والواقع أن إدماج الملاحظ البشري في العالم الفيزيائي هو سمة من أهم السمات المميزة للفلسفة التجريبية ؛ فالنظرة المتعالية إلى المعرفة تحدث انشقاقا بين الواقع الفيزيائي وبين الذهن البشري، وبذلك تصل إلى مشكلات لا تحل، مثل مشكلة الطريقة التي يمكننا أن نستدل بها على الواقع من معطيات ذهنية. وعلى الرغم من أن الوجود الذهني يسمى عادة وجودا فكريا أو مثاليا، ويميز من وجود الحلم، فمن الواجب التماس الأصل النفسي للمثالية في تجارب الحلم والصور التي يمكننا بعثها بإرادتنا في حالة اليقظة. والتحليل غير السليم لهذه الصور هو الذي يؤدي إلى النظر إلى الذهن على أنه كيان مستقل، ونوع من الجوهر المشابه للجوهر الفيزيائي. وأن يكن له حقيقة خاصة به. ولا يمكن أن يأتي الرد على الفلسفة التأملية ذات الطابع المثالي إلا بواسطة فلسفة تجريبية تستعين بما في متناول يدها من أدوات المنطق الحديث، فتنظر إلى المعرفة على أنها ترجيحات استقرائية مبنية على جعل تقريرية مباشرة. وهكذا فإن الفهم الوظيفي للمعرفة، وإرجاع المعنى إلى قابلية التحقيق، هو الذي يؤدي إلى القضاء على النزاع التقليدي بين المثالية والواقعية. أو المادية.
ومن الغريب حقا أن النظرة المثالية إلى الأنا على أنه مشيد العالم الفيزيائي قد وجدت في الآونة الأخيرة تأييدا جديدا في بعض تفسيرات ميكانيكا الكوانتم وهي تفسيرات تقوم باستخدام غير مشروع لفكرة هيزنبرج القائلة إن عملية الملاحظة تغير طبيعة الموضوع الملاحظ، ولفكرة التكامل
complementarity
عند بور
Bohr . فتبعا لهذه التفسيرات، يؤدي مبدأ اللاتحدد عند هيزنبرج إلى النتيجة القائلة إن من المستحيل وضع حد فاصل بين الملاحظ وبين الموضوع الفيزيائي. فلما كان الملاحظ يغير العالم بعملية الملاحظة، فليس في استطاعتنا أن نحدد ماذا يمكن أن يكون عليه العالم في ذاته، مستقلا عن الملاحظ البشري. وقد أوضح التحليل الذي قدمناه من قبل (في الفصل الحادي عشر) أن هذا تفسير باطل لميكانيكا الكوانتم. فعدم تحدد الموضوعات غير القابلة للملاحظة لا وجود له إلا بالنسبة إلى الانتقال من العالم الأكبر إلى العالم الأصغر، ولكن لا يوجد عدم تحدد من هذا النوع عند بحث الانتقال من الموضوعات الملاحظة لبيئتنا إلى الموضوعات الكبيرة غير الملاحظة. بل إن هناك، بالنسبة إلى هذا الانتقال الأخير، نظاما سويا، يتيح لنا أن نتحدث عن عالم خارجي باللغة الواقعية المعتادة. فليس للاتحدد الخاص بميكانيكا الكوانتم شأن بالعلاقة بين الملاحظ البشري وبيئته. وهو لا يبدأ بالقيام بدوره إلا في مرحلة تالية، عندما يتعين الاستدلال على عالم الموضوعات الصغرى من عالم الموضوعات الكبيرة.
هذه الحقيقة تظهر بوضوح تام عندما نفترض أن كل أدوات الملاحظة مركبة كأدوات تسجيل، تعرض نتائج القياسات في صورة أرقام مطبوعة على شريط من الورق. فعندما ينظر الملاحظ إلى شرائط الورق، فمن المؤكد أنه لا يغيرها؛ إذ إن ملاحظته عملية تنتمي إلى العالم الأكبر. وهكذا يستطيع أن يستدل بالطريقة المعتادة على أن هناك عمليات قياس معينة تحدث. ولا يبدأ اللاتحدد في التدخل في قياساته إلا عندما ينتقل إلى الاستدلال من عمل الآلات على أن هناك حوادث دقيقة معينة تحدث، يستطيع تفسيرها إما بأنها موجات وإما بأنها جزيئات. هذه الفكرة الشديدة البساطة تؤدي إلى استبعاد جميع التفسيرات المثالية لفيزياء الكوانتم. وهي تبين أن التجربة لا ينبغي لها أن تخشى شيئا من كشوف الفيزيائي، وأن النكسات الحديثة التي تعود بنا إلى المثالية لا تجد تأييدا من الفيزياء الحديثة - وذلك إذا ما تحرر تحليل الفيزياء من اللغة الغامضة وأجرى يدقه المنطق الحديث.
وبعد مناقشة الاستدلالات التي أدت إلى بناء الأنا على أساس التقريرات المباشرة، سيكون من المفيد أن نناقش بشيء من التفصيل كيف يعالج تصور العقل في فهم وظيفي للمعرفة، يطبق مصادرة قابلية التحقيق على القضايا المتعلقة بالعقل.
فلنفرض أن العلماء نجحوا في صنع إنسان آلي كامل، يكون في استطاعته أن يتكلم، ويجيب على الأسئلة، ويفعل ما يؤمر به، ويقدم جميع أنواع المعلومات المطلوبة، فمن الممكن مثلا إرساله إلى محل البقالة وجعله يسأل البقال عن سعر البيض اليوم، ثم يعود بالجواب. فهي إذن ستكون آلة كاملة، ولكن ليس لها عقل. فكيف تعرف أنه ليس لها عقل؟
ستقول إن السبب هو أنها لا تستجيب كالبشر في النواحي الأخرى. فهي لا تقول لك أن الجو بديع اليوم، ولا تشكو أبدا من ألم في الضرس. ولكن ماذا تقول لو كانت تفعل ذلك؟ لنفرض أن سلوكها يماثل سلوك البشر في كل النواحي - فهل تستطيع أن تظل تؤكد أنها آلة بلا عقل؟
إننا نستطيع أن نوجه هذا السؤال بالطريقة الآتية أيضا؛ فلنفرض أنك انتزعت العقل مؤقتا من إنسان، بحيث يكون له في بعض الأوقات عقل ويتصرف كالمعتاد، ولا يكون له في فترات أخرى عقل، ولكنه يتصرف كما كان تماما. ولست أعني بذلك أنه سيكون مثل دكتور جيكل ومستر هايد، لأن مستر هايد يسلك بطريقة تختلف تماما عن دكتور جيكل، وإنما أعني أنه سيكون مماثلا لدكتور جيكل فقد عقله مؤقتا، ولكنه ظل دائما هو دكتور جيكل نفسه، فكيف تعرف أنه ليس لديه عقل في تلك الفترات؟
Unknown page