نقلنا هذه العبارة من كتاب الشيخ الدحداح، بنصها حرفيا؛ لأن الجبرتي لم يأت على شيء من هذا التفصيل، وهو إذ ذاك يقيم بالقاهرة، وله اتصال تام بكثير من الأمراء والشيوخ الذين حضروا ذلك المجلس، وكل ما قاله في ذلك الصدد «إنه اجتمع بإبراهيم بك ومراد بك باقي الأمراء والعلماء والقاضي، وتكلموا في شأن هذا الأمر الحادث، فاتفق رأيهم على إرسال مكاتبة بخبر هذا الحادث إلى إستامبول، وأن مراد بك يجهز العساكر لملاقاتهم وحربهم، وانقضى المجلس على ذلك، وكتبوا المكاتبة وأرسلها بكر باشا مع رسوله عن طريق البر ليأتيه بالترياق من العراق.» ا.ه. والعبارة الأخيرة مثل معروف في مصر، والمراد به استحالة وصول المعونة من جانب تركيا، ويروى عادة بالتعبير الآتي: «على ما يأتوا بالترياق من العراق يكون العليل مات!»، وذلك يدلنا على أن الجبرتي وأمثاله من المشايخ والمصريين لم يكونوا مخدوعين في قوة الدولة وإمكانها إسعاف مصر!!!
وفي رواية عن كتب الفرنسيين أنه لما وصلت الأخبار إلى القاهرة، بأن جيشا من الكفار «كذا» هبط أرض مصر، وأن عدده كثير، وكل جنوده من المشاة وليس فيهم خيالة، طرب المماليك وكشافهم، وأنيرت القاهرة زينة ، وقال المماليك: ما هؤلاء الجنود الكفار إلا كحب «الفستق» للكسر والأكل «ولو كانوا مائة ألف لأفنيناهم عن آخرهم» وأخذ كل واحد منهم يعد بقط مائة رأس من رءوسهم!!! ا .ه.
فأما دعاوى المماليك، وغرورهم بأنفسهم فقد يكون صحيحا، وأما إن القاهرة أنيرت للزينة فغير صحيح، إلا أن تكون الإنارة من الخوف والفزع!!
ورواية الجبرتي في هذه النقطة أصدق الروايات، وهو القائل: «وفي أثناء خروج مراد بك والحركة، حركة الاستعداد، بدأت الوحشة في الأسواق، وكثر الهرج بين الناس والإرجاف، وانقطعت الطرق، وأخذت «الحرامية» في كل ليلة تطرق أطراف البلد، وانقطع مشي الناس والمرور في الطرق والأسواق، من المغرب، فنادى الأغا والوالي بفتح الأسواق والقهاوي ليلا، تعليق القناديل على البيوت والدكاكين.»
وأخذ مراد بك في الاستعداد للسفر لمقاومة الفرنساويين، قال الجبرتي وهو شاهد عيان: «وأخذوا في الاستعداد للثغر (ربما كان الأصل للسفر) وقضاء اللوازم والمهمات في مدة خمسة أيام، فصاروا يصادرون الناس، ويأخذون أغلب ما يحتاجون إليه بدون ثمن، ثم ارتحل مراد بك بعد صلاة الجمعة وبرز خيامه ووطاقه إلى الجسر الأسود، فمكث به يومين حتى تكامل العسكر وصناجقته، وعلي باشا الطربلسي وناصف باشا، وأخذ معه عدة كثيرة من المدافع والباردو وسار من البر مع العساكر والخيالة، وأما الرجالة «الراجلون؛ أي: المشاة وهم الالداشات القلينجية والأروام والمغاربة»، فإنهم ساروا في البحر مع الغلايين الصغار التي أنشأها الأمير المذكور.»
فيؤخذ من رواية الجبرتي أن مراد بك تحرك بالجيش الذي جمعه من الخيالة برا، والمشاة بحرا في النيل، في يوم الأحد 14 محرم، 8 يوليو، بدليل قوله بعد ذلك «وفي يوم الاثنين وردت الأخبار بأن الفرنسيس وصلوا إلى دمنهور، وفعلا كان وصول نابوليون لدمنهور في الساعة الثانية من صباح يوم 9 يوليو، وكانت مقابلة الجيش الفرنسي لمراد بك وجنده وقواربه، عند شبراخيت في يوم الجمعة 13 يوليو فكأن مراد بك قضى أربعة أيام في السير من الجيزة إلى شبراخيت.
ولم يرد في الجبرتي، ولا فيما كتب بعده، أدنى بيان لمقدار القوة التي سار بها مراد بك، ولا غرابة أن لا يذكر الجبرتي عددا معينا، فما نظن أن مراد بك نفسه كان يعرف عدد جنوده من خيالة ومشاة، وهكذا كان نظامهم!! إلا أن الشيخ الدحداح، وهو كما قلنا ناقل عن المصادر الفرنسية يقول: إن مراد بك ركب في جيش جرار يفوق العشرين ألف مقاتل وجمع غفير من فرسان الغز والبدو وسار بهم إلى الرحمانية، وهذه مبالغة غير معقولة، وكذلك «لاكروا» وهو ناقل من المصادر الرسمية الفرنسية، يقول: إن مراد بك برح القاهرة في 6 يوليو «يوم الجمعة الذي ذكره الجبرتي» ومعه ثلاثة آلاف من المماليك الخيالة وألفين من الإنكشارية المشاة وعدد كبير من السفن يبلغ نحو الستين، منها خمسة وعشرون مسلحة، وقوة من المماليك قابلت الجنرال ديزيه (Desaix)
عند دمنهور.
فمجموع هذه القوة لا يزيد على ثمانية آلاف، كما اعترف بذلك نابوليون في مذكراته التي أملاها في سانت هيلانة، فعبارة الشيخ الدحداح مبالغ فيها بلا نزاع.
ويقدر المستر كامرون في كتابه الذي سبقت الإشارة إليه، في مقدمة هذا الكتاب، قوة المماليك في ذلك الحين بعشرة آلاف خيال وثلاثين ألف باشبوزق «جندي غير نظامي»، وهذا التقدير غير مضمون الخطأ، خصوصا والمستر كامرون ليس من الموفقين في صحة الأرقام، إلا ما كان خاصا بالقوى الإنكليزية لوقوفه عليها في المصادر الرسمية، فقد قدر قوة الحملة الفرنسية بأربعين ألفا من خيرة الجنود، وهو كما عرف القراء مبالغ في نحو الربع، وأن صعب تحقيقه للقوة الفرنسية، فتحقيقه لقوة المماليك أصعب! وثابت في أقوال كتاب الفرنسيين، وهم أحق بالمبالغة في قوة المماليك، ليباهوا بما حازوه من فخار وانتصار، أن قوة المماليك لا تزيد على ثمانية آلاف وخمسمائة خيال من المماليك أخذ منها مراد بك نحو خمسة آلاف، وبقي الباقون في القاهرة، وأما الباشبوزق، وهم الجنود غير النظاميين، من خدم المماليك وأتباعهم «الالداشات»، فلا يسهل تعدادهم، ولا نظنهم يزيدون عن العشرين ألفا، وهم لا يساوون ألفا من الجنود المنظمة.
Unknown page