كان الشيخ عبد الله بن حجازي بن إبراهيم الشافعي من بلدة الدويلة بمديرية الشرقية، لذلك سمي «الشرقاوي» وكان في مبدأ أمره من الفقراء المعوزين يعيش من فضلات الناس الذين يلتصق بهم في أيام طلبه للعلم، ثم أخذ في التردد على الشيخ محمود الكردي من مشايخ الطرق الصوفية، فلما توفي هذا أخذ في إلقاء الدروس بالأزهر، وكان يجمع الطلبة والمجاورين للذكر في حلقات في دور الناس ليأخذوا بذلك الدراهم، وليأكلوا من قصع الثريد، ثم ارتقى به الحال حتى عد في طبقة العلماء، وتوصل إلى مشيخة الجامع الأزهر، قال الجبرتي الذي لخصنا منه ما تقدم عن الشيخ الشرقاوي في وفيات سنة 1227 «أي: بعد المدة التي نحن بصددها بأربعة عشر عاما»: «فلما حضرت الفرنساوية جعلوا المترجم رئيس الديوان، فانتفع في أيامهم بما يتحصل إليه من المعلوم والمرتب له عن ذلك، وقضايا وشفاعات ببعض الأجناد المصرية، وجعالات واستيلاء على تركات وودائع خرجت أربابها في زمن الفرنسيس وهلكوا، واتسعت عليه الدنيا وزاد طمعه فيها وكبر عمامته، وزوجته بنت الزعفراني هي التي تدبر أمره، وتحرر كل ما يأتيه ويجمعه، ولا يروح ولا يغدو إلا عن مشورتها، واشترت العقارات والحمامات والحوانيت.» ا.ه.
وكان هذا الشيخ الشرقاوي أول من استقبل الأتراك وألف كتيبا بناء على طلبهم سماه «تحفة الناظرين فيمن ولي مصر من الولاة والسلاطين» وقد سبق لنا نقل شذرة من هذه الرسالة، وهي الكلمة الوحيدة التي توجد في ذلك الكتيب، وجاء في مقدمته «إنه لما حل ركاب الصدر الأعظم، والوزير الأفخم، والدستور الأكرم، حضرة مولانا الوزير يوسف باشا، بلغة الله من المرادات ما شاء، بمدينة بلبيس في شهر رمضان سنة 1214 بعد حصول الصلح بينه وبين طائفة الفرنساوية في قلعة العريش، وذهبت مع بعض علماء مصر لملاقاته، طلب مني بعض الإخوان من أتباع ذلك الصدر الأعظم أن أجمع كتابا متضمنا لواقعة الحال المذكور». «فأين هذه الألقاب للوزير الأعظم، والدستور الأكرم من «سلطاننا بونابرته أمير الجيوش ذي العدل والإحسان والإصلاح والخير للرعية والملة المحمدية»؟
وكان ينتظر من أكبر علماء زمانه أن يكتب للأعقاب الخالفة تاريخا ذا قيمة عن الحملة الفرنساوية في مصر، كما طلب منه ذلك من طلب أتباع الصدر الأعظم، ولكن رسالته المذكورة ليس فيها عن الحملة الفرنساوية إلا نحو ثلاث صفحات لا قيمة لها، قال الجبرتي في ترجمة الشيخ الشرقاوي: «وللمترجم طبقات جمعها في تراجم الفقهاء الشافعية المتقدمين والمتأخرين من أهل عصره، ومن قبلهم من أهل القرن الثاني عشر نقل تراجم المتقدمين منهم من طبقات السبكي والإسنوي، وأما المتأخرين فنقلهم من تاريخنا هذا بالحرف الواحد.»
وهذه العبارة تدلنا على أن بعض أجزاء تاريخ الجبرتي هذا كان مكتوبا ومتداولا بين الأيدي، والغالب على الظن أن بعض أجزائه الخطية كانت توضع في مثل مكاتب الأزهر، ثم قال الجبرتي: «وعمل تاريخا مختصرا في أربعة كرارريس وأهداه للوزير يوسف باشا عدد فيه ملوك مصر، وذكر في آخره خروج الفرنسيس ودخول العثمانية في نحو ورقتين، وهو في غاية البرود وغلط فيها غلطات»! وكانت وفاة الشيخ الشرقاوي في أول حكم محمد علي باشا.
وأما الشيخ محمد المهدي فتوفي بعد الشرقاوي بثلاث سنوات؛ أي: سنة 1230 هجرية، قال عنه الجبرتي: إن والده كان من الأقباط وأسلم الشيخ وهو صغير دون البلوغ على يد الشيخ الحفني الذي احتضنه ورباه، ثم دخل الأزهر وقصد للتدريس في سنة 1190 وتقرب من إسماعيل بك كتخدا وكيل حسن باشا الجزايرلي، وصاهر الشيخ محمد الحريري الحنفي وأقبلت عليه الدنيا، وزادت ثروته ورغبته وسعيه في أسباب تحصيل الدنيا، واشتغل بالشركات والتجارة في الكتان والقطن والأرز وغير ذلك، والتزم بعدة حصص في البحيرة والمنوفية والجيزة والغربية، وابتنى دارا بالأزبكية ناحية الرويعي، ولما حضرت الفرنساوية وخافهم الناس لم ينقبض الشيخ المهدي عن المداخلة فيهم، بل اجتمع بهم وواصلهم وانضم إليهم، وسايرهم ولاطفهم وجاراهم في أغراضهم، وأحبوه وأكرموه وقبلوا شفاعاته ووثقوا بقوله، فكان هو المشار إليه في دولتهم مدة إقامتهم بمصر، والواسطة بينهم وبين الناس في قضاياهم وحوائجهم، وأوراقه وأوامره نافذة عند ولاة أعمالهم، وراج أمره في أيامهم وزاد إيراده وجمعه، وأقاموه وكيلا عنهم في أشياء كثيرة وبلاد وقرى يجيء خراجها إليه، ويأتيه الفلاحون بالهدايا فيفعل بهم ما كان يفعله أرباب الالتزامات من الحبس والضرب وأخذ المصالح، وصار له أعوان وخدم وتبع من وجهاء الناس، ثم قال الشيخ الجبرتي الذي لخصنا ما تقدم عنه ما نصه: «وبالجملة فكان لوجوده وتصدره في تلك الأيام النفع العام، سد بعقله ثقوبا واسعة وخروقا، وداوى برأيه جروحا وفتوقا، لا سيما أيام اليهازع، والخصومات والتنازع ، وما يكدر الفرنساوية من مخارق الرعية، فيتلاقاه بمراهم كلماته، ويسكن حدتهم بملاطفاته، ولما مضت أيامهم وتنكست أعلامهم، وارتحلوا عن الأقطار المصرية، ووردت الدولة العثمانية، كان المترجم أعظم المتصدرين في مقابلاتهم، وأوجه الوجهاء في مخاطبتهم ومكالمتهم، وبهرهم بتحيله واحتياله، واسترهبهم بسحره وخياله» ... وبعد كلام طويل عنه وعن أولاده، قال: إنه اشترى دارا كبيرة بناحية الموسكي «وهي المعروفة الآن بدار الشيخ المهدي» وكانت لبعض عتقى بقايا الأمراء الأقدمين، وتنتهي حدودها من الموسكي إلى حارة المناصرة أو إلى كوم الشيخ سلامة، ولم يدفع من ثمنها إلا العربون وكتب الحجة وسكنها، وماطل في دفع ثمنها كعادته في دفع الحقوق وغاب خمس سنوات متنقلا في البلاد حتى مات في غيبته بعض أصحاب الدار التي اشتراها منهم، واستمر الحال بالشيخ المهدي حتى زمن محمد علي باشا، فكان ممن أوقع النفرة بين الباشا وبين السيد عمر مكرم، ونال بذلك أغراضه، ومنح النظر على أوقاف كان السيد عمر يحصل منها على أموال جمة، وأكثر المهدي من التردد على محمد علي باشا وأكابر دولته مثلما كان يفعل في زمن الفرنساويين وعين شيخا للجامع الأزهر أياما قلائل، وكان كلما وجد امرأة من نساء البكوات المماليك ذات اليسار بغير زوج يقترن بها ويسقط مالها وتوالها في بئر عميق «هكذا تعبير الشيخ الجبرتي»، وترك المال الكثير والعقارات الواسعة والأطيان الشاسعة لأولاده وأولاد أولاده المعروفين الآن في القاهرة.
هذه خلاصة موجزة اقتطفناها من عدة صحائف من وفيات الجبرتي الطويلة لكي يكون القارئ لنفسه صورة عن زعماء العلماء في ذلك العصر، وما ذكرناها إلا لاختصاص الشيخين الشرقاوي والمهدي بإمضاء منشورات نابوليون وبلاغاته وتمويهاته على المصريين خاصة، والمسلمين في جميع بقاع الأرض عامة، حتى إذا وضعت تراجم أولئك العلماء بجانب ما في تلك المنشورات من العبارات، وجد للقارئ معيار يزن به الحقائق التاريخية ولهذا يهتم المؤرخون المحققون بالبحث عن صفات وأخلاق وظروف الأشخاص الذين يمثلون دورا من الأدوار في حوادث عصر من العصور.
4
ليس من غايتنا أن نتبع الحملة الفرنساوية في غارتها على الديار السورية ؛ لأن ذلك يعتبر صفحة من تاريخ تلك البلاد، ونحن إنما نكتب تاريخ مصر في هذه الفترة ولكن ذلك لا يمنعنا من أن نلم إلماما عاما بحركات تلك الحملة في سوريا ونتائجها التي لها بلا شك ارتباط بتاريخ مصر، خصوصا إذا لاحظنا في ذلك تاريخ محمد علي باشا وحملته على سورية واستيلاء الجيوش المصرية على الجزء الأكبر من سورية والأناضول، وانتصارات جنود مصرية نجحت حيث فشلت الجنود الفرنساوية تحت قيادة أعظم قائد عسكري أوجده الزمان؛ فنقول: إن الحملة الفرنساوية تألقت من نحو ثلاثة عشر ألف جندي تحت قيادة الجنرالات كليبر ورينيه ولأن وبون ومورات ودومرتين وكفريللي، وسارت هذه الحملة من جهات مختلفة من دمياط والصالحية وبلبيس والقاهرة، وكان خروج نابوليون من العاصمة في يوم الأحد 5 رمضان سنة 1213 / 10 فبراير 1799، وأخذ معه من المشايخ سليمان الفيومي ومصطفى الصاوي وعبد الرحمن العريشي ومحمد الدواخلي، واستصحب معه أيضا قاضي عسكر إبراهيم أدهم أفندي «يجمقشي زاده» ومصطفى بك «الذي كان كتخدا الوالي والذي ولاه أمير الحج» واستصحب أيضا جماعة من التجار والوجاقلية والأقباط والشوام.
وكان غرض نابوليون من استصحاب أولئك المشايخ والقاضي وأمير الحج التأثير بهم على المسلمين في سوريا لكي يفهمهم أنه على اتفاق تام مع المسلمين في مصر، وأنة إنما قدم سورية ليخلصها من مظالم الجزار، ولكنه لم يوفق في النهاية إلى وجود أولئك المعممين معه؛ لأنهم تخلفوا عنه في الطريق، ولهم حكاية طويلة كادت تحدث منها ثورة كبيرة سنأتي عليها في مكانها.
وقبل أن نتبع نابوليون في غزوته الديار الشامية وتعدد انتصاراته المتوالية - إذ لم يمض على خروجه من القاهرة أكثر من شهر من الزمان حتى كان قد استولى على العريش وغزة وخان يونس والرملة ويافا وحيفا، وابتدأ في حصار عكا - نقول قبل هذا نسأل: ماذا أعدت الدولة العثمانية لذلك المغير على بلادها، بعد أن حالفت إنكلترا واتفقت مع الروسيا على محاربته وإخراجه من أرض مصر منذ 2 سبتمبر سنة 1798؛ أي: قبل تحرك نابوليون للشام بنحو أربعة أشهر ونصف؟
Unknown page