وبينما أبو عبيد في صحبة عبد الله بن طاهر إذ وجه إليه أبو دلف (١) يستهديه أبا عبيد مدة شهرين، فأنفذ أبا عبيد إليه فأقام شهرين بمثابة الأستاذ الزائر، فلما أراد أبو عبيد الانصراف وصله أبو دلف بثلاثين ألف درهم فلم يقبلها وقال: أنا في جنبة رجل ما يحوجنى إلى صلة غيره ولا آخذ ما فيه علي نقص (٢).
ولما مات أبو عبيد بمكة نعي إلى عبد الله بن طاهر فرثاه بقصيدة قال فيها:
يا طالب العلم قد مات ابن سلّام ... وكان فارس علم غير محجام
مات الذي كان فيكم ربع أربعة ... لم يلف مثلهم إسناد أحكام
حبر البرية عبد الله أولهم ... وعامر ولنعم الثاويا عامي
هما اللذان أنافا فوق غيرهما ... والقاسمان ابن معن وابن سلام (٣)
ولقد اتفق أهل عصره في الثناء عليه والاعتراف بعلو قدره وإنزاله مدارج العلماء الكبار، أثنى عليه المحدثون والفقهاء والأدباء وعلماء اللغة ونطقوا في بيان أمانته وورعه وسعة علمه وجودة مؤلفاته وتصانيفه.
_________
الخطيب في تاريخه بسنده قال ابن عرعرة: كان طاهر بن عبد الله ببغداد فطمع في أن يسمع من أبي عبيد وطمع أن يأتيه في منزله فلم يفعل أبو عبيد، حتى كان هذا يأتيه، فقدم علي بن المديني وعباس العنبرى فأرادا أن يسمعا غريب الحديث فكان يحمل كل يوم كتابه ويأتيهما في منزلهما فيحدثهما فيه.
انظر: (تاريخ بغداد ١٢/ ٤٠٧).
قلت: أفلست ترى أن أبا عبيد يذهب إلى الأب عبد الله بن طاهر لمكانته وإجلاله للعلم كما كان يذهب إلى يحيى بن معين والعنبرى ويمتنع عن المجيء إلى الابن طاهر بن عبد الله صيانة للعلم وحفظا لشرفه.
(١) أبو دلف: هو القاسم بن عيسى بن إدريس بن معقل بن عمرو أبو دلف العجلي أمير الكرج، كان شاعرا أديبا سمحا جوادا وبطلا شجاعا، مات ببغداد سنة خمس وعشرين ومائتين.
انظر: (تاريخ بغداد ١٢/ ٤٢٢).
(٢) انظر: تاريخ بغداد ١٢/ ٤٠٦، معجم الأدباء ٨/ ٢٥٦.
(٣) المرجع السابق ٤١٢.
المقدمة / 23