ذلك الطريق لمن بعده، ومن هذا الحين تشعبت مسالك التأليف في العلوم العربية، فمن مؤلف في النحو وحده، ومن مصنف في الصرف وحده، ومن خالط بينهما، وقد رعى العهد القديم المبرد في كتابه الكامل الذي جمع فيه من كل دوحة غصنا، فبينما يسبح في الأخبار إذا هو يوافيك بالتحقيق اللغوي، ثم إذا هو يباغتك بالإشكالات الغريبة في النحو والتحقيقات الممتعة في الصرف ولا تكاد تنتهي منها حتى يطل عليك بالأدب الطريف، إلا أن ذلك النهج قليل تلقاء ما كثر من مؤلفات مستقلة بالفروع العربية بعد تمييزها، وكان أكثرها مصنفات فن النحو الذي قد تحولت لهجات التصنيف فيه عن ذي قبل بما وضع فيها من العبارات التأليفية والمصطلحات النحوية التي بقيت خالدة في كتب النحاة إلى يومنا هذا، وإنا لنرى ذلك واضحا عند الموازنة بين كتاب سيبويه وبين مخلفات هذا الطور.
لم ينسلخ هذا الطور حتى فاضت دراساته في المدن الثلاث: "البصرة، والكوفة، وبغداد" وما يصاقبها١، واغترف الجميع من منهله، وبذلوا الجهود الجبارة في استكماله، والإحاطة بجميع قواعده -وكان لهم ما أرادوا- فاستوى النحو قائما على قدميه ومثلت صورته بارزة للجميع وامتازت شخصيته وأوفى على الغاية التي ليس وراءها نهاية لمستزيد ولا مرتقى لذي همة، فتمت أصوله وانتهى الاجتهاد فيه بين الفريقين على يدي الإمامين: المبرد خاتم البصريين، وثعلب خاتم الكوفيين.
روى ياقوت: "قال لي أبو عمر الزاهد: سألت أبا بكر بن السراج، فقلت: أي الرجلين أعلم أثعلب أم المبرد؟ فقال: ما أقول في رجلين العالم بينهما"٢.
وكان بين الإمامين ما بين المتعاصرين من الإحن والأضغان، ولكل
_________
١ أي: يقاربها.
٢ راجع معجم الأدباء ترجمة ثعلب ج٥ طبعة دار المأمون.
1 / 40