وما أيبليٌّ على هيكلٍ ... بناهُ وصلَّب فيهِ وصارا
ومن العجب أن بعض الشعراء إذ رأوا هذه التماثيل في كنائس النصارى دعوها: أصنامًا وأوثانًا. قال أبو قطيفة (معجم البلدان لياقوت٣: ٦٦١)
ولحيٌّ بين العريضِ وسلعٍ ... حيث أوتادهُ الإسلامُ
كان أشهى إليّ قربُ جوارٍ ... من نصارى في دورها الأصنامُ
وروى في المفضليات (ed.lyall ص٥٩٤):
يطوفُ العفاةُ بأبوابهِ ... كطوف النصارى ببيت الوثن
قالوا: أراد بالوثن الصليب. وكانوا ينصبونه في وسط الكنائس. وقال بشر بن ابي خازم يمدح بني الحداء النصارى (البيان للجاحظ٢:٧١)
لله درُّ بني حدَّاءَ من نفرٍ ... وكلُّ جارٍ على جيرانهِ كلبُ
إذا غدوا وعصيُّ الطلح أرجلهم ... كما تنصَّبُ وسط البيعةِ الصُّلبُ
فهذه الشواهد وغيرها مثلها تدل كلها على شيوع فن التصوير ونحت التماثيل بين نصارى العرب. قال صاحب تاج العروس (٨: ١١١):"التمثال الشيء المصنوع مشبهًا بخلق من خلق الله ﷿..والتماثيل هي صور الأنبياء. وكان التمثيل مباحًا في ذلك الوقت..".
ومما تكرر في الشعر الجاهلي نقش النصارى لكتبهم الدينية كقول رؤبة (ديوانه ص ١٤٩):
إنجيل أحبار وحي منمنمهُ ... ماخط فيه بالمداد قلمه
وكقول المرقش يصف رسوم الدار:
الدارُ قفرٌ والرسوم كما ... رقش في ظهر الأديم قلم
وقال في المفضليات (ص٦٩٨):
كتاب محبرٍ هاجٍ بصيرٍ ... ينمقهُ وحاذر أن يباعا
وقد ورد في تواريخ العرب القديمة ذكر آثار دينية من النحت والتصوير عني بها النصارى في أنحاء الجزيرة. فمن ذلك مارويناه سابقًا (ص٣٣٤) عن نقوش وتصاوير القليس التي زان به ابرهة تلك الكنيسة الشهيرة. وقد ذكر بعضهم تماثيلها فعدها لجهله أصنامًا (اطلب في معجم البلدان وصف القليس وما قال هناك عن كعيت ٤: ١٧٢) .
وما قيل عن كنيسة صنعاء يصح عن بيعة نجران اللمعروفة بكعبة نجران التي عنى ببنائها بنو عبد المدان فغن قدماء الكتبة يشيدون بمحاسنها ولعل صورها أتى بها الحبشة بعد محاربتهم لذي نؤاس وفتحهم نجران فإن الحبش كانوا يحسنون التصوير.
وفي الحديث الإسلامي أن بعض نساء محمد اللواتي كنَّ هاجرن إلى أرض الحبشة ذكرن أماه حسن كنيسة مارية هناك وتصاويرها. فقال لهنَّ محمد وهو في مرض الموت: "أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا ثم صوروا فيه تلك الصور" (اطلب البخاري في باب المساجد) .
وقد ورد في معجم البلدان لياقوت (٢: ٧٠٣) ذكر كعبة نجران وصورها مع شهادةٍ لعموم نصارى العرب باتخاذ الصور في كنائسهم قال في وصف دير نجران: "موضع باليمن لآل عبد المدان بن الديَّان من بني الحارث بن كعب ... بنوه مربعًا مستوي الأضلاع والأقطار مرتفعًا عن الأرض يصعد إليه بدرجة على مثال بناء الكعبة فكانوا يحجونه وهم طوائف من العرب ممن يحل الأشهر الحرم ولا يحج الكعبة ويحجه خمثعم قاطبةً وكان أهل ثلاث بيوتات يتبارون في البيع وربها أهل المنذر بالحيرة وغسان بالشام وبنوا الحارث بن كعب ينجران وبنوا دياراتهم في المواضع النزهة الكثيرة الشجر والرياض والغدران ويجعلون في حيطانها الفسافس وفي سقوفها الذهب والصور. كان بنو الحارث بن كعب على ذلك إلى أن جاء الإسلام" ومن التصاوير التي لاتزال آثارها إلى يومنا في جزيرة العرب ماتزدان به كنيسة طورسينا الراقية إلى القرن السادس للمسيح فإن فيها من النقوش والفسيفساء والصور المختلفة أشياء كثيرة تتسع في وصفها زوار ذلك المقام الجليل وهي لمصورين وصنعة بوزنطيين أرسلهم يوستنيانوس الملك لتشييد تلك المقامات وتزيننها بضروب النقوش.
وكذلك مكة كان للمصورين والنحاتين النصارى فيها آثار ذكرها أقدم مؤرخ لتلك المدينة وهو أبو الوليد الأزرقي في كتاب أخبار مكة (ص ١١٠ ١١١ طبعة ليبسيك) قال يذكر بناء قريش للكعبة في الجاهلية:
1 / 163