الفصل السادس
1
الساعة التاسعة من مساء يوم الجمعة، الغرفة مضاءة بأنوار خافتة من «الكلوبات» الموضوعة في الزوايا وعلى طرفي السرير المرتب بعناية فائقة، الأبيض كان سيد الألوان هنا ؛ الشراشف والمخدات وسيراميك الأرض، الستائر بيضاء مسدلة، وخشب الغرفة أبيض ناصع، ولهذا السبب بالذات اختار الغرفة هذه. وتأكيدا للفضاء الأبيض، فقد حرص على ملء الغرفة بأنواع الورود والزهور البيضاء، رائحة زهر الياسمين تحديدا كانت تنشر على الغرفة جوا سحريا من الألفة المحببة، وإيحاءات بمساءات صيفية باردة.
كانت جالسة بكامل زينتها على أحد المقعدين الأبيضين الموضوعين قرب النافذة، وعلى الطاولة فنجانان وركوة مملوءة بالقهوة الساخنة، وباقة جوري بيضاء، وأطباق من الشوكولاتة الفاخرة والفواكه والموالح المشكلة. أصوات بعيدة ومتقطعة لدوي مدافع واشتباكات، القلب يخفق وجلا، اليدان المزدانتان بالخواتم ترتجفان وتعصران الطرحة البيضاء بين الأصابع، العينان تنظران إلى انعكاس بريق الأنوار الخافتة على الخرز والماس المطرز على فستانها الأبيض، الأنفاس سريعة متتابعة كأنفاس طريدة هاربة من فهد صياد، لم الخوف؟ تكرر لنفسها مرارا وتكرارا، أليس هذا ما أردته دوما، أحلم؟ هذا فوق الحلم وأجمل من الخيال، تنظر إلى الساعة مجددا، هل تأخر؟ ربما قليلا أو كثيرا، لقد تاه الوقت لديها منذ اللحظة التي جلست قبالته بجانب مقصف العمارة وهو يقول لها: «اشتقت إليك.» وتوقف العالم بعد ذلك بزمانه ومكانه، بعلله ومعلولاته، وتاهت في منعطفات السعادة الحلوة، لكنه تأخر، قال لها «سأوافيك بعد دقائق يا عروسة.» فأين ذهب؟ ماذا سيحضر أيضا؟ كل شيء هنا؛ الورود والشموع والطعام، ماذا أيضا؟
وقفت واتجهت إلى الخزانة، ثيابها القليلة مرتبة بعناية، وكذلك ثيابه، الحمام أيضا يتلألأ بأنوار الشموع البيضاء، لن يبقيا هنا طويلا؛ فأجرة الفندق غالية. أخذت تحدث نفسها: لا بد أنه تكلف كثيرا! نظرت إلى المرآة، وأعجبها جمال وجهها المزين بمهارة عالية، أنا جميلة، وهو يحبني «يموت في»، كما قال لي، ابتسمت وخرجت.
طرق خفيف على الباب، «من؟» سألت وهي ملتصقة بالباب، «افتحي سلمى، أنا سعيد.» وهبط قلبها في الرهبة مجددا، أخذت نفسا عميقا، أدارت قفل الباب وفتحته حاشرة نفسها خلف الباب، دخل سعيد بكامل أناقته. سارعت لتجلس في مكانها، محدثة جلبة بارتطام أطراف فستانها الواسع بالخزانة وأرجل المقاعد. أغلق سعيد الباب وراءه، كان يحمل شيئا، لم تتبين سلمى ما هو، كانت منشغلة بتهدئة نفسها من الرعشة التي سكنت قلبها، وامتدت إلى جسدها حتى آخر أطرافها. «آمل ألا أكون قد تأخرت عليك.» قال ذلك ووضع ما بيده، ثم قال لها: «تعالي سلمى أريد أن أريك شيئا.» جلست على طرف السرير، ورأت ما بجانبه، إنه صندوق خشبي متوسط الحجم، قال لها: «افتحيه.» حملته بيديها وفتحته، أخذت تقلب ما فيه وهو يراقب بفرح طفولي انفعالاتها الحلوة على وجهها، ابتساماتها، نظراتها، يداها، دهشتها. وأخيرا قال: «هل تذكرين؟ هذا كنزي! ما بقي لي منك بعد أن فقدتك قبل عامين، ذكرياتي معك، هذه ورقة الشوكولاتة التي أكلناها معا في اليوم الوحيد الذي حدثتك فيه أيام المعهد، الزهرة الصفراء التي قطفناها من شجرة كانت تظللنا، وهذه الأوراق هل تذكرين؟ حين كنت تخربشين على دفترك، وهنا في طرف الورقة الأقرب إلي رسمت قلبك الصغير، لقد انتزعتها خلسة من دفترك، وهذا هو القلم الأزرق الذي كنت تكتبين به، أيضا خطفته منك وبقيت أتنشق شذاه دهرا، من يومها علمت أنك لي، وأني معك سأقضي عمري.» كانت تبتسم وعيناها تلتمعان بالدموع؛ فالسعادة التي يقدمها لها أكبر من أن يحملها قلبها الصغير، قالت أخيرا: «شكرا.» أمسك يديها وقال: «بل شكرا لك لأنك ملكة حياتي، أحبك سلمى.» لم تجب، كانت مطرقة، مد يده إلى ذقنها ورفع وجهها تجاهه وقال: «انظري في عيني سلمى.» وببطء وبكثير من المجاهدة رفعت عينيها إلى يديه اللتين تحتضنان يديها، إلى قميصه الأبيض الذي يزيده وسامة، إلى سترته الرسمية السوداء، وربطة عنقه الساتان، إلى ذقنه، شاربيه، وأخيرا إلى عينيه، لكن أنى لها أن تقوى على النظر طويلا في هذا السحر الطاغي، في هذا الحب المتدفق من تلك العينين البنيتين، أخفت وجهها بين يديها وراحت تبكي!
كيف يفهم رجل ما يمر به قلب أنثى؟ كيف لمنطقه الثنائي الصارم أن يدرك ثنايا ومتاهات عالمها الأنثوي الخصب؟ سارع إلى القول: «ما بك؟ هل آذيتك سلمى؟» ظلت تبكي وهي تتخيل كيف صار وجهها مع كل المساحيق التي كانت عليه ؟ وقف سعيد حائرا فعلا؛ فالبكاء يعني له الحزن أو الألم، وهما أمران لا يدري كيف سببهما لها! ماذا سيفعل؟ ارتبك، ثم أحضر علبة المناديل ووضعها بجانبها، مشى خطوات باتجاه الحمام، عاد إليها، رفع يده ليضعها على كتفها، تراجع إلى الخلف وخرج من الغرفة، اتصل بأخته، حكى لها ما حصل فقالت: «لا تقلق، إنها زحمة مشاعر لا أكثر!»
2
أنا كاذبة! لم أذهب إلى بيت صديقتي كما أخبرت بذلك والدتي، لكنني أمشي الآن في ساحة سعد الله الجابري باتجاه المتحف، شعرت أنه أخطر شيء أقوم به في حياتي! كانت الرعشة تربكني، تزيد من سرعة خطواتي، تملكني خوف وترقب وإثارة، ووجيب قلبي المجنون يصم أذني، أكاد أجزم أنه وصل إلى الناس حولي، أشعر بنظراتهم تخترقني، تفضح كذبتي، تسجل خطواتي. ليتني جلبت صديقتي معي، لكنها لا تستطيع الحضور، أعلم ذلك لكن كم أتمنى وجودها معي الآن. فكرت أن أعود، لكن الأوان قد فات، لقد تلبست بالجرم وانتهى الأمر. دعوت الله أن أصل قبله، لأجمع شتات نفسي، وأستجلب الشجاعة من وهم اعتدادي بذاتي، ولأنفض عني ما علق بي من غبار الخوف والارتباك.
رأيت بوابة المتحف فسارعت خطواتي، يا للجنون! تجاوزت السور ووقفت في الحديقة أمام بوابته الكبيرة. مشيت ببطء هذه المرة بين الأشجار والآثار، القطط تتجول في المكان بكثرة، والجو لطيف مع نسمات باردة. التماثيل الموضوعة أمام البوابة كبيرة جدا، هذه أول مرة أراها من هذا القرب، إنها ضخمة حقا! «أهلا بك في القصر الملكي.» التفت خلفي، فرأيته مبتسما، وابتدأ الحلم، إنه هو بلا شك، قلت من فوري: «لقد أفزعتني.» أجاب: «آسف، لم أقصد ذلك.» نظرت إليه مليا هل حقا أنا معه؟ سيراني أحد ما قريبا، كل العيون تنظر نحوي، سارعت إلى القول: «هل ندخل؟» قال: «بالطبع لا، ساحة المتحف جزء منه، تعالي سأعرفك على ما فيها، هذه التماثيل الكبيرة الرمادية هي نسخة من الواجهة الأصلية للقصر الملكي التي تعود إلى القرن التاسع قبل الميلاد، وذلك تمثال لسيد روماني جالس.» قطبت جبيني وسألته: «أين رأسه ؟» ضحك وقال: «أضاعه هناك، ربما عند تلك السيدة؛ فالنساء كما تعلمين ساحرات.» ضحكنا، ونظرت حيث أشار، كان هناك قرب السور تمثال من الحجر لسيدة واقفة، قال: «الحمد لله رأسها على كتفيها.» ضحكت، وأكملنا المشوار.
Unknown page