باشر أخي بتقديم القهوة لزوج عمتي فقال: «أما وقد جاءت القهوة، فدعونا نتحدث في المهم.» وما إن جلست حتى انبرت عمتي تحاول أن تخلق جوا من المرح فقالت: «لا تتعجل يا أبا سامر؛ فالبنت هنا، والبنات يخجلن، صحيح؟» ووكزتني في معدتي محدثة ضحكة عالية مصطنعة، همست لي أمي: «اذهبي إلى أختك وأطعميها.» وحين هممت بالنهوض، أسرع أبي بالقول: «اجلسي يا بنتي؛ فالكلام يخصك أنت.» عدلت من جلستي، وأسندت ظهري وأنا أشعر بإحراج شديد، قالت عمتي: «كما تعلم يا أخي فابني سامر، الله يخلي لك أولادك، يعمل في أضخم الفنادق في قطر، ويتقاضى راتبا ممتازا، وقد استأجر بيتا رائعا في بناء فخم وإطلالة جميلة، وقد ...» قاطعها أبي قائلا: «سبق أن حدثتنا بهذا يا أم سامر.» فقال زوج عمتي متداركا الموقف: «نعم، نعم، ونحن هنا لنطلب يد ابنتكم المصون لابننا على سنة الله ورسوله، وقد سبق أن وعدتنا خيرا، واليوم أتينا لقراءة الفاتحة، والاتفاق على باقي الأمور.» تمتمت في سري وقلبي يرتجف: «أي خير؟ وأية فاتحة ؟» نظرت إلى أخي سعيد مستنجدة، فوجدته بدوره ينظر إلي أيضا، أشرت له بعيني أن قل شيئا، فقال أبي على الفور: «أهلا بكم في بيتكم وبين أهلكم، أما السؤال الذي سألتموه فاسمعوا جوابه من صاحبة العلاقة، ها هي أمامكم فاسألوها.» حملقت عمتي عينيها وقالت: «منذ متى يكون للصغار كلام في حضرة الكبار؟ ما هكذا ربانا والدنا يا أخي، أم أنك نسيت الأصول؟» قال زوج عمتي: «بل عين الصواب والأصول، دعينا نسمع منها رأيها؛ فهي العروس والقرار قرارها.»
صمت الجميع وتحولت أنظارهم إلي، شعرت بحرارة في وجنتي، قالت عمتي مقرة: «ها، السكوت علامة الرضى.» قال زوجها بنزق: «اسكتي يا امرأة، دعيها تتحدث.» أخذت نفسا ونظرت إلى عمتي وقلت: «عمتي، لن أنسى أبدا كم كنت وما زلت كريمة معنا، وكم كنت أحب اللعب في فناء بيتكم مع بناتك اللاتي هن أخواتي، وستظلين كذلك، إلا أنني في الحقيقة لا رغبة لدي بالزواج في الوقت الحالي؛ فما زلت صغيرة.» ضربت عمتي على فخذها انزعاجا، بينما أشاحت أمي وجهها، وظل أبي بلا انفعال، وساد السكون لحظات، ثم قالت عمتي: «جيل آخر زمن، وما العيب فينا وفي ابني؟ ألف بنت تتمناه.» فقال أخي سعيد: «لا عيب فيكم عمتي، أنتم خيرة الناس، وها قد سمعت جوابها: ما في نصيب.» قال أبي قبيل أن تنطق عمتي التي قامت واقفة تستعد لإكمال الحرب: «إلى أين يا أختي؟ وأنت يا ولد الزم أدبك.» قالت: «أيرضيك ما سمعته منهما؟» حرك أبي يديه وذراعيه أن ما باليد حيلة. قام زوج عمتي ممسكا بيد ابنه وقال: «هيا بنا، بيتكم عامر، السلام عليكم.» خرجت عمتي وانتشلت باقة الورد معها وأخذت تردد: «ستندمون، لن تجدوا أفضل من ابني، دعوها عندكم حتى تعنس.» وزوجها يسحبها ويقول: «اسكتي يا امرأة، اسكتي.»
أما إن سألتموني عن ابن عمتي العريس سامر وماذا فعل في كل هذه الأحداث؟ فسأجيبكم بلا شيء، نعم، لم ينطق بكلمة، ولم يغضب، أو ينفعل، فقط عندما مر من جانبي نظر إلي باحتقار.
وهكذا انتهى كابوس عمتي وابنها والزواج على خير، تنفست الصعداء، وشكرت سعيدا على دعمه لي. وهنا عاد أبي إلى الغرفة بعد أن شيع عائلة عمتي، وقال وهو يرفع إصبعه متوعدا: «ها نحن نخسر بيت أختي بسببك، هذه المرة تركتك على راحتك، لكنها الأولى والأخيرة، ما تريدين الزواج يا بنت؟» وخرج.
7
سعيد، أخي الكبير، يكبرني بأحد عشر عاما، يشبه جدي لأمي كثيرا، مربوع القامة، شعره أسود مموج، ووجهه مدور وكذلك أنفه، عيناه بنيتان صغيرتان ورثهما عن جدي، وبشرته حنطية، كان شكله يتغير كثيرا من عام إلى عام، ويزداد وسامة كلما تقدم في العمر، وكأنه ينضج على مهل فتظهر حلاوته شيئا فشيئا. هو أخي وصديقي وأبي، صاحبني أيام طفولتي، وعلمني كثيرا، وعوضني عن حنان أبي الذي كان حاضرا غائبا. أذكر مرة أنني دخلت إلى البيت عائدة من المدرسة، فوجدت أبي في البيت على غير العادة، نظر إلي باستغراب كبير وقال: «لماذا يا بنت غيرت لباسك المدرسي؟» ظننته مازحا فضحكت، لكن ملامح وجهه الجامدة جعلتني أوقن أنه كان جادا، كانت أمي هي من أجابته: «البنت صارت في الثانوية، ما تريد لها أن تكبر؟» رمش بعينيه وظل صامتا، كيف يعلم في أي مرحلة أنا، وجل وقته انصب على تجارته التي هي إرث العائلة الثمين؟ ابتعد عنا كثيرا، وأنا نأيت بنفسي عنه أكثر، والتصقت بأخي سعيد الذي رحل قبل عام، ففقدت برحيله جدار الأمان الرجولي الذي كنت أستند عليه، أكان عليه أن يتركني؟ وأنا إلى من ألتجئ؟ اليوم أشعر بحاجتي إليه أكثر من أي وقت مضى. صحيح أنه يتصل بي ويراسلني بشكل شبه يومي، لكن ما عدنا كما كنا، حلت اللهفة لسماع صوته محل السكينة للحديث إليه، ونازعني فيه والداي وإخوتي، بعد أن كنت أستأثر به وحدي، أصحيح كما يقولون إن البعيد عن العين بعيد عن القلب؟
كنت أختلف عن سعيد في كثير من الأمور، هو يبسط، وأنا أركب، هو يحزم، وأنا أتردد، ومع ذلك كنت أطمئن للحديث إليه، وأعلم أنه سيفهمني جيدا كما أنا، لا كما يريد أن يتصور هو. بعد الثانوية التحق سعيد بمعهد تجاري هربا من الخدمة الإلزامية لا حبا في التعليم، وللسبب ذاته رحل عنا. كان يمثل لي الجانب المتزن الصارم من الحياة، لا أذكر أنه خرج للعب مع أصدقائه، أو في سهرة شبابية، ولم تكن لديه هواية يمارسها، ولم ينتسب لأي ناد رياضي ولا يتابع مباريات كرة القدم المهووس بها أخي نادر. كان يستجيب لمطالب أبي بلا جدال، وكان أبي يحبه ويفضله على نادر. لم يرسب في أية مادة في المعهد، بل كان ينال أعالي الدرجات على الرغم من نفوره من التعليم؛ الأمر الذي طالما حيرني.
ذات ليلة وجدت غرفته مضاءة إضاءة خافتة، اقتربت من الباب، أصغيت، وسمعت نحيبا يخترق القلب، هممت بالدخول لكنني امتنعت حفاظا على خصوصيته وعلى نفسي؛ فما كنت أقدر على تحمل رؤيته في هذه الحالة. في الصباح عاد سعيد إلى طبيعته، رباه! إنه يضحك ويثرثر كما لو أن ما حدث البارحة من نسج خيالي! أيعقل أن يكون وراء هذا الجلد والحزم قلب رقيق يبكي بحرقة؟ ولماذا؟ سافر سعيد، وسافر سره معه بعيدا.
أما أخي نادر فهو يكبرني بأربعة أعوام، وهو على عكس سعيد؛ فمنذ ولادته كان جماله يخطف الأبصار، هكذا حدثتني جدتي، شعره أشقر ناعم، وعيناه واسعتان عسليتان وبشرته بيضاء متوردة. ظهرت معالم رجولته باكرا فكبر دفعة واحدة، وازداد طولا حتى إنه يضطر لثني رقبته في غرفة الضيوف ليتجنب كريستال الثريات المدلاة من السقف، وهو الوحيد الذي نعتمد عليه كلنا في جلب غرض علق في الأعلى، أو لإحضار ماكينة «الكبة» التي تحفظها أمي فوق خزائن المطبخ.
كان نادر حبيب جدتي لأبي فهو يشبه كثيرا زوجها المتوفى الذي رحل عنها وهي لا تزال صبية في الثلاثينيات وكانت قد أنجبت أبي وأعمامي الثلاثة، من يومها عزفت جدتي عن الزواج ونذرت نفسها لتربيتهم. كانت سيدة قوية، ولا تزال كذلك إلى اليوم؛ فعلى الرغم من أنها تجاوزت الثمانين عاما فهي لا تزال تقضي كل احتياجاتها بنفسها، حتى فنجان القهوة الصباحية لا يمكن أن تشربه إلا إذا أعدته هي شخصيا؛ فلا أحد يعرف كيف تغلى القهوة «على الأصول» بحسب رأيها.
Unknown page