من يدري ماذا يخبئ لنا القدر؟ من منا قبل أشهر قليلة يمكن أن يتوقع ما حدث في سورية؟ لو قال لي أحدهم إن هذا ما ستئول إليه الأمور في حلب لرميته بحجر ودللته إلى مشفى ابن خلدون للأمراض العقلية. واليوم كل المستحيل صار ممكنا، وما كنا نعيشه كل يوم من أيام حياتنا العادية صار نعيما، صار ذكرى جميلة نتحسر عليها؛ الغاز الذي نغلي به قهوة كل صباح، الخبز الطازج الذي تمتلئ به المخابز، الخضار الرخيصة اللذيذة، الماء عصب الحياة الذي كان يخرج من صنابيرنا صالحا للشرب، نزهاتنا المتأخرة حتى الثالثة فجرا بلا خوف، عطلاتنا الصيفية الجميلة في اللاذقية أو صلنفة أو رأس البسيط، وغير هذا الكثير، أليس من الحكمة لو أحسسنا بجمالها لحظتها؟ بروعة امتلاكنا لها قبل فقدها؟ ألا ينطبق هذا على كل شيء من حولنا الآن وفي هذه اللحظة؟ لقد سافر سعيد، ومات نادر، وقبلهما رحل رائد، الشاب الذي كنت قد أعجبت به. توقفت عن القراءة واستعارة الكتب، وغرقت مدينتنا في أوحال الحرب القذرة، ما الذي يمكن أن يعيد إلينا الفرح؟ سألت نفسي كثيرا هذا السؤال، لكن أبعد شيء في الممكن أو في المستحيل يمكن أن يطرق بابك صباحا.
ركضت لفتح الباب وجدت فاطمة قد سبقتني، وكما علمناها فهي لم تفتح الباب، بل راحت تسأل: «من؟ من بالباب؟» وصلت ونحيتها جانبا لأنظر من «العين الساحرة» وكان أن وقع قلبي في رهبة المفاجأة، نظرت إلى فاطمة التي راحت تهمس: «من؟ من؟ ما بك؟» وأنا لا تكاد الرجفة في ساقي تسكن من الصدمة. عدت لأنظر مجددا من «العين الساحرة»، لأتأكد أني لا أحلم، أن عقلي لا يتوهم، آه يا قلبي، إنه هو! وبدل أن أفتح الباب، صحت بأعلى صوتي: «ماما ماما، سعيد!» وفتحت فاطمة الباب، إنه سعيد، نعم بلحمه وشحمه.
عاد سعيد ليعيد السعادة المسروقة إلى بيتنا، ليحول أيامنا إلى عيد، رأيت ضحكة أمي تعود إلى وجهها بعد غياب طويل. ومع أن أبي وبخه كثيرا على عودته في مثل هذه الظروف، ومن غير أن يخبر أحدا، فإني لمحت دموع الفرح تلتمع في عينيه حين عانقه. لقد تغير قليلا، صار أنحف وبدأت شعرات من الشيب تلتمع في شعره الفاحم، مع أنه في الثلاثين من عمره فقط.
قالت أمي وهي تحضر لنا «المحشي ببرغل» احتفالا بسعيد والذي لم نتناوله منذ وفاة نادر: «قدومك خير وبركة يا سعيد، إن شاء الله نفرح فيك ونخطب لك، تكفيك عامان من الغربة وحيدا.» صفقت فاطمة وابتسم سعيد.
بعد يومين من قدوم سعيد خرجنا معا لتناول العشاء، كان ذلك من أسعد أيام حياتي، تأبطت ذراعه تماما كما تفعل السيدات في الأفلام. وصحيح أن العشاء كان في السادسة مساء؛ إذ لا يمكن لنا البقاء خارج البيت لوقت متأخر، إلا أنه يبقى عشاء على كل حال. توجهنا إلى مطعم القيصر في حي المهندسين، وأعطاني سعيد الحرية في اختيار طبقه وطبقي. طلبت السلطة اليونانية التي يفضلها، وطبق «كوردن بلو» لي، وطبقا من المشاوي له، وبطاطا مقلية بالطبع، كان الجو رائقا، والموسيقى شرقية هادئة. تناولنا طعامنا وأنا أفرغ كل ما في جعبتي له، كل الحكايات والأحداث التي لم أتمكن من أن أحكيها، حكيت له عن جدو نور، وعن تطور علاقتي برندة. وحين هممت لأخبره عن شادي، توقفت ولم أفعل، كان هناك خشية في قلبي وقلق طفيف. أخبرته عن صديقتي الجديدة التي صارت أنيستي في ليالي الحزن الطويلة، أخبرته كم ساندتني في وفاة نادر، لكنني تجنبت تماما الكلام على نادر، تلونا لروحه الفاتحة، وتابعت حديثي؛ فلا أريد أن أفسد أمسيتنا باجترار الماضي وإعادة الأحزان، خاصة أنه لم يكن موجودا لحظة وفاته. حدثته عن الكتب التي قرأتها والتي أود قراءتها، كنت أتكلم بلا انقطاع وكان الوقت معه مليئا وممتعا وجميلا.
بعد العشاء طلب سعيد الشاي الأخضر بالنعناع، أحضروه لنا بإبريق زجاجي رائع وفناجين جميلة، مع شمعتين ووردة. أخذت أضحك، وهمس لي سعيد: «يظنان أننا عاشقان!» عندها فتح لي سعيد للمرة الأولى كوامن قلبه، سمح لي بإلقاء نظرة على عالمه الداخلي وحكى لي عن سبب مجيئه المفاجئ إلى حلب.
5 «أحبك، أنت أحييتني وقتلتني ثم أحييتني من جديد» ابتسمت وهي تتذكر كلماته، أخفت وجهها بين يديها، راح الفرح يتراقص في قلبها، عاد إليها بعد ليالي الحزن السوداء، من يومها تحاشت النظر إلى أمها وإخوتها وكل الناس، كانت تخشى أن يكتشفوا شيئا من سعادتها المفاجئة، من فرحها الذي كان يساقط من كلماتها، من عينيها وحركاتها، ويتناثر عطرا أثيريا من روحها المغمورة بالحب. جلست إلى مرآتها تنظر إلى وجهها الذي أشرق بأمل جديد يرافقه خوف كبير، لماذا كتب على الحب ألا ينضج إلا على نار الخوف؟ لكن المرة هذه مختلفة، لقد عاد إلى حلب من أجلي! ترك أمان الغربة وعاد إلى الحرب لأنه يحبني، وأنا أحبه. قالت هذا وانتصبت واقفة تذرع الغرفة جيئة وذهابا، عليها أن تراه، أن تجد طريقة لتقابله. صحيح أن أهلها فكوا عنها حظر ملازمة البيت، لكنها لم تعد تخرج وحيدة، كان عليها أن ترافق أحد إخوتها.
اهتز الهاتف في يدها، إنه هو! أقفلت باب الغرفة واتجهت إلى خزانتها كعادتها إذا حدثته، وقالت همسا: آلو. - اشتقت إليك. - ... - كيف حالك؟ - الحمد لله، وأنت؟ - لن أكون بخير حتى أراك. - لا أعرف، لن أستطيع أن أكون وحدي. - أحضريه معك، إنه صغير ويمكننا أن نتدبر أمره. - كيف؟ - سنجد حلا ما. - ماذا سنفعل إذا التقينا؟ - سأخطفك. - أنت مجنون. - بحبك!
6
إنها سيدة بالفعل، امرأة مليئة وغنية بعالمها الداخلي، لقد تحدثنا كثيرا، لا عجب أن أغرم بها جدو نور. سألتها مرة: أحيانا لا أفهمني، لا أعرف كيف تختلط الأمور في قلبي. ورأسي، يا له من ملعب خصب للأفكار! أجزم أنني أرى الأفكار تتقافز في رأسي، والذكريات والصور حتى الروائح، كل تفصيل يحمل معه طاقة شعورية مختلفة، لم لا أفهمني؟ - أنت لا تفهمين ذاتك؟ - صحيح. - ابدئي بذلك إذن!
Unknown page