أنظر إلى هذه الصورة بين يدي؛ فقد كنت أقسمت على سعيد أن يرسل لي مع كل رسالة صورة فوتوغرافية له، ومع ذلك فإنه غالبا ما كان يركن إلى الوسائل الأحدث والأيسر في تراسلنا. واليوم وصلتني منه رسالة مكتوبة، فرحت لها ككنز ثمين؛ فأنا أفضل حميمية الرسائل المكتوبة بخط اليد، والصور المطبوعة على تلك الرسائل الفجة الباهتة والصور الباردة المنبثقة على الشاشات عبر البريد الإلكتروني. أتذكر كيف كنا نتحلق حول أمي وهي تقرأ علينا رسائل خالي محجوب المقيم في أمريكا من سنوات، كنت في الثامنة أو التاسعة من عمري، كان يرسل لنا طردا مملوءا بألعاب وهدايا لي ولسعيد ونادر؛ فلم تكن فاطمة قد ولدت بعد. كانت هداياه هي الأثيرة على قلبي؛ فقد عبرت القارات والبحار والمحيطات لتصل إلي من مكان بعيد، ومن أمريكا تحديدا.
أتلمس الورقة المكتوبة بخطه فأجد روحه منبثة في ثنايا الأحرف، أشتم حنيني إليه في عبير الكلمات والنقاط والسطور. أنظر إلى صورته فأجد رجلا مبتسما سعيدا، الشفاه تكذب، لكن العينين لا تعرفان الكذب، أرى فيهما حزنا أصيلا يأبى الإخفاء والتورية، أسأله ما بك؟ فلا يجيبني إلا ب «الحمد لله، أموري تمام.» وأنا أعلم أنه يخفي شيئا، تذكرت تلك الليلة التي سمعته فيها يبكي بكاء مخنوقا قبيل سفره بأيام، هل لذلك علاقة بحزنه اليوم؟ رن هاتفي، أجبت فإذا هي مريم صديقتي، قالت لي: ماذا لديك مساء الغد؟ - لا شيء، لماذا؟ - ألا تعرفين؟ - ماذا علي أن أعرف؟ - بالله عليك أين تعيشين؟ ما عرفت أن رائد «السوبر ستار» عائد غدا إلى حلب، والعالم كله ذاهب إلى استقباله في المطار ؟ - حقا؟ - نذهب معا إذا أردت، لكن علينا أن ننطلق قبل ساعتين على الأقل، تعرفين الزحام. - لا أعرف، ربما لن أرافقك. - لماذا؟ - لا أعتقد أن أبي سيسمح لي. - كما تشائين، اتصلي بي إذا غيرت رأيك.
أغلقت الهاتف وأنا أبتسم عجبا، تخيلت رائدا في المطار وسط المعجبين والمعجبات والكاميرات والصحفيين، يا لهذه البلاهة! لن أكون من بينهم بالتأكيد. فتحت كمبيوتري المحمول، لكن لحظة! لم لا؟ أمشي بين الزحام ويراني فجأة، فينادي علي «سما، سما.» يسحبني من يدي، يطوقني بذراعه ونهرب من الصحفيين والناس كلهم. صدح صوت الكمبيوتر عاليا بموسيقى إقلاعه، ففزعت وابتسمت لسخافة خيالاتي!
كنت أنوي البحث عن رندة، لكنني آثرت تفقد بريدي الإلكتروني، فوجدت رسالة جديدة من شادي. كنت قد نسيت أمره تماما، نظرت إلى تاريخ اليوم، إنه الثاني عشر من أيار، لقد مر أسبوعان على زيارتي لمعرض الخطر. كنت قد نويت الذهاب في اليوم التالي إلى الجلسة الصحفية، لكنني لم أذهب. فتحت الرسالة، كان فيها صورة واحدة للوحة كتب فيها «فإنك بأعيننا.» كانت مزخرفة بعناية وباللونين السماوي والذهبي وتدرجاتهما، كانت الأحرف متداخلة بشكل جميل ومبهر، التقاطع والتشابك في الانحناءات والخطوط، والتباين بين الزوايا والمنحنيات لكن بانسجام تام بهرني حقا. نظرت إلى عنوان المرسل إليهم، لم يرسلها لأحد غيري! أعرف رسائله الممررة السابقة جيدا، إنه لا يستخدم أبدا خاصية إخفاء عناوين المرسل إليهم، وكنت دائما أجد اسمي محشورا بين أسماء العشرات من عناوين البريد الإلكتروني. أما هذه الرسالة فهي مرسلة لي وحدي، هل يحاول أن يقول لي شيئا؟ حاولت أن أتذكر وجهه، لم أفلح كثيرا، بل أعتقد أنه كان عاديا جدا. في الحقيقة أنا لا أذكر منه سوى ربطة عنقه الصفراء. عدت لأنظر في اللوحة ووضعتها خلفية لشاشة كمبيوتري.
ثم دخلت على صفحتي في الفيسبوك، قرأت أول منشور كان يتحدث عن إنجازات الخليفة سليمان بن عبد الملك. تذكرت سليمان الملك صديق جدو، ومن باب العبث المحض كتبت في شريط البحث اسمه كاملا، وظهرت لي صفحته الوحيدة، فتحتها، وأخذت أقرأ منشوراته وأتصفح صوره. لقد كان كنزا بحق، ملكا كما أحسست بذلك أول مرة، ملكا لنواصي اللغة التي يكتب بها، وملكا للكاميرا التي يلتقط بها صوره الفنية الرائعة باللونين الأبيض والأسود دائما لوجوه وأشجار وحشرات أيضا. لقد كان مصورا محترفا، وأديبا مفكرا، وشاعرا مرهفا، زاد إعجابي به وشعرت أنني أريد أن أعرف عنه أكثر.
وبعد وقت سمعت أذان العشاء، فانتبهت أنني سلخت الوقت ما بين المغرب والعشاء في قراءة منشوراته. تذكرت أنني أريد البحث عن رندة، فكتبت على شريط البحث، رندة عبد الحفيظ، بالعربية مرة وبالأحرف اللاتينية أخرى، ورحت أبحث في الأسماء الكثيرة التي ظهرت، لكنني لم أجد من بينها «رندة جدو»، «رندة جدو»؟ سألت نفسي، فكرة! كتبت: «رندة نور»، ظهرت لي أربع حسابات بهذا الاسم، تسارعت نبضات قلبي، شعرت أنني اقتربت منها. كان الحساب الأول متروكا، والثاني لواحدة ذات مزاج عال على ما يبدو فجميع صورها بلا ثياب تقريبا، أما الحساب الثالث فهو لفتاة في العشرين من عمرها، والرابع لسيدة عجوز! ليست رندة واحدة منهن بالتأكيد، أخذ اليأس يتسلل إلي، ربما ليس لديها حساب على الفيسبوك أصلا، نحيت الجهاز جانبا، أغمضت عيني بحثا عن حل، لكن مهلا لحظة، «جدو نور» بالنسبة إلى رندة هو «نوار» وليس «نور»! فتحت عيني وقد اشتعلت حماستي من جديد، وعلى الفور كتبت في شريط البحث بالعربية: «رندة نوار»، وظهرت لي صفحة وحيدة لا ثاني لها! تفاجأت لحظة، وحبست أنفاسي، هل سألتقي بها حقا هنا في الفضاء الأزرق في الفيسبوك؟!
10 «الحياة مثل قطعة شوكولاتة بالحليب، أول قضمة منها تملؤك لذة، فتغريك بالمزيد، وبينما أنت في لذة منتهية واشتهاء مستمر تنفد الحلوى، ولا ينوبك في الآخر إلا ذكرى لحلاوة ماضية، وتكدس السكر في دمك! والحكيم من يلتذ بالحلوى على مهل.» كان هذا أول منشور للسيدة رندة، رندة نوار، لقد وجدتها! يا لروعة اللقاء! لكنه لقاء من طرف واحد؛ فأنا أعرفها، أما هي فلا. ترى كم يبلغ عمرها الآن؟ ربما هي في أوائل الخمسين. وجدت أنها تقيم في مدينة «قونية » التركية، كانت هناك عدة صور لها، وكمن وجد كنزا بعد طول بحث رحت أفتح الصور باللهفة التي زاد من وقودها بطء الإنترنت وتأخر تحميل الصور. كانت جميلة القوام، ليس كما تخيلتها تماما؛ فهي تميل إلى القصر قليلا، شعرها الكستنائي المجعد كما في خيالي، لكن تنورتها لم تكن مزركشة. كانت في معظم الصور ترتدي إما سراويل عريضة داكنة، أو فساتين من الكتان المزهر، ورغم سنوات عمرها فإنها كانت امرأة جميلة، سيدة بحق، تعرف تماما ما يناسبها ويبرز مواطن جمالها لكن بكبرياء وتعفف، وبالتأكيد لم يكن الشال السماوي ليغيب عن معظم صورها. كم كانت فرحتي شديدة! أمسكت الهاتف لأزف البشرى لجدو نور، لكنني تراجعت أخيرا، أريد أن أصنع له مفاجأة، وعلي أن أعرف رندة أكثر، أن أقترب منها، وأحاورها، ربما أتمكن من استمالتها للمجيء إلى هنا؟ من يدري؟ يا للحماسة التي تسري في كل خلية في! أخذت أضع سيناريوهات مختلفة لكيفية لقائهما، كم سيكون رائعا!
وبينما أنا مسترسلة في خيالاتي سمعت صفقا عنيفا لباب بيتنا، إنه نادر عاد من صلاة الجمعة وهو يصرخ وكذلك أبي وأمي. خرجت لأستطلع الأمر، فوجدت الجميع في حالة هياج كبير، نادر يصيح بغضب، وأبي بوجه عابس، وأمي بعينين دامعتين خوفا. لقد كان نادر في «مظاهرة» بعد الصلاة، يا للمصيبة! لماذا يفعل شيئا غبيا كهذا؟ هل قصد الخروج؟ أم وجد نفسه متورطا؟ لم أكن أدري، لكن أبي وبخه كثيرا.
وأسبوعا بعد أسبوع زادت الأمور سوءا في حلب، صار التيار الكهربائي ينقطع باستمرار أكثر، ولساعات أطول، وكذلك الماء، وأخذت الأسعار ترتفع بصورة جنونية. لم أعد أتمكن من الذهاب كثيرا لجدو نور، وخيمت على حياتنا سحب كثيفة من النزق والكآبة.
كنت أتسمر أغلب اليوم أمام شاشة التلفاز لمعرفة الأخبار أو أقرؤها على الإنترنت، بحسب وجود التيار الكهربائي أو انقطاعه. في البداية كنت أعد الأيام السوداء ثم تطاولت الحرب واستطالت أذرعها لتنهش كل مدينة وقرية في سورية، وانبثقت لها أذرع وأرجل متفرعة جديدة تنشب أظفارها في قلوب الأطفال والأبرياء، وتلون الخبز بالدم، وتصبغ المدارس والبيوت والجوامع بشيطان الموت الرجيم. عندها فقد كل شيء معناه، واختلطت الأرقام وتوقف العد سامحا لليأس المعجون بالعجز ليتسلل إلى حياتنا كسرطان خبيث يذيب روح الحياة في قلوبنا.
Unknown page