157

Napoleon Fi Misr

نابوليون بونابارت في مصر

Genres

الحمد لله وحده، هذا خطاب إلى جميع أهل مصر من خاص وعام، من محفل الديوان الخصوصي من عقلاء الآنام، علماء الإسلام، والوجاقات والتجار الفخام، نعلمكم معاشر أهل مصر أن حضرة ساري عسكر الكبير بونابرته أمير الجيوش الفرنساوية صفح الصفح الكلي عن كامل الناس والرعية، بسبب ما حصل من أراذل أهل البلد والجعيدية، من الفتنة والشر مع العساكر الفرنساوية، وعفا عفوا شاملا، وأعاد الديوان الخصوصي في بيت قائد أغا بالأزبكية، ورتبه من أربعة عشر شخصا أصحاب معرفة واتقان، خرجوا بالقرعة من ستين رجلا كان انتخبهم بموجب فرمان ، وذلك لأجل قضايا حوائج الرعايا وحصول الراحة لأهل مصر من خاص وعام، وتنظيمها على أكمل نظام وإحكام، كل ذلك من كمال عقله وحسن تدبيره، ومزيد حبه لمصر وشفقته على سكانها من صغير القوم قبل كبيرة، رتبهم بالمنزل المذكور كل يوم لأجل خلاص المظلوم من الظالم، وقد اقتص من عسكره الذين أساءوا بمنزل الشيخ محمد الجوهري، وقتل اثنين بقراميدان وأنزل طائفة منهم عن مقامهم العالي إلى أدنى مقام؛ لأن الخيانة ليست من عادة الفرنسيس، خصوصا مع النساء الأرامل فإن ذلك قبيح عندهم لا يفعله الإ كل خسيس، ووضع القبض بالقلعة على رجل نصراني مكاس؛ لأنه بلغة أنه زاد المظالم في الجمرك بمصر القديمة على الناس، ففعل ذلك بحسن تدبيره ليمتنع غيره من الظلم، ومراده يرفع الظلم عن كامل الخلق، ويفتح الخليج الموصل من بحر النيل إلى بحر السويس لتخف أجرة الحمل من مصر إلى قطر الحجاز الأفخم، وتحفظ البضائع من اللصوص وقطاع الطريق، وتكثر عليهم أسباب التجارة من الهند واليمن وكل فج عميق، فاشتغلوا بأمر دينكم وأسباب دنياكم، واتركوا الفتنة والشرور، ولا تطيعوا شيطانكم وهواكم، وعليكم بالرضا بقضاء الله وحسن الاستقامة، لأجل خلاصكم من العطب والوقوع في الندامة، رزقنا الله وإياكم التوفيق والتسليم، ومن كانت له حاجة فليأت إلى الديوان بقلب سليم، إلا من كانت له دعوة شرعية، فليتوجه إلى قاضي العسكر المتولي بمصر المحمية، بخط السكرية، والسلام، على أفضل الرسل على الدوام ا.ه.

وأما حكاية اقتصاص نابوليون من جنوده الذين «أساءوا بمنزل الشيخ محمد الجوهري» ذلك القصاص الذي يتدلل به المصريين، ويوهم به أن الاعتداء على النساء ليس من عادة الفرنسيس؛ فهي إن الشيخ محمد الجوهري الذي سبق الكلام عنه لما رأى تزاحم الفرنساويين على السكنى بحي الأزبكية، هجر داره التي كانت له مطلة على البركة بالقرب من باب الهواء، وترك فيها بعض الخدم من رجال ونسوة فحيل لبعض الفرنسيين في ليلة السابع والعشرين من شهر رجب - وذلك قبل عودة نابوليون من السويس بثلاثة أيام - التعدي على تلك الدار لأمر ما، فاستيقظ النسوة الخادمات وصرخن فضربوهن وقتلوا منهن امرأة وحاولوا هتك عرض بنت خادمة، ففرت منهن إلى مكان خفي في قعر الدار، قال الجبرتي: «وعاثوا في الدار وأخذوا متاعا ومصاغا ونزلوا فاستيقظ البواب واختفى منهم.» وقال: «فلما قدم ساري عسكر من سفره ركب مشايخ الديوان وأخبروه بأمر ذلك الاعتداء على منزل الشيخ الجوهري فاغتم لذلك وأظهر الغيظ.»

ولولا أن الشيخ الجوهري له تلك المنزلة العالية التي يركب لأجلها مشايخ الديوان، لما اغتم ولا اهتم نابوليون بأمر ذلك الاعتداء القبيح على داره وخدمه! ولو كان فيه نساؤه وبناته للحقهن ما لحق خادماتهن! ولكن ألم يكن يقع مثل ذلك مع أسر كثيرة في جميع أحياء القاهرة؟ وهل كنا ننتظر من الشيخ الجبرتي أن يدون لنا كل ما حصل من ذلك في دور محمد وإسماعيل وإبراهيم وسيد أحمد مثلا ...؟

ولولا أن نابوليون في ذلك الوقت كان قادما فيه على حرب عوان مع جميع المسلمين شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا، لما تزلف إلى المصريين، ولا همة منزل الجوهري وخادماته، مهما عظم مقامه وجل شأنه؛ إذ لا نزاع في أن نابوليون كان أحوج إلى جندي فرنسي من أن يريق دمه فداء لمصرية أو لمصري! ولكنه رضي مكرها أن يقتص من اثنين أو ثلاثة من الجنود ليبرهن للمصريين على عدله وليقربهم إليه زلفى، ومع ذلك فنحن لا نعرف كيف اقتص من الجنود، وغاية ما نعرفه هو أن الجبرتي ذكر في حوادث أول شعبان العبارة الآتية: «إنهم قتلوا ثلاثة أنفار من الفرنسيس وبندقوا عليهم بالرصاص بالميدان تحت القلعة قيل: إنهم من المتسلقين على الدور»! ومن يدرينا، أو يدري الجبرتي، أن أولئك الثلاثة ليسوا من المجرمين الذين ارتبكوا إجراما فاحشة ضد القواد أو الضباط أو الجيش مثلا ...؟

ولنعد إلى الحملة الشامية فنقول إن نابوليون شرع في الاستعدادات لتلك الحملة، وبدأ في تسييرها من القاهرة في الأيام الأولى من شهر رمضان من تلك السنة الموافق شهر فبراير سنة 1799، ولم يجد مناصا أمام ما ظهر للناس من حركة الجنود، وما أذيع في طول البلاد وعرضها من قرب هجوم الأتراك على مصر، أن يعلن للمصريين بصفة رسمية عزمه على غزو الشام، فجمع لديه أعضاء الديوان، وقال لهم كلاما طويلا خلاصته أنه قد قضى على المماليك في الوجهين القبلي والبحري، من أرض مصر، وأنه قد عزم على أن يذهب ليبيد البقية الباقية منهم؛ أي: أولئك الذين فروا مع إبراهيم بك إلى سوريا، وصاروا يهددون الأقطار المصرية، ويبعثون بالمكاتبات والمنشورات المهيجة للأمة، ليقضي عليهم، ويريح العباد من شرورهم، وألقى على المشايخ كلاما ثقيلا وهددهم وآلهم بالفناء والعدم إذا حصل في البلاد أثناء غيبته شغب أو فتنة، قال الجبرتي: «وكتبوا أوراقا مطبوعة في هذا المعنى وألصقوها بالطرق.» ولا ندري لماذا لم ينشر الجبرتي نص هذا المنشور كأثر من الآثار التاريخية لتقف منها الأجيال الخالفة على تمويهات السياسة في ذلك الزمن، ولهذا يحق لنا أن نذكر المعلم نقولا الترك بالخير لوضعه نص ذلك المنشور في رسالته، وقبل أن نأتي على نصه نقول: إن نابوليون قد تحاشى، سواء في خطابه الذي ألقاه على أعضاء الديوان، وسواء في هذا المنشور، ذكر أنه يحارب الدولة العثمانية أو الأتراك، وقصده بذلك ظاهر؛ إذ إنه لا يزال يوهم المصريين بأن الدولة العلية غير غاضبة على احتلاله مصر، وأنه إنما جاء لمحق سلطة المماليك الظالمين.

إلا أنه مع هذا الحرص مهد أذهان القوم لقبول فكرة الانفصال عن تركيا بإعطاء نفسه لقب «السلطان أمير الجيوش» ولعل الجبرتي لم ينشر ذلك المنشور بنوع خاص لوجود ذلك اللقب فيه، نعم إن كتاب الفرنسيين قالوا وكرروا وأكدوا أن المصريون كانوا يلقبون بونابرت «بالسلطان الكبير» من أول يوم وطئت فيه قدماه أرض القاهرة، ولكنا لا نزال نؤكد أن ذلك لم يكن إلا من أفواه المداحين والمنافقين، سواء من بعض المسلمين أو النصارى السوريين أو بعض الأقباط، والجبرتي لم يذكر هذا اللقب قط، وضن أن يكون في مصر لقب سلطان مع وجود سلطان آل عثمان خليفة المسلمين، وكذلك لم يرد في كل منشورات نابوليون، سواء المقولة عن لسانه، وسواء المنسوبة إلى المشايخ وأعضاء الديوان، ذكر لذلك اللقب إلا في هذا المنشور الذي رفض الجبرتي تسطيره ودونه المعلم نقولا الترك، ولم يكن لنابوليون مصلحة في انتحال هذا اللقب لنفسه؛ إذ كانت تقضي عليه السياسة والحكمة بعكس ذلك، فهو ابن الثورة الفرنساوية التي ثلت عروش الملوك، والتي تنادي بالحرية والإخاء والمساواة، ولا يخاطب الوزير أو الحقير إلا بلفظ ستواين «مواطن» وهذا نص المنشور نقلا عن رسالة المعلم نقولا ننقله بنصه وقصه:

من محفل الديوان الخصوصي إلى جميع الأقاليم المصرية نخبركم أن أمس تاريخه خامس شهر رمضان المعظم، توجه حضرة الدستور المكرم سر عسكر الكبير بونابرته، أمير الجيوش الفرنساوية مسافرا يغيب ثلاثين يوما لأجل محاربة إبراهيم بك الكبير وبقية المماليك المصرية حتى تحصل الراحة الكلية للأقاليم المصرية، من هؤلاء الأعداء الظالمين، الذين لا راحة فيهم، ولا رحمة في دولتهم على أحد من رعيتهم، وقد وصلت الآن مقدمة الجيوش الفرنساوية إلى العريش، وعن قريب يأتيكم خبر «قطيعة» إبراهيم بك ومن معه من المماليك نظير ما وقع في «قطيعة» أخيه مراد بك ومن معه في إقليم الصعيد، فيقطع دابرهم من بر الشام كما انقطع دابرهم من إقليم الصعيد بالتمام، ويبطل القيل والقال، وتذهب الكاذبة التي تسمعونه من أوباش الرجال، ونخبركم أن حضرة الساري عسكر المشار إليه، يتجدد له كل يوم نية الخير والرحمة، ويحدث في تصميم الشفقة والرأفة، هذه هي نيته لكم في كل الأقطار المصرية، ويحصل لهم النجاح والصلاح، ويكمل في سائر أقطارها السرور والإصلاح، وتفرح أقاليمها على يد سلطانها بونابرته بمشيئة الله الذي مكنه فيها، ونصره على من ظلم فيها من المماليك المفسدين، ولا يتم خلاصها بالكلية وتتطهر من دولة المماليك الردية، إلا ببذل همته ورأيه السديد، في تكميل نظامها بخضوعهم لسيوفه الباترة ، وتكمل زروعها الفاخرة، وأنواع تجارتها الباهرة، ويحدث فيها برأيه وحسن تدبيره التحف من أنواع الحرف والصنايع النفيسة، ويجدد فيها ما اندثر من صنائع الحكماء والأولين، ويرتاح في دولته كل الفقراء والمساكين فالتزموا يا أهل سكان الأرياف والفلاحين بحسن المعاملة والأدب، واجتنبوا في غيبته أنواع الكذب والقبائح حتى يراكم حين يعود بعد الشهر قد أحسنتم المعاملة، ومشيتم على الاستقامة، وينشرح صدره منكم، ويرضى عليكم، وإن حصل منكم في غيابه أدنى خلل ومخالفة حل بكم الوبال والدمار، ولا ينفعكم الندم، ولا يقر لكم قرار! واعلموا أن ذهاب دولة المماليك بقضاء الله وقدرته، ونصرة سلطانكم أمير الجيوش عليهم بتقدير الله وأمره، والعاقل يمتثل إلى أحكام الله، ويرضى بمن ولاه والله يؤتي ملكه من يشاء والسلام عليكم ورحمة الله.

3

واتبع المعلم نقولا هذا المنشور بإمضاءتين فقط وهما على الشكل الآتي: «الداعي لكم الفقير عبد الله الشرقاوي رئيس الديوان الخصوصي عفا الله عنه، والداعي لكم الفقير السيد محمد المهدي الحفناوي كاتم السري؛ وباشكاتب الديوان عفا الله عنه.»

وقد كان هذان الشيخان يمضيان دائما على منشورات الفرنساويين وبلاغاتهم عن الحرب في الشام، وكان قد اختار نابوليون جماعة من العلماء لمرافقته لتلك الأقطار ليوهم العالم الإسلامي بأن رجال الدين يسيرون في ركابه ويشهدون بعدله وإحسانه، ولا شك في أن اختيار هذين الشيخين لإمضاء المنشورات راجع في الأكثر إلى الصفة التي لكل واحد منهما في الديوان الخصوصي؛ لأن الشيخ عبد الله الشرقاوي كان رئيس الديوان والشيخ محمد المهدي كاتب سره، ولكن وجودهما في هذه المنزلة له أيضا سبب آخر، وهو أنهما كانا من صنف المشايخ الذين نعرفهم ويعرفهم كل من له خبرة بأحوال هذه الديار وطبقات أهلها، كانا من ذلك النوع الذي كان أولى به الزهد في الدنيا وزخارفها، من أن يكون شرها في حب المال والتعلق بمظاهر الحياة الفانية.

Unknown page