في غرفته جلس وحيدا غريبا جاثيا على ركبتيه، غارقا في بحر من دموع وذكريات، وبين يديه طرحتها البيضاء المزينة باللؤلؤ والخرز الأبيض، كان قد تفاجأ بها مخبأة بين ثيابه المطوية بعناية. مضى على وصوله سبعة أشهر ولم يقم بعد بإفراغ حقائبه، يطيب له أن يتركها كما تركتها هي، مرتبة منظمة محتفظة بلمساتها عليها، وبقايا ما علق فيها من عطرها. لم يشأ أن يشوه هذا الجمال، راح يتأمل الحقيبة المفتوحة أمامه، هكذا فعلت في حياتي، هكذا دخلت إلى عالمي فأكسبته الترتيب والأناقة ولمسة خاصة من سحر أنوثتها. لكن «يا فرحة ما تمت!» اعتصر الطرحة بين يديه، قربها من وجهه، راح يستنشق بقايا روحها المسكوبة هنا وهناك وفي كل مكان.
بكى قلبه؛ فما عاد لعينيه وسع لبكاء أو دموع. تذكر الليلة الأولى، خوفها وحياءها، ارتجاف يديها، رعشة شفتيها المصبوغتين بالأحمر الداكن، عينيها المسبلتين وصوتها الناعم، يا لهذا الصوت الملائكي! تذكر نزهتهما الأولى مشيا حول الفندق، وتسللهما بين الأشجار ليلا، رن في أذنيه صوت ضحكتها حين حملها وهي تشد قبضتها على قميصه خشية أن تقع، كيف أوقعك يا حبيبة القلب كيف؟
خمسة أيام هي كل رصيده منها، امتلأت جمالا وحبا وسعادة موقوتة بالفقد والفراق، غادرها والشوق يسبقه، سافر وترك روحه معلقة في الوطن بين يديها، ويلي من يديها الصغيرتين وحبة الخال المختالة! كانتا في حضن يديه في آخر لحظة، همس لها: «سأراك قريبا، أعدك بذلك يا جميلتي.» غالبت دموعها وابتسمت. ما أتعسني! لماذا لا أتمكن من تحقيق وعدي لها؟ هذه هي المرة الثانية التي أخذلها! يا للظلم والقهر! متى أراك سلمى متى؟ لماذا كتب على الحب أن يكوى بالخوف؟ وكأنهما ولدا معا؛ الحب والخوف. الحب خوف نصفه، ونصفه اشتياق.
قام بطي الطرحة بحذر، وأعادها إلى الحقيبة، وأغلقها على خوف وأمنيات وصرخة مكتومة ويأس مقيت. وفي غرفته جلس وحيدا غريبا جاثيا على ركبتيه، غارقا في بحر من دموع وذكريات.
2 - ستعطيك أمي بعض الأوراق لتجلبيها لي معك. - على عيني، لكن أريد أجرتي سلفا. - أنا جاهز، أقصد «نحن» جاهزون. - ههههه، هل ما زلت تذكر؟ - طبعا وما زلت إلى الآن لا أعرف لماذا كنت تخاطبيني بضمير الجمع؟ أظن أن ضمير الجمع يتوافق مع مكانتي العالية وقدري الرفيع! - لا تشطح كثيرا بخيالك، إنما كنت أفعل ذلك استجابة لرغبة داخلية عندي في إبقاء العلاقة بيننا أكثر رسمية. - آها، يا للرسمية التي غدونا عليها الآن! - سبحان الله! من كان يدري؟ - حسنا، المهم اطلبي وتمني. - هل أنت واثق؟ أطلب ما أشاء؟ علي إذن أن أتريث و«أتدلل» قدر ما أستطيع. - أكيد، لك ذلك. - هل توافق هكذا «على بياض» من غير أن تعرف طلبي؟ - وماذا أستطيع غير الرضى والموافقة؟ - ألا تخشى أن تصيبني كلماتك بالغرور؟ - «ته دلالا فأنت أهل لذاكا ...» - ههههه غلبتني. أراهن أنك تبتسم الآن، هل أنا محقة؟ أراك مبتسما مسترخيا. - نعم، والذهن يذهب شرقا وغربا يحاول تصور ما تريدين. - ماذا تريدني أن أريد؟ فلا أريد إلا ما تريد! - وماذا تريدين أن أريد؟ - ههههه. لا تسرق كلماتي. - بل أفكارك، أفكر بطريقتك. - عليك حد السارق إذن، عليك أن تمثل أمام العدالة. - «يا أعدل الناس إلا في معاملتي، فيك الخصام وأنت الخصم والحكم!» - ههههه. عليك حد وسداد أجرة. أعانك الله. - ولا بأس أمام الرضى. - البارحة ليلا حدثتك ساعة. - وكيف كان ذلك؟ - أمام شباكي، هل سمعت الكلمات أم طارت بها الرياح؟ - وكيف كانت كلماتك؟ - إيه، كثيرة، لطالما فعلت ذلك، أنظر باتجاه الجنوب، وأرقب القمر، وأتحدث بقلبي بلا صوت، أتحدث وأتحدث ثم أختم ب «تصبح على خير.» - يا له من موقف روحاني عظيم، وكم أنت عميقة الروح والوجدان! - شكرا. - سأخلد إلى النوم الآن، سأضع رأسي على ركبتيك وأغفو. - نم مطمئنا في روحي وفي أمان الله.
3 «الحي السياسي»، قالت لسائق سيارة الأجرة فانطلق بها، راحت تفكر: كم مر علي من الوقت منذ آخر مرة رأيته؟ عام؟ أو أقل؟ ماذا سأقول له حين يراني؟ هل ستجري الأمور على خير؟ ماذا سيحدث في الدقائق القليلة القادمة؟ اضطربت السيارة وهي تمر على بعض المطبات والحفر، فانشغلت بذلك قليلا عن قلقها. نظرت من النافذة، شوارع وأبنية باتت تألفها قليلا، الناس في الشوارع بخدود منتفخة بالقات،
1
وعيون ساهمة، الأطفال يركضون وبعضهم بأرجل حافية، على الأرصفة رجال يأكلون، ونساء تبيع أو تشحذ. «من هنا يبدأ الحي السياسي، أين تريدين؟» جاءها صوت السائق، لكن الحي كبير، تتذكر أنه أخبرها مرة بوجود فرن للخبز بجوار بيته، قالت: خذني إلى فرن الخبز. - يوجد ستة أو سبعة أفران في هذا الحي، أي واحد تبغين؟ - خذني إلى أقربها.
نزلت مع تباشير يأس بدأت تتسلل إلى روحها، ذهبت إلى أول فرن صادفته، وراحت تسأل عنه لكن لا أحد يعرفه، انتقلت إلى الآخر مشيا، فالثالث والرابع، سلخت ساعات تمشي تحت الشمس، دخلت حارات ومشت في أزقة، راقبتها بعض الأعين المتطفلة، ولحق بها أطفال وجدوها غريبة. وأخيرا تملكها اليأس من كل جانب، وعبثت بها خيبة الأمل، استدارت ومشت إلى الشارع الرئيسي لتوقف سيارة أجرة وتعود.
قبل أن تركب شعرت بأحد يشدها من كمها، استدارت فرأت طفلا متسولا قال لها: «أنا أعرف الدكتور السوري فهو دائما يعطيني مالا.» ابتسمت لطيبة هذا الولد، ناولته ما وجدته في محفظتها من نقود معدنية، ربتت على كتفه وقالت: إنه ليس دكتورا، لكن شكرا لك. - هو دكتور، كل الناس تقول له دكتور، هو الدكتور السوري. - طيب، كيف هو شكله؟ - «حليوة» هذا الدكتور، أنتم السوريون حلوين. - شكرا لك. - تعالي أدلك أين يسكن.
Unknown page