فنظر الرشيد إلى الجلاد وقال: ائتني باثنين من الجنود، فأتاه بهما فقال لهما: اضربا عنق مسرور فإني لا أقدر أن أرى قاتل جعفر، ثم تنفس الصعداء وبكى بكاء شديدا وجعل ينكت في الأرض في أثناء كل كلمة ويقرع أسنانه بالقضيب ويخاطبه ويقول: يا جعفر ألم أحلك محل نفسي؟ يا جعفر ما كافأتني ولا عرفت حقي ولا تفكرت في صروف الدهر ولا حسبت تقلب الأيام واختلاف أحوالها، يا جعفر خنتني في أهلي وفضحتني بين العرب والعجم، يا جعفر أسأت إلي وإلى نفسك وما تفكرت في عواقب أمرك ولم يزل على هذا الحال طورا ينكت الأرض، وتارة يخاطب رأس جعفر إلى أن آن وقت صلاة الظهر، فخرج إلى الجامع وصلى بالناس جماعة ثم التفت إلى قصور جعفر ودوره وأقبل على أبيه وأخيه وجميع أولاد البرامكة ومواليهم وغلمانهم واستباح مالهم، وأمر بسلب جميع ما لهم من المضارب والخيام والسلاح وغير ذلك، فلما أصبح يوم السبت إذا هو قد قتل من البرامكة وحاشيتهم نحو ألف إنسان وترك من بقي منهم لا يرجع إلى وطنه وشتت شملهم في البلاد ولم يقدر أحد منهم على كسرة خبز.
ثم وجه إلى مدينة الرسول
صلى الله عليه وسلم
فأتى بالصبيين ولدي جعفر من أخته العباسة فأدخلا عليه في بيته، فلما رآهما أعجب بهما وكانا في نهاية من الحسن والجمال فاستنطقهما فوجد لغتهما مدنية وفصاحتهما هاشمية وفي ألفاظهما عذوبة وبلاغة، فقال لكبيرهما: ما اسمك يا قرة عيني؟ قال: الحسن، وقال للصغير: ما اسمك يا حبيبي؟ قال: الحسين، فنظر إليهما وبكى بكاء شديدا، ثم قال: يعز علي حسنكما وجمالكما لا رحم الله من ظلمكما، ولم يدريا ما أراد بهما ثم أمر الجلاد بأخذهما إلى الأودة المعهودة وبقتلهما ودفنهما مع أمهما في الحفرة وهو مع ذلك يبكي بكاء شديدا حتى ظن أنه رحمهما، وأمر بعد ذلك ألا تذكر البرامكة في مجلس لأن ذلك كان مثيرا لأشجانه مجددا في قلبه عوامل الأسى، وكان قتل جعفر بن يحيى في ليلة السبت أول ليلة من صفر سنة 187ه وهو ابن سبع وثلاثين سنة.
مقتل خالد بن جعفر
قال أبو عبيدة: كان الذي هاج الأمر بين الحارث بن ظالم وخالد بن جعفر أن خالد بن جعفر أغار على قوم الحارث بن ظالم وهم في واد يقال له حراض، فقتل الرجال والحارث يومئذ غلام، وكانت نساء بني ذبيان لا يحلبن النعم، فلما قتلت رجالهن طفقن يدعون الحارث فيشد عصاب الناقة ثم يحلبنها ويبكين رجالهن ويبكي الحارث معهن، فنشأت في قلبه العداوة والبغضاء.
وأما خالد بن جعفر فإنه مكث برهة من دهره إلى أن أتى النعمان بن المنذر - ملك الحيرة - لينظر ما قدره عنده وأتاه بفرس، فلقي عنده الحارث بن ظالم وقد أهدى له فرسا، فقال: أبيت اللعن نعم صباحك وأهلي فداؤك، هذا فرس من خيل بني مرة لن يؤتى بمثله، ولقد كنت أرتبطه لغزو بني عامر بن صعصعة، فلما كرمت خالدا أهديته إليك، وقال الربيع بن زياد العبسي فقال: هذا فرس من خيل بني عامر ارتبطت أباه عشرين سنة لم يخفق في غزوة ولم يتعب في سفر وفضله في هذين الفرسين كفضل بني عامر على غيرهم، فغضب النعمان عند ذلك، وقال: يا معشر قيس أي خيلكم أشباهنا، أين التي أذنابها كالكلاب تعالك اللجم في أشداقها تدور على مذاودها كأنما يقضمن حصى؟ قال خالد: زعم الحارث أبيت اللعن أن تلك الخيل خيله وخيل آبائه، فغضب النعمان عند ذلك على الحارث بن ظالم، فلما أمسوا اجتمعوا يشربون فقال خالد لقينة تغني:
دار لهند والرباب وفرتني
ولبئس قول حوادث الأيام
وهن خالات الحارث بن ظالم، فغضب الحارث بن ظالم حتى امتلأ غيظا وغضبا وقال: ما تزال تتبع أولى بأخرة، ثم إن النعمان بن المنذر دعاهم بعد ذلك وقدم لهم تمرا، فطفق خالد بن جعفر يأكل ويلقي نوى ما يأكل من التمر بين يدي الحارث، فلما فرغ القوم قال خالد بن جعفر: أبيت اللعن انظر إلى ما بين يدي الحارث بن ظالم من النوى فما ترك لنا تمرا إلا أكله.
Unknown page