبعان، فما هش له، وما مد يده، فأحضرته فتلقاني بقوة جأش، فلما رأيت رثاثة حاله، وقوة جنانه؛ علمت أنه صاحب خبر.
ابن طولون والحمال
رأى ابن طولون يوما حمالا يحمل صندوقا وهو يضطرب تحته، فقال: لو كان هذا الاضطراب من ثقل المحمول لفاضت عنق الحمال، وأنا أرى عنقه بارزة وما هذا إلا من خوف ما يحمل. فأمر بحط الصندوق؛ فوجد فيه جارية قد قتلت، فقال: اصدقني بحقيقة حالها؟ فقال: أربعة أشخاص في دار كذا أعطوني هذه الدنانير وأمروني بحمل هذه المقتولة، فضرب الحمال مائتي عصا، وأمر بقتل الأربعة.
ابن أبي زيد وأبو جعفر الموسوي
قال أبو جعفر الموسوي: دخلت على أبي نصر بن أبي زيد وعنده علوي مبرم فتأذى بطول جلوسه وكثرة كلامه، فلما نهض قال لي أبو نصر: ابن عمك هذا خفيف على القلب! فقلت: نعم. فقال: ما أظنك فهمت. فعلمت أنه أراد خفيفا مقلوبا وهو الثقيل.
القاضي ومستودع الكيس والرجل
قال يزيد بن هارون: تقلد القضاء بواسط رجل ثقة، كثير الحديث؛ فجاء رجل فاستودعه، وبعض الشهود كيسا مختوما، ذكر أن فيه ألف دينار، فلما حصل الكيس عند الشاهد وطالت غيبة الرجل قدر أنه قد هلك، فهم بإنفاق المال وفتق الكيس من أسفله وأخذ الدنانير، وجعل مكانها دراهم، وأعاد الخياطة كما كانت، وقدر أن الرجل وافى وطلب الشاهد بوديعته، فأعطاه الكيس بختمه، فلما حصل في منزله فض ختمه؛ فصادف في الكيس دراهم، فرجع إلى الشاهد، فقال له: عافاك الله، اردد علي مالي؛ فإني استودعتك دنانير، والذي وجدت دراهم مكانها! فأنكر ذلك واستعدى عليه القاضي المتقدم ذكره، فأمر بإحضار الشاهد مع خصمه، فلما حضرا سأل الحاكم: منذ كم أودعته هذا الكيس؟ قال: منذ خمس عشرة سنة. فأخذ القاضي الدراهم، وقرأ سككها، فإذا هي دراهم منها ما قد ضرب منذ سنتين أو ثلاث ونحوها، فأمره أن يدفع الدنانير إليه؛ فدفعها إليه، وأسقطه، وقال له: يا خائن، ونادى مناديه: ألا إن فلان ابن فلان القاضي قد أسقط فلان ابن فلان الشاهد فاعلموا ذلك، ولا يغتر به أحد بعد اليوم، فباع الشاهد أملاكه بواسط، وخرج عنها هربا، فلم يعلم له خبر.
أبو حنيفة والأعرابي
قال يحيى بن جعفر: سمعت أبا حنيفة يقول: احتجت إلى ماء بالبادية، فجاءني أعرابي ومعه قربة من أهله، فأبى أن يبيعها إلا بخمسة دراهم، فدفعت إليه خمسة دراهم، وقبضت القربة، ثم قلت: يا أعرابي ما رأيك في السويق؟ فقال: هات. فأعطيته سويقا ملتوتا بالزيت، فجعل يأكل حتى امتلأ، ثم عطش، فطلب شربة، فقلت: بخمسة دراهم. فلم أنقصه من خمسة دراهم على قدر من ماء، فاسترددت الخمسة، وبقي معي الماء.
عضد الدولة ومستودع العقد والعطار
قال ابن الجوزي: بلغني أن رجلا قدم إلى بغداد للحج، وكان معه عقد من الحب يساوي ألف دينار، فاجتهد في بيعه، فلم يتفق له، فجاء إلى عطار موصوف بالخير فأودعه إياه، ثم حج وعاد فأتاه بهدية، فقال له العطار: من أنت؟ وما هذا؟ فقال: أنا صاحب العقد الذي أودعتك إياه. فما كلمه حتى رفسه رفسة رماه عن دكانه، وقال: تدعي علي مثل هذه الدعوى ؟! فاجتمع الناس للحاج وقالوا: ويلك! هذا الرجل خير ما لحقت من تدعي عليه مثل هذه الدعوى! فتحير الحاج، فما زادوه إلا شتما وضربا، فقيل له: لو ذهبت إلى عضد الدولة فله في هذه الأشياء فراسة. فكتب قصته ورفعها لعضد الدولة، فصاح به فجاء، فسأله عن حاله، فأخبره بالقصة، فقال: اذهب إلى العطار بكرة واقعد؛ فإن منعك فاقعد على دكة تقابله من بكرة إلى المغرب ولا تكلمه، وافعل هكذا ثلاثة أيام، فإني أمر عليك في اليوم الرابع وأقف وأسلم عليك فلا تقم لي، ولا ترد علي السلام، وجواب ما أسألك عنه، فإذا انصرفت فأعد عليه ذكر العقد، ثم أعلمني ما يقول لك، فإن أعطاكه فجئ به إلي.
قال: فجاء إلى دكان العطار ليجلس فمنعه، فجلس بمقابلته ثلاثة أيام، فلما كان في اليوم الرابع اجتاز عضد الدولة في موكبه العظيم، فلما رأى الخراساني وقف وقال: سلام عليكم. فقال الخراساني ولم يتحرك: وعليكم السلام. فقال: يا أخي، تقدم فإنك لا تأتي إلينا ولا تعرض حوائجك علينا! فقال كما اتفق ولم يتبعه الكلام، وعضد الدولة يسأله وقد وقف ووقف العسكر كله، والعطار قد أغمي عليه من الخوف، فلما انصرف التفت العطار إلى الحاج، فقال: ويحك متى أودعتني هذا العقد؟ وفي أي شيء كان ملفوفا؟ فذكرني لعلي أذكره! فقال: من صفته كذا وكذا، فقام ومشى ثم هز جرة عنده فوقع العقد، فقال: كنت نسيت ولم تذكرني الحال ما ذكرت! فأخذ العقد ثم قال: وأي فائدة لي في أن أعلم عضد الدولة؟ ثم قال في نفسه لعله يشتريه، فذهب إليه فأعلمه، فبعث به مع الحاجب إلى دكان العطار، فعلق العقد في عنق العطار، وصلبه بباب الدكان، ونودي عليه: هذا جزاء من استودع فجحد. فلما ذهب النهار أخذ الحاجب العقد فسلمه إلى الحاج، وقال: اذهب.
مصعب بن الزبير والمرأة
كان مصعب بن الزبير من أحسن الناس وجها، وكان جالسا بفناء داره يوما بالبصرة، فجاءت امرأة فوقفت تلح النظر إليه، فقال: ما وقوفك يا أمة الله؟ فقالت: طفئ مصباحنا فجئنا نقتبس من وجهك مصباحا!
آكل المشمش والطبيب
بينما كان أحد الخبازين يخبز في تنوره بمدينة دمشق؛ إذ عبر عليه رجل يبيع المشمش، فاشترى منه، وجعل يأكل بالخبز الحار، فلما فرغ سقط مغشيا عليه، فنظروا فإذا هو ميت، فجعلوا يتربصون به، ويحملون له الأطباء، فيلمسون دلائله ومواضع الحياة منه، فقضوا بأنه ميت، فغسل وكفن وحمل إلى الجبانة، فبينما هم خارجون من باب المدينة استقبلهم طبيب يقال له: البيرودي وكان حاذقا ماهرا، فسمع الناس يلهجون بقصته، فقال لهم: أنزلوه حتى أراه. فجعل يقلبه وينظر أمارات الحياة التي يعرفها، ثم فتح فمه وأسقاه شيئا فتقيأ، واندفع ما هنالك يسيل، وإذا بالرجل قد فتح عينيه وتكلم وعاد كما كان إلى دكانه.
عبد الله بن جعفر والغلام
خرج عبد الله بن جعفر - وكان كريما - إلى ضيعة له، فنزل على نخيل قوم وفيها غلام أسود يقوم عليها، فأتى ومعه ثلاثة أقراص، ودخل كلب ودنا من الغلام، فرمى إليه بقرص فأكله، ثم رمى إليه بالثاني والثالث فأكلهما، وعبد الله ينظر، فقال: يا غلام، كم قوتك كل يوم؟ قال: ما رأيت. قال: فلم آثرت هذا الكلب؟! قال: ما هي بأرض كلاب، وإنه جاء من مسافة بعيدة خائفا فكرهت رده. قال: فما أنت صانع اليوم؟ قال: أطوي يومي هذا، قال عبد الله بن جعفر: ألام على السخاء وهذا أسخى مني! فاشترى الغلام وأعتقه بعد أن أتحفه بمال جزيل.
الإعجاب بالنفس خلل
خطب معاوية خطبة أعجبته، فقال: أيها الناس هل من خلل؟! فقال رجل من عرض الناس: نعم، خلل كخلل المنخل! فقال: وما هو؟ فقال: إعجابك بها ومدحك إياها.
أبو تمام والرجل
سمع بعضهم أبا تمام ينشد هذا البيت:
لا تسقني ماء الملام لأنني
صب قد استعذبت ماء بكائي
فجهز له إناء وقال: ابعث لي في هذا قليلا من ماء الملام! فقال له أبو تمام: لا أبعث حتى تبعث لي بريشة من جناح الذل.
الهيثم بن صالح وابنه
قال الهيثم بن صالح لابنه: يا بني، إذا أقللت من الكلام أكثرت من الصواب. فقال: يا أبت، فإن أكثرت وأكثرت (أي كلاما وصوابا)؟ فقال: يا بني، ما رأيت موعوظا أحق بأن يكون واعظا منك.
إبراهيم باشا والحمار
رأى إبراهيم باشا يوما حمارا يأكل وإلى جانبه حماره، وعلى ظهر الحمار حمل ثقيل، فقال إبراهيم باشا للحمار: كم يأكل حمارك كل يوم؟ قال: ثلاث أقات شعير. فأمر فأتي بالشعير ووضع في معلف الحمار، ثم قال لمن حوله: ضعوا هذا الحمل على ظهر صاحبه. ففعلوا، فأخذ الحمار يستغيث من ثقل هذا الحمل، فقال له إبراهيم باشا: لأتركنك على ذي الحال حتى ينتهي الحمار من أكله، وإنك كما جازيت تجازى.
المتنبي والكتاب
امتدح المتنبي بعض أعداء صاحب مملكته، فبلغه ذلك فتوعد المتنبي بالقتل، فخرج هاربا ثم اختفى مدة، فأخبر الملك أنه ببلدة كذا، فقال الملك لكاتبه: اكتب للمتنبي كتابا ولطف له العبارة واستعطف خاطره وأخبره أني رضيت عنه وأمره بالرجوع إلينا، فإذا جاء إلينا فعلنا به ما نريد. وكان بين الكاتب والمتنبي مصادقة في السر، فلم يسع الكاتب إلا الامتثال، فكتب كتابا ولم يقدر أن يدس فيه شيئا؛ خوفا من الملك أن يقرأه قبل ختمه، غير أنه لما انتهى إلى آخره وكتب: «إن شاء الله تعالى» شدد النون فصارت (إن)، وقرأه السلطان وختمه وبعث به إلى المتنبي، فلما وصل إليه ورأى تشديد النون ارتحل من تلك البلدة على الفور، فقيل له في ذلك! فقال: أشار الكاتب بتشديد النون إلى ما جاء في القرآن:
إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين (القصص: 20). «ثم كتب الجواب وزاد ألفا على آخر (إن)؛ إشارة إلى ما قيل:
إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها (المائدة: 24).
الأصمعي والرجل
قال الأصمعي: قلت لغلام حدث من أولاد العرب كان يحادثني فأمتعني بفصاحة وملاحة: أيسرك أن يكون لك مائة ألف درهم وأنت أحمق؟! قال: لا والله. فقلت: ولم؟ قال: أخاف أن يجني علي حمقي جناية تذهب بمالي ويبقى علي حمقي.
صباح أبي العتاهية
قيل لأبى العتاهية: كيف أصبحت؟ قال : على غير ما يحب الله، وعلى غير ما أحب، وعلى غير ما يحب إبليس! فقيل له في ذلك، فقال: لأن الله يحب أن أطيعه وأنا لست كذلك، وأنا أحب أن يكون لي ثروة ولست كذلك، وإبليس يحب مني المعصية ولست كذلك.
الرازي والصبيان
حكى أبو علي الرازي قال: مررت بصبيان في طريق الشام يلعبون بالتراب وقد ارتفع الغبار، فقلت: مهلا قد غبرتم! فقال صبى منهم: يا شيخ، أين تفر إذا هيل عليك التراب في القبر؟! فغشي علي وفقت والصبي قاعد عند رأسي مع الصبيان يبكون، فقلت له: أعندك حيلة في الفرار من التراب؟! فقال: أنا لا أعلم، ولكن سل غيري! فقلت: ومن غيرك؟ قال: عقلك!
تارك الخمرة
ترك رجل النبيذ فقيل له: لم تركته وهو رسول السرور إلى القلب؟ فقال: ولكنه بئس الرسول، يبعث إلى الجوف فيذهب إلى الرأس.
الحداد والأمير
قال الآكدي: دخلت على الأمير سعيد بن المظفر أيام ولايته للثغر فوجدته يقطر دهنا على خنصره، فسألته عن سببه؛ فذكر ضيق خاتمه وأنه ورم بسببه، فقلت له: الرأي قطع حلقته قبل أن يتفاقم الأمر. فقال: من يصلح لذلك؟ فاستدعيت ظافرا الحداد الشاعر فقطع الحلقة وأنشد بديها:
قصر عن أوصافك العالم
وكثر الناثر والناظم
من يكن البحر له راحة
يضيق عن خنصره الخاتم
فاستحسنه الأمير ووهب له الخاتم.
وكان بين يدي الأمير غزال مستأنس، وقد ربض وجعل رأسه في حجره، فقال ظافر بديها:
عجبت لجرأة هذا الغزال
وأمر تخطى له واعتمد
وأعجب به إذ بدا جاثما
وكيف اطمأن وأنت أسد
فزاد الأمير والحاضرون في الاستحسان.
أبو العلاء المعري والغلام
روي أن غلاما لقي أبا العلاء المعري، فقال: من أنت يا شيخ؟ قال: فلان. قال: أنت القائل في شعرك:
وإني وإن كنت الأخير زمانه
لآت بما لم تستطعه الأوائل
قال: نعم. قال: يا عماه، إن الأوائل قد رتبوا ثمانية وعشرين حرفا للهجاء؛ فهل لك أن تزيد عليها حرفا؟! فدهش أبو العلاء المعري من ذلك، وقال: إن هذا الغلام لا يعيش؛ لشدة حذقه وتوقد فؤاده.
السلطان والرجل المذنب
دخل مذنب على سلطان، فقال له: بأي وجه تلقاني؟! فقال: بالوجه الذي ألقى به ربي وذنوبي إليه أعظم وعقابه أكبر. فعفا عنه.
عبد الملك والرجل
تكلم رجل عند عبد الملك بكلام ذهب فيه كل مذهب، فقال له وقد أعجبه: ابن من أنت يا غلام؟ فقال: ابن نفسي يا أمير المؤمنين، التي نلت بها هذا المقعد منك. قال: صدقت. وعجب من حدة ذهنه.
المعتصم وابن خاقان
عاد الخليفة المعتصم خاقان عند مرضه، وكان لخاقان ابن اسمه الفتح، فقال له المعتصم: داري أحسن أم دار أبيك؟ فقال: ما دام أمير المؤمنين في دار أبي فهي أحسن.
المأمون والرجل
تكلم رجل بين يدي المأمون فأحسن، فقال له: ابن من أنت؟ قال: ابن الأدب يا أمير المؤمنين. قال: نعم النسب انتسبت إليه!
هارون الرشيد والكسائي
لقي هارون الرشيد الكسائي في بعض طرقه، فوقف عليه وتحفى بسؤاله عن حاله، فقال: أنا بخير يا أمير المؤمنين، ولو لم أجد من ثمرة الأدب إلا ما وهب الله تعالى لي من وقوف أمير المؤمنين لكان ذلك كافيا محتسبا.
القسم الخامس
في نوادر الزاهدين
الزاهدون
الراهب والرجل
مر رجل براهب في صومعته، فقال له: من أنيسك؟ فقال: قلبي. قال: فمن جليسك؟ قال: الصبر. قال: فبأي شيء تقطع وقتك؟ قال: بذكر المساكين الذين في الدنيا. قال: فما رأيت في الدنيا؟ قال: ما رأيت أصدق من الموت. قال له: فما بال الخلق لا يتفكرون فيه؟! قال الراهب: إنما يتفكر الأحياء. وأما الموتى فقد أماتوا أنفسهم قبل الموت بحب الدنيا؛ فهم لا يتفكرون.
بشر الحافي والرجل
قال أحدهم: دخلت على بشر في يوم شديد البرد وقد تعرى من الثياب، فقلت: يا أبا نصر، الناس يزيدون الثياب في مثل هذا اليوم وأنت تنقص؟! فقال: ذكرت الفقراء، وما هم فيه ولم يكن لي ما أؤاسيهم به؛ فأردت أن أرافقهم بنفسي في مقاساة البرد.
بلال ومالك بن دينار
خرج بلال بن أبى بردة في جنازة - وهو أمير على البصرة - فنظر إلى جماعة وقوفا، فقال: ما هذا؟ قالوا: مالك بن دينار يذكر الناس. فقال لوصيف معه: اذهب إلى مالك بن دينار فقل له: يرتفع إلينا إلى القبر. فجاء الوصيف فنادى الرسالة إلى مالك، فصاح به مالك: ما لي إليه حاجة فأجيبه فيها، فإن تكن له حاجة فليجئ إلى حاجة نفسه. فلما وقفوا بينهم قام بلال بمن معه إلى حلقة مالك، فلما دنا منه نزل ونزل من معه، ثم جاء يمشي إلى الحلقة حتى جلس، فلما رآه مالك بن دينار سكت فأطال السكوت، فقال له بلال: يا أبا يحيى، ذكرنا. فقال: ما نسيت شيئا فأذكرك به! فقال: فحدثنا! فقال: أما هذا فنعم، قدم علينا أمير من قبلك على البصرة، فمات فدفناه في هذه الجبانة، ثم أتينا وإذا بفقير قد مات فدفناه أيضا إلى جانبه، فوالله ما أدري أيهما كان أكرم على الله سبحانه. فقال بلال: يا أبا يحيى، أتدري ما الذي جرأك علينا؟ وما الذي أسكتنا عنك؟ لأنك لم تأكل من دراهمنا شيئا، أما والله لو أخذت من دراهمنا شيئا ما اجترأت علينا هذه الجراءة.
الحجاج والرجل
حج الحجاج فنزل بعض المياه بين مكة والمدينة ودعا بالغذاء، وقال لحاجبه: انظر من يتغذى معي واسأله عن بعض الأمر. فنظر نحو الجبل، وإذا براع بين التلال نائما، فضربه برجله، وقال له: ائت الأمير. فأتاه، فقال له الحجاج: اغسل يدك وتغد معي. فقال: دعاني من هو خير منك فأجبته. قال: ومن هو؟ قال: الله تعالى؛ دعاني إلى الصيام فصمت. قال: في هذا الحر الشديد؟! قال: نعم، صمت ليوم هو أشد منه حرا. قال: فأفطر وصم غدا. قال: إن ضمنت لي البقاء إلى غد! قال: ليس ذلك إلي! قال: فكيف تسألني عاجلا بآجل لا تقدر عليه؟! قال: لأنه طيب. قال: لم تطيبه أنت ولا الطباخ، ولكن طيبته العافية.
أبو عقال وأبو هارون
كان أبو عقال علوان بن الحسن من أبناء الملوك، وكان ذا نعمة وملك، فزهد في الدنيا، وتاب إلى ربه ورجع عن ذلك رجوعا فارق معه نظراءه؛ فرفض المال والأهل، وهاجر البناء والوطن، وبلغ من العبادة مبلغا أربى فيه على المجتهدين، ثم انقطع إلى بعض السواحل فصحب رجلا يكنى أبا هارون الأندلسي منقطعا مبتهلا إلى الله تعالى، فرأى منه كبير اجتهاد في العمل، فبينما أبو عقال يسهد ليلة وأبو هارون نائم؛ إذ غالبه النوم، فقال لنفسه: يا نفس، هذا عابد جليل القدر ينام الليل كله فلو أرحت نفسي! فاستلقى قليلا؛ فرأى في منامه شخصا، فتلا عليه:
أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات (الجاثية: 21) إلى آخر الآية، فاستيقظ فزعا، وعلم أنه المراد، فأيقظ أبا هارون، وقال له: سألتك بالله؛ هل أتيت كبيرة قط؟ قال: لا يا ابن أخي ولا صغيرة عن تعمد! فقال أبو عقال: لهذا تنام أنت، ولا يصلح لمثلي إلا الكر والاجتهاد. ثم انقطع إلى العبادة ومات وهو ساجد في صلاته.
ابن المعلم الهاشمي
قال عبد الله بن المعلم: خرجنا من المدينة حجاجا، فلما كنا بالرويثة نزلنا، فوقف بنا رجل عليه ثياب رثة ليس له منظر وهيئة، فقال: من يبغي خادما؟ من يبغي ساقيا؟ فقلت: دونك هذه القربة. فأخذها فانطلق، فلم يلبث إلا يسيرا حتى أقبل وقد امتلأ أثوابه طينا فوضعها كالمسرور الضاحك، ثم قال: لكم غير هذا؟ قلنا: لا. وأطعمناه قرصا باردا، فأخذه وحمد الله تعالى وشكره، ثم اعتزل وقعد فأكله أكل جائع، فأدركتني عليه الشفقة؛ فقمت إليه بطعام طيب كثير، فقلت له: قد علمت أنه لم يقع منك القرص بموقع فدونك هذا الطعام. فنظر في وجهي وتبسم، وقال: يا عبد الله، إنما هي فورة جوع فما أبالي بأي شيء رددتها. فرجعت عنه، فقال لي رجل إلى جنبي: أتعرفه؟ قلت: لا. قال: إنه من بني هاشم من ولد العباس بن عبد المطلب كان يسكن البصرة، فتاب، فخرج منها متفقدا، فما عرف له أثر ولا وقف له على خبر. فأعجبني قوله، ثم اجتمعت به وآنسته، وقلت له: هل لك أن تعادلني؛ فإن معي فضلا من راحلتي؟ فجزاني خيرا ، وقال: لو أردت هذا لكان لي معدا. ثم آنس إلي فجعل يحدثني، فقال: أنا رجل من ولد العباس، كنت أسكن البصرة، وكنت ذا كبر شديد وبذخ، وإني أمرت خادمي أن يحشو فراشا لي من حرير ومخدة بورد نثر، ففعل، وإني لنائم وإذا بقمع وردة قد أغفلته عين الخادم، فقمت إليه وأوجعته ضربا، ثم عدت إلى مضجعي بعد إخراج القمع من المخدة، فأتاني آت في منامي في صورة فظيعة فهزني، وقال: أفق من غشيتك، أبصر من حيرتك! ثم أنشأ يقول:
يا خد إنك إن توسد لينا
وسدت بعد الموت صم الجندل
فامهد لنفسك ساعدا تسعد به
فلتندمن غدا إذا لم تفعل
فانتبهت فزعا، فخرجت من ساعتي هاربا إلى ربي.
عبد الواحد بن زيد والمرأة الحكيمة
قال عبد الواحد بن زيد: ذكر لي أن في جوانب الإبلة جارية مجنونة تنطق بالحكمة، فلم أزل أطلبها حتى وجدتها في خرابة جالسة على حجر وعليها جبة صوف وهي محلوقة الرأس، فلما نظرت إلي، قالت من غير أن أكلمها: مرحبا يا عبد الواحد. فقلت لها: رحب الله بك! وعجبت من معرفتها لي ولم ترني قبل ذلك! فقالت: ما الذي جاء بك ها هنا؟ فقلت: جئت لتعظيني. فقالت: وا عجباه لواعظ يوعظ! ثم قالت: يا عبد الواحد، اعلم أن العبد إذا كان في كفائه ثم مال إلى الدنيا سلبه الله حلاوة الزهد، فيظل حيران والها، فإن كان له نصيب عند الله عاتبه وحيا في سره، فقال: عبدي، أردت أن أرفع قدرك عند ملائكتي وحملة عرشي، وأجعلك دليلا لأوليائي وأهل طاعتي في أرضي؛ فملت إلى عرض من أعراض الدنيا وتركتني، فورثتك بذلك الوحشة بعد الأنس، والذل بعد العز، والفقر بعد الغنى، عبدي، ارجع إلى ما كنت عليه أرجع لك ما كنت تعرفه من نفسك. ثم تركتني وولت وانصرفت عنها وبقلبي حسرة منها.
الراهب والرجل
صحب رجل راهبا سبعة أيام؛ ليستفيد منه شيئا، فوجده مشغولا عنه بذكر الله تعالى وعن الفكر لا يفتر، فلما كان اليوم السابع، التفت إليه قائلا: يا هذا، قد علمت ما تريد، حب الدنيا رأس كل خطيئة، والزهد في الدنيا رأس كل خير، والتوفيق نتاج كل خير. قال: فكيف أعرف ذلك؟ قال: كان جدي رجلا من الحكماء قد شبه الدنيا بسبعة أشياء؛ فشبهها بالماء المالح يغر ولا يروي ويضر ولا ينفع، وبسحاب الصيف يغر ولا ينفع، وبطل الغمام يغر ويخذل، وبزهر الربيع ينضر ثم يصفر فتراه هشيما، وبأحلام الهائم يرى السرور في منامه، فإذا استيقظ لم يكن في يده إلا الحسرة، وبالعسل المشوب بالسم الزعاف يلذ ويقتل، فتدبرت هذه الحروف السبعة سبعين سنة، ثم زدت حرفا واحدا؛ فشبهتها بالغول التي تهلك من أجابها، وتترك من أعرض عنها، فرأيت جدي في المنام يقول: يا ابن الرشيد، إنك مني وأنا منك، هي والله الغول التي تهلك من أجابها وتترك من أعرض عنها. قلت: فبأي شيء يكون الزهد في الدنيا؟ قال: باليقين، واليقين بالصبر، والصبر بالعين، والعين بالفكر. ثم وقف الراهب، وقال: خذها منا فلا أراك خلفي إلا متجردا بفعل دون قول. فكان ذلك آخر العهد به.
ملك إسرائيل والرجل
ركب أحد ملوك إسرائيل يوما في زي عظيم، فشخصت نحوه الناس ينظرون إليه أفواجا، حتى مر برجل ورأى شيئا مكبا عليه وهو لم يلتفت إليه ولا رفع رأسه، فوقف الملك عليه، وقال: كل الناس ينظرون إلي إلا أنت! فقال الرجل: إني رأيت ملكا مثلك وكان على هذه القرية فمات مع فقير فدفن إلى جنبه في يوم واحد، وكنا نعرفهما في الدنيا بأجسادهما، ثم كنا نعرفهما بقبريهما، ثم نسفت الريح قبريهما وكشف عنهما فاختلطت عظامهما، فلم أعرف الملك من المسكين، فلذلك أقبلت على عملي، وتركت النظر إليك.
النعمان والحكيم
أشرف النعمان يوما على الخورنق فأعجبه ما أوتي من الملك والسعة ونفوذ الأمر وإقبال الوجوه نحوه، فقال لأصحابه: هل أوتي أحد مثل ما أوتيت؟ فقال له حكيم: أهذا الذي أوتيت شيء لم يزل ولا يزال، أم شيء كان لمن كان قبلك زال عنه وصار إليك؟ قال: بل شيء كان لمن قبلي زال عنه وصار إلي وسيزول عني! قال: فسررت بشيء تذهب عنك لذته وتبقى تبعته! قال: فأين المهرب؟ قال: إما أن تقيم وتعمل بطاعة الله أو تلبس أمساحا وتلحق بجبل وتعبد ربك فيه، وتفر عن الناس حتى يأتيك أجلك. قال: فإذا كان ذلك فما لي؟ قال: حياة لا موت فيها، وشباب لا هرم فيه، وصحة لا سقم فيها، وملك لا يبلى. قال: فأي خير فيما يفنى؟ والله لأطلبن عيشا لا يزول أبدا، وملكا جديدا. فانخلع من ملكه، ولبس الأمساح، وسار في الأرض، وتبعه الحكيم، وجعلا يعبدان الله حتى ماتا.
سبب سلو أم الهيثم
قيل لأم الهيثم: ما أسرع ما سلوت؟! فقالت: إني فقدت منه سيفا في مضائه، ورمحا في استوائه، وبدرا في بهائه، ولكن قلت:
قدم العهد وأسلاني الزمن
إن في اللحد لمسلى والكفن
وكما تبلى وجوه في الثرى
فكذا يبلى عليهن الحزن
الرجل والمرأة
قال بعضهم: نزلت بامرأة ذات أولاد وثروة، فلما أرادت الارتحال، قالت: لا تنسني إذا وردت هذا الصقع. ثم أتيتها بعد أعوام فوجدتها قد افتقرت وثكلت أولادها وهي ضاحكة مسرورة! فسألتها، فقالت: إني كنت ذات ثروة وجاه، وكانت لي أحزان، فعلمت أن ذلك لقلة الشكر، وأنا اليوم بهذه الحالة أضحك شكرا لله تعالى على ما أعطاني من الصبر.
زياد والرجل
قال زياد لرجل: أين منزلك؟ قال: وسط البلد. قال: كم لك من ولد؟ قال: تسعة. فقال بعض من حضر: أيها الأمير، إنه يسكن المقابر وله ابن واحد! فقال: أجل داري بين أهل الدنيا والآخرة، ومات لي تسعة فهم لي، وبقي واحد؛ لا أدري؛ أهو لي، أم أنا له؟!
أبو ذر بن عمر يرثي ابنه
لما مات ذر بن عمر قام أبوه على قبره فقال: يا بني، شغلنا الحزن لك عن الحزن عليك، فليت شعري ما الذي قلت، وما الذي قيل لك؟ اللهم أنت قد ألزمته طاعتك وطاعتي، فإني قد وهبت له ما قصر فيه من حقي، فهب لي ما قصر فيه من طاعتك، اللهم ما وعدتني من الأجر على مصيبتي به فقد وهبته له، فهب لي من فضلك. ثم قال عند انصرافه: ما علينا بعدك من غضاضة، وما بنا إلى إنسان مع الله حاجة، وقد مضينا وتركناك، ولو أقمنا ما نفعناك.
أمير المؤمنين بين مقابر الكوفة
مر أمير المؤمنين بمقابر الكوفة، فقال: السلام عليكم أهل الديار الموحشة، والمحال المقفرة، أنتم لنا سلف ونحن لكم تبع، أما الأزواج فقد فرحت، وأما الديار فقد سكنت، وأما الأموال فقد قسمت، هذا خبر ما عندنا فما خبر ما عندكم؟! ثم التفت إلى أصحابه، فقال: أما إنهم لو تكلموا لقالوا: «وجدنا خير الزاد التقوى.»
الناسك وأبو نواس
مر ناسك بدار فيها أبو نواس ينشد:
إن في توبتي لفسخا لجرمي
فاعف عني فأنت للعفو أهل
فرفع يده وقال: اللهم تب عليه. قال:
لا تؤاخذ بما يقول على السك
ر فتى ما له لدى الصحو عقل
فقال: اللهم أرشدنا. ومضى.
وصف عبد الله الحضرمي للمتصوفين
قيل لأبي عبد الله الحضرمي - وكان يعرف بالصامت؛ لأنه صمت عشرين سنة: من المتصوفون؟ فقال:
رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، فقيل: كيف صفتهم؟ قال:
لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء ، قيل: فأين محلهم؟ فقال:
في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، قيل: زدنا. قال:
إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا .
فرقد السنجي والحسن
كان فرقد السنجي يلبس المسوح فلقي الحسن، فقال: يا أبا سعيد، ما ألين ثوبك! فقال الحسن: يا فرقد، ليس لين ثيابي يباعدني من الله، ولا خشونتها تقربك منه «إن الله جميل يحب الجمال».
الرشيد والبهلول
لما بلغ الرشيد الكوفة قاصدا الحج خرج أهل الكوفة للنظر إليه وهو في هودج عال، فنادى البهلول: يا هارون، يا هارون، فقال: من المجترئ علينا؟! فقيل: هو البهلول. فرفع السجف فقال البهلول: يا أمير المؤمنين، روي عن عبد الله العامري قال: «رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
سائرا إلى الحج؛ لا ضرب، ولا طرد، ولا قال: إليك، إليك»، وتواضعك يا أمير المؤمنين في سفرك هذا خير من تكبرك. فبكى الرشيد حتى جرت دموعه على الأرض، وقال: أحسنت يا بهلول، زدنا. فقال: أيما رجل آتاه الله مالا وجمالا وسلطانا فأنفق ماله، وعف جماله، وعدل في سلطانه كتب في ديوان الله من الأبرار. فقال له الرشيد: أحسنت. وأمر له بجائزة، فقال: لا حاجة لي بها، ردها إلى من أخذتها منه! قال: فنجري عليك رزقا يقوم بك؟ فرفع البهلول طرفه إلى السماء، وقال يا أمير المؤمنين، أنا وأنت عيال الله، فمن المحال أن يذكرك وينساني.
بعض الصلحاء والزاهد
قال بعض الصلحاء: بينا أنا سائر في بعض جبال بيت المقدس؛ إذ هبطت إلى واد هناك، وإذا أنا بصوت عال ولتلك الجبال دوي منه، فاتبعت الصوت، فإذا أنا بروضة فيها شجر ملتف، ورجل قائم يردد هذه الآية:
يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه (آل عمران: 30)، فوقفت خلفه وهو يردد هذه الآية، ثم صاح صيحة وخر مغشيا عليه، فانتظرت إفاقته، فأفاق بعد ساعة وهو يقول: أعوذ بك من أعمال البطالين، وأعوذ بك من أعمال الغافلين، لك خشعت قلوب الخائفين، وفزعت أعمال المقصرين، وذلت قلوب العارفين، ثم نفض يديه، وهو يقول: ما لي وللدنيا؟! وما للدنيا وما لي؟! أين القرون الماضية؟ وأهل الدهور السالفة؟ في التراب يبلون، وعلى مر الدهور يفنون. فناديته: يا عبد الله، أنا منذ اليوم خلفك أنتظر فراغك. قال: وكيف يفرغ من يبادر الأوقات وتبادره؟ كيف يفرغ من ذهبت أيامه وبقيت آثامه؟ ثم قال: أتت وأنا لها، ولكل شدة أتوقع، ثم لها عني ساعة، وقرأ:
وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون (الزمر: 47)، ثم صاح صيحة أشد من الأولى، وخر مغشيا عليه، فقلت: قد خرجت روحه. فدنوت منه، فإذا هو يضطرب، ثم أفاق وهو يقول: من أنا؟ ما خطئي؟ هب لي إساءتي بفضلك، وجللني بسترك، واعف عني بكرم وجهك، إذا وقفت بين يديك. فقلت له: يا سيدي، بالذي ترجوه لنفسك وتثق به إلا كلمتني! فقال: عليك بكلام من ينفعك كلامه، ودع كلام من أوبقته ذنوبه، أنا في هذا الموضع ما شاء الله أجاهد إبليس ويجاهدني، فلم يجد عونا علي ليخرجني مما أنا فيه، فإليك عني، فقد عطلت لساني، ومالت إلى حديثك شعبة من قلبي، فأنا أعوذ من شرك بمن أرجو أن يعيذني من سخطه. فقلت في نفسي: هذا ولي من أولياء الله، أخاف أن أشغله عن ربه. ثم تركته ومضيت لوجهي.
ذو النون المصري والمرأة الزاهدة
قال ذو النون المصري: خرجت يوما من وادي كنعان، فلما علوت الوادي إذا بسواد مقبل علي وهو يقول:
وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون (الزمر: 47) ويبكي، فلما قرب مني السواد إذا بامرأة عليها جب صوف وبيدها ركوة فقالت لي: من أنت؟ غير فزعة مني، فقلت: رجل غريب. فقالت: يا هذا، وهل تجد مع الله غربة؟! فبكيت من قولها، فقالت: ما الذي يبكيك؟! فقلت: وقع الدواء على داء قد قرح فأسرع في نجاحه. قالت: فإن كنت صادقا فلم بكيت؟! قلت: يرحمك الله، الصادق لا يبكي؟! قالت: لا، قلت: ولم ذاك؟! قالت: لأن البكاء راحة للقلب! قال ذو النون: فبقيت والله متعجبا من قولها.
بعض العارفين والرجل
مر رجل ببعض العارفين وهو يأكل بقلا وملحا، فقال: يا عبد الله، أرضيت من الدنيا بهذا؟! فقال العارف: ألا أدلك على من رضي بشر من هذا؟! فقال: نعم. قال: من رضي بالدنيا عوضا عن الآخرة.
الغزالي وبعض الصلحاء
قال بعض الصلحاء: رأيت الغزالي في البرية وعليه مرقعة وبيده ركوة وعصا، فقلت: أيها الإمام، أليس تدريس العلم ببغداد خيرا من هذا؟! فنظر إلي نظر الازدراء، وقال: لما بزغ بدر السعادة من فلك الإرادة، وجنحت شمس الأصول إلى مغارب الوصول:
تركت هوى سعدى وليلى بمعزل
وعدت إلى مصحوب أول منزل
ونادت بي الأشواق مهلا فهذه
منازل من تهوى رويدك فانزل
أبو الشمقمق والرجل
كان أبو الشمقمق الشاعر الظريف المشهور قد لزم بيته لثياب رثة كان يستحي أن يخرج بها إلى الناس ، فقال له بعض إخوانه يسليه عما رأى من سوء حاله: أبشر يا أبا الشمقمق؛ فقد روي: أن العارفين في الدنيا هم الكاسون يوم القيامة. فقال له: إن كان ذلك حقا فوالله لأكونن غنيا بالملابس يوم القيامة.
موعظة حكيم
قال بعض الحكماء: مسكين ابن آدم! لو خاف من النار كما يخاف من الفقر لنجا منهما جميعا، ولو رغب في الجنة كما يرغب في الدنيا لفاز بهما جميعا، ولو خاف الله في الباطن كما يخاف خلقه في الظاهر لسعد في الدارين جميعا.
الربيع بن خيثم وأمه
لما رأت أم الربيع بن خيثم ما يلقى الربيع من البكاء والسهر قالت له: يا بني، ما بالك؟ لعلك قتلت قتيلا؟! قال: نعم يا أماه! قالت: ومن هو؛ حتى نطلب من أهله العفو عنك؟! فوالله لو يعلمون ما أنت فيه لرحموك وعفوا عنك! فقال: يا أماه، هي نفسي. فبكت رحمة له.
علي بن أبي طالب ونوف البكالي
قال نوف البكالي: رأيت أمير المؤمنين عليا ذات ليلة وقد خرج من فراشه، فنظر إلى النجوم، فقال: يا نوف، أراقد أنت، أم رامق؟ قلت: بل رامق يا أمير المؤمنين. قال: يا نوف، طوبى للزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة، أولئك قوم اتخذوا الأرض بساطا، وترابها فراشا، وماءها طيبا، والقرآن شعارا، والدعاء دثارا، يا نوف، إن داود النبي - عليه السلام - قام في مثل هذه الساعة من الليل، فقال: إنها ساعة لا يدعو فيها عبد إلا استجيب له إلا أن يكون عشارا أو عريفا أو جاهلا.
الأعرابية وأهل الميت
حكي أن أعرابية دخلت من البادية فسمعت صراخا في دار، فقالت: ما هذا؟! فقيل لها: مات لهم إنسان. فقالت: ما أراهم إلا من ربهم يستغيثون، وبعطائه يتبرمون، وعن ثوابه يرغبون!
أبو العتاهية والمسترشد
كتب رجل إلى أبي العتاهية فقال:
يا أبا إسحاق إني
واثق منك بودك
فأعني بأبي أن
ت على عيبي برشدك
فأجابه أبو العتاهية:
أطع الله بجهدك
راغبا أو دون جهدك
أعط مولاك الذي تط
لب من طاعة عبدك
Unknown page