184

Al-Naṣrāniyya wa-ādābihā bayna ʿarab al-jāhiliyya

النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية

Genres

ومن صوم النصارى اقتبس محمد صوم رمضان ثلثين يومًا وكان صوم الفصح لا يزيد على ذلك في بعض الكنائس، ومنهم أيضًا اخذ عادة الإفطار بعد غروب الشمس ألا أن النصارى لم يأكلوا حينئذ إلا مرة واحدة على خلاف المسلمين الذين حلل لهم الآكل طول الليل، وكذلك كان النصارى لا يأكلون إلا الأعشاب والبقول والإثمار دون اللحم والبياض وكلاهما مسموح به للمسلمين، قال العلامة توماس بتريك هيوس (u. Patrik Hughes) في معجم الإسلام (ص٥٣٤) Ry of Islam Dictiona»: "أن الأرجح عندنا أن محمدًا أخذ عن النصارى ناموس الصوم ثلاثين يومًا، وكان صوم النصارى في الشرق غاية في الشدة يمتد إلى النهار والليل معًا فخفف محمد هذه السنة وحصرها في النهار دون الليل تلطيفًا لشدته كما قال (سورة البقرة ع١٧١): (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) .
أما الخيط الأبيض والخيط الأسود اللذان ذكرهما هناك (ع١٨٣) فإن أمية بن أبي الصلت كان سبق إلى الإشارة إليهما بقوله (تاج العروس ٥: ١٣٧):
الخيطُ الأبيضُ ضوءُ الصبح منفلقٌ ... والخيطُ الأسودُ لونُ الليلِ كركومُ
(الزكاة) هي أيضًا من أركان الإسلام المفروضة على ذويه بقوله (سورة البقرة ٢: ٧٧): (وَأَقِيمُواْ الصّلاَةَ وَآتُواْ الزّكَاةَ) أي الصدقة وما يرصد من الموال لوجه الله وإعانة الفقراء، وعندنا أن صاحب الشريعة الإسلامية تقلد فيه أهل الكتاب أي اليهود والنصارى فغن موسى في كتاب التثنية الاشتراع وسفر اللاويين يفرض على بني إسرائيل تشعير مالهم لخدمة الكهنة والهيكل.. أما النصارى فمن وصايا كنيستهم الراقية إلى قرون النصرانية الأولى الوصاة بوفاء العشر.
ولما دخل النصارى في طاعة المسلمين من العرب وضعت عليهم العشور والمكوس، قال المقريزي في الخطط (٢: ١٢٢): "قال زياد بن جرير: أول من بعث عمر بن الخطاب رض منا على العشور أنا فأمرني أن لا أفتش أحدًا وما مر علي من شيء أخذت من حساب أربعين درهمًا من المسلمين وأخذت من أهل الذمة من عشرين واحدًا وممن لا ذمة له العشر، وأمرني أن أغلظ على نصارى بني تغلب.. فلعلهم يسلمون".
(الحج) هو أيضًا من أركان الإسلام ومعلوم أن الحج إلى مكة سبق الإسلام وكان نصارى العرب يحجون في الجاهلية لمزارات مختلفة ولا سيما القدس الشريف فإن القديس ايرونينموس في أواخر القرن الرابع أوائل الخامس ذكر في رسائله (Migne، P. L، XXII، ٤٨٩، ٨٧٠) بين زوار الأراضي المقدسة الذين كان يشاهدهم في بيت عرب اليمن وهو يدعوهم على موجب اصطلاح ذلك العهد بأهل الهند، وقد وصف أمرؤ القيس تزاحم الأولاد على الراهب المقدس أي العائد من زيارة القدس الشريف بقوله (اللسان ٨: ٥٠): كما شبرق الوالدانُ ثوبَ المقدّسِ وفي ذلك القرن الخامس كان عرب حمير والعراق يحجون زرافات إلى مقام القديس سمعان العمودي كما روى في تاريخه تاوروريطس الذي عاينهم هناك (P، G، LXXIV، ١٠٤ Migne) .
ومن مزارات العرب التي كانوا يحجون إليها مشهد القديسين سرجيوس وباخوس في الرصافة وقد مر لنا ذكر الكتابة العربية السابقة للإسلام التي وردت هناك وكانوا يحجون في جزيرة العرب إلى كنيسة القليس التي شيدها أبرهة في صنعاء بعد فتح اليمن (راجع الجزء السابق ص٧٤ و٣٣٤) ومثلها كنيسة ظفار.
ومن المحاج التي كان يقصدها أيضًا النصارى العرب في الجاهلية طور سيناء ومعابده الشهيرة المقامة في مشارف ذاك الجبل حيث يروي التقليد مناجاة الله ﷿ لموسى النبي وأوحى إليه بشريعته.
بل كان نصارى العرب واليهود في الجاهلية يحجون إلى مكة كما روى ذلك ياقوت في معجم البلدان لأنهم كانوا يرون في الكعبة تذكارًا لما ورد في سفر التكوين (ف٢١) عن هاجر واسمعيل بن إبراهيم الخليل متفقين في ذلك مع تقليد عرب الحجاز، وقد ذكر في الأغاني (٢١: ١٦٤) خروج هدبة بن خشررم إلى الحج وكان نصرانيًا كما ذكر التبريزي في شرح الحماسة (ص٢٣٥) .
وقد مر لنا (ص٦٤ و١٧٤) أن النصارى كانوا يدعون بيعهم بالكعبات مثل كعبة نجران الوارد ذكرها في شعر الأعشى وكعبة اليمن، وقال عبدة بن الطيب (المفضليات ٢٩١):
في كعبةٍ شادها بانٍ وزينها ... فيها ذبالٌ مضيءُ الليل مفتولُ
وكان لكعبة مكة منذ عهد الجاهلية حرم أي حدود تحدق بها لا يجوز انتهاكها.

1 / 184