أزالت الغلاف البلاستيكي بحركة متثاقلة من يدها، وقامت بتقطيعها شرائح رفيعة ما أمكنها ذلك وأعانتها عليه السكينة. استدارت إلى الغاز، وحملت قدرا كانت عليه، سكبت القليل من المجدرة بالبرغل فملأت بها طبقا متوسط الحجم كان يأكله زوجها وحده، والآن عليهم أن يتشاركوها أربعتهم. رتبت هذين الطبقين اليتيمين على الطاولة، وضعت إبريق ماء شبه بارد وثلاثة أكواب، سحبت ملاعق من الدرج ونادت على أسرتها: «هيا، تفضلوا، اقترب أذان المغرب.» - أيش هذا؟
أول كلمة نطق بها أبو سعيد وهو يرى الطعام ونظر إلى زوجته مستفسرا، أجابت: ماذا تريديني أن أعمل؟ البرغل نفد تماما، وكذلك الخضار، ماذا كنت تظن؟ وما طبخته اليوم سيكفينا اليوم وغدا وإلا بقينا يوم غد بلا طعام.
تمتم أبو سعيد: «لا حول ولا قوة إلا بالله.» سحب الكرسي مصدرا أزيزا مزعجا، ثم أذن المغرب. أمسك كوب الماء وراح ينادي بأعلى صوته: «سما، فاطمة أين أنتما؟ ألا تسمعان الأذان؟» هرولت الفتاتان على صوت والدهما الغاضب وأخذتا مكانيهما على الطاولة. صاحت فاطمة: مجدرة أيضا؟ البارحة أكلناها، ثم أين البصل المقلي؟ ماما لن آكل.
عضت أمها على شفتيها ونظرت بطرف عينها إلى أبيها نظرة فهمتها فاطمة جيدا فلاذت بالصمت، ولاذ به الجميع فلم يعد يسمع إلا صوت طرق الملاعق على حواف الطبق الوحيد. كانت أم سعيد في أثناء ذلك تملأ طرف ملعقتها وتأكل ببطء شديد حتى يتسنى لأفراد أسرتها أن يأكلوا أكثر ليشعروا بشيء من الشبع الذي ما كانت تأبه له كثيرا هذه الأيام.
في اليوم التالي استغرق أبو سعيد في نومه أكثر من المعتاد، راحت زوجه توقظه، لكنه أجابها بأن تتركه. لم يكن نائما، كان يتقلب على فراشه بهم كبير؛ فإفطار البارحة أوحى له بشبح الجوع يلوح له قريبا جدا؛ فقد نفد الطعام من حلب، من أحيائها الغربية تحديدا، من كان يصدق ذلك؟ حلب المليئة أسواقها بأجود الخضار والفواكه وأرخصها وألذها طوال العام باتت اليوم خاوية على عروشها، خلت أسواقها من الباعة إلا من بضعة منهم ممن حالفهم الحظ بتجاوز المعبر بسلام محملين ببضائع مختلفة من أحياء حلب الشرقية ليبيعوها هنا بعشرة أضعاف سعرها. ما كان يحز في نفسه حقا دموع الصغيرة فاطمة التي تلتمع في عينيها كل يوم وهو عائد من عمله فتنظر في يديه، وتسأله: «لا يوجد لبن اليوم أيضا يا بابا؟» إنه يعرف تماما كم تحب هذه الصغيرة اللبن، لكن ماذا يفعل إذا كانت كل مشتقات الألبان نفدت تماما؟ قطب جبينه ولعن كل شيء. عليه أن يفعل شيئا وسيفعله اليوم.
5
كنت عجلة مساء ذلك اليوم، عملت أي شيء بشرود تام، طغى التوتر على حركاتي، وأويت إلى فراشي باكرا جدا. دسست نفسي في السرير، وشددت اللحاف حتى غطيت رأسي، أريد أن أخلو بنفسي، يا إلهي ماذا فعلت! أعدت أحداث ما مررت به صباح اليوم، حاولت تذكر كل شيء، أخاف أن تهرب مني إحدى التفاصيل، أرغب في الاحتفاظ بها عميقا في حنايا ذاكرتي فلا يفلت منها شيء، حاولت استحضار كلماتنا، نظراتنا، خطواتنا، ضربت رأسي وأنا أتذكر ما قمت به من غباء في القبو، ثم أغمضت عيني والشذى عاد ليغمرني حين كان راكعا فوقي، تذكرت المشاعر التي انتابتني، الرعشة الخفيفة في قلبي، والرجفة الكبيرة في أطرافي، والخوف المقيت الذي تسلل زاحفا إلي، أخذت أتخيل سيناريوهات أخرى جميلة كانت لتحدث لو تصرفت بطريقة أخرى في تلك اللحظة، ثم أزحت اللحاف عن رأسي بعد أن شعرت بحاجتي الشديدة للهواء، لكن لحظة، ماذا كان يرتدي؟ يبدو أن حضوره الحلو طغى علي فنسيت أن ألاحظ ثيابه. هل كان لقائي به صائبا؟ بالتأكيد لا، لكنني فعلته وانتهى الأمر، علي ألا أفكر في ذلك، بل ألا أكرر أي حماقة جديدة.
سحبت جهازي الكمبيوتر لأرى إن كان متصلا الآن على الفيسبوك، لكن بطارية الجهاز كانت فارغة تماما، يا للخيبة! لكن ربما هذا أفضل، علي أن «أثقل حالي» قليلا. النوم يجافيني، قمت وتشاغلت بغزل الصوف، كنت أصنع شالا لسلمى أهديه لها قبل رحيلها، سلمى زوجة أخي سعيد، كم هذا رائع! أريد أن أصبح عمة عما قريب.
بعد ساعة حضر والدي وقام بتوصيل «الأمبيرات » وهي خطوط تمديد للكهرباء موصولة بمولدة كبيرة يملكها أشخاص يقومون بتأجير الكهرباء لمن يشترك بأمبير أو اثنين أو أكثر، أضاء البيت أخيرا فقمت لأجلس مع أهلي، تجاهلت جهازي الكمبيوتر تماما، فإذا وصلته بالشحن فإنني سأفتحه بالتأكيد. كلا لن أفعل، وأمضيت الوقت وأنا أختلس النظر إليه حتى انتهى وقت الأمبير وغرقنا في الظلام مجددا، وارتحت أنا أخيرا.
صباح اليوم التالي استيقظت باكرا جدا، قبل السابعة، سارعت إلى جهازي الكمبيوتر لأضعه في الشحن فقد كان التيار الكهربائي موصولا. ها قد مضى يوم الأمس بطوله، ما المشكلة إذا فتحت «الفيسبوك» الآن؟ وهكذا فعلت، لكن لا رسائل جديدة منه، بل منشور واحد كتب فيه:
Unknown page