وقد أكدت المصادر الموثوق بها أن الجزار كان قد عقد مع الإنكليز اتفاقا على أنهم يحمون عكا بمدافع أساطيلهم، ولولا ذلك لما عجز نابوليون، في حملته على الشام عن فتح عكا وعن إدراك ما أراده وكانت تطمح إليه آماله في الشرق.
ونرى من الواجب هنا ذكر شيء عن تاريخ أحمد باشا الجزار ليكون لدى القارئ صورة في ذهنه عن هذا الرجل الغريب، ويوفق بينها وبين حكمنا السابق عليه.
ذكر الشيخ الجبرتي أحمد باشا الجزار في وفيات سنة 1219 هجرية ووصفه «بالجناب المكرم، والمشير المفخم، والوزير الكبير، والدستور الشهير» وأثنى عليه على الرغم مما ذكره من مظالمه التي قال فيها: «وأخاف النواحي وعاقب على الذنب الصغير بالقتل والحبس والتمثيل، وقطع الآناف، والآذان والأطراف، ولم يغفر ذلة عالم لعلمه، أو ذي جاه لوجاهته، وسلب النعم عن كثير جدا من ذوي النعم واستأصل أموالهم، ومات في محبسه ما لا يحصى من الأعيان والعلماء وغيرهم، إلى غير ذلك من الفظائع.» ثم قال: «ولقب بالجزار لما قتل من شيوخ عربان البحيرة نيفا وسبعين كبيرا وجاء برءوسهم للقاهرة.» وهنا يسأل القارئ وما كان شأن أحمد باشا الجزار والي عكا بالبحيرة والقاهرة؟ فنقول: إن أصل هذا الرجل من بلاد البوسنة، قال عنه المرحوم جودت باشا في تاريخه: «إن الجزار لم يكن من المماليك، بل هو بوسنوي الأصل من طائفة البوشناق الذين هم أشجع وأقوى طوائف الروم أيلي.» وقال عنه: «إنه قدم إلى دار السعادة وعمره ثمان عشرة سنة واشتغل حلاقا ثم سار يتردد إلى دائرة علي باشا حكيم أوغلي، الذي عين واليا على مصر سنة 1169 هجرية «1755م»، فسافر معه إلى مصر كواحد من الأتباع ثم أخذ يلتصق بالبكوات المماليك، وقلده علي بك الكبير كشوفية البحيرة وقتل من الأعراب من قتل أخذا بثأر سيده عبد الله، أحد أتباع علي بك، ثم فر من مصر في حوادث يطول شرحها فسافر إلى الآستانة، ثم عاد لمصر متنكرا وآوه عربان البحيرة الذين فتك من قبل برجالهم»!! ومما قاله الجبرتي: «وأقام بعرب الهنادي وتزوج هناك فلما أرسل علي بك «الكبير» التجاريد إلى ابن حبيب والهنادي حارب الجزار معهم ثم سافر إلى بلاد الشام.» وتقلبت به الأحوال من بؤس ورخاء، ولم يذكر الجبرتي أنه عاد لمصر مرة ثالثة ولكن جودت باشا يقول: «إنه بعد إقامته بدمشق خاوي الوفاض مرتبكا لأنواع السفالة والدناءة، توجه إلى مصر في زي أرمني، وبعد أن بات في بيته ثلاث ليال أخذ المال الذي في داره وجاء مرة أخرى إلى الشام.»
وكانت في سوريا «سنة 1185» منافسة: بين أولاد الظاهر عمر والدروز فدخل بينهم وصدرت إرادة الدولة باستخلاص صيداء من أولاد الظاهر وعين خليل باشا متصرف القدس قائدا للجند فكان الجزار معه، وأخيرا توصل الجزار إلى أن سار محافظا على قلعة بيروت ثم واليا لعكا.
هذا مختصر موجز لحياة رجل يقول عنه الجبرتي: «وبالجملة فكان من غرائب الدهر، وأخباره لا يفي القلم بتسطيرها، ولو جمع بعضها لكانت مجلدات، ولو لم يكن له من المناقب إلا استظهاره على الفرنساوية لكفاه.»
16
ولكن شيخنا الجبرتي لم يكن يعلم أن الذي صد الفرنساويين عن عكا لم يكن أحمد باشا الجزار، بل كانت سفن السيرسدني سميث
17
في البحر وتدبيرات فليبو
17
Unknown page