كل ذلك بفضل المناظرة التي بدأت هادئة أول الأمر بين البلدين على يد الخليل والرؤاسي، ثم اشتدت على مرور الأيام، وكان لها أثرها الفعال، إذ كانت وقودا صالحا لإشعال نار الاجتهاد والدأب على استكمال ما بقي من مواد هذا الفن، فحمي وطيسها في غضون هذا الطور، واندلع لهيبها إلى نهاية الطور الثالث فصلي بنارها كثير من جلة البصريين١ وقليل من الكوفيين، وسنذكر لمحة عنها إن شاء الله تعالى بعد إتمام الكلام على هذين الطورين "البصريين والكوفيين" فإنه عند تلاقي الفريقين ببغداد وابتداء الطور الرابع الجديد قد انطفأت نار العصبية البلدية واختبى أوارها، فلم تك مناظرات بصرية وكوفية.
وقصارى القول أنه لم ينصرم هذا الطور حتى قطع النحو شوطا كبيرا شارف فيه النهاية فأرهفت له الأسماع وكثرت فيه المؤلفات التي أزيل منها ما ليس من فن النحو، وإن كان التصريف ما لبث مندسا فيه عند البصريين، فإن كتابه سيبويه وهو البقية الباقية بأيدينا من مؤلفات هذا الطور، والمرآة التي تنكشف بها صورة التأليف فيه قد جمع بين الفنين.
ولقد بهر العلماءَ أمر هذا الكتاب إذ قصرت هممهم عن مطاولته حينا من الدهر، فلم يروا إلا الطواف حوله تعليقا عليه في النواحي المختلفة شرحا واختصارا وانتقادا واستدراكا وردا وإعرابا للشواهد، وكان لذلك أثره في استبقاء الفنين معا بحثا وتصنيفا مدة مديدة عند كثير من العلماء الذين انتضوا للتأليف٢ في كتبهم الخاصة بعد فاحتذوا حذو سيبويه ومزجوا بينهما، واستمر ذلك طويلا حتى تخطى "ابن مالك" لمن بعده.
أما الكوفيون فقد ألفوا في بعض أبواب الصرف كتبا خاصة اعتناء بشأنها، لكن لم تصل تآليفهم إلى حد يجعل الصرف منفردا عن النحو بالتأليف، صنف الرؤاسي كتاب التصغير، والكسائي كتاب المصادر والفراء كتاب فَعَلَ وأَفْعَلَ، مع هذا فإن النحو قد طفق يتخلص من الصرف ويستقل الصرف بالتأليف في مستهل الطور الآتي على ما سترى.
_________
١ جلة: جمع جليل وهي من جموع القلة.
٢ انتضى السيف: أخرجه من غمده، والمراد: برزوا للتأليف.
1 / 38