لقد اتخذت من نظرية المادة والصورة عند أرسطو مثالا لما أسميته بالتفسير الوهمي، ولدينا في الفلسفة القديمة مثل آخر لهذه الطريقة المؤسفة في الاستدلال، وأعني به فلسفة أفلاطون. ولما كان أرسطو قد تتلمذ في وقت ما على أفلاطون، فإن المرء قد يذهب إلى حد الاعتقاد بأن إغراق أستاذه في الالتجاء إلى اللغة المجازية والنزعة التشبيهية هو الذي عوده على هذه الطريقة في التفكير، ولكنى أوثر أن أختبر فلسفة أفلاطون دون إشارة إلى تأثيرها في أرسطو، وهو التأثير الذي حلله الكثيرون؛ فمن الممكن تتبع تأثيرها في عدد كبير من المذاهب الفلسفية المتباينة، وهذا وحده سبب كاف لدراسة أصلها المنطقي بمزيد من التفصيل.
إن فلسفة أفلاطون (427-347ق.م) مبنية على نظرية من أغرب النظريات الفلسفية، وأقواها تأثيرا مع ذلك، وأعني بها نظرية المثل. هذه النظرية، التي لقيت إعجابا لا حد له، والتي هي لا منطقية في صميمها، قد نشأت من محاولة إيجاد تفسير لإمكان المعرفة الرياضية، وكذلك السلوك الأخلاقي. وسوف أناقش الأصل الثاني لهذه النظرية في الفصل الرابع، أما الآن فسوف أقتصر على تقديم ملاحظات عن الأصل الأول.
كان البرهان الرياضي يعد على الدوام منهجا للمعرفة تتحقق فيه أرفع معايير الحقيقة. ولا شك في أن أفلاطون قد أكد سمو الرياضة على كل ضروب المعرفة الأخرى، غير أن دراسة الرياضة تؤدي إلى صعوبات منطقية معينة عندما يسير فيها المرء على أساس الموقف النقدي للفيلسوف، وهذا ينطبق بوجه خاص على الهندسة، وهي علم كانت له مكانة بارزة في أبحاث علماء الرياضة اليونانيين. وسوف أشرح هذه الصعوبات بالصورة المنطقية والمصطلحات التي نعرضها بها اليوم، ثم أناقش الحل الذي قدمه أفلاطون.
ومما يعيننا على إيضاح المشكلة، أن نقوم باستطراد موجز في مجال المنطق. إن عالم المنطق يميز بين القضايا الكلية والقضايا الجزئية؛ فالقضايا الكلية تتعلق بالكل، وصيغتها: «كل الأشياء التي هي من نوع معين لها صفة معينة.» ويطلق على هذه القضايا أيضا اسم قضايا اللزوم العام
general implication ؛ لأنها تقرر أن الشرط الموضوع يلزم عنه وجود الصفة. فلنتأمل على سبيل المثال قضية: «كل المعادن تتمدد بالتسخين.» هذه القضية يمكن أن تصاغ على النحو الآتي: «إذا سخن المعدن تمدد.» فإذا ما أردنا تطبيق هذه النتيجة على شيء بعينه، كان لزاما علينا أن نتأكد من أن هذا الشيء يفي بالشرط الذي وضعناه، وعندئذ يمكننا أن نستدل على أنه يتصف بالصفة التي ذكرناها. فنحن نلاحظ مثلا أن معدنا معينا قد سخن، ثم ننتقل إلى القول إنه يتمدد، فتكون قضية «هذا المعدن الساخن يتمدد» قضية جزئية.
وتتخذ النظريات الهندسية صورة قضايا كلية، أو لزوم عام. مثال ذلك النظرية الآتية: «مجموع زوايا كل مثلث 180 درجة.» أو نظرية فيثاغورس: «المربع المقام على الوتر، في كل المثلثات القائمة الزوايا، يساوي مجموع المربعين المقامين على الضلعين الآخرين.» فإذا ما أردنا تطبيق أمثال هذه النظريات، كان علينا أن نتأكد من أن الشرط المنصوص عليه قد تحقق؛ فعندما نرسم مثلثا على الأرض مثلا، ينبغي أن نتأكد باستخدام خيوط مشدودة من أن أضلاعه مستقيمة ، وبعد ذلك نستطيع أن نؤكد أن مجموع زواياه 180 درجة.
ولهذا النوع من قضايا اللزوم العام فائدة كبيرة؛ فهي تتيح لنا أن نقوم بتنبؤات. فاللزوم المتعلق بتسخين الأجسام يتيح لنا التنبؤ بأن قضبان الخطوط الحديدية سوف تتمدد في الشمس، واللزوم المتعلق بالمثلثات ينبئنا مقدما بالنتائج التي سنصل إليها لو قمنا بقياس زوايا مثلث يقع بين ثلاثة أبراج. مثل هذه القضايا تسمى تركيبية
Synthetic ، وهو تعبير يمكن ترجمته بقولنا إنها إخبارية.
وهناك نوع آخر من اللزوم العام؛ فلنتأمل مثلا قضية مثل: «كل أعزب غير متزوج.» هذه القضية لا تفيدنا كثيرا؛ فلو أردنا أن نعرف إن كان شخص معين أعزب، كان من الواجب أن نعرف أولا أنه غير متزوج، وعندما نعرف ذلك، لا تنبئنا القضية بأي شيء جديد؛ فاللزوم لا يضيف أي شيء إلى الشرط الذي ينص عليه. وهذا النوع من القضايا فارغ، ويسمى تحليليا
analytic ، وهو تعبير يمكن ترجمته بقولنا إنه يشرح نفسه بنفسه
Unknown page