إلى الكتاب
الشيخ رزوق
عائشة
العصامي
العم نتيش
السكير
رجل من الناس
فقاقيع الأدب
الشخصيات المرتجلة
الأستاذ
سيدي الحاج
يحيى الضيف
سي زعرور
التلميذ
إلى الكتاب
الشيخ رزوق
عائشة
العصامي
العم نتيش
السكير
رجل من الناس
فقاقيع الأدب
الشخصيات المرتجلة
الأستاذ
سيدي الحاج
يحيى الضيف
سي زعرور
التلميذ
نماذج بشرية
نماذج بشرية
تأليف
أحمد رضا حوحو
إلى الكتاب
يجب أن نتكلم كلاما صادقا، وأن نفكر تفكيرا صائبا، دون أن نحاول جلب الآخرين إلى أذواقنا وعواطفنا ...
إن ذلك لهو العمل الجليل ...
لابرويار
إلى القراء
يقول بعض الفلاسفة: إن العقول سواء من حيث الخلقة، وإنما يمتاز بعضها عن بعض بالتكيف والتوجيه، فيسمو البعض منها إلى أن يصل ذرى الرفعة والسمو، وينحدر البعض إلى أن يصل الدرك الأسفل من الجمود والانحطاط. ونحن لا تعنينا هذه العقول، أكانت سواسية أو لم تكن؛ لأننا لسنا بصدد تحليل العقول وإثبات مقاييسها، وإنما الذي يعنينا هنا هو عرض وتصوير مجموعة من الطباع البشرية، في مجموعة من البشر منتقاة من صميم المجتمع ...
وإننا لا نشك في أن هذه الطباع ليست سواء وإلا لكانت خاضعة خضوعا أعمى لتأثيرات البيئة والنشأة والتعليم، تسيرها طبقا لهذه التأثيرات، وتتكيف وفقا لهذه النشأة التي فرضها عليها المجتمع. وإننا لا نجد هذه الطباع تسير في طريق مفروض من بيئة، أو تتجه اتجاها مفروضا من نشأة، إلا بقدر ما توجبه الضرورة ... وكثيرا ما تتمرد فتكسر القيود وتنطلق في أجواء رحبة لا تلوي على شيء، تدفعها غرائزها إلى تحقيق أمانيها المختلفة غير مبالية بقوانين البيئة وتعاليم النشأة. ولو لم تكن هذه الطباع متباينة بعض التباين تتمتع بشيء من الحرية، لخلا المجتمع من هذه النماذج النادرة الطريفة، ولما وجدنا هذه الضحية من ضحايا المجتمع تكسر قيود بيئتها وتتخذ من الوطنية دينا يهديها سواء السبيل، ولما تعرفنا على هذا الفقيه الطاعن في السن الذي يتخذ من شرع الله حانوتا لبيع الجرائم ... ولما كانت هذه النماذج البشرية التي نقدمها للقراء.
ثم ماذا؟ ... ثم إني لم أعمد في عرض هذه النماذج إلى الخيال فأستخدمه في التنميق والتزويق، أو إلى التحليل النفساني فأسخره لإثبات فكرة أو إدحاض أخرى ... أجل إني لم ألجأ إلى كل ذلك، وإنما التجأت إلى المجتمع وانتزعت من مختلف طبقاته نماذج عشت مع بعضها وسمعت عن بعضها. نماذج حية أقدمها للقارئ لعله يتوصل بها إلى تفهم بعض طباع مجتمعه، فيلمس أنبل نفس في أحقر شخصية، ويلمس الإيمان القوي في قلب الرجل الضال، والزيغ والإلحاد تحت عمامة رجل الشرع.
إن المجتمع البسيط هو خير من يصور الطباع على فطرتها؛ لأنه خاضع للطبيعة، والطبيعة وحدها، يسيره ناموس الفطرة وحده لا يعرف التوجيه المقعد ولا التسيير المهذب ...
ولهذا سنجد شخصيات نماذجنا يفهمون بعض الحقائق على طريقتهم الخاصة ويستنتجون بعض النتائج على أسلوبهم الخاص أيضا، وقد يبدو لنا تفهمهم للحقائق خاطئا واستنتاجهم للنتائج ضعيفا وذلك لأننا سنقيس تفهمهم واستنتاجهم بمقاييس العلم والعقل المهذب، وسنحكم عليهم حكما خاطئا لأننا سنخضع في حكمنا إلى قواعد وأصول تعلمناها وفرضها علينا العلم والعقل المثقف، مع أن هذه الشخصيات توصلت إلى ما توصلت إليه على ضوء فطرتها وهضمته بجهاز طبيعتها في محيطها الضيق وبيئتها المحدودة، مدفوعة بدافع الغريزة إلى إبراز البكر من كوامن النفوس وألوان الطباع.
أحمد رضا حوحو
قسنطينة في 30 / 9 / 55
الشيخ رزوق
الشيخ رزوق رجل في العقد السادس من عمره، ضخم الجثة، كثيف اللحية، أسمر اللون، ذو مهابة ووقار، يخشاه الناس ويحترمونه، تدور حول سيرته شبهات لم يصدقها إلا نفر قليل؛ حيث يتهمونه بالقيام بأعمال مالية غير مشروعة ويقولون إن في استطاعته أن يحرم الابن من إرث أبيه إذا ما قدم له مبلغ من الأوراق المالية ... ولكن أغلبية مواطنيه تعتقد أنها مجرد إشاعات كاذبة يروجها حساد الشيخ وناكرو فضله، فهو لا يعرف سوى داره، والمسجد، والطريق بينهما. •••
تناول الشيخ طعام إفطاره على عجل وهو لا يزال يتمتم بالبقية الباقية من تسابيح ورد الصباح الذي اعتاد أن يتلوه يوميا عقب صلاة الصبح. ثم أحضر له الخادم فنجانا من القهوة الساخنة أخذ يحسوه بسرعة، وهو يحث الخادم على إحضار بقية ملابسه وسجادة الصلاة التي لا تفارقه في حله ولا ترحاله. وأخذ يستعد لمبارحة المنزل وقد تناول عصاه ومسبحته، وما كاد يبارح غرفته حتى أدركته زوجته متذمرة: ما هذا! ألا تستطيع حتى أن تتناول طعام إفطارك في راحة؟... أدائما أعمال الناس؟ لا أدري أية فائدة تجنيها من وراء هذه المتاعب كلها التي صدتك عن العناية بأهلك وأولادك؟!
وما كان من الشيخ إلا أن رمقها بنظرة حادة وأجابها والغضب باد على قسمات وجهه: أي شيء أستفيده من الناس؟! ... أتخالين زوجك مثل أولئك الغافلين الذين ألهتهم أوضار المادة الدنسة عن أعمالهم الربانية، وأشغلتهم بطونهم عن الآخرة؟ ... أنا أخدم الناس لوجه الله: أخدم الحق الضائع وأحاول جهدي إرجاعه إلى نصابه ...
ثم حوقل الشيخ واستغفر ربه واسترسل يقول: لا تدخلي على نفسي الرياء أيتها المرأة، اتقي الله، أتريدين أن تضيعي أجر عملي، وأن تبدلي ثوابي عقابا بأحاديثك هذه؟
وما كادت زوجه الساذج تعي هذه المواعظ حتى تأثرت وخشيت بطش ربها ونقمه إذا ما صدت هذا الرجل الصالح عن القيام بأعماله الربانية، وانهالت على يده تقبلها وهي تردد: ربنا يبقيك ويحيطك بعنايته يا سيدي، حقا إن هذه الدنيا لا تساوي جناح بعوضة.
وكأن الشيخ استراح واطمأن قلبه إلى هذه النتيجة فأبدل قطوبه بابتسامة عريضة وتوجه لفوره إلى الشارع وهو يداعب حبات مسبحته التي لا تفارقه لحظة واحدة في غدوه ورواحه، وذهب يتأرجح في مشيته وهو في طريقه إلى ركنه المنعزل في المسجد الذي يسميه مكتب أعماله الخيرية، والناس تقصده من كل جانب منكبة على تقبيل يده التي يجود عليهم بها بكل سخاء، طالبين منه الدعوات الصالحات، والنساء يرمقنه من وراء شبابيكهن الضيقة مبتهلات إلى الله أن يقضي حوائجهن ببركة هذا الرجل الصالح الذي يقضي جل حياته في المسجد ما بين العبادة وإرشاد الناس إلى ما فيه الخير والصلاح. •••
تربع الشيخ رزوق على سجادته بعد ما قام ببعض الصلوات، وما كاد يستقر به المقام حتى تقدم نحوه شاب في ربيع الحياة رحب به الشيخ وانكب هذا على يده يلثمها، وفي نفس الوقت دس فيها شيئا رمقه الشيخ بنظرة فاحصة حتى إذا ما تأكد من ارتفاع قيمته أسرع إلى إخفائه في طيات جبته الفضفاضة وقابل هذه التحية بابتسامة لطيفة، وأقبل على الزائر يسأله ويمازحه وهو يتوسم الخير العميم من ورائه، وبادره قائلا: خير إن شاء الله يا ابني، ماذا تريد؟ - نفس المسألة الأولى يا سيدي التي أخبرتك عنها سابقا.
قطب الشيخ جبينه كعادته كلما انتقل من الدعابة والمزاح إلى العمل الجدي وقال: إن أشغالي كثيرة يا ابني، وأجدني معذورا إذا ما نسيت ما حدثتني به سابقا، فهل تسمح وتعيد على مسامعي حديثك دون أن تهمل أدنى تفصيل، فإنه كثيرا ما يكون للتفصيل الضئيل أهمية كبرى لا يدرك كنهها إلا الراسخون في المعرفة.
سكت الشاب مليا ثم تكلم بصوت تشوبه رجفة: كنت أخبرتك يا سيدي أن لأختي طفلا من زوج أجنبي عن أسرتنا، توفي والده منذ زمن ولم يترك له شيئا يذكر من متاع الدنيا، مع أن المرحوم والدي ترك ثروة كبيرة تعرفونها جيدا. - أجل ... إني أعرف المرحوم والدك حق المعرفة وأعرف جيدا ثروته، رحمه الله فقد كان رجلا صالحا وكان من أعز أصدقائي، استمر في حديثك ثم ماذا؟
واستمر الشاب يقول: ورثت أختي قسطا وافرا من مخلفات الوالد وهي الآن تنفق من ريعها على ابنها ولا مانع لدي في ذلك، ولكن إذا ما أدركتها الوفاة يوما - وهي مصابة بمرض خطير استعصى علاجه على الأطباء - فإن ابنها يرثها؟ - ما في ذلك شك، يرثها، حقه يا بني لا يمنعه مانع. - وبهذا يستولي هذا الأجنبي على جانب كبير من ثروتنا ومخلفات والدنا.
وسكت الشاب، فقد اختنق صوته من شدة الاضطراب، ولكنه تشجع أخيرا وقال: إني أريد منع هذا الولد من إرثنا ...
استغرق الشيخ في لجة من التفكير دامت بعض ثوان، ثم قال: إنك قادم على عمل خطير ... إنك قادم على منع وارث شرعي من إرثه الشرعي! - نعم يا سيدي، أنا أعرف جيدا ما أنا قادم عليه، وإني مستعد لدفع اللازم، لذلك ... - الحقيقة أن هذا الطفل يعد أجنبيا دخيلا على أسرتكم. - نعم يا سيدي إنه كذلك ... - لقد افتكرتك الآن أنك حدثتني منذ أيام في هذا الموضوع وكنت طلبت منك تأخيره إلى أن تحين الفرصة المناسبة. - لقد حانت الفرصة يا سيدي، وسافرت أختي مع طفلها إلى زيارة بعض الأقارب وستمكث شهرا كاملا. - أسافرت حقا؟ - بلى يا سيدي سافرت ...
واستغرق الشيخ مرة ثانية في تفكير عميق وهو يقوم ببعض الحسابات يسجلها بحبات مسبحته، إلى أن اطمأن قلبه إلى النتيجة. رفع رأسه وقال بصوت خافت: خمسمائة ألف فرنك وعموم المصاريف اللازمة عليك، وهذا التخفيض من أجل المرحوم والدك فقد كان صديقي، ويعز علي أن أرى شخصا أجنبيا يتمتع بمال تعب عليه ليتركه لأولاده خاصة لا يشاركهم فيه مشارك. - ولكن المبلغ كبير يا سيدي! - أبدا ... أبدا ... (صرخ الشيخ) أنسيت ما ستجنيه من ذلك؟ فإنني سأملكك مناب أختك الذي ورثته من أبيك بهذا المبلغ ... - حسنا يا سيدي قبلت. - أحسنت إذ قبلت، إذن أحضر لي النقود وافية، فأنا دائما أستوفي أجري مقدما ... ثم لا تنس ما قاله الرسول
صلى الله عليه وسلم : «استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان.» - هذا حق ... وإني مستعد بالمبلغ، ولكن ... - لكن ماذا؟ ... تكلم. - أقصد إذا ما كنت واثقا من النجاح ... - النجاح! هذا أمر ليس فيه أدنى شك ولا ريب، أنا لا أقدم إلا على القضايا الناجحة. لم أعود عملائي الفشل ولو مرة واحدة ... فأنا في هذه الأيام القريبة ملكت زوجا من ثروة زوجته بعملية بسيطة، ثم طلقتها عليه، وهو اليوم ينعم بالمال والحرية، ولكنه دفع لي ضعف ما طلبت منك تقريبا، والحديث بيننا طبعا ... فأنا يا ابني أعمالي متقنة والحمد لله ...
غاب الشاب لحظة وعاد يحمل رزمة من الأوراق المالية ناولها للشيخ بيد مرتجفة، وأخفاها هذا في لمح البصر تحت جبته وأخذ يعدها وهو يتحدث، وللشيخ مقدرة عجيبة على القيام بمهمة الحساب والمحادثة في آن واحد؛ فقد كان أعجوبة زمانه في اتقاد الفكر، وسعة العقل. وبعد ما استوثق من صحة عددها ألقى عليها نظرة فاحصة، وسرى تيارها السحري في نفسه فلم يستطع إخفاء سروره وعلت شفتيه ابتسامة دلت على غبطته ورضاه، وللمال سر عجيب في نفس الشيخ. ثم ما كان منه إلا أن جذب الشاب من طرف ثوبه وهمس في أذنه: اسمع ... اذهب حالا إلى منزلك وأخل الدار من كل كائن حي ... أسامع! لا أريد كائنا من كان، أرسل والدتك عند بعض الأقارب، وسآتي بجهازي التام المكون من والدتك وأختك والشهود المعروفين. - والدتي وأختي؟ - ... أجل لا أعني والدتك وأختك الحقيقيتين وإنما أعني اللتين يقومان بدور الوالدة والأخت أمام القاضي وستبيع لك أختك منابها وتعترف أنها تسلمت النقود كاملة، وسيشهد الشهود وينتهي كل شيء، وحينما ينتقلان إلى دار البقاء يمكنك إبراز حججك والاستيلاء على أملاكك دون أن يعارضك معارض ...
أفهمت؟ ... انهض وأسرع إلى عملك، سألحق بك بعد صلاة العصر ...
نهض الشاب متألما مضطربا وبقي الشيخ مسرورا يذكر الله ويوحده، ثم قام يعد نقوده مرة ثانية، وما كاد ينتهي حتى دوى في المسجد صوت أذان الظهر، فأسرع الشيخ في إخفاء تلك الرزمة من الأوراق في جيب محكم، وقام يستعد لصلاة الظهر وهو يتذكر ما بقي لديه من المعاملات ويقدر في نفس الوقت ما ستدر عليه من الأرباح ...
عائشة
عائشة امرأة ككل النساء الجزائريات، واحدة من آلاف النساء اللائي يموج بهن المجتمع الجزائري المظلم، لم تتخرج من مدرسة لا شرقية ولا غربية ولم تتلق أية تربية خاصة أو نشأة معينة، عدا التربية الفطرية والنشأة المحافظة، المفروضتين من هذه البيئة الجزائرية الوحيدة التي لا تعرف التطور ولا التغير. وعاشت عائشة في محيطها الضيق المظلم لا تعرف عن العالم الخارجي شيئا، ولا تعرف عن نفسها إلا أنها عورة يستحي ذووها من ذكر اسمها وأسماء والدتها وعمتها، فهن جميعا يكون نوعا خاصا من المخلوقات لم تفهم كنهه، ولم تحاول أن تدرك كنهه ولكنها تعلم حق العلم أن والدها وغيره من رجال الأسرة يطلقون عليهن جميعا اسم «العباد» ولا يتلفظون بهذا الاسم إلا مقرونا بكلمة اعتذار، وكثيرا ما سمعت والدها يتحدث مع جاره فيقول «عبادي حشاك» يقصد جميع نساء الأسرة فيعتذر عن ذكر أسمائهن كما يعتذر حينما يتلفظ بلفظ قذر أمام شخص محترم. تعودت عائشة هذه النشأة وألفت هذه المكانة الخاصة في المجتمع، أو قل إنها ورثت هذه المكانة كما ورثتها والدتها عن السابقات من النساء منذ عهد قديم.
هي إذن كائن تافه لا مسئولية له في الحياة، بل إنها أتفه من أي حيوان من الحيوانات التي يملكها والدها الذي لا يستحي من ذكر حماره أمام الناس، ويفتخر بذكر حصانه والحديث عنه ولكل منهما مسئوليته في الحياة، وبعض الحرية في تصرفاته وشئونه الخاصة. أما عائشة فإنها دولاب بشري تديره يد ذويها فلا تتحرك ولا تسكن إلا بإرادتهم ووفقا لرغباتهم، وكل هذا لا يعنيها ولم تفكر فيه، بل إنها لا تملك حق التفكير فيه، فهي تسير في طريق مرسوم محدود، كما سارت وستسير بنات بجدتها في الماضي والحاضر والمستقبل لا يعرفن الجديد ولا القديم وإنما يعرفن حياة يومية متشابهة لا يختلف فيها يوم عن يوم ...
وهكذا تتابعت أيام عائشة في قريتها إلى أن حدث الحادث الجليل الذي خرج بها عن المألوف وجعل من حياتها صورة تختلف عن صور بنات جنسها. وما الحادث إلا شاب من أبناء القرية عاد من أوروبا التي قضى فيها سنينا طوالا وحل بين سكان البلدة كالنجم المتألق في حلته الإفرنجية الأنيقة، وشعره المصفف البراق، وحذائه الأسود اللامع. وسمعت به عائشة كما سمعت به بقية الفتيات وطرق أذنها الكثير مما يتحدث به من غرائب الأحاديث عن أشياء لم تسمع بها من قبل، ولم يهضمها عقلها الآن، وما برحت هذه الأحاديث حتى أصبحت مبعث العجب بهذا الشاب والافتخار بحفظ شيء من حديثه العذب، أو التلفظ بكلمة من ألفاظه الغريبة، أو رواية حادثة غريبة مما حدث به الكبار فنقلوه إلى الصغار، ورواه إلى الرجال فنقلوه إلى النساء. وأعجبت الفتاة كما أعجبت غيرها بهذا الشاب، أو بهذا الحادث الجديد الذي حل بالقرية، وتحدثت عنه وحفظت شيئا من أحاديثه أسوة بالأخريات، واكتفت بهذا الحديث فلم تفكر في أكثر من ذلك، لأنها لا تملك حق التفكير أكثر من ذلك. فحتى خيالها يبدو أنه محجوز عنها لا تستطيع الانطلاق في أجوائه الرحبة الجميلة. •••
توجهت عائشة ذات يوم إلى منزل خالتها لأن والدها وذويها أرادوا منها أن تتوجه إلى ذلك المنزل. فهي مسيرة في كل شيء، لا تعرف الاستقلال في قليل ولا في كثير من حياتها العامة والخاصة على السواء، وصادف أن قابلت ذلك الشاب في طريق خال، وهو يتأرجح في مشيته، والتقت نظرتها بنظرته، وراقت للشاب، وهي تتمتع بشيء غير قليل من الحسن والجمال، فابتسم لها ولكنها لم تفهم لماذا ابتسم ولم تدر أن هذه الابتسامة موجهة لها محمل زيادة على معنى الإعجاب بحسنها، معاني أخرى لم تفهم حقائقها إلا بعد أن دفعت الثمن غاليا غلاء فاحشا ونظرت هي بدورها إليه، ولكن نظرة بريئة، نظرة كتلك التي تعودت أن ترسلها إلى القمر الساطع في السماء، أو النجم المتألق في الأفق. نظرة وكفى، لا تحمل أي معنى ولا تنطوي على أي مقصد. ولكن الشاب لم يكتف بهذا الحل ولم يقف عند هذا الحد، بل حاول الاتصال بها. وتم له ذلك بواسطة عجوز استأجرها لهذا الغرض لم تعوزها الحيل للاستيلاء على عقل هذه المخلوقة العجماء. وما كاد يتصل بها حتى فتح لها بأحاديثه المعسولة أبوابا كانت موصودة دونها. فحدثها عن بنات أوروبا وحريتهن. كما وضح لها حقوقها في الحياة، ولم ينس ذكر ما ادخره لها القانون من الحقوق والمحافظة على رغبتها. ثم عرض عليها أن تفر معه لتعيش صحبته في عيش رغد محفوفة بالحرية والحب والسعادة، وأفهمها أن هذه حقوقها الشرعية لا ينازعها فيها منازع ... •••
انخدعت عائشة بحديث فتاها وانقادت لرغباته بثقة عمياء. ففارقت منزل والدها خلسة في ليلة ظلماء وسافرت مع الشاب إلى مدينة بعيدة، وسرها أول الأمر أن ترى نفسها حرة تركب القطار، وتعيش في المدن في أحضان شاب أنيق لم تكن تحلم به. ولكن هذا السرور لم يدم طويلا لأن الفتى ما كاد يستولي على عفافها ويهتك ستر شرفها حتى تركها وفر قافلا إلى أوروبا من حيث أتى ...
هامت الفتاة على وجهها في هذه المدينة المترامية الأطراف وكانت ذئاب البشرية لها بالمرصاد تتعقب خطاها، فاصطادوها في رمشة عين ودفعوا بها إلى طريق الغواية، فاحترفتها وقد وجدت مثيلاتها في بؤرتها يبعن أجسادهن مقابل لقمة من الخبز ...
انتقلت عائشة من بلد إلى بلد ومن بؤرة إلى أخرى، واندفعت بحكم المهنة الشائنة إلى تعاطي المسكرات والمخدرات، وتفوقت في هذا الميدان حتى أصبحت قطبا فيه لا يباريها فيه رجل ولا امرأة، وبعث ذلك التفوق في نفسها شيئا من الغرور فأخذت ترى نفسها أسمى مقاما من زميلاتها وتتخيل نفسها من طينة تخالف طينتهم، ولهذا يجب أن تسموا بأفكارها عنهن، يجب أن تكون لها فكرة أوسع من أفكارهن وأحاديث تختلف عن هذه الأحاديث البسيطة المتكررة. فخرجت بفكرها من ذلك المحيط الضيق الذي تعيش فيه إلى محيط أوسع تبحث عن شيء ما، أي شيء كان يميزها عن الأخريات، شيء جديد وكفى. وشاء القدر أن تطرق سمعها أحاديث سياسية وأفكار وطنية، وشاعت أحاديث السياسة والوطن في تلك الأيام حتى عمت الأوساط المختلفة ووصلت إلى بيئتها، فرحبت بها واعتنقتها مدفوعة بدافع حب السمو ورغبة في أن تكون لها أفكار وأحاديث ترتفع عما تفكر فيه وتتحدث به الأخريات.
اشتهرت عائشة بأفكارها الوطنية وسخر منها الناس فزادها ذلك إصرارا وعنادا وتمسكا بالفكرة، وحاولت مرارا أن تشارك بدريهماتها القليلة في مساعدة هذه الفكرة التي تعرف عنها أنها ترمي إلى الوطنية والتحرير. والتحرير في فهمها هو خروجها من هذا الماخور العفن إلى عالم رحب تجد فيه لقمة عيشها دون الاضطرار إلى بيع جسدها. والوطنية عندها هي أن يكون لها منزل وبعل محترمان. استولت عليها هذه الأفكار فتمسكت بها بشدة كما يتمسك الغريق بحبل النجاة.
قالت عائشة عن نفسها إنها وطنية، وآمنت بذلك إيمانا راسخا، واعتقدت اعتقادا قويا أنها لا بد من أن تجني ثمرة ذلك عاجلا. وشاء ربك ألا تنتظر طويلا، فقد انتشلتها هذه العقيدة المقدسة من خضم رذائلها، فأقلعت أولا عن تعاطي المخدرات لأن عقلها أوحى لها أن من يتحلى بهذه الأفكار يجب أن يقلع عن ذلك، ثم أعقبت المخدرات بالانقطاع عن المسكرات، ولم تكد تفعل حتى ضج منها محيطها الموبوء وأصبح لا يتحملها ولا يقوى على احتمال نزعتها الجديدة التي تتضارب ومصلحة العمل الذي تصادمت رغباته بإرادتها، فلم يشأ أن يتساهل معها ويخضع لإرادتها ولم تشأ هي أن تنثني عن فكرتها وتتخلى عما اعتقدته منقذها الأوحد. وكثر الجدل واشتد الخصام، ولم تنتبه عائشة إلى نفسها إلا وهي في الشارع تبحث عن عمل حر طاهر تتعيش منه، ولم يخفها الشارع، فقد أكسبتها التجارب المرة خبرة، ولم يطل بها البحث، فتحصلت على عمل خادم في فندق محترم، ثم وفقت للاهتداء إلى زوج متواضع صالح بنى بها دون أن يسألها عن ماضيها، ولم تشأ أن تسأله عن مستقبله، وإنما اكتفت بالعيش البسيط في أحضانه راضية وهي صامتة كالقبر، تدفن في نفسها ذكريات أليمة تبعث في نفسها الرعب وفي وجهها الخجل كلما تقهقرت بها الذاكرة إلى الوراء. ولكنه مرهم النسيان سريعا ما فعل مفعوله فاندمل الجرح وانمحى الرسم ولم يبق من تلك الإحن والمحن إلا بصيص ضئيل من الذكريات المريرة ...
العصامي
لا تنتظر مني أيها القارئ أن أعرض عليك هنا شخصية من الشخصيات البارزة التي ساعدها الحظ فارتفعت إلى الذرى في ميادين المال والأعمال، وأقول لك أيها القارئ لا تنتظر مني ذلك لأني أعرف أنك تعودت أن ترى مجتمعك لا يصف بالعصامية إلا هذا الصنف من الرجال، فكل فقير أثرى، وكل وضيع ارتفع (ولو نزلت عليهما الثروة والجاه من السماء دون كد أو جد) هما عصاميان عندنا يستحقان منا كل التبجيل والاحترام. وانحرفت هذه الكلمة عن مدلولها حتى كادت تختص بهذه الطائفة الخاصة من الشخصيات المرتجلة، مع أن العصامية أعم وأشمل، وهي الإرادة الحديدية والعزم القوي والاعتماد على النفس، وعدم الاستسلام للإخفاق وما يجره من يأس، والمثابرة على العمل إلى بلوغ النجاح الذي ينشده، والمثل الأعلى الذي يأمله ، مهما كان نوع هذا العمل ومهما كان كنه هذا النجاح.
إن عصامينا هذا لم يصل إلى الثروة، ولم يصل إلى الزعامة، وإنما توصل إلى ما اعتقده مثلا أعلى، وتوصل إلى ما أراده وتمناه باذلا جهودا جبارة وعزيمة فولاذية لا تقلان عن عزيمة وجهود أي من عظماء العالم ...
كان صاحبنا واسمه عبد الباقي، عاملا فلاحيا بسيطا يستأجره أصحاب الحقول والبساتين لخدمة الأشجار، ولا يكاد يعرف البطالة طيلة السنة وذلك لما عرف به من النصح في العمل، ولما منحه الله من قوة البنية وصحة الجسم والعقل.
التحق عبد الباقي في صباه بمكتب قرآني تعلم فيه الكتابة والقراءة، وحفظ أجزاء قليلة من القرآن، ولم يستطع مواصلة التعليم؛ لأن والده انتقل إلى رحمة الله، واضطرته لوازم العيش إلى احتراف العمل في الحقول والمزارع مقابل أجر يومي زهيد. ولكن الرجل خلق عصاميا له مثل أعلى في الحياة يريد أن يصل إليه وله رغبات نفسانية شريفة يود تحقيقها مهما كلفه من الجهد غير مبال بالعوائق الكثيرة التي تعترض طريقه.
كان لعبد الباقي - أو للشيخ عبد الباقي كما يسميه مواطنوه - فكرة تخامر ذهنه منذ الصغر: وهي أن يتزعم حركة التربية والتعليم القرآني في بلدته. وشيخ الكتاب في بلدته هو كل شيء، يحترمه السكان ويبجلونه ويلجئون إليه لحل مشاكلهم، يعيش في شرف وعز تقف دونهما سلطة القضاء والحكم خاضعة ذليلة ...
استولت على أفكاره هذه الرغبة فعمل على تنفيذها، ولم يقف الفقر ولا حاجته إلى العمل حجر عثرة في طريقه، فاشترى مصحفا واشترى لوحا خشبيا وقلما ودواة وانكب على حفظ القرآن مع مواصلته العمل، فيعمل شطرا من الليل في إعداد لوحه وكتابته حتى إذا ما أصبح الصباح حمله معه وانكب على حفظه. وكان يشاهد وهو مرتق أعلى الأشجار أو عاملا في الحقول ولوحه مربوط إلى حزامه يلجأ إليه كلما ألزمه الأمر إلى مراجعته. قضى سنين وهو على هذه الحالة، إلى أن شاع أمره فأعجب به قوم وهزئ به آخرون، ولكن الرجل لم يعنه إعجاب المعجبين ولا سخرية الساخرين، بل استمر قدما يتابع سبيله ويواصل العمل بالعمل والليل بالنهار إلى أن حفظ القرآن حفظا متقنا وصلى به صلاة التراويح، ثم احتل حجرة في المسجد وفتح كتابا قرآنيا وأخذ يعلم القرآن، يعلمه بشدة وقوة محاولا دائما ابتكار طرق جديدة لتعليمه، وأخذ يعلم الصبيان في النهار والكبار في الليل، ولم يعهدوا في قريته تعليم الكبار فضرب لهم مثلا بنفسه، مثلا حيا ناطقا، فكثر الإقبال عليه وتوصل إلى أن تزعم حركة التعليم في القرية لا ينازعه فيها منازع.
ارتاح الشيخ بعض الشيء إلى ذلك، ولكن التقدم العلمي جرف القرية، فقد نزل بها شبان أتوا يحملون فنا جديدا تعلموه في جامع الزيتونة بتونس، اسمه النحو، واحتل بعضهم سواري المسجد، وتصدوا لإلقاء دروس فيه، وتعليم مباديه لمن يرغب في ذلك. تحدث الناس بهم ولهجوا بذكر فنهم الجديد، وقالوا إن الشيخ عبد الباقي لا يحسن النحو ... علم الشيخ بذلك وغاضه أن تنتزع منه الزعامة العلمية، ينتزعها منه شبان في سن الأطفال الذين يتولى تعليمهم، وصرح في مجمع كبير أنه يحسن النحو وهو يتحدى خصومه لتدريسه دون الالتجاء إلى كتاب ما، وضرب لهم موعدا لذلك، وبادر بالتحصيل على نسخة من شرح الشيخ خالد على الآجرومية؛ لأن الآجرومية متنا وشرحا هي البضاعة الوحيدة لخصومه. وانكب على الشيخ خالد يحفظ ما فيه من متن وشرح غير عابئ بفهم عباراته ومعانيه، وحل الموعد ونزل الشيخ إلى المسجد الذي ضم جمعا غفيرا من المعجبين والفضوليين، وألقى الشيخ درسه بصوت جهوري دوى له المسجد، فكان يسرد الفقرات من المتن ثم يتبعها بما يليه من الشرح، كل ذلك دون الالتجاء إلى كتاب، ونجح في الاختبار واستولى من جديد على زمام الزعامة العلمية، وكان هذا الحادث فاتحا جديدا له ففتح له أبوابا كانت موصودة دونه وعرف أن حفظ القرآن ليس هو كل العلم بل هناك علوم وفنون أخرى عليه أن يخوض غمارها. ولم ينتظر طويلا، فبادر لحينه بدراسة النحو دراسة متقنة، ثم انكب على الفقه المالكي فحفظ خليلا وطالع مرارا شراحه وحواشيه، كما درس التجويد والقرآن والفرائض ومعلومات عديدة، واستعان على ذلك بشيخ ضرير لا يدري أهل القرية من أين أتى به، أنزله عنده وخدمه وقام بجميع لوازمه. كل ذلك ولم يتخل يوما عن عمله في الكتاب أو يختل يوما برنامجه واتسعت دائرة عمله حيث لم يكتف بتعليم القرآن، بل أخذ يعلم مبادئ شتى العلوم والفنون التي تعلمها، وللرجل قدرة غريبة على هظم ما يتعلم وقدرة أغرب على ابتكار طرق جديدة مبسطة لتعليمه.
كان الشيخ عبد الباقي لا يقبل التحدي ولا يرضخ لهزيمة مهما كانت قوة التحدي وعظم الهزيمة. وله في ذلك نوادر عديدة، منها أن كبار تلاميذه في مكتبه القرآني يحلو لهم في بعض الأحيان أن يتخلفوا عن الكتاب لقضاء يومهم في لهو ولعب، ولكن الشيخ كان دائما يحرمهم من متعهم حيث يأتي بهم ولو كانوا في أقصى الحقول والبساتين، وهو يعرفها معرفة جيدة وقد قضى عز شبابه عاملا بها. فدبروا هذه المرة خطة محكمة، وهي السفر إلى قرية مجاورة في الحافلة الوحيدة التي تقوم بنقل الركاب صباحا لتعود في المساء مارة بتلك القرية التي تبعد عن قريتهم بخمسة عشر ميلا، وبهذا فقط يأمنون تدخل الشيخ في إفساد راحتهم المغتصبة. نفذ التلاميذ خطتهم وحان موعد القراءة، وتبين الشيخ غياب التلاميذ، وبعد البحث والاستقصاء استجلى الخبر، وعرف التفاصيل، وتهامس الحاضرون من التلاميذ باستسلام الشيخ للأمر الواقع، وقالوا إنه لا يجد حلا للقضية إلا أن ينتظر الغد لعقابهم، وذهبوا يتخيلون العقاب ويبتسمون ابتسامات خبيثة فهم الشيخ معناها، ولكن هذا الرجل الذي لا يقبل التحدي فاجأهم بما لم يتوقعوه فقام لحينه بتكليف أكبر التلاميذ بمراقبة الكتاب وتوجه إلى القرية المجاورة ماشيا على الأقدام وعاد بالتلاميذ في حالة يرثى لها من التعب والخذلان. •••
كان الشيخ عبد الباقي يقول إنه الوحيد الذي كسب من التعليم، وفعلا فقد تمكن من شراء بساتين ودار لسكناه وتزوج وأنجب أطفالا، ولكنه رغم كل ذلك لم ينقطع عن الأعمال اليدوية، فلا زال يباشر خدمة بستانه بيده دون الالتجاء إلى مساعدة أحد، والرجل يتمتع بقوة ويتمتع بصحة. وكان ذات يوم يقوم ببناء جدار في بستانه بمساعدة بعض المحظوظين من تلاميذه؛ لأن المحظوظ هو الذي يختاره الشيخ لمساعدته في أعماله، وما كاد يحل المساء حتى ارتفع الجدار، وكان الشيخ لا يحسن البناء ولهذا لم يلبث هذا الجدار حتى انهار، لكن الشيخ الجبار عارضه بصدره العريض وساعديه المفتولين يحاول إمساكه، وغاضه أن ينهار عمله بين يديه، ولكن قوة البناء تغلبت على قوته، وانقض الجدار فوقه فألزمه الفراش أياما وكانت آلام الهزيمة في نفسه أقوى من آلامه الجسمانية ورضوضه الجسدية، ولهذا ما كاد يتماثل إلى الشفاء حتى كلف مساعده بالكتاب القرآني، وانقطع لتعلم البناء حتى حذقه وأتقن فنونه وقام بعدة مقاولات تخص بعض البنايات في القرية وخارجها إلى أن قهر البناء وانتقم من الجدار الذي ألزمه الفراش أياما ثم عاد إلى أعماله العلمية وابتسامة النصر تعلو شفتيه. •••
تخرج على يد الشيخ عدد وافر نجحوا كلهم في مختلف ميادين الحياة واستفادوا من عزيمته الحديدية وإرادته الفولاذية أكثر من استفادتهم من معلوماته، وكانوا جميعا يحبونه ويحترمونه ويخضعون له، كما كانوا في عهدة التلمذة والطفولة، فلم يتغير شيخهم في نظرهم، ولم يتغيروا هم كذلك في نظره رغم المناصب المختلفة التي أحرزوا عليها.
كان الشيخ عبد الباقي يتمتع بنفسية عالية جدا، اشتهر بها وتحدث بها العام والخاص، فهو لا يحط همته لأحد، ولا يلتجئ إلى كائن من كان في قضاء حاجة أو طلب شيء مهما كانت حاجته شديدة إلى ذلك، فكل شيء لا يستطيع التوصل إليه بنفسه، وكل قضية تستدعي الوساطة (ولو وساطة أقرب الناس إليه) يلغيها ويحكم بعدم لزومها ويعدها من الكماليات التي لا لزوم لها ويحذفها من برنامج حياته مهما كانت ضرورية وحاجته إليها ماسة، وعاش بذلك عزيزا مكرما شامخا بأنفه إلى السماء، ولا أدري بماذا كان يفكر حينما أدركه الموت، وكيف قابل تحدي عزرائيل. ولكن الذين شاهدوه في لحظاته الأخيرة، قالوا إنه قبل التحدي بابتسامة تدل على الرضا والاطمئنان، ولسان حاله يقول: الآن أخضع وأنحني باحترام فقد لاقيت حقا من يقهرني ...
العم نتيش
عرفت العم نتيش وكنت حينذاك أتمتع بريعان الشباب. احتل مكاني بين زمرة من شباب القرية؛ حيث كنا نقضي أيام عطلتنا المدرسية في اللهو واللعب والعبث البريء، وكان العم «نتيش» الذي لا يتخلف عن مجالسنا قد تخطى عتبة الشباب بأعوام وأخذ ينحدر مع السنين في منعرجات عقده الخامس، ولكنه كان فتي التفكير كثير المرح، لا يعبأ بمسئوليات الحياة وتكاليفها الثقيلة، يقضي يومه ولا يفكر في غده، رغم أنه كان متزوجا وله أطفال يطلبون منه التفكير في حاضرهم ومستقبلهم.
كان «نتيش» رجلا بدويا، نشأ بالبادية وتربى بها، يكره المدن ويمقت تكاليفها المعقدة، بل يكره كل شيء معقد في الحياة، يهوى العيش البسيط ويقنع منه بأتفه الزاد، يميل إلى المرح واللهو ويتبرم من الجد والعمل، فقد كان كسولا موهوبا ...
كان «نتيش» يعيش في أكناف عمه الذي استوطن الحاضرة منذ عهد طويل، وكون ثروة متوسطة من عقار ومزارع، حاول عبثا استغلال «نتيش» والاستعانة به في إدارة مزارعه وسير أعماله، مقابل ما يقوم به من تكاليف عيشه وعيش عائلته، فكان يعيش معه في مشاكل ومعارك لا تعرف الانتهاء، فبقدر ما كان عمه ذا حزم وعزم ونشاط يستوجبه ثراؤه وأعمال مزارعه، بقدر ما كان «نتيش» كسولا برما بكل عمل جدي مثمر، يحلو له أن يقضي يومه في المقهى في لعب الورق و«الدومنة» في جو من المرح والمزاح. •••
كان «نتيش» يحتل مكانته الفتية رغم تقدم سنه، وكنا نحبه ونستأنس به للطفه وظرفه. وكنا نشجعه على التمرد على عمه، ونحثه على عدم القيام بأي عمل يكلفه به، وكم كان يسره ذلك منا، ولهذا كان يلجأ إلينا كلما كلفه عمه بإنجاز عمل، وسريعا ما نجد له حلا لمشكله (حلا يرضيه طبعا)، ونجد له عذرا يتقدم به لعمه، وينتهي كل شيء في رمشة عين، وننتقل فورا إلى المزاح واللعب، ويذهب يقص علينا مغامراته الكثيرة مع عمه، يقصها علينا بأسلوبه الساذج ولهجته البدوية، فكنا نضحك لها ونطرب ونشجعه على الاستمرار في مناوءة عمه والتمرد على أوامره ...
إنه الشباب سامحه الله وغفر ذنبه ... •••
وذات صباح بينما كنا جالسين في مقهانا المعتاد نتجاذب أطراف الأحاديث والنكات، إذ قدم علينا العم «نتيش» بقامته الفارعة الطول وهيكله النحيل المجرد من اللحم، وما كاد يأخذ مجلسه بيننا حتى ابتدرناه بالسؤال عن مشاكله ومغامراته مع عمه، وابتسم «نتيش» ابتسامة عريضة وقال: «الدعوة مطينة يا لولاد ...»
وألححنا عليه في محادثتنا عن هذه المسألة «المطينة»، فقال بكل هدوء وبساطة: زارني البارحة جماعة نصف الليل! ... وجماعة نصف الليل في لغة العم «نتيش» هم اللصوص، قال: كنت البارحة وحدي في المنزل، حيث قضت زوجي والأطفال ليلتهم عند عمي، كنت مستلقيا في فراشي أتصيد الكرى إذ لاحظت في غسق الليل لصين يتجولان في غرفتي باحثين عما غلا ثمنه وخف وزنه، ولكن مع الأسف ماذا يملك نتيش سوى قدر من الطين وقصعة من خشب، والمؤنة تأتينا يوما بعد يوم من دار عمي موزونة بميزان الذهب، لا تزيد درهما واحدا عن حاجتنا ... وكنت أنظر إليهما - وضوء المنور ساطع على وجهيهما - فقد كانا مطمئنين يظنان المنزل خاليا، ولكن علامات الحسرة كانت بادية عليهما بوضوح، وغاضني أن يعودا من حيث أتيا بخفي حنين، فنبهتهما إلى ملحفة جديدة من الصوف كانت في ركن خفي من أركان الغرفة لم ينتبها إليها وطلبت منهما ألا يعودا إلى أمثال هذه المنازل الفقيرة الخالية، ومنزل عمي على مقربة من هنا زاخرا بمختلف الأرزاق والخيرات ...
قلنا له: كيف تفعل ذلك وتناول لصين غطاءك وغطاء أهلك؟
فضحك وقال: إنه ملك عمي استعرته منه، وما يضيره أن يصير في يد غيره، ولأي شيء تنفع أمواله! ... قالها بكل بساطة وابتسامة الانتصار على عمه تعلو شفتيه. •••
كان لنتيش غريم اسمه زيان، يكرهه كل الكره، لا لسبب أو داع، وإنما كان يكرهه لوجه الله، كما يقول حينما نسأله عن الأسباب والدواعي. كانت إحدى ساقي زيان مستعارة من خشب؛ إذ فقد ساقه الأصلية في حادث اعتداء لصوص على مزرعة لعم نتيش كان يقوم بحراستها، وكان السبب الحقيقي لكره نتيش له، أنه أضاع ساقه من أجل أموال عمه، ولهذا يغدو ينتقده ويصفه بالبله ويقول: إني والله لا أسمح بضياع شعرة من رأسي من أجل أموال الدنيا كلها ...
ويستمر في انتقاد زيان فيقول: أتظنوني مثل ذلك الأبله الذي فقد ساقه من أجل كيس من الشعير ينتفع به غيره؟
فماذا كانت فائدته، سوى ساق من الخشب، يكسر بها بلاط المساجد ويزعج بها عباد الله الآمنين؟!
قلنا: لو كنت مكانه، ألا تفعل مثله؟
قال: هيهات ... ولا أذهب بكم بعيدا، فقد أرغمني عمي في السنة الماضية على مشاركة عماله في حراسة الحبوب في البيدر، وكان بعضها صافيا نقيا، ينتظر نقله إلى المخازن، والبعض مختلطا بتبنه ينتظر هبوب الرياح المواتية لتصفيته. وكنا نتناوب الحراسة، وجاء دوري، وكأن اللص لم يكن ينتظر إلا ذلك.
قلنا مقاطعين: إن اللصوص يعرفون من دون شك تقديرك لهم وعطفك عليهم؟
ابتسم واسترسل يقول: وما كاد يستغرق الآخرون في النوم حتى شاهدت - وعلى ضوء النجوم - لصا يتقدم بخطوات بطيئة نحو البيدر، ولبلاهته ترك القمح النقي المصفى وقصد كوما من الشعير المختلط بالتبن، فقلت له: لا تنزعج! دونك القمح النقي املأ منه كيسك واذهب بسلام ... ولا أدري كيف انتبه أحد النائمين إلى ذلك، فأيقظ الآخرين واضطر المسكين إلى الفرار خالي الوفاض.
قلنا: وكيف كان موقف عمك من عملك هذا؟
قال: سخط علي ولكني أجبته أني لا أريد أن أشارك زيان الأبله في إزعاج خلق الله بساق من الخشب، أجني لعنات الناس من أجل كيس من القمح ينفع هذا المسكين ولا يؤثر على ثروته شيئا.
قلنا له: إنك تعطف على اللصوص، وتشجعهم على أعمالهم الشائنة، وهذا لا يليق بك ...
وكان جوابه: إن اللصوص مخلوقات مثلنا لهم الحق في الحياة والعيش، جعل الله رزقهم من أموال الذين لا يدفعون حق الله من الزكاة. وكان نتيش يعتقد اعتقادا جازما أنه لا يسرق إلا الذي لا يدفع حق الله من ماله.
قلنا له: لكنها مهنة غير شريفة وغير مشروعة.
قال: وما ذنبهم، إن الله خلقهم وخلقها وجمع بينهم.
قلنا : ستستمر إذن في الدفاع عنهم والعطف عليهم وتشجيعهم؟
قال ضاحكا: سأشجعهم على نهب أموال عمي كلها، ما دام لا يحسن الانتفاع بها ... •••
وساءت الأحوال بينه وبين عمه، فلم يعد عمه قادرا على احتماله، ففارقه وعاد نتيش إلى باديته يعيش بين عشيرته كما يحلو له أن يعيش تاركا لنا فراغا عظيما، وذكريات عذبة.
السكير
إنه لسكير عجيب لا يشبه غيره من مدمني الخمور؛ لأن الخمر لا تبعث في نفسه الغبطة والسرور، كما تفعله عادة في نفوس غيره من السكيرين، بل تثير في نفسه الحسرة والندم، فيغدو يتوجع وينتحب ودمعه منهمر على خديه كالطفل المذنب.
تعرفت على هذا الرجل بعد هذه الحرب الأخيرة وقد كنت مديرا لمدرسة أهلية، وكانت صلة الوصل بيني وبينه، ابنته التي كانت تتعلم في مدرستي.
كان الرجل والدا ... والدا رحيما إذ كانت له طفلة جميلة في الثامن من عمرها، كأنها ملاك يفيض وجهها الصبوح بأنوار الطهر والبراءة، يحبها والداها حبا عنيفا طاغيا، يحبها إلى العبادة، ولهذا كانت سبب سعادته وسبب شقائه في نفس الوقت ...
كانت تلك الطفلة - واسمها حورية - سبب سعادة لوالدها؛ لأنه كان يعيش لها وحدها، يعيش من أجلها، يحيى لها وبها، لا يشاركها في قلبه وعواطفه شريك لا بعيد ولا قريب، فهي كل آماله وأمانيه في الحياة ...
فقدت حورية والدتها وهي صبية في المهد، فقام والدها مقام الأم والأب، فأحاطها بحبه وعطفه وحنوه، واحتلت البنية كل جزء من قلبه وروحه فأصبحت تشغل كل حياته، يسر لابتسامتها، ويتعذب لأقل ألم يصيبها، كانت تملأ دنياه بالسعادة والسرور ... يقودها كل يوم بنفسه إلى المدرسة ويعود بها عقب الدرس صباحا ومساء في مواعيد محدودة دقيقة لا يتخلف عنها أبدا ولا يعوقه عائق مهما كان جسيما عن مرافقتها في غدوها ورواحها.
كان هذا الوالد الرحيم المدله بحب ابنته سكيرا مدمنا على شرب الخمور، لا يكاد يفارق عمله مساء كل يوم حتى تقوده رجلاه إلى أقرب خمارة فيعب من الخمر إلى أن تمتلئ بطنه ويغيب عقله، ويفتكر حينئذ بنته وهي في مدرستها تنتظر قدومه ليعود بها إلى المنزل، فيثور ضميره مؤنبا ويستعظم جرمه ويغدو وهو تحت تأثير الخمر ينتحب كالطفل الصغير ...
كيف يقابل ابنته المحبوبة وملاكه الطاهر وهو على ما هو عليه من الخزي والعار؟
شاهدته لأول مرة وقد كان جالسا على مقربة من مديري إدارة المدرسة، جالسا في هدوء وسكون، وعيناه تذرفان الدموع، فأدهشني أمره، وكأنه انتبه لما أنا فيه من الدهشة والحيرة، فابتدرني قائلا: أنا والد حورية ... قلت: نعم مرحبا بك. قال وهو مسترسل في البكاء: هل يجوز لمن كانت له ابنة مثل حورية تدرس العلم الشريف، أن يشرب الخمر؟
حرت في الجواب، وعلمت أني أمام رجل مخمور ... ولم ينتظر جوابي بل استرسل يتكلم بصوت متقطع يشوبه البكاء والنحيب: كيف أقابلها؟ ... هل أجرؤ على رؤيتها ومقابلتها وأنا على هذه الحالة اللعينة؟ ... لا ... لا أستطيع أن ألمس يدها الطاهرة بيدي النجسة ... ما أشقاني وما أتعسني ... إني لا أقوى على تحمل نظرتها الطاهرة المقدسة، وأنا كالخنزير تفوح رائحة الخمور من فمي ...
أخذت أخفف عنه آلامه، وأهون عليه خطبه ودعوته للانصراف إلى منزله ما دام لا يرغب في رؤية ابنته وهو على هذه الحالة، ووعدته بتكليف أحد التلاميذ الكبار بمرافقتها، وما عليه إلا أن يكلف من يستقبلها من جيرته وذويه، وصاح الرجل قائلا: لا ... لا ... إني لا أطمئن عليها وهي برفقة تلميذ، إني أخشى عليها من السيارات ...
وما كان مني إلا أن طمنته ووعدته بمرافقتها بنفسي إلى المنزل.
فرح الرجل وأخذ يهذي بخليط من كلمات الشكر والحمد وانصرف يتأرجح في مشيته.
استمر الرجل على هذه الحالة جاعلا من نفسه ميدانا لمعركة عنيفة بين عوامل الخير والشر، فتشن تارة جيوش الخير غارتها يقودها حب هذه البنية، فتنتصر ويكف الرجل عن تناول الخمر أياما يقضيها سعيدا بابنته راضيا عن نفسه، ثم تعيد جيوش الشر غارتها يناصرها جرثوم الخمر المتمكن من نفسه، ويشجعها رفقة السوء من رواد الحانات وعشاق الرحيق، فيعود إلى السكر ويعود إلى البكاء والنحيب ويعود ضميره إلى التأنيب، وكل ذلك من أجل ابنته التي يحبها إلى حد العبادة ويسوءه أن تنتسب إلى والد سكير قذر، إنه يريد أن يقلع عن رذيلة السكر، لا خوفا من الله، ولا حياء من المجتمع، ولكن من أجل هذه البنية؛ لأن ذلك يحط من كرامتها وينقص من قيمتها وهو يريدها كاملة لا تشوبها شائبة نقص.
تركت المدرسة في نهاية السنة الدراسية وتركت السكير في صراعه العنيف مع نفسه، وإني لا أدري إذا ما تغلب جانب الفضيلة الذي تحميه ابنته حورية بما تشعه من أنوراها في دنياه المظلمة، أو تغلب جانب الرذيلة الذي تناصره شهوة النفس وإغراء رفقة السوء.
رجل من الناس
«زمرة الأصدقاء» - كما يسمون أنفسهم - هم عبارة عن نفر من الشبان من أوساط الشعب، وحدت بينهم فضائلهم، لأن الفضائل وحدها هي التي تستطيع أن توحد بين القلوب توحيدا متينا لا يقوى الانفصام على زعزعة أركانه ... وجمعهم اتحاد مشاربهم ونبل مقاصدهم، وآخى بينهم صفاء قلوبهم ورقة عواطفهم، فأصبحوا مثلا للأخوة الصادقة، والصداقة الخالصة، ورمزا عظيما للمحبة والوفاء، تجمعهم كل يوم - بعد انتهاء أعمالهم - مجالس الأنس والسرور، لا يكاد يغيب واحد منهم إلا افتقدوه وتفقدوه.
كان خالد - الذي لا يفارقهم أبدا، ولا يتخلف عن مجلسهم - رجلا غريب الديار يعرفون أنه نزح إلى هذه البلاد منذ سنين بمفرده، وكل ما يعرفون عنه أنه أعزب، وجاء من بلاد نائية لم يشأ أن يحدثهم عنها طيلة اتصاله بهم، وأنه «رجل من الناس» لا أكثر ولا أقل، كما يقول عن نفسه، كلما سأله أحد عن أصله وموطنه، ولم يخطر يوما على بال أحدهم أن يلح عليه في الكشف عن ماضيه، مكتفيا بحاضره، وقد ملك الرجل عليهم مشاعرهم بلطفه وأدبه وعطفه وكرمه، وأنه (رجل من الناس) وحسبهم ذلك، ويعلمون فوق ذلك أنه عامل مثلهم، يشتغل بالكتابة عند تاجر جشع بمرتب زهيد، رغم سعة معلوماته وكرم أخلاقه وإخلاصه في عمله الكثير، ويحس الجميع بتألمه من حقارة مركزه وضآلة مرتبه الذي يوزع جله على الفقراء والمساكين، ولم يعرفوه يوما رد سائلا، أو اشتكى لهم الفاقة والاحتياج ، فالابتسامة لا تكاد تفارق شفتيه، فهو دائما في مرح وسرور، يمازح هذا، ويحادث هذا، يسأل ذا ويجيب الآخر. وهكذا كان نزهة مجلسهم وأنس حياتهم، يلتفون حوله كل مساء فيتصدر جمعهم ويظل يحادثهم ويباسطهم والجميع سابحين في جو مرح كله غبطة وكله سرور ...
كان الناس ينظرون إلى هذا النفر من الأصدقاء نظرات مختلفة، فمنهم المعجب بهذه الصداقة وهذا الائتلاف، ومنهم الحاسد على هذا الصفا وهذه المودة، وكم حاولت جيوش الحسد بغارتها الشعواء أن تفكك عرى صداقتهم، وكم حاولت ألسنة السوء أن تشتت جمعهم دون جدوى، ولم يزدهم كلام الناس إلا ابتعادا عن الناس وصحبة وارتباطا، ولم تزدهم محاولات الحساد إلا توطيدا لدعائم الصداقة والمودة. ••• «خالد» شاب في العقد الثالث من عمره يتمتع بثقافة متوسطة جامعة، أخذ من كل فن حظا وافرا، سليم الطبع حلو الفكاهة، كريم النفس، ذو همة عالية وأخلاق فاضلة، تعلو شفتيه ابتسامة عذبة لا تكاد تفارقه إلا إذا خلا إلى نفسه وتعمق في بحور أفكاره، فتغمره سحابة من الكآبة والحزن لا يعرف أحد مصدرها ... وكثيرا ما تجده في أشد حالات السرور إذ ينتقل فجأة إلى حالة حزن وكآبة ويغيب بفكره عن جماعته، فينتبهون لذلك ويصيح الجميع مازحين: كم عدد البواخر التي غرقت لك في البحار يا خالد! علها كانت تحمل بضاعة كثيرة؟
وينتبه خالد من غفوته، ويعود إلى نفسه ومجلسه، فيرد على النكتة بأحسن منها، ثم تسمع سعلته الخفيفة المعتادة، التي يسميها جماعته «صفارة الإنذار» يرسلها كلما أراد الخوض في أمر معهم، فينقلب المجلس بغتة من المزاح إلى الجد ويفتح الجميع قلوبهم وآذانهم كأنهم تلاميذ سذج، ويبتدرهم خالد بقوله: إني لا أكاد أفكر في نفسي يا إخواني وأهتم بأموري الخاصة بقدر ما أفكر في مصائب الغير وأحوالهم التعيسة، فكل شيء في هذه الدنيا ينسيني أحزاني وآلامي، تحزنني هذه الفضيلة التي أصبحت قشورا دون لب، مظهرا دون مخبر، أصبحت زيا يتزين به الإنسان أمام الناس، ويخلعه إذا ما خلا إلى نفسه، وبذلك أضاف الإنسان رذيلة النفاق إلى رذائله العديدة ، أصبحت الفضيلة أثاثا ماديا يرثه الابن عن أبيه، ويشتريه ذو المال بثمن زهيد، فلم تعد الفضيلة شعارا ساميا يرتديه كل من عصمه الله من الرذائل، فمسخت الفضيلة غير الفضيلة وانتزعت روحها، فلم يبق سوى جثمانها جثة هامدة لا روح لها ولا إحساس ...
وهكذا يسترسل خالد في تحليل مساوئ المجتمع ونقده، وإبداء نظرته إلى الحياة، وجماعته يؤمنون على قوله، وبدا بذلك، شاذا عن هذه البيئة التي قدر له أن يعيش فيها، وزد على ذلك صراحته التي عرف بها والتي كثيرا ما تحرج قلوب بعض الناس الذين تجمعه الظروف بهم، رغم محاولاته دائما في الابتعاد عن هذه الطائفة من العباد الذين لا تحلو لهم الحياة إلا في جو من النفاق والكذب، وربما خرجت به هذه الصراحة إلى حدة سببت له متاعب مادية وأدبية لا يحتفل بها ولا يلتفت إليها ... •••
هكذا عاش هذا «الرجل من الناس» مع الناس، وشاع خبره بينهم، فرغب البعض في التعرف إليه والاتصال به، بينما زهد آخرون في الاجتماع به مكتفين بما يشاع عنه من خير وشر، أما هو فقد اكتفى بجماعته البسيطة لا يريد عنهم بديلا، ولكن كل ذلك لم يمنع الناس من التساؤل عن أصل هذا الرجل العجيب، مدفوعين بدافع الفضول، فمن أين أتى؟ وإلى أي عائلة ينتمي؟ وفي أي بلد نشأ؟ ولم يجرؤ أحد منهم على سؤاله، فإن حدة لسانه وحدة أعصابه أخرست ألسنة الفضوليين. وعاش خالد في أكناف هذا الغموض كما أراد واشتهى، واستمرت حياته متتالية متشابهة لا يكاد يختلف يومه عن غده، راضيا بمصيره لا يتبرم ولا يشتكي، قانعا بمدخوله الزهيد وحجرته المتواضعة ومجتمعه البسيط.
وذات يوم ... زار زائر أجنبي خالدا ... علم به كل من في البلدة، رغم أن زيارة الرجل القريب كانت حقيقة مقتضبة وفي ليلة حالكة الظلام، أشاع خبرها جار لخالد، لم يتعود منه استقبال زوار في حجرته لا ليلا ولا نهارا ...
وذهب الناس يتساءلون عن هذا الزائر وعن أسباب زيارته، ولزم خالد الصمت فلم يذكر شيئا قليلا ولا كثيرا عن هذه الزيارة، ولم يشأ الخاصة من أصدقائه أن يستوضحوه أمره ما دام رغب هو في الكتمان، ثم لم يتعودوا منه أن يدخلهم في شئونه الخاصة ... رغم أنهم لاحظوا عليه تبديلا واضحا، حيث أصبح الرجل في وجوم متواصل، يتكلف الابتسام والدعابة. وبدأ الشحوب على قسمات وجهه جليا مما يدل على أنه يقاسي أزمة شديدة يخفي أمرها على الجميع، ولكن راعهم منه أنه لم يغير من عاداته ومجالسه وأحاديثه شيئا، واستمر على هذه الحالة أياما عديدة كانت بالنسبة له قرونا طويلة لا نهاية لها، يعد دقائقها وثوانيها ...
وذات صباح علمت البلدة كلها بخبر الشرطي السري الذي ألقى القبض على خالد ونقله معه في سيارته إلى حيث لا يدرون ...
وغدا الناس أياما، وهم يتكهنون محاولين كشف السر ومعرفة جرمه ... فمن قائل إنه جاسوس يعمل لحساب دولة أجنبية، وأجاب آخرون: إن الجاسوس لا يلزم بلدة صغيرة سنوات عديدة، لم يعرف عنه أنه فارقها منذ استوطنها ... وقال آخرون إنه مجرم أثيم، يتستر تحت رداء الفضيلة وحمايتها.
غير أن الذين عرفوه واتصلوا به عن كثب ردوا عنه هذه التهمة واستبعدوا منه صدور الجريمة، وذلك لما يعرفون فيه من الأخلاق الفاضلة والعواطف السامية ... وهكذا كثرت التكهنات والتخيلات، ولكن أحدا لم يستطع أن يجزم أنه أصاب كبد الحقيقة وتوصل إلى معرفة السر الخفي ...
ومرت الأيام وأسدل النسيان ستائره على حادث خالد، فنسيه الناس حتى الخاصة من أصدقائه وجلسائه، وانتقل الجميع من الحديث عنه إلى أحاديث أخرى أكثر جدة وطرافة.
وهكذا عاش «رجل من الناس» بينهم لغزا غامضا، واختفى لغزا غامضا دون أن يترك لهم مفتاحا لحل طلسمه الغامض الخفي.
فقاقيع الأدب
من نكد العربية والأدب العربي في هذه البلاد: أن نكبهما الزمان ببعض المتطفلين المغرورين، وجدوا الميدان خاليا لا حسيب ولا رقيب، واتسعت لهم أعمدة الصحف تشجيعا لهم، فغرهم هذا التشجيع وظنوها عروش الأدب وقد اعتلوها، فتنكبوا عن جادة الأدب الصحيح، وانحرفوا عن صراطه المبين، وعكروا منهله الصافي. حيث ذهبوا يفلون قمامات الصحف والمجلات، يلتقطون منها بعض التعاريف الشاذة ، والرطانات النابية، يتشدقون بها في مجالسهم ثم يقحمونها في مقالات يشوهون بها صحائف الأدب الناصعة، وينكبون بها القراء، ويأخذ القارئ البسيط يقرأ ويعيد وهو لا يفهم شيئا، فيتهم فهمه ويتهم ذوقه وهو لا يدري أن هؤلاء الكتاب أنفسهم لا يفهمون مما يكتبون شيئا، ولا يوجد في طياتها ما يتطلب الفهم.
الأدب العربي أدب الأسلوب السلس والمعنى المتين، أدب البيان والتبيين، لا يمت بصلة إلى هذه الشقشقة الغامضة المخنثة التي أغرم بها هؤلاء الفقاقيع أيما غرام.
وإلى القارئ أنموذجا من هذا اللون من الأدب «الملتوي»، ولا تحاول أيها القارئ أن تفهم منه شيئا، فهو فارغ لا يحتوي على مادة تهضم أو معنى يفهم ... قال أحد فقاقيع الأدب لزميله وقد جمعتهما ندوة ندية وكان كل منهما يلوك لبانة أميريكية يتشدق بمضغها كتشديقه بمضغ كلماته: ما قولك في السمو الفني ... يا عزيزي ...؟
وأجابه عزيزه قائلا: لا يستقيم السمو الفني في خمائله الفينانة إلا إذا كان نتيجة إيجابية مشرقة الجانب التصويري تمتاز بروح التعمق، بعيدة عن طابع السطحية ولا سيما إذا كان الصدق العاطفي أبرز معانيه، والطابع النفسي هو مقياس الجمال في فلسفته الماورائية. أما التجلي اللامع الذي تبدو طقوسه البراقة جلية في معبد الجمال لا تستقيم قدسيته إلا إذا ما اتصل طرفه بالذوق الذاتي، وإن كان هذا الأخير إكلاسيكية حديثة من أبرز معاني «الرصيد الفني» الذي يعد اليوم من أخصب عناصر الأدب الحديث وخصائصه الأصلية.
ورفع الثاني طرف جبته واستوى في مقعده وقال: هذا حق يا عزيزي ولكن الرومنتيكية التي تتجلى بوضوح في نفثات بعض كتابنا يبدو لي أن الجانب الرمزي فيها ينقصه محراب الفن ليتبرز في إطار روحي أبدعته ريشة الفنان المطبوع، هذا وحده هو جانب التعمق في البحث إذا ما أردنا أن تستقيم لنا ذاتية الهيكل وتنسجم لنا ألوان الرسم، ويخضع لنا التعمق الفكري في معانيه البارزة حيث تشع أحلامه الذهبية في منعرجات أنغامه الموسيقية فيبدو في إشراقة الفجر وقد تخلص من الجفاف الفكري وتحلى بطابع السمو والمعنى الندي في أعماق التجربة الشعورية. - فأنا أوافقك إلى حد يا أستاذ ولكن لا تنس أن الأصالة في الإشعاع الذوقي فرع من اللاشعورية القارة، وذاتية الأدب لا تقوم جوانبها إلا إذا اعتمدت على تركيز النقد وتحككت بموضوعية العلم ولو من بعيد، دون أن تخلو من أشعة الأداء النفسي. - حقا، تلك هي أسس التعمق في البحث الحديث يجب على الكتاب ألا يهملوها إذا ما أرادوا التحليق في أجواء الإبداع الفني وأرادوا أن يستقيم لهم التجاوب الفعال ذو الأصداء الحالمة في صفته الانطوائية الصاخبة بالحيوية العارمة المنسابة من ينابيع العبقرية الجامحة التي لا تخضع إلا للأسلوب الحديث المتمرد عن الأوضاع البيئية، المتعلقة دوما بالمهية الكلية. - فإن كتابنا يا أستاذي، سطحيون ابتعدوا كل البعد عن الأدب الوجداني الملتزم الذي تبدد أنواره اللاهوتية تلك الظلمة الكثيفة التي تكشف الروحانية الحسية فتفقدها الحرارة الأثيرية المستمدة من قبس الإبداع الفني الرائع. - نعم ... نعم ... أنا لا أشك في أن هذا وحده هو الطرف الإيجابي في السمو الفني وما عداه فكله سطحي لا يستند على التعمق المرتكز ولا يرتكز على السمو العميق. ا.ه.
وبعد، فهذا نموذج من أدب «السونيق» الحديث وقد راجت سوقه بين أدباء المظهر في الشرق قبل سنوات ولكن الشرق تخلص منه بعض الشيء، بعد الضربات القاسية التي وجهها له الزيات وحسين شفيق المصري وغيرهما، وكنا نظن أن العربية تخلصت منه إلى الأبد وإذا بنا نرى بوادره في أدبنا وقد بدت في صور أكثر انحلالا وأشد غموضا، ولكننا له بالمرصاد وسنقضي على بذوره قبل استفحالها، ولا نقبل في شمالنا الأفريقي إلا أدبا عربيا مبينا، أخذ من الماضي متانته، ومن الحاضر سلاسته، أدبا شعبيا مفيدا وليذهب الرصيد الفني والشعورية القارة وفقاقيع الأدب إلى الجحيم.
الشخصيات المرتجلة
جاء في معجم اللغة: ارتجل الطعام أي: طبخه في المرجل، وارتجل الكلام أي: ألقاه دون روية أو تحضير.
أما الشخصية المرتجلة في معجم الحقيقة المرة، فقد جمعت بين المعنيين لهذه الكلمة: الطبخ وعدم الإعداد والتحضير. وإذا أمعنت النظر ودققت الفهم في الطبخ والارتجال، يتضح لك بجلاء أنهما متقاربان في المعنى، حتى إننا نجد كثيرا من الكتاب يطلقون كلمة الطبخ على معنى الارتجال، فيقولون: طبخ فلان كتابه، أي ألفه بسرعة دون عناء في التدقيق أو مشقة في البحث، وذلك هو الارتجال بأتم معناه.
أما الشخصية المرتجلة، فهي تلك الشخصية التي تطبخ على عجل في مرجل الأنانية وحب الذات، فلم ينضج منها إلا ظاهرها، ثم تغمس في سائل كيمياوي عجيب ركب من الدجل والغرور والشهوات الجائعة، فهو يشبه العسل في مظهره ولكنه يخالفه في مخبره.
وبعد هذا الطبخ السريع، والطلاء الزائف، تنزل هذه الشخصيات المرتجلة، على المجتمع كجنود المظلات دون سابق إنذار، لتفرض نفسها ضريبة ثقيلة على الأمة تحب الرئاسة وتريد القيادة، وتهيم بالزعامة، ولكن ليس لديها من المؤهلات سوى ذلك الطلاء الزائف الذي لا يوجد تحته سوى مطامع دنيئة ودعوى خاوية.
وتغدو هذه الشخصيات المرتجلة تتبختر في مظاهرها الزاهية ومخابرها القاتمة وهي تصرخ بوقاحة في وجه الأمة: سلميني زمام القيادة! رقيني إلى منبر الزعامة! أجلسيني على عرش العظمة!
والأمم وإن اختلفت في درجات الثقافة والجهل، وتفاوتت في مقدار الرقي والانحطاط، لم تختلف أبدا في فهم الزعيم الحق، ولم تخطئ أبدا في اختيار القائد الصالح.
فهي كلها تحسن اختيار القائد، وتصيب في تزعيم الزعيم، وتدرك إلى من تنقاد وتطيع، وذلك عائد إلى حواس فطرية وإدراك طبيعي، وهو عنصر المناعة ضد الانحلال والانحدار، خلقه الله في جسم الأمة لا دخل للعلم والاكتساب فيه.
ولم نجد أمة انخدعت في اختيار زعيم، ولم نجدها كذلك خذلت شخصا لا يستحق الخذلان، ولهذا كان حكمها دائما هو أصدق الأحكام. وبينما نجد الأمة تتسلق درجات التقدم بصعوبة وعناء، إذا بهذه الشخصيات المرتجلة تطن في سمائها كالذباب، فلا تلتفت إليها حتى إذا ما أزعجتها وأقلقتها، أعارتها الفاتة بسيطة، لا لتسمع إلى دعوتها أو تنخدع إلى حيلها، وإنما لتلقي بها في مهاوي الحضيض، لتتخلص من وقاحتها وعرقلتها، ثم تمضي قدما في طريقها لا تلوي على شيء.
يظلم بعض الناس هذه الشخصيات، فيقولون عنها: «إنها مصابة بداء العظمة»، وكما أنني ذكرت هنا ما على هذه الشخصيات، يجمل بي أن أذكر ما لها، فأعترف أنها مظلومة في هذه الوصمة كل الظلم.
فإن داء العظمة، ذلك الداء الخطير الذي أصيب به المتنبي شاعر العربية وفيلسوفها وأصيب به قرينه «فولتير» شاعر الفرنسية وفيلسوفها، وأصيب به كثيرون غيرهم في مختلف العصور والبيئات، فجميعهم يختلفون كل الاختلاف عن هذه الشخصيات المرتجلة، والبون بينهما بعيد والفارق شاسع كبير.
فهما يجتمعان في حب العظمة، ولكن دافعه عند أولئك طموح سام، وعلم غزير، وبيان قوي، ونفس عزيزة، وشجاعة جبارة، وتضحية غالية.
ويعززها عند هؤلاء غرور سافل، وجهل مركب، ووعي قبيح، ونفس وضيعة، ومطمع دنيء ...
أما زعيم الأمة وقائدها فيختلف كل الاختلاف عن هؤلاء جميعا، فهو يخلقه الله متحليا بصفات الزعامة، مدججا بسلاح القيادة: صفات لا يراها هو في نفسه، ولكنها تراها الأمة فيه، وخصال لا يتبينها هو في نفسه، ولكنها تلمسها الأمة فيه.
يقوم بأعمال جليلة سامية، يقوده إليها إلهام من الله لا يقدر هم سموها؛ بل يراها أعمالا عادية، ولكن الأمة تقدر سموها، وتدرك عظيم فائدتها، ومن دون أن يشعر يجد نفسه مساقا قهرا، والأمة من ورائه تدفعه إلى قمة الزعامة حيث تضع له سلما من قلوبها وأفئدتها وتقول: ارتق! ... وتأتيه بزمام القيادة مصنوعا من أمانيها الغالية وتقول له: أمسك ...
أما هذه الإمعات من الشخصيات المرتجلة التي لا يعرف لها ماض، ولا حاضر، ولا حتى المراجل التي طبخت فيها، فتنبت بسرعة كالفقاقيع وتأتي تنفخ أوداجها وهي تحاول التسلق بمنابر الزعامة الخطيرة، والتشبث بقمم العظمة، حتى إذا ما حاولت الأمة إبعادها في رفق ولين صرخوا في وجهها وذهبوا، يشتمونها ويصمونها بالجهل والانحطاط لأنها لم تنخدع لهم ولدجلهم ...
وهناك تغضب الأمة غضبتها، فتلقي بهم في الدرك السافل، فتنطفئ هذه الشخصيات بسرعة، وهي مرتجلة في كلتا الحالتين، وتطوى هذه الشخصيات وصحائفها إلى الأبد مكللة بالخزي والعار ...
إكليل كل امرئ لا يعرف قدر نفسه.
الأستاذ
مسرحية في فصل واحد «كان عبد الحق عاملا بسيطا من عامة الناس، أميا، لم يتلق من العلوم شيئا، لا قليلا ولا كثيرا ... لا يعرفه أحد سوى زملائه في العمل وبعض جيرانه في الحي المتواضع الذي يسكنه لضآلة مركزه الاجتماعي ولانصرافه عن الناس بالكد في سبيل العيش.
وذات يوم توفي عمه الثري - وكان وارثه الوحيد - فاستولى على جميع أمواله وثروته الطائلة، وأصبح من كبار الأثرياء، يشار له بالبنان، وما كاد يشيع الخبر حتى تجمهر الزوار على باب داره من مهنئين، ومتسولين، وفضوليين.» ••• (المنظر: قاعة فسيحة في دار عمه التي ورثها، مؤثثة بأثاث شرقي من زرابي وأرائك، يبدو عبد الحق في صدر القاعة، وهو رجل في العقد الخامس من عمره ضخم الجثة مرتديا أثوابا جديدة فضفاضة لبسها على عجل دون ترتيب ولا نظام.) (عبد الحق - «سلمان الخادم»)
عبد الحق :
سلمان! ... سلمان ...
سلمان :
نعم سيدي ... أمرك؟
عبد الحق (وحده) :
نعم سيدي ... أمرك ... ما أعذبها من كلمات ... (لسلمان):
سلمان، أنت الذي قضيت جل حياتك مع عمي رحمه الله، وفي خدمته، أرشدني لما يجب علي عمله من لباس وأحاديث وغير ذلك، فإني لا أريد أن أظهر بمظهر الغباء أمام الناس، وأنت على كل حال، لك خبرة بحياة القصور وحياة كبار الأثرياء مثلي ... ولا يخفاك هذه الجموع الغفيرة من الزوار!
سلمان :
ما دمت قد لجأت إلي يا سيدي واسترشدتني، فإن نصيحتي إليك هي أن تغلق بابك في وجوه هؤلاء الزوار، ولا حاجة لك بهم، فإنك لن تستفيد منهم شيئا يعود عليك بالنفع ...
عبد الحق :
لا ... لا ... لا داعي إلى ردهم، فإنهم لن يكلفوني أكثر من فنجان من القهوة وقطعة من الحلوى، ثم إن الخير كثير ... إني لا أوافقك على ذلك ... لا تغلق الباب، دعهم يأتون، فإني في حاجة إليهم، أتعلم عليهم الحياة الجديدة حياة الأثرياء وخيرة الناس.
سلمان :
إن خيرة الناس يا سيدي عبد الحق، لا يأتون إليك ولا يعبئون بك ولا بمالك، وثق من أنه لا يهتم بك إلا ذو المطامع المختلفة في أموالك. (يسمع طرق على الباب.)
عبد الحق (يعتدل في جلسته ويصلح من هندامه ) :
سلمان! ... أسرع ... افتح الباب لهؤلاء الزوار ... وأعد لهم القهوة والحلويات ... أسرع ...
سلمان :
أمرك يا سيدي (يخرج ويعود صحبة ثلاثة شبان) .
السلام عليكم؛ هذا وفد الأدب والفن يا حضرة الأستاذ جاءك زائرا ومهنئا ...
عبد الحق :
أهلا ومرحبا بكم ... تفضلوا ... سلمان أحضر القهوة والحلويات للسادة ... (سلمان يخرج) .
ما مهنتكم؟
زكي :
نحن أدباء يا حضرة الأستاذ الجليل ...
عبد الحق :
إنكم تجهلون اسمي على ما أظن، فإن اسمي «عبد الحق» وليس اسمي «الأستاذ».
زكي :
إن اسمكم مشهور عند عامة الناس وخاصتهم «كأنه علم في رأسه نار».
عبد الحق (يلمس رأسه) :
يا لطيف! ... في رأسي نار!
زكي :
وإنما لفظة الأستاذ، تعبير الأدباء ولقبهم المبجل، يلقبون به من شاءوا من الأفاضل والمثقفين، ولا ريب عندنا في أنكم من كبارهم ...
عبد الحق :
من كبارهم ... هيه من كبارهم ... الخير كثير ... هيه، وما معنى أدباء هذه؟
زكي (متلعثما) :
أدباء؟ ... يعني ... أدباء! ... يعني أناس كبار ...
عبد الحق :
ما ألطفكم! ... وما أعذب كلامكم من كلام ... وهل يمكنكم أن تجعلوا مني أديبا مثلكم؟ إن لدي مالا كثيرا!
زكي :
يا سلام ... مال كثير ... نتشرف ... نتشرف يا سعادة الأستاذ الجليل أن نجعلكم رئيسا علينا وإن الآداب والفنون تتشرف وتفتخر اليوم بسعادتكم ... ومن ذا الذي ينهض بها غيركم؟
عبد الحق :
الخير كثير ... تستطيعون أن تعتمدوا علي، يكون خيرا إن شاء الله ... وماذا أعمل؟
زكي :
يا سلام! السؤال الجميل ... أولا: بلغنا يا حضرة الأستاذ، أنكم تنوون - في هذه الأيام - زفاف ابنتكم على شخص من عامة الناس لا يمت للأدب والفن بصلة.
عبد الحق :
هذا صحيح ... إنه قريبي، يدعى ناصر، سيتخرج قريبا من مدرسة الصنائع، إنه قريبي وليس من عامة الناس ...
زكي :
مدرسة الصنائع! ... رجل عمل! ... رجل غليظ! ... رجال الأعمال يا سعادة الأستاذ، لا يصلحون للأدب ... ولا يخفاك، إن بنت الأديب لا تتزوج إلا أديبا مثله ...
عبد الحق :
عجيب، بنت الأديب لا تتزوج إلا أديبا؟!
أحد الشبان :
أجل ... ذلك هو قانون الأدب كما لا يخفاك!
عبد الحق :
فاتني ذلك ... وكيف العمل الآن؟
أحد الشبان :
الأولى أن تعدلوا عن هذا الزواج، وتبحثوا لابنتكم عمن يليق بها من رجال الآداب البارزين ...
عبد الحق :
هذا حق ... أبحث لها عمن يليق بها من رجال الآداب البارزين ... سأفعل ذلك ...
أحد الحاضرين :
إن الأستاذ زكي لأولى بها من غيره، وهو أديب بارز، فاضل، ذو مركز اجتماعي عظيم، يشرفها ويرفع من مقامها ...
زكي (في تواضع) :
أستغفر الله ... أنا لست غنيا، ولا أظن نفسي كفئا لها، لأن هذا العصر عصر المادة والمال ...
أحد الحاضرين :
وأي شيء المال بالنسبة لثروتكم الأدبية الطائلة يا أستاذ زكي ...
زكي :
أنا لا أقول شيئا، الكلمة للأستاذ عبد الحق ...
عبد الحق :
الحق مع السيد ... الخير كثير ... لا يهمك المال ... الخير كثير ...
زكي :
الخير كثير ... ما أحلى هذا الكلام من فمك يا سيدي الأستاذ ... الخير كثير ... كلمة عذبة ... وعليه فإنني أشكركم على حسن ظنكم بي، وإن هذا - لعمري - لمن أجل المساعدات للآداب والفنون! ... لأن الأدب لن يترقى إلا برقي رجاله ... ولا يسعنا إلا أن نستأذنكم في الانصراف ونحن منتظرون إشارتكم لعقد القران ...
عبد الحق :
بارك الله فيكم ... سأخبركم بذلك في الوقت المناسب ... (يسلمون عليه وينصرفون.)
عبد الحق :
سلمان! ... يا سلمان!
سلمان (يظهر) :
نعم سيدي، ماذا تريد؟
عبد الحق (في تعاظم) :
ماذا أريد؟ ... قبل أي شيء لا أسمح لك من اليوم أن تلقبني بهذه الألقاب البالية! ... ألقاب عامة الناس ...
سلمان :
حسنا يا سيدي، بأي اسم تريد أن أدعوك؟
عبد الحق : «بالأستاذ» ... ادعني بالأستاذ ... قل ماذا يريد الأستاذ، هذا هو لقبي الجديد، لقب كبار الناس ...
سلمان :
أستاذ ... لقب جديد، إني لم أفهم يا سيدي، ماذا تعني ...؟
عبد الحق :
أجل إنك لا تفهم ... وقد قضيت طول حياتك خادما ... لقد كان وفد الأدباء - كبار الناس - عندي هنا، وقد لقبوني بهذا اللقب وجعلوني رئيسا لهم ...
سلمان (ضاحكا) :
أولئك المحتالون النصابون ... إني أعرفهم جيدا يا سيدي، وأعرف أعمالهم ...
عبد الحق (صارخا) :
اخرس! ... أيها الوقح ... تصف الأدباء كبار الناس بالاحتيال ... إذن أنا محتال مثلهم ما دمت رئيسا لهم؟
سلمان (في حيرة) :
عفوك يا سيدي ... سامحني أخطأت ...
عبد الحق (هازئا ) :
عفوك يا سيدي! ... ألم أمنعك الآن من تلقيبي بهذا الاسم؟ ... قل عفوك يا أستاذ!
سلمان :
نعم ... نعم ... نسيت، عفوك يا أستاذ! سامحني يا أستاذ ...
عبد الحق :
أحسنت، لقد سامحتك هذه المرة ... على ألا تعود إلى مثله ...
سلمان :
ثم ماذا؟ ... يا ... يا أستاذ ...!
عبد الحق :
ثم إني سأزوج زينب على الأستاذ زكي؛ لأن بنت الأديب لا تتزوج إلا أديبا مثله، هذا هو قانون الأدب ...
سلمان :
لكن يا سيدي ...
عبد الحق :
لكن ... ماذا؟!
سلمان :
لكن يا أستاذ! و«ناصر» قريبك وخطيبها؟
عبد الحق :
ناصر ... رجل أعمال ... قانون الأدب يمنعه من التزوج بها ... ذلك هو قانون الأدب ...
سلمان :
إنك مخطئ يا سيدي فيما عزمت عليه وستندم.
عبد الحق :
يا للوقاحة ... يا لقلة الأدب ... أتجرؤ علي أيها الخادم وتقول مثل هذا الكلام في حضرتي ... أنا الأستاذ؟ ... اغرب عن وجهي ... (زوجته «رتيبة» تسمع الصياح والضوضاء فتدخل مستفسرة.)
رتيبة :
ما هذا الصياح؟ ... ماذا جرى؟
سلمان :
تعالي يا سيدتي لتسمعي العجائب! ... أظن أن سيدي أصيب في عقله! ... إنه يهذي منذ لحظة، يقول: إنه أستاذ، وأديب ... وقال يريد أن يزوج زينب من رجل محتال، أعرفه جيدا، يقول عنه سيدي إنه أديب كبير ولا أدري ما لنا ولهؤلاء الأدباء.
عبد الحق :
أما تنتهي أيها الوقح من إهانتي، وجرح كرامتي، ألم أأمرك بأن لا تدعني بغير لقب الأستاذ؟ ... ثم بأي حق تتطاول بكلامك هذا على رجال الأدب؟
رتيبة (لزوجها) :
ماذا يا عبد الحق؟ ... أصحيح ما قاله سلمان ...؟
عبد الحق :
لا تقولي عبد الحق، أيتها المرأة القليلة الأدب! ... قولي «الأستاذ».
رتيبة (صارخة باكية) :
وا مصيبتاه! ... حقا، لقد أصيب الرجل في عقله! (تظهر ابنتها زينب.)
زينب :
ماذا جرى يا أماه؟ أأصيب أبي بمكروه؟
عبد الحق :
لماذا تقولين أبي أيتها الشقية! ... ولا تقولين «الأستاذ» اتفقتم كلكم على تجريدي من لقبي المبجل، لقب الأدباء وكبار الناس ...
زينب :
أدباء؟ ... أي شيء أدباء هذه؟
عبد الحق :
أدباء ... لا تعرفين الأدباء ...! هم الذين أريد أن أزوجك أحدهم؛ لأن بنت الأديب لا تتزوج إلا بأديب؛ هذا هو قانون الأدب ... (يدخل ناصر خطيب زينب فتسرع رتيبة نحوه باكية.)
رتيبة :
الحقنا يا ناصر يا ابني، إن عمك أصيب في عقله فإنه لم يفتر من الهذيان منذ ساعة، يقول عن نفسه إنه من رجال الأدب، وإنه يريد زواج زينب من أديب مثله، ويأبى أن ندعوه بغير «الأستاذ».
ناصر (يطمن عمته ويتقدم من عبد الحق) :
ما هذا يا سيدي الأستاذ! هل من جديد؟
عبد الحق (مرسلا زفرة) :
الحمد لله ... ها قد أتى أخيرا من يقدرني، ويعرف مقامي ... تعال يا ابني انظر لهؤلاء الجهلاء! ... جعلوني مصابا في عقلي لأني منعتهم من إهانتي، وأرغمتهم على احترام لقبي المشرف الذي أهداني إياه وفد الأدباء هذا الصباح!
ناصر :
اعذرهم يا أستاذ، إنهم لا يعرفون قيمة الأدب ولا يعرف قيمة الأدب إلا أهله!
عبد الحق :
وهل أنت أديب يا ناصر؟
ناصر :
بالتأكيد ... ومن الكبار ...
عبد الحق :
حمدا لله ... كنت أظنك غير ذلك، ولهذا عزمت على أن أزوج زينب غيرك؛ لأن قانون الأدب - كما لا يخفاك - يمنع أن تتزوج بنت الأديب غير الأديب ...
ناصر :
هذا حق ... إني أعرف ذلك ودرسته جيدا.
ثم هل يمكن أن يكون قريب الأديب، أو زوجه، أو ابنته وحتى خادمه قليلي الأدب؟
عبد الحق :
صحيح، لقد فاتني ذلك ... إذن كلنا أدباء؟
ناصر :
ومن يشك في ذلك ... كلنا أدباء وأنت السبب في ذلك.
عبد الحق :
أنا السبب ... أجل أنا السبب ... اذهب إذن وادع القاضي ليعقد قرانكما وليبارك الله فيكما وفي أبنائكما ويجعلهم من كبار الأدباء والأساتذة ...
سيدي الحاج
كان ذلك إبان الحرب العالمية الأخيرة، وكنت يومئذ مستقرا في مكة المكرمة، أعاني شوقا مبرحا، وحنينا عارما إلى الوطن والأهل والأصحاب. كانت أخبار الشمال الأفريقي شحيحة جدا؛ الرسائل نادرة، وحركة الحجيج منقطعة تماما عدا وفود صغيرة كانت تأتي على نفقة الحكومة في طائرة خاصة، وكانت هذه الوفود تجمع خليطا عجيبا من مختلف الطبقات والهيئات، تضم الطبيب والمفتي والتاجر والقائد، تجمع العالم والجاهل، الشباب والشيوخ، كما كانت هذه الرحلة المجانية تغري بعض الفضوليين الذي لا يهمهم الإسلام ولا مناسك الحج، وإنما يأتون للسياحة والتفرج على أرض الحجاز ... وكنت أبذل كل الجهود للاتصال بهم، وهم الصلة الوحيدة بيني وبين أرض الوطن، أتنسم من أحاديثهم رائحة البلاد وعبير الأهل والأصحاب، ولذلك كنت أستأنس بهم رغم التباين الكبير بيننا؛ تباين في النشأة والتفكير، في الثقافة والاتجاه، ولكن رابطة الوطن كانت كافية لجمعنا وإزالة الفوارق بيننا ... •••
اتصلت ذات يوم بحاج من هؤلاء الحجيج، وكان الرجل يحتل مكانا مرموقا في الإدارة الحكومية رغم أنه كان أميا لا يحسن العربية ولا الفرنسية، أما الإسلام وقواعده الأولية فلم يسمع بها طيلة حياته رغم سنه المتقدمة، وإن كانت لحيته الكثيفة وهندامه العربي يخدعان الناظر إليه، فيظنه شخصية إسلامية ممتازة من كبار رجالات الدين بالمغرب العربي. •••
زرته يوما في منزله فرغب مني أن أرافقه في جولة قصيرة بأسواق أم القرى، وطلبت منه أن يتوضأ استعدادا لصلاة المغرب حتى إذا ما أدركنا وقتها، أخذنا سبيلنا إلى الحرم دون أن نضطر إلى العودة إلى المنزل، وطلب الحاج إبريقا من الماس وجلس للوضوء، وبدأ يغسل رجليه، وكنت أنظر إليه مشدوها، لم أدر كيف ألاحظ له خطأه، ولكن الخادم الذي كان مكلفا بخدمته، والذي كان متعودا - دون شك - على هذا النوع من الحجيج، ابتدره قائلا: ما هذا الوضوء يا سيدي الحاج؟ أتتوضأ من رجليك؟
وأجابه سيدي الحاج بكل بساطة، وهو مسترسل في غسل بقية أعضائه بالجملة والتفصيل دون ترتيب: ماذا نعمل هكذا علمونا سادتنا!
وسكت الخادم، ولعله ظن أن مذهبه الفقهي يجيز هذا الوضوء الذي يبتدئ من الرجلين ... وسكت أنا أيضا، وانتهى صاحبي من وضوئه وارتدى ملابسه وخرجنا إلى الأسواق ...
كان منظرنا مضحكا: صاحبي بجثته الضخمة وعمامته الكبيرة، وقامته الفارعة الطول، ولباسه الجزائري العتيق، وأنا جنبه بلباسي الحجازي وجسمي النحيل، ولذلك كنا عرضة لتنكيت المارة ورواد السوق، وكنت أتحمل كل ذلك في سبيل النزر اليسير من أخبار البلاد التي كان صاحبي يجود بها علي ... كانت جولتنا حافلة بالمشاكل والمعارك مع مختلف الباعة والتجار؛ لأن صاحبي كان حديد الأعصاب، كلمة ونصفها، ثم يلجأ إلى قاموسه الخاص يخرج منه ما تيسر من الشتائم والسباب. ولم ينقذنا من مشاكلنا سوى أذان المغرب الذي أخذ يدوي في الفضاء، ورجال الأمر بالمعروف يصيحون: الصلاة ... الصلاة ... وهم يسوقون الناس إلى المسجد.
توجهنا لفورنا إلى المسجد، وانحنى علي صاحبي، ونحن في طريقنا، وسألني قائلا: مولانا! وهذه آش حال فيها؟
قلت: كم فيها؟ ... في أي شيء؟
قال: هذه الصلاة، التي سنصليها الآن! كم عدد ركعاتها؟
وفهمت ... فإن الرجل يجهل عدد ركعات الصلاة وخاف أن يقع في خطئها، فتشجع واسترشدني، سرني منه ذلك، وألقيت عليه درسا مختصرا في عدد ركعات كل صلاة، ومتى يجلس ومتى يقوم، ولكن ذلك لم يمنعه من سؤالي عن عدد الركعات كلما توجهنا إلى الصلاة ... ووجد صاحبي صلاة العشاء طويلة جدا ولهذا قرر حذفها من برنامجه وإبدالها براحة في المنزل.
وانتهينا من صلاة المغرب وأخذنا نتجول في الحرم المكي الذي كان حافلا بحلقات الدروس المختلفة، ووقف صاحبي أمام شاب شنقيطي كان يدرس مبادئ الآجرومية لنفر من الصبيان، وما كاد المدرس الشاب يشاهد صاحبي يقف عند رأسه حتى اعتراه اضطراب وقد ظنه عالما جليلا من كبار علماء المغرب العربي، فتلعثم في تقريره وأخذ يردد لتلاميذه هذه الجملة: قام زيد ... قلنا: قام زيد ... قام زيد ...
وقاطعه صاحبي قائلا: يا شيخ! ... وإذا كانت امرأة تقول: «قامت زيدة؟»
تبسم المدرس واستغرق تلاميذه في الضحك ولكن صاحبي لم يعجبه موقفهم فقال لي: لماذا يضحكون؟ ألم يعلمهم شيخهم قوله تعالى: «اسأل عن دينك حتى يقولوا بهلول»؟
قلت لنفسي: ألا في سبيل أخبار الوطن ما أنا متحمل.
انقضت أيام الحج بسلام، ورجع سيدي الحاج إلى بلاده بحجه المبرور وذنبه المغفور، حاملا معه مختلف التحف والهدايا للأهل والخلان، متوجا اسمه بلقب «الحاج»، تاركا هذه الذكريات الطريفة التي خلدته في ذاكرتي وجعلت منه أنموذجا بشريا ممتازا.
يحيى الضيف
لو قرأ يحيى في صغره لأتعبنا في كبره.
الشيخ الإبراهيمي
يوم أزمعت أن أدرج «يحيى الضيف» في سلسلة مقالات الميزان التي كنت أنشرها في جريدة البصائر تسأل بعض الناس من الخاصة والعامة قائلين: ما شأن يحيى الضيف قيم مركز جمعية العلماء وهذه السلسلة من المقالات في رجال العلم والأدب، وليس هو بعالم من العلماء ولا هو أديب من الأدباء ...
وقلت لهؤلاء: إن لم يكن يحيى عالما يحمل فوق رأسه عمامة وتحت إبطه كتابا، وإن لم يكن خطيبا في المنابر ولا واعظا في المجالس ولا كاتبا في الجرائد؛ فإن له قيمته في المجتمع وله مركزه في دنيا العلم والأدب، لأنه فيلسوف ...
سيضحك مني أولئك الذين أنحوا علي باللائمة يومئذ، وسيقولون أين درس يحيى الضيف الفلسفة؟ ومن أية جامعة تخرج؟ والجواب أن الفلسفة الحقة لا تدرس، وإن جامعتها الحياة وأستاذها الزمن، فهو من أولئك الفلاسفة الذين تعمقوا في درس أنفسهم ووقفوا على نواحي الضعف والقوة فيها ولمسوا فيها نواحي الخير والشر، والنفس البشرية واحدة وإن اختلفت الهياكل التي تحملها والأسماء التي تعرفها ...
ثم ... ألم يجد المرحوم الرافعي في أشيب زبال أعظم فيلسوف ينقل عنه بدائع الفلسفة وروائع الحكم؟
حاول أن تسأل يحيى الضيف عن حياته واستمع إليه بإمعان وهو يحلل لك حياته بفلسفة عميقة، وسوف تجده لا يتردد عن ذكر الحقيقة عن نفسه ولو كانت مرة جارحة؛ لأن الحقيقة عنده جوهرة ثمينة يجب أن تبرز، ونفسه شيء تافه، لا حق لها في أن تقف حجر عثرة في طريق الحقيقة ... ومن منا يستطيع أن يحلل نفسه ويذكر خيرها وشرها وعيوبها ومحاسنها! إننا لا نستطيع لأننا نعيش في إطار المظاهر والأنانية وذلك لأننا لسنا فلاسفة! أما يحيى الفيلسوف فإنه لا يشعر بهذه الأنانية، وشخصيته لا تساوي في نظره طمس حقيقة من الحقائق مهما كانت هذه الحقيقة صغيرة. وهو مستعد أن يذكر لك عن نفسه كل ما يعرف عنها. وهو دوما مشغول بالبحث عن عيوب نفسه وتحليل هذه العيوب، وما نفسه إلا أنموذج لكل نفس بشرية يجري عليها تجاربه ...
دعنا نوجه له سؤالا ولنستمع إلى جوابه، ها هو أمامنا بجثته الضخمة وابتسامته العريضة التي تشبه ابتسامة حمار الحكيم ومكنسته في يده ... - كيف جئت لهذه الدنيا يا يحيى؟ - لا أذكر كيف جئت إلى هذه الدنيا لأنني كنت صغيرا ... ولكن سمعت والدتي تقول: إني جئت إليها والشمس في برج القوس ترسل علي أشعتها منعكسة في سعدية المشتري ونحسية عطارد، ولهذا فلا غرابة إذن في أن تبدو لكم حياتي كلها سلسلة من المتناقضات، عالم مع العلماء، وأديب مع الأدباء، جاهل مع الجهلاء، فنان في أوساط الفنانين، عبقري في دنيا الجهال وجاهل بين العباقرة تواضعا، وأنا مع كل ذلك فيلسوف بطبعي ... وكل هذه الصفات تغمرها لطافة في نوع من الدهاء يحيط به نفاق كبير، أفهم المجتمع وأعرف أن شره أكثر من خيره، أعرف أن الحياة كلها آلام وآثام ولهذا تجدني دائما أضحك منها وأضحك من الذين ينظرون إليها بعين الاهتمام والإجلال ... - إنك تفهم الحياة على حقيقتها ... - نعم أفهم باطنها وظاهرها مع أن درجتي لا تعدو درجة كناس من الدرجة الثالثة. - إنك كثير التواضع يا حضرة الفيلسوف. - لا لا يا مولاي، ليس هناك تواضع وإنما هذه هي الحقيقة. - هل أنت سعيد في الحياة؟ - وهل في الحياة سعادة؟ ... وإنما أستطيع أن أقول لكم إن أسعد أيامي هي التي أقضيها في معاشرة العلماء وخدمة جمعيتهم، ولا سيما الشيخ عبد اللطيف سلطاني رئيس المركز الذي أخشاه أكثر من عذاب النار. - وهل استفدت من مصاحبتك للعلماء شيئا يذكر؟ - أجل ... فقد استفدت من الشيخ البشير حكمته وتواضعه وتفانيه في كل ما يباشر من الأعمال، واستفدت من الشيخ خير الدين فراسته ودهاءه ودقة ملاحظته، ونلت من الشيخ عبد اللطيف حسابه العسير لحركات وسكنات العاملين معه حتى إني أرجو الله ألا يعينه «أكسبيرا» لتصفية حساباتي يوم القيامة، وقد أصبحت بطني وعاء لكل هذه الفوائد وتستطيع أن تفسر ضخامتها بعدم هضم ما استفدت لأن معدتي لا تقوى على الهضم وإن كانت تهضم «شخشوخة - شكشوكة» عثمان بو قطاية المذيع المشهور التي أحبها إلى حد أني أبيع ديني ودنياي في سبيلها ...
وإذا سألت يحيى الضيف عن هذه السرعة التي يعيش فيها وعن هذه الحركة الدائمة التي تغمره ، أجابك أن مبعثها القلق وأنه يتعب نفسه كثيرا ليلحق بركب المعالي، ولهذا تجده يقرأ ويعيد ويقرأ ويعيد إلى أن يتبلد ذهنه فلا يحسن كيف يقرأ ولا يستفيد مما يقرأ ... ثم يبتسم لك ابتسامته المعروفة ويقول لك: إني أريد أن أعرف كل شيء وأنا مع ذلك لا أعرف شيئا، وإني إلى الآن عاجز عن كتابة رسالة ولو قصيرة، وقادر على تأليف كتاب بأكمله من حيث لا أشعر.
لقد قضت على صاحبنا فلسفته فأنكر نفسه وأنكر معارفه، وهو محتاج إلى قليل من الإيمان بنفسه وعقله ليخرج للناس روائع ستبقى خالدة لأنها ستكون مطبوعة بطابع الصدق وطابع الصراحة، ذلك الطابع الذي يمتاز به يحيى على غيره والذي جعله محبوبا من الجميع لا يكره أحدا ولا يكرهه أحد ...
يعرف بعض الناس يحيى قيم مركز جمعية العلماء؛ لأنهم لا يرونه إلا دائبا على تنظيف قاعات المركز ومكاتبه، ويعرفه آخرون ممثلا موهوبا لأنهم لا يشاهدونه إلا على خشبة المسرح أو يسمعونه على أمواج الأثير يمثل بالعامية والفصحى، ينتقل من شخصية إلى شخصية فيحسن الانتقال ويحسن التمثيل ...
ويعرفه آخرون مؤلف روايات مسرحية وطرائف أدبية وناقدا حصيفا، وأعرفه أنا فيلسوفا عميقا وكاتبا مجيدا تعجبني فلسفته ويعجبني نثره الفصيح وشعره الملحون، ويعجبني فوق كل ذلك تفهمه للحياة ورضائه بنصيبه الضئيل منها دون تبرم أو تشكي وتلك لعمري عين الفلسفة وحقيقتها ...
هذا هو يحيى الضيف الذي بلغت ضخامة جثته وزن الفيل وبلغت خفة روحه وزن الريشة، وإذا أردت أيها القارئ أن تعرفه عن كثب فما عليك إلا أن تقوم بزيارة لمركز جمعية العلماء بمدينة الجزائر قبل حضور المدير أو بعد انصرافه، وستجد يحيى الضيف يزأر كأنه أسد في قفص. اقترب منه ولا تخف فستجده مستعدا لاستدعائك إلى صالونه الجميل ليقدم لك فنجانا من القهوة وقطعة من الحلوى وطرائف من الأدب والفلسفة، وإذا لم يستدعك بنفسه اطلب ذلك منه فسيسره كثيرا لأنه رجل كريم مفتون بهذا الكرم إلى حد العبادة.
سي زعرور
ملاحظة:
اقتبست هذه الشخصية من الفرنسية، وأثبتها هنا لأني وجدت فيها أنموذجا حيا خالدا يوجد في كل مكان وفي كل زمان ... كما أخرجت منها مسرحية في ثلاثة فصول تحت عنوان «النائب المحترم».
كان الشيخ زعرور، أو سي زعرور، كما يسميه زملاؤه، معلما بسيطا في مدرسة ابتدائية حرة، قانعا بالحياة، وبنصيبه منها، راضيا عن نفسه وعن عمله؛ لأنه كان رجلا تقيا فاضلا نزيها، يعتقد الخير في الدنيا، ويعتقد الصلاح في البشر، لا يعرف الشر ولا يتصور صدوره من الناس. كان يعيش في برجه العاجي، في دنيا فاضلة لا تطرق أبوابها الرذيلة، ولا يطأ أرضها الفساد ... وكان يعيش مع سي زعرور، رفقة طيبة من الزملاء يشاركونه عمله، ويقاسمونه بؤسه، ولكنهم لا يشاركونه نظرته إلى الحياة ولا يعتقدون عقيدته في البشرية ...
كانت تلك المدرسة التي يعلم بها سي زعرور ملكا لمديرها الجشع، يستغلها استغلالا ماديا فظيعا، يبحث يوميا عن تنمية موارده بشتى الوسائل والطرق؛ فقد كان على طرف نقيض من سي زعرور الذي يرى المادة عرضا زائلا من أعراض الدنيا، لا يستحق العناية والاهتمام ...
وذات يوم، بينما كان سي زعرور يقوم - قبل حلول موعد الدرس - بتسبيق درس لأحد تلاميذه المتأخرين، إذ دخل عليه المدير ببطنه المنتفخة، وسمة الغضب تعلو وجهه، وابتدره بسرد المادة السابعة والعشرين من لائحة المدرسة الداخلية، التي توجب على كل معلم من معلمي المدرسة، يقوم بإعطاء دروس خاصة، أن يدفع للمدير خمس مدخول هذه الدروس ... واتهم المدير سي زعرور بإخفائه أمر هذه الدروس الخاصة واستغلاله لمدخولها وحده دون سواه ...
وعبثا حاول سي زعرور إفهامه أنها دروس خاصة مجانية مؤقتة يروم منها إلحاق التلميذ بزملائه في فن متأخر فيه؛ لأن الرجل لا يفهم غير المادة ولا يعرف لكلمة «المجانية» أثرا في قاموسه.
ولهذا اشتد به الغضب واتهم المعلم ببث روح التمرد في التلاميذ ومحاولاته إفلاس صندوق المدرسة، وما كان منه إلا أن ألزمه بدفع خمس أجرة هذه الدروس وقدر له مدخولها الخيالي بنفسه ...
وأراد زعرور استعطاف مديره، وهو يعرف جيدا أنه يسر كثيرا لانخراط تلاميذ جدد في مدرسته، فقال له : سيدي المدير! ... أظن أني سأدخل تلميذا جديدا في مدرستنا ...
وكان لهذا النبأ سحره الفعال في نفس المدير، فانفرجت شفتاه عن ابتسامة عريضة مسحت عقد الغضب من فوق جبينه، وابتدره صارخا: أحقا؟ ... أرجو ألا يكون من نوع تلميذك هذا الذي تلقنه درسا دون مقابل؟ - لا يا سيدي المدير، إنه تلميذ ذكي مجتهد ... - لا ... لا ... لا أقصد ذلك، وإنما أقصد إذا ما كان غنيا وأهله يقبلون شروط المدرسة. - طبعا يا سيدي المدير، ما في ذلك شك. - اكتب إذن الشروط، سأمليها عليك، وإنني أعتمد على لباقتك في عرضها عليهم ... «خمسمائة فرنك للشهر الدراسي، وثلاثة أشهر مقدما ... وطبعا يتلقى علي أنا دروسا خاصة، وأجرة الحصة الواحدة من هذه الدروس مائتان من الفرنكات، مائة فرنك شهريا مقابل ما يستهلكه من الماء للشرب وخلافه، ومائة أخرى مقابل الأدوية التي ربما احتجنا إلى إسعافه بها.»
أظن أن هذه الشروط مقبولة. - دون شك يا سيدي المدير ... - أسرع به إذن إلي، سأعد له أحسن البقاع في مدرستي.
وكان سي زعرور قد قدم مطلبا منذ عهد بعيد يطلب فيه وسام المعارف الذي يرى نفسه يستحقه عن جدارة، وبقي مطلبه دون جواب، وكان مديره على علم بذلك، وأراد أن يبادله جميلا بجميل ومنة بأختها فقال له: لقد قابلت شخصا عظيما اليوم وحدثته في شأن طلبك لوسام المعارف وأفادني أنهم منحوك الوسام. - ماذا تقول؟ ... أحقا منحوني الوسام؟ - نعم ... لكنهم لا يستطيعون أن يمنحوك وساما حقيقيا، ولهذا فقد منحوك وساما معنويا.
وحار سي زعرور في هذه العبارة ولم يدرك كنه هذا الوسام المعنوي، ولكن مديره أسعفه بالشرح والتحليل وأفاده بقوله: معنويا، يعني أنهم منحوك هذا الوسام دون أن يمنحوك إياه ... هل فهمت؟ - أجل فهمت ... منحوني دون أن يمنحوني، فهو عندي في المعنى دون أن يكون عندي في الحقيقة ... - أحسنت ... وهذا شرف عظيم يعود فضله إلى الجهود التي بذلتها أنا في هذا الشأن ...
شكر سي زعرور مديره وودعه إلى الباب وبقي وحده تغمره نشوة السرور والبهجة بوسامه المعنوي الجديد.
وسارت الأيام تباعا وساءت الأحوال بين المدير وزعرور؛ لأن هذا الأخير لم يبر بوعده ولم يدخل التلميذ الجديد الذي وعد به إلى المدرسة، وأسر المدير في نفسه وبقي يتربص الفرص للانتقام منه ... •••
كان المدير في مكتبه ذات صباح إذ دخل عليه والد تلميذ وبيده ورقة اختبار ابنه، وهو يرغي ويزبد ساخطا على النتائج السيئة التي أحرز عليها ابنه في اختباره الثلاثي، وخشي المدير أن تخسر - من جراء ذلك - مدرسته تلميذا، أو بالأحرى أن يخسر جيبه موردا، فخفف من حدة الرجل وأفاده أن ابنه من خيرة تلاميذ المدرسة وأذكاهم يمثل المكانة الأولى من قسمه، وإنما أخطأ الكاتب في نقل النتيجة عن السجل الأساسي، ووعده بإصلاح هذا الخطأ حالا ...
توجه الاثنان إلى قسم سي زعرور وحاول المدير بلباقته أن يفهم هذا الأخير الغرض من زيارته، ولكنه خيب ظنه وفاجأه بقوله: إن هذا التلميذ بليد، كثير التأخر، قليل العمل، ولهذا فلا غرابة إذا ما أحرز على هذه النتيجة السيئة ...
فقاطعه مديره قائلا: لا ... لا ... إنك مخطئ، فمن دون شك أن الكاتب أخطأ في نقل النتيجة عن السجل، ولا بد أن هذه الأصفار عشرات، وغمزه بعينه، ولكن زعرور الساذج لم يفهم مراده، وأفاده أنه لا يعرف هذا الكاتب الذي يعنيه، وأنه ينقل النتائج بنفسه، وأطلع الوالد على السجل الذي كان فوق مكتبه وأراه الأصفار المثبتة بالحبر الأحمر أمام اسم التلميذ، الأمر الذي أعاد حدة هذا الوالد المفجوع في ابنه، ورفع من درجة حرارة غضبه، فتبرع على المعلم والمدير والمدرسة بنصيب وافر من الشتائم، وأقسم بأغلظ الأيمان ألا يعود ابنه إلى هذه المدرسة ... وطبعا فما كان من حضرة المدير إلا أن طرد سي زعرور من عمله وهو يقسم أيضا بأغلظ الأيمان ألا تطأ رجلاه مدرسته بعد الآن ... •••
كان سي زعرور يقوم بإعطاء دروس عربية خاصة لطفل أوروبي كان يعيش مع خالته، وكانت هذه السيدة تعيش مع نائب «أصيل» من نواب المجلس البلدي، تساعده في نصب حبائله لاقتناص أموال الشعب وخزينة البلدية، وتقاسمه الأرباح دون المسئوليات ...
كان الاثنان جالسين في خلوة يدبران أمرا يتوسمان من ورائه أرباحا جزيلة، واحتاج الأمر إلى شخص ثالث، شخص يتقدم لإبرام الصفقة بناء على تزكية النائب المحترم.
حار الاثنان في إيجاد الشخص وقد طلب منهما عملاؤهما السابقون أجورا باهظة لم يرضيا بها، ولم يرض العملاء بدونها ...
كان النائب وزميلته في حيرة من أمرهما إذ دخل سي زعرور يجر أذياله قاصدا حجرة الطفل لتلقينه درسه المعتاد، وما كادت السيدة تشاهده حتى هبط عليها الوحي وعرضت على صديقها استخدامه لهذا الغرض وسواه من الأمور والأعمال، وذهبت تطري سذاجته وتثني على جهله بالحياة ودقائقها ... واستدعي المعلم الساذج إلى حضيرة الذئاب، وعرضا عليه العمل معهما وأغرياه براتب شهري مضاعف لما كان يتقاضاه سابقا في مدرسته.
سر سي زعرور للأمر وحمد الله الذي عوضه بدل درهمه دينارا، واستسفر عن نوع العمل فأفاداه أنه عمل إداري بسيط لا يعدو توقيع العقود التجارية وتسلم المبالغ المالية من إدارة البلدية والشركات التجارية ... ووقع سي زعرور على أول عقد، وتمت الصفقة التي كان النائب وزميلته ينتظران إنهاءها بفارغ الصبر ...
توالت الأعمال وتبعتها الأرباح، وشاء القدر أن يطلع زعرور على أسرار القوم وأن يعرف كنه العمل الشائن الذي هو قائم به، فثار ضميره مؤنبا وحرمه لذة العيش، وغاضه أن يفقد شرفه ويخسر فضله وقد ضحى في سبيلهما بكل شيء، وتحمل من أجلهما الفاقة والاحتياج. وعاد بذاكرته إلى مدرسته، فبدت له جنة، وإلى مديره وزملائه فبدوا له ملائكة، فثار على رفيقيه وهددهما بالفضيحة، ولكنهما هدداه بإلقائه في غياهب السجن، وكل شيء باسمه حتى الرصيد المالي المودع في المصرف ...
عاش سي زعرور في اضطراب متواصل وهم وغم عظيمين، كادت كلها أن تذهب به إلى الجنون، وقرر أخيرا أن يشرب الكأس إلى الثمالة، فاستولى على المكتب واستولى على الأموال وأعلن انفصاله عنهما، وكل شيء باسمه وتحت مسئوليته ...
وانقلب الحمل الوديع ذئبا خطيرا، فكشر عن أنيابه وطرد النائب وصديقته من مكتبه، وحرم عليهما دخوله غير عابئ بالتهديد والوعيد ...
سارت أمور زعرور في مجراها المادي المعتاد على خير ما يرام، وقد اكتسب خبرة وتجربة، وصهرته الأيام في بوتقتها وصبته في قالب الحياة، فخرج إنسانا جديدا لا يشبه خلفه في شيء إلا في الاسم أو بقية ضمير مثقل بالذنوب وشرف مدنس بالرذائل.
كان زعرور جالسا في مكتبه ذات يوم يتصفح بريده إذ لفتت نظره علبة صغيرة كانت ضمن الرسائل والرزم، ففتحها قبل سواها وإذا به يجد داخلها وساما بنفسجي اللون يحمل إشارة المعارف، تصحبه رسالة رقيقة تثني على معارفه وشرفه، وتطري أخلاقه وفضله، ومع الرسالة تقرير يمنحه وسام المعارف ...
ألقى وسامه في درج مهمل واستمر يتصفح بريده، وإذا بالباب يفتح وبمديره السابق يتقدم نحوه في خشوع وإذلال راجيا منه أن يشرف المدرسة برئاسة حفلتها السنوية ...
عبثا حاول زعرور أن يفهم الناس أنه لا يستحق الوسام، ولا يستحق مجالس الشرف التي يعرضونها عليه بين الفينة والفينة؛ لأنه سارق محتال ينهب أموال الأمة والدولة بشتى طرق الاحتيال. ولكن الناس لم يعبئوا بقوله، بل عدوه تواضعا وسجلوه في جملة مناقبه الفاضلة، وحسبهم منه أن يربح كثيرا ورصيده في المصرف يتضاعف كل يوم والمال في عرف البشر هو الفضيلة وهو الشرف وهو العلم والأدب.
التلميذ
«دروت» الذي كان قائدا عظيما في جيش نابليون الأول، كان في طفولته ابن خباز فقير في مدينة «نانسي» بفرنسا، اجتاز أطواره المدرسية في ظروف قاسية وأيام شديدة، حيث كان أبواه في غاية الفاقة وشدة الاحتياج لم يسمحا له بالذهاب إلى المدرسة إلا على شرط أن يقوم بجميع أعماله اليومية خير قيام عند عودته منها. ولهذا فقد كان حتما عليه، بعد الرجوع من المدرسة، أن يقوم بتوزيع الخبز على عملاء أبويه، وأن يساعدهما في بقية الأعمال، وكان يقضي بقية يومه وشطرا من ليله في إنجاز أعمال كثيرة شاقة، ولا يجد فرصة لأعماله المدرسية، سوى بضع سويعات متأخرة من الليل، يشاهد فيها الفتى دروت وهو منكب على دروسه، يلتهمها على ضوء نور الموقد ... ولكن هذه العقبات وهذه العراقيل لم تستطع أن تعوق هذا الفتى عن النجاح، أو تقف في طريقه إلى بلوغ المعالي ... فقد تغلب عليها بذكائه المتوقد، وحزمه الفذ، وقوة إرادته النادرة، واستطاع هذا الفتى القروي الفقير، العديم وسائل التعليم كلها، أن يشق طريقه الوعر وأن يصل إلى هدفه مكللا بالنجاح ...
دعونا نستمع إليه يحدثنا بنفسه عن أول اختبار شارك فيه، وهو مسابقة الانخراط في سلك المدرسة العسكرية التي مهدت له السبيل إلى المجد حتى أصبح قائدا عظيما من قواد نابليون خلد ذكره التاريخ.
قال: حينما كنت ذات يوم، مارا في شوارع نانسي أوزع الخبز على عملائنا؛ إذ لفت نظري منشور كبير مثبت على جدار إحدى المباني، يحتوي على إعلان للمدرسة الحربية تعلن فيه موعد مسابقة الالتحاق بها، الذي سيجرى في مدينة «ميتز».
وحدثتني نفسي بالاشتراك في هذه المسابقة، والالتحاق بهذه المدرسة الحربية، ولكن كيف يمكن ذلك وقد كان أبواي في غاية الفاقة والاحتياج؟!
فلم يكن مدخولهم اليومي يقوم بسد حاجتنا الضرورية، ولكن تحصلت مع ذلك على ترخيص منهم بالسفر لتأدية الاختبار، وتحصلت كذلك على مبلغ عشرة فرنكات، وهو كل المدخر عندنا. وكان المبلغ زهيدا جدا لا يكفي لأجرة الركوب، فضلا عن المصاريف الثانوية الأخرى، ولم أجد بدا من السفر ماشيا على الأقدام.
وصلت مدينة «ميتز» يوم المسابقة نفسها وتوجهت لفوري إلى قاعة الاختبار، وما كدت أبدو في القاعة التي كانت حافلة بعدد كبير من التلاميذ والأساتذة، حتى تلقاني هذا الجمع الغفير بعاصفة شديدة من الضحك والسخرية. والحق أن حالتي كانت تدعو إلى أكثر من ذلك، فقد كنت نحيفا ضعيفا، تكسو ملابسي الريفية المرقعة طبقة كثيفة من غبار الطريق، أحمل في يميني عصا غليظة، منتعلا نعلا ريفية خشنة تحوطها طبقة من الأوحال.
وقفت مضطربا في وسط القاعة بين ضجيج الضحك والسخرية، ولم أنتبه إلا وأحد المختبرين يخاطبني برقة وشفقة، ردت إلي بعض جأشي: ضللت سبيلك، من دون شك يا صديقي؟ ... ماذا تريد؟ ... قال لي الرجل الطيب القلب هذا الكلام، فأجبته على الفور: أريد أن أشارك في المسابقة يا سيدي!
وما كدت أنطق بهذه الكلمات حتى ارتفع ضجيج الضحك والسخرية من جديد في جميع أركان القاعة. - ولكن هل تدري أنها مسابقة المدرسة الحربية؟ (قال المختبر بلطف) وأنت على علم بدون ريب، بالشروط والمواد المعلنة في البرنامج. - سيدي درستها كلها! ... (أجبته متلعثما).
وأجابني السيد: إذن تفضل اجلس، يا ابني وانتظر، فعندما يأتي دورك أدعوك!
ذهبت أنزوي بعيدا في أحد الأركان، ولكن الضحك والسخرية اللاذعة كانت تلاحقني أين ما حللت، ورغم ما كنت فيه من الخجل والاضطراب أخذت أنصت بإمعان إلى أسئلة المختبرين وأجوبة الطلبة، وما هي إلا لحظة حتى أحسست بروح جديدة تدب في جسمي النحيل حيث يتبين لي أنه في استطاعتي الإجابة على هذه الأسئلة كلها.
وأخيرا جاء دوري، وسمعت المختبر ينطق باسمي، وما كدت أقف أمام لجنة الاختبار، حتى امتلأت القاعة بالفضوليين الذين أتوا من هنا وهناك لمشاهدة اختبار الفتى القروي.
ابتدرني المختبر يسألني في قواعد الحساب، وكانت أجوبتي متتابعة، بدون انقطاع ولا اضطراب، حتى سكت المختبر وسألني متعجبا: أين درست الحساب؟ - درسته منفردا يا سيدي! على ضوء موقد مخبزنا، وإذا تفضلتم بسؤالي في بقية البرنامج، أرجو أن تجدوني مستعدا للإجابة!
وامتد اختباري ما يقرب من الساعتين، وما كدت أنتهي حتى قام الرجل من مقعده وتوجه نحوي حيث ضمني إلى صدره وهو يردد! ... أقدم إليك تهنئتي وإعجابي يا بني! وأعتقد تماما بأنك ستكون أحد طلبة المدرسة الحربية النجباء!
لا يستطيع أحد أن يتصور السرور الذي غمر قلبي في تلك الساعة! ولكن سرورا أعظم منه كان ينتظرني، وشرفا لم أكن أتوقعه كان مستعدا للقائي: وهو أن جميع الطلبة الذين ضحكوا مني وسخروا بي، تقدموا نحوي وحملوني على أعناقهم في موكب رهيب، حيث طافوا بي مدينة ميتز كلها هاتفين باسمي، كان ذلك اليوم أسعد يوم في حياتي!
Unknown page