والقلب ملتئم فيه الذي فيه
الزرقاء ومعاوية
قيل: إن معاوية بن أبي سفيان ولي الخلافة وانتظمت إليه الأمور وامتلأت منه الصدور وأذعن لأمره الجمهور، وعاونه على أمره القدر المقدور، فاستحضر ليلة خواص أصحابه وذاكرهم وقائع أيام صفين ومن كان يتولى يوم الكريهة من المعروفين، فانهمكوا في القول الصحيح، وآل حديثهم إلى ما كان يجتهد في إيقاد نار الحرب عليهم بزيادة التحريض فقالوا: امرأة من أهل الكوفة تسمى الزرقاء بنت عدي، كانت تعتمد الوقوف بين الصفوف وترفع صوتها صارخة بأصحاب علي تسمعهم كلاما كالصوارم، مستحثة لهم بقول لو سمعه الجبان لقاتل والمدبر لأقبل والمسالم لحارب والفار لكر والمزلزل لاستقر، فقال لهم معاوية: أيكم يحفظ كلامها؟ فقالوا: كلنا نحفظه، فقال: فما تشيرون علي بها، قالوا: نشير بقتلها؛ فإنها أهل لذلك، فقال لهم معاوية: بئسما أشرتم به، أيحسن أن يشتهر عني أنني بعد ما ظفرت وقدرت أقتل امرأة قد وفت لصاحبها؟ إني إذن للئيم، لا والله لا فعلت ذلك.
ثم دعا بكاتبه وكتب كتابا إلى واليه بالكوفة أن أوفد علي الزرقاء بنت عدي مع نفر من عشيرتها وفرسان من قومها، ومهد لها وطاء لينا ومركبا ذلولا.
فلما ورد عليه الكتاب ركب إليها وأقرأها إياه، فقالت: ما أنا بزائغة عن الطاعة، فحملها في هودج وجعل غشاءه خزا مبطنا، ثم أحسن صحبتها، فلما قدمت على معاوية قال لها: مرحبا وأهلا خير مقدم قدمه وافد، كيف حالك يا خالة؟ وكيف رأيت سيرك؟
قالت: خير مسيرة، قال: هل تعلمين لم بعثت إليك؟ قالت: لا يعلم الغيب إلا الله، قال: ألست أنت راكبة الجمل الأحمر يوم صفين وأنت بين الصفين توقنين نار الحرب وتحضين على القتال؟ قالت: نعم، قال: فما حملك على ذلك؟ قالت: يا أمير المؤمنين، إنه قد مات الرأس وكثر الذنب والدهر ذو عبر، ومن تفكر أبصر، والأمر يحدث بعد الأمر، فقال: صدقت، فهل تحفظين كلامك؟ قالت: لا والله، قال: لله أبوك، لقد سمعتك تقولين: «أيها الناس، إن المصباح لا يضيء في الشمس، والكوكب لا يضيء مع القمر، وإن البغل لا يسبق الفرس، ولا يقطع الحديد إلا الحديد، من استرشدنا أرشدناه ومن ساءلناه جاوبناه أن الحق كان يطلب ضالة فاطلبوها، يا معاشر المهاجرين والأنصار مكانكم، وقد التأم شمل الشتات وظهرت كلمة العدل وغلب الحق الباطل؛ فإنه لا يستوي المحق والمبطل، أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا؟ فالنزال النزال، والصبر الصبر، ألا وأنه خضاب النساء الحناء وخضاب الرجال الدم، والصبر خير الأمور عاقبة، هيا إلى الحرب، هيا يا رجال».
أليس هذا القول قولك وتحريضك؟ قالت: لقد كان ذلك، قال: لقد شاركت عليا في كل دم سفكه، فقالت: أحسن الله بشارتك يا أمير المؤمنين وأدام سلامتك، مثلك من بشر بخير ويسر جليسه، فقال: أوقد سرك ذلك؟ قالت: نعم والله لقد سرني قولك، وإني له لصديقة، فقال معاوية: والله لوفائك له بعد موته أعجب إلي من حبك له في حياته، فاذكري حوائجك تقضى، قالت: يا أمير المؤمنين إني آليت على نفسي لا أسأل أحدا حاجة، فقال: قد أشار علي بعض من عرفك بقتلك، قالت: لؤم من المشير، ولو أطعته لشاركته، قال: كلا، بل نعفو عنك ونحسن إليك ونرعاك، قالت: كرم منك يا أمير المؤمنين، ومثلك من قدر وعفا وتجاوز عمن أساء وأعطى من غير مسألة، قال: فأعطاها كسوة ودراهم وأقطعها ضيعة تغل لها في كل سنة عشرة آلاف درهم وأعادها إلى وطنها، وكتب على والي الكوفة بالوصاية بها وبعشيرتها.
المنصور والرجل
قال الربيع (مولى الخليفة المنصور): ما رأيت رجلا أربط جأشا وأثبت جنانا من رجل سعي به إلى المنصور أن عنده ودائع وأموالا لبني أمية فأمرني بإحضاره، فأحضرته إليه، فقال له المنصور: قد رفع إلينا خبر الودائع والأموال التي عندك، فقال الرجل: أأنت وارث بني أمية؟ قال: لا، قال: أوصي لك في أموالهم ورعاياهم؟ قال: لا، قال: فما مسألتك عما في يدي من ذلك؟
قال: فأطرق المنصور ثم تفكر ساعة ورفع رأسه وقال: إن بني أمية ظلموا المسلمين فيه، فاجعله في بيت أموالهم، قال: يا أمير المؤمنين، فتحتاج إلى بينة عادلة أن ما في يدي لبني أمية فما خانوا به ولا ظلموا، فإن بني أمية كانت لهم أموال غير أموال المسلمين، قال: فأطرق المنصور ساعة ثم رفع رأسه وقال: يا ربيع، ما أرى الشيخ إلا قد صدق، وما يجب عليه شيء، وما يسعنا ألا أن نعفو عما قيل عنه، ثم قال: هل لك من حاجة؟ قال: أن تجمع بيني وبين من سعى بي إليك، فولله يا أمير المؤمنين ما لبني أمية عندي مال ولا سلاح، وإنما أحضرت بين يديك وعلمت ما أنت فيه من العدل والإنصاف واتباع الحق واجتناب المظالم، فأيقنت أن الكلام الذي صدر مني هو أنجح وأصلح لما سألتني عنه، فقال المنصور: يا ربيع، اجمع بينه وبين الذي سعى به، فجمع بينهما، فقال: يا أمير المؤمنين، هذا أخذ لي خمسمائة دينار وهرب، ولي عليه مسطور شرعي، فسأل المنصور الرجل فأقر بالمال، قال: فما حملك على السعي كاذبا؟ قال: أردت قتله ليخلص لي المال، فقال الرجل: قد وهبتها له يا أمير المؤمنين لأجل وقوفي بين يديك وحضوري مجلسك، ووهبته خمسمائة دينار أخرى لكلامك لي، فاستحسن المنصور فعله وأكرمه وأعاده إلى بلده مكرما، وكان المنصور كل وقت يقول: ما رأيت مثل هذا الشيخ قط ولا أثبت من جنانه ولا من حجته، ولا رأيت مثل حلمه ومروءته.
Unknown page