168

Napoleon Fi Misr

نابوليون بونابارت في مصر

Genres

ومن أغرب الأمور أن ذلك يحصل ونابوليون بونابرت وهو شبه ملك لفرنسا «القنصل الأول» لا يستطيع أن يخلص الفتاة التي عبث بعفافها من القتل!!

وإن قال قائل أما كان الأولى التجاوز في هذا الكتاب عن ذكر هذا! كان جوابنا أن لنا غرضا في وصف أخلاق القوم في ذلك الزمن، والإشارة إلى من لا يكرمون أنفسهم ولا أمتهم ولا دينهم، أمام الغاصب الأجنبي «ومن لا يكرم نفسه لا يكرم».

وقال المعلم نقولا الترك عن ساعة الاستقبال والسلام: «واقبلوا عليه وهنوه بقدومه وبعد الجلوس قال لهم: لقد بلغني أن بعض المفسدين والأعداء الكاذبين قد أشاعوا عني الأخبار، أنني مت في تلك الديار، فأمعنوا بي النظر، لتتحققوا الخبر، وانظروا هل أن بونابرته مات، أم لا يزال بعد في الحياة، وقولوا للمفسدين: لا يتأملوا بهذا الأمل وبونابرته قد جاء سالما غانما، وبإذن المالك العزيز لا يموت بونابرته حتى يدوس جميع الممالك.» فأجابوه «لا بأس على أمير الجيوش قد كذب كل من قال أطال الله لنا بقاك، ولا شمت بك أعداك، وجعلنا من الدنيا فداك.»

وهكذا يقول الناس لكل ذي قوة وسلطان! وما نظن إلا أن نابوليون وهو يقول لهم هاتيك الأقوال الطنانة كان يتصور أمام مخيلته السر سدني سميث في بارجته، وهو يشير إليهم بإصبع الاستهزاء، يذكره بالفشل أمام عكا، وعودته من سوريا منكوبا مهزوما، فيقول نابوليون في نفسه:

وتجلدي للشامتين أريهم

أني لريب الدهر لا أتضعضع

ثم تحرك الموكب على نظام رتبوه وعلى شكل يقصد به إلقاء الرعب وإظهار الأبهة وجلال الملك وعظمة السيادة في نفوس المصريين، حتى لقد استمر ذلك الموكب - على رواية الجبرتي - خمس ساعات متوالية في شوارع القاهرة إلى أن وصل إلى داره بالأزبكية، وقد ذكر لنا «ميو» في مذكراته الصريحة «أن نابوليون سير الجند في موكب دخوله القاهرة صفوفا منفردة حتى يوهم القوم بأنه لم يخسر كثيرا من جيشه كما أشاعوا عنه في مصر» ... ولهذا استمر الموكب خمس ساعات!

ومع ذلك لم يخف عن المصريين، كما روى الجبرتي أن العساكر قد تغيرت ألوانهم واصفرت وجوههم، وقاسوا مشقات عظيمة من الحر والسغب.

ولم يكتف نابوليون بذلك الموكب العظيم، بل أراد أن يجعل دخوله في القاهرة عيدا كبيرا أو مولدا من الموالد، استمر ثلاثة أيام متوالية، وفي هذا يقول الجبرتي: «فلما وصل ساري عسكر الفرنساوية إلى داره بالأزبكية تجمع هناك أرباب الملاهي والبهالوين، وطوائف الملاعبين، والحواة والقرادين، والنساء الراقصات والخلابيص، ونصبوا أراجيح مثل أيام الأعياد والمواسم، واستمروا على ذلك ثلاثة أيام، وفي كل يوم من تلك الأيام يعملون شنكا وحراقات ومدافع وصواريخ، ثم انقضى الجمع بعدما أعطاهم ساري عسكر دراهم وبقاشيش.»

من للتاريخ بمن يشرح للأجيال الخالفة ما كان يجول بخاطر نابوليون وهو ينظر من نافذة بيت الألفي، في ليلة من تلك الليالي المقمرة، إلى أولئك المهاويس من الحواة وملاعبي القردة والنسوة الراقصات؟ وهو يعلم أنه في أحرج المراكز، وأن جيشه قد قل عددا، وأن مراكبه قد حطمت، وأن دول أوروبا العظيمة قد تجمعت لمحاربته، وأن الجيش العثماني، تعضده الأساطيل الإنكليزية والروسية والعثمانية، قادم لمحاربته من طريق البر والبحر، وأن الحكومة في باريس قد خذلته، وأنه لا بد له من الهرب من هذه الديار المصرية ليصل إلى فرنسا لينال فيها ما تطمح إليه نفسه من المجد والفخار، ويفكر كيف يهرب وسفن الإنكليز في البحر الأبيض المتوسط ذاهبة وآتية!!

Unknown page