ولكي يصور القارئ لنفسه مقدار الثروة التي كانت تدخل في أيدي المماليك، نضرب له مثلا، جاء به مستر كامرون، كما هو ... قال:
فلنفرض أن تاجرا من العرب ابتاع من البضائع الفارسية أو الهندية، أصنافا كالحرير والبهارات والنيلة، ما قيمته عشرة آلاف جنيه، ثم أرسل هذه البضائع بحرا إلى البصرة من طريق الخليج الفارسي، أو بحرا إلى السويس من طريق البحر الأحمر، وكان في الغالب يفضل إرسال تجارته عن طريق السويس فالقاهرة فالإسكندرية؛ لأن البصرة، وإن كانت أقرب إليه برا، ولكن طريق القوافل من البصرة إلى حلب فإسكندرونة أبعد شقة، وأصعب مشقة، وأكثر تعرضا للصوص ولهذا كانت طريق مصر عند التجار أضمن وأروج.
قدرنا بضاعة التاجر بنحو 10000 جنيه، وهذه البضاعة حين تفرغ من السفن في ميناء السويس نضرب عليها ضريبة لا تقل عن 4000 جنيه فيكون ثمنها على التاجر 14000 جنيه، وتقدر في أرض مصر بحرا وبرا بعشرين ألف، وفي مرور هذه البضاعة في أرض مصر يضاعف ثمنها حتى تباع في الإسكندرية بنحو ثلاثين ألفا «بما يدفع للمماليك الحكام من الضرائب المشروعة وغير المشروعة» لتاجر من تجار البندقية «فينيسيا» فلا يستطيع شحن هذه البضاعة في السفن لأوروبا قبل أن يدفع مبلغ 5000 جنيه ضريبة الإصدار، فيكون مجموع ما وصل - من ثمن البضاعة التي كلفت الأوروبي 35 ألف جنيه - إلى سلاطين المماليك وأمرائهم في أرض مصر، ما يقرب من 10000 جنيه؛ أي: نحو ربع ثمن البضاعة في تقديرها الأخير أو قيمة ثمنها الأساسي، وقس على ذلك.
وضرب المستر كامرون مثلا آخر نقله عن كتاب اسمه «تقرير عن المحفوظات القديمة لوزارة الهند» بقلم السرجورج بردوود ما يأتي: «ولا مبالغة فيما ذكرنا فإنه جاء في التقرير المشار إليه أنه في سنة 1620 صدرت الشركة الهندية الإنكليزية «التي امتلكت الهند» 200000 رطلا من النيلة، ابتيع الرطل منها في مدينة «آجرا» (في شمال الهند) بمبلغ 14 بنس (خمسة قروش ونصف) وبيعت في لندره على حساب الرطل الواحد بخمسة شلنات (أي: بخمسة وعشرين قرشا)».
ولاحظ أن هذا المثال المأخوذ من المصادر الرسمية كان في عام 1620 بعد أن استبدل طريق البحر الأحمر، والخليج الفارسي، بالطريق البحري حول رأس الرجاء الصالح؛ لأن اكتشاف هذا الطريق وقع في سنة 1498 وقد قدر التقرير المشار إليه نفقات طريق مصر والشام بثلاثة أمثالها في الطريق البحري؛ ولذلك يصح أن يقال إن ثمن الرطل النيلة كان يصل إلى 15 شلنا بعد خمسة.
ومما يجب ذكره في بيان إثراء المماليك من مركز مصر، أنه يضم إلى هذه أن المسيحيين في مقابل زيارتهم للقدس الشريف، كانوا يدفعون مبالغ من المال لمن تكون له السيادة على فلسطين من المماليك البحرية، فقد جاء في تاريخ الدولة العثمانية تأليف المرحوم محمد بك فريد «أن السلطان سليم لما فتح مصر وعاد إلى أدرنه وصل إليه سفير من قبل مملكة إسبانيا ليكلمه في شأن حرية زيارة المسيحيين للقدس الذي كان قبلا تابعا لسلطة مصر، وتبعها في دخولها تحت ظل الدولة العلية، في مقابل دفع المبلغ الذي كان يدفع سنويا للمماليك.»
ومن هذا يظهر للقارئ أن التيار الذهبي الذي كان يسيل بتجارة الهند والشرق كلها إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط، سواء من طريق مصر وهو الأكثر، أو من طريق سوريا، كان يمر في أيدي المماليك فيأخذون منه ما يشاءون من ضرائب ثم هدايا، ثم رشاوى، وهذا غير السلب والنهب، وبذلك استطاع المماليك في الدور الأول بناء كل هاتيك العمائر وشراء المماليك والبذخ والإنفاق.
وكان لهذا الحال الاقتصادية تأثير كبير على إدارة الأحكام في البلاد المصرية، فالثروة عادة تغطي العيوب وتدرأ المصائب، فكان المصريون من تجار وعمال يستفيدون من تلك التجار، الشرقية الغربية، بين بيع وشراء، وقيام بما تستلزمه من نقل وتوزيع، ولذلك كان اليسار فاشيا بين المصريين، وكان المماليك من جهة أخرى قانعين بما يفرضونه من الضرائب على المتاجر الأجنبية وما يدخل في خزائنهم من المال بحيث لم يروا ضرورة لظلم الفلاحين، ومصادرة التجار المصريين، واستلاب ما في بيوت الناس من خير وبركة، كما اضطر أن يفعله خلفاؤهم المماليك بعد الفتح العثماني، الذي حصل بعد اكتشاف طريق الرجاء الصالح وتحويل المتاجر الآسيوية بحرا إلى أوروبا، بزمن قصير جدا «الأول في 1498 والثاني في 1517».
اكتشاف الوصول إلى الهند بحرا وتأثيره على ثروة مصر
ولقد أثر اكتشاف طريق البحر حول إفريقية، على ثروة مصر تأثيرا كبيرا اضطر معه سلطان مصر في ذلك الحين، إلى أن يبعث بعمارة بحرية إلى مياه الهند لمحاربة البرتغاليين، وإتلاف سفنهم؛ لأن «فاسكودي غاما» البرتغالي لما دار حول رأس الرجاء الصالح، ثم وصل إلى الهند سنة 1498، وعاد منها إلى بلاده، حرض قومه «كما فعل قرينه كلومبوس بعد اكتشاف أمريكا» على امتلاك البلاد الهندية التي زارها، وفعلا احتلوا جزءا كبيرا من الجهة الغربية من الهند ولا تزال لهم مستعمرة برتغالية صغيرة للآن.
Unknown page