وعلى الرغم من صعوبة الاهتداء إلى إجابة، فليس ثمة سبب يدعو إلى إقفال باب المناقشة في موضوع التطور بتأكيد قطعي نجزم فيه بأننا «لن نعرف أبدا». فأولئك الذين يؤمنون أن الكلمة الأخيرة ينبغي أن تكون من هذا النوع، يتعين عليهم أن يعيدوا اختبار أسئلتهم، وسيجدون أن ما كانوا يسألون عنه لا معنى له؛ فليس مما له معنى أن يتساءل المرء عن سبب الكون، بل إن كل تفسير ينبغي أن يبدأ بأمر واقع معين. وكل ما يستطيع العلم أن يفعله هو أن يعود بالأمر الواقع إلى موضع منطقي معين يكون فيه قادرا على تقديم أقصى حد من التفسير.
إن استبعاد الأسئلة التي لا معنى لها من مجال الفلسفة أمر عسير؛ لأن هناك نوعا معينا من العقلية يسعى إلى البحث عن أسئلة لا يمكن الإجابة عنها. على أن الرغبة في إثبات أن للعلم قدرة محدودة، وأن أسسه النهائية تعتمد على نوع من الإيمان لا على المعرفة، هي رغبة يمكن تفسيرها على أساس علم النفس والتربية، ولكنها لا تجد تأييدا من المنطق؛ فهناك علماء يشعرون بالفخر عندما تنتهي محاضراتهم عن التطور بدليل مزعوم على أنه ستبقى هناك أسئلة يعجز العالم عن الإجابة عليها. وكثيرا ما يستشهد الناس بآراء هؤلاء العلماء بوصفها دليلا على عدم كفاية الفلسفة العلمية. ومع ذلك فكل ما تثبته هذه الآراء هو أن الإعداد العلمي لا يكفي في كل الأحيان لإكساب العالم القدرة على مقاومة إغراء تلك الفلسفة التي تدعو إلى الاستسلام لنوع من الإيمان. أما من كانت الحقيقة ضالته المنشودة فعليه ألا يستسلم لتخدير الاعتقادات المسلم بها؛ حتى لا تهدأ في نفسه سورة البحث؛ ذلك لأن العلم سيد نفسه، وهو لا يعترف بسلطة تخرج عن حدوده.
الفصل الثالث عشر
المنطق الحديث
أصبح تكوين المنطق الرمزي سمة من أبرز سمات الفلسفة العلمية؛ فهذا المنطق، الذي كان في الأصل شفرة سرية لا تفهمها إلا جماعة صغيرة من الرياضيين، قد أخذ يجذب انتباه دارسي الفلسفة على نحو متزايد، لهذا فإن تقديم عرض موجز للتطور الذي أدى إلى ظهور المنطق الرمزي، ولمشكلاته وحلوله، قد يكون أمرا يرحب به كل من يتوافر لديهم الوقت الكافي للقيام بدراسة متخصصة لهذا الفرع الفلسفي الجديد.
إن علم المنطق اكتشاف يوناني. وليس معنى ذلك أنه لم يكن هناك تفكير منطقي قبل اليونانيين، إذ إن التفكير المنطقي قديم قدم التفكير ذاته، وكل فعل فكري ناجح يخضع لقواعد المنطق. غير أن تطبيق هذه القواعد دون وعي في عمليات التفكير العملي شيء، وصياغتها بصورة واضحة من أجل جمعها على شكل نظرية شيء آخر. ولقد كان هذا البحث المخطط في القواعد المنطقية هو الذي بدأ على يد أرسطو.
وقد ركز أرسطو أبحاثه في ميدان أصبحنا نعلم اليوم أنه باب خاص جدا من أبواب المنطق. فقد صاغ قواعد الاستدلال الخاص بالفئات، أي الاستدلال المتعلق بعضوية الفئات. والمقصود بالفئة كل أنواع المجموعات أو الكليات؛ مثل فئة البشر، أو القطط، فكون سقراط إنسانا هو بالنسبة إلى المنطق، مثال لعضوية الفئة؛ إذ إن سقراط عضو في فئة الناس، ويسمى الاستدلال المتعلق بعضوية الفئة قياسا. مثال ذلك أن نستدل من المقدمتين «كل إنسان فان» «وسقراط إنسان» على النتيجة «سقراط فان».
هذا النوع من الاستدلال يبدو لأول وهلة ضئيل القيمة، غير أن مثل هذا الحكم ليس فيه إنصاف لأرسطو. فما كشفه أرسطو هو أن للاستدلال صورة ينبغي التمييز بينها وبين مضمونه. فالعلاقة بين المقدمتين والنتيجة، كما تتمثل في الاستدلال المتعلق بسقراط، مستقلة عن الفئات الخاصة المشار إليها، وهي تظل سارية على غيرها من الفئات والأفراد المناسبين أيضا، وبفضل دراسة أرسطو للصور المنطقية، اتخذ الخطوة الحاسمة التي أدت إلى قيام علم المنطق. وقد صاغ بوضوح بعض المبادئ الرئيسية للمنطق؛ مثل مبدأ الهوية ومبدأ التناقض.
غير أن أرسطو لم يقم إلا بالخطوة الأولى؛ فمنطقه لا يسري إلا على بعض الصور الخاصة للعمليات الفكرية. ولكن هناك، إلى جانب الفئات، علاقات. والعلاقة ليس لها أعضاء أفراد، وإنما تشير إلى أزواج من الأعضاء (أو إلى مجموعات ثلاثية، أو إلى مجموعات تضم عددا أكبر). فكون إبراهيم أبا إسحق هو حقيقة تتعلق بإبراهيم وإسحق، وبالتالي تحتاج للتعبير عنها إلى العلاقة «أبو ...» وبالمثل إذا كان زيد أطول من عمرو، فإن علاقة «أطول من» تسري فيما بين هذين الشخصين. فالاستدلالات الخاصة بالعلاقات لا يمكن التعبير عنها في منطق الفئات؛ مثال ذلك أن منطق أرسطو لا يستطيع أن يثبت أنه إذا كان إبراهيم أبا إسحق، فإن إسحاق ابن إبراهيم،
1
Unknown page