ولا تظن أن الذين هجروا الأديرة وساروا يتطفلون على العباد ويعيشون عالة على الغير يلتقطون فتات الموائد، ويريقون ماء الوجه تطلعا وسؤالا، لا تظن أنهم عباد ولا تحسبهم رهبانا حقيقيين، فإنما هم إخوة الشيطان لم يطيقوا مع المؤمنين المجاهدين المتعبدين ثباتا ولا صبرا، فاندحروا وباءوا بالذل إلى حيث تراهم مرذولين محتقرين عليهم مسحة الخزي وغضب من الله عظيم. واللوم على الشعب الذي لا يرقى لهم وينزلهم بينه منزلا رحبا.
وانزع من فكرك «يا من توصيني» أنني أطمح للانخراط في مصاف المطارنة أو الأساقفة أو في أي صف من صفوف الكهنة والقمامصة، وأؤكد لك بل أعاهدك على أنني أرفض ذلك بتاتا ما حييت، وهذا وعد مني ولست أمين، وأما الشهرة والذكر الجميل فإنني تركتهما لمن يبتغيهما من الطامحين إلى الباطل، ولم يعد لي مطمح في البائد الزائل، ولا أرجو من الرب إلا أن يقويني ويثبتني على محبته وفي طاعته.
ولو كنت أنا الواعظ لاستعملت كل ما آتاني الله من المواهب لإحياء الأمل في القلوب ونزع أسباب الخلاف والنفور من بين أبناء الطائفة، لو كنت أنا الواعظ لأرشدت الأتقياء من المعلمين الأذكياء إلى طريق الدير وحببت إليهم الرهبنة فلا يعود لطاعن وجه للطعن على معلومات القسس والرعاة، لو كنت أنا الواعظ لما أضعت وقتا ثمينا في تثبيط عزائم ضعيف مثلي، ولكنت أكتب إليك أشجعك وأنشطك وأقوي عزمك، لو كنت أنا الواعظ لناجيت النفوس وحركت الضمائر لمعرفة الرب معرفة حقيقية، لو كنت أنا الواعظ لذكرت الشعب بجلل مقام الكهنوت ورفعته وأزلت من بين الفريقين سوء التفاهم، وقويت بينهما رابطة المحبة والسلام، ولكن ما كل ما يتخيله العقل يتحقق، فأنت أنت الواعظ، وأنا الفقير.
غبريال إبراهيم بدير الأنبا بيشوي
لا يسع المطلع على هذه المقالة الشائقة إلا الإعجاب ببلاغة الكاتب وقوة حججه، فقد ناضل خصمه نضالا محوره الأدب ولحمته الحكمة والسداد، فأقنعه وأقنع جميع القارئين، وهي خطة مثلى في المناظرة نرجو أن يتعلمها الصحافيون من حافظ نجيب.
ثم إنك إذا أمعنت النظر في مرامي المقالة المشار إليها، والمعاني التي وردت فيها، والطريقة التي كتبت بها، لا يسعك إلا القول بأن كاتبها مسيحي من صميم المسيحية، وراهب شب على حب دين المسيح ودخل إلى الدير زاهدا عن رغب منه في عبادة الله ونيل رضاه ليس إلا.
ولهذا لا بدع إذا اهتم له أدباء الأقباط وتضاربت بشأنه الظنون، لا سيما بعد أن خرج من معابد الله إلى معترك هذه الحياة ثانية، حتى اضطر أن ينشر على الأمة القبطية البيان الآتي تهدئة للخواطر وإزالة لكل الشكوك والشبهات قال:
اعتقد الجميع ورسخ في الذهن قصور الرهبان العلمي وضعف مداركهم، وثبت لدى الملأ استحالة العيش بينهم لتنافر أذواقهم وخشونة طباعهم، فغير عجيب أن يدهش مثلكم من وجود متعلم بين ظهرانيهم أو يلجأ إلى الدير غير معدم أو ذو طمع، ولا غرابة إذا أسأتم الظن فيمن ترك الحياة وملذاتها وزخارفها وانخرط في زمرة هي على زعمكم مسوقة بالفاقة والعوز إلى الاستكانة وراء الأسوار، فاقتنعوا من اللباس بما يطرح عن سواهم واكتفوا لسد أودهم بالكفاف، وإشباع بطونهم بفضلات ترمى إليهم بتأفف وضجر، ولا عجب إذ رأيتم عسيرا بل محالا إمكان العيش في وسط قاحل مجدب أو بين ضوار تأنست أو أقوام توحشت، حياتهم طعام فنوم، فنوم فطعام؛ لأن أناسا هذا شأنهم لا يألفون من كان على غير شاكلتهم وينفرون ممن آمنهم من ذوي الميزة والإدراك. فمن استكان وصبر ولو على مضض كان لعلة أو لسر أضمره، أقول لا عجب إذا أسأتم الظن وعددتم ترهبه نادرة في القرن العشرين.
إن رأي الطائفة بأسرها وصاحب الوطن على الأخص مشهور وذائع عن أمر الأديرة والرهبان، بل ليس في القطر من ينكر تأخر الإكليروس القبطي أدبيا وعلميا، وطالما ارتفعت الصيحات وتعدد الرثاء والندب على حال مصيره إلى أتعس مما نرى إذا لم توجد نهضة حقيقية من رجال الدين وأبناء الطائفة لترقية وتحسين هذه الطغمة، وقد تشبع أسقف الدير المحرق بهذا الفكر وعمل بلا جلبة ولا صياح على تربية وتعليم نشئه الحديث، فانخرط في سلك رهبنته عشرات يركن إليهم بعد حين، ولم يبغ نيافته شهرة ولا مجدا بل رمى لأسمى الغايات وأشرف المقاصد بلا جلبة ولا غوغاء.
ففي هذا الدير يمكن العيش بهدو واستثمار الفكر بالعمل والدرس بين أفراد، وإن لم يحصلوا كثيرا فهم أرقى الآباء وأكثرهم وداعة، فغير عسير على مثلي العيش معهم وقضاء بغيته أيام الحياة بين ظهرانيهم مستفيدا أو مفيدا، إلا أن الحياة لا تخلو من الأوصاب والشقاء لم يترك مكانا دون أن يطرقه ويزعج ساكنيه.
Unknown page