Names and Attributes Series
سلسلة الأسماء والصفات
Genres
سلسلة الأسماء والصفات [١]
اشتملت سورة الإخلاص على إثبات وحدانية الله وصمديته، وأخذ منها العلماء الصفات الخمس السلبية في حق الله تعالى كما شرحها الشيخ حفظه الله تعالى.
1 / 1
انقسام الأشياء من حيث الغنى والحاجة إلى المحل والمخصص
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال شيخنا حفظه الله في منظومته في الأسماء والصفات: [وهو تعالى أحد فرد صمد ألحد من قال بخلقه اتحد] بالنسبة للفظ (الفرد) فقد جاء في أحاديث ولم يرد في القرآن، وأما (الصمد) فإن صفة الصمدية مثبتة له، وهي الغنى المطلق عن خلقه، والغنى المطلق معناه: الاستغناء عن المحل والمخصص جميعًا.
والأشياء فيما يتعلق بالحاجة والغنى عن المحل والمخصص أربعة أقسام: النوع الأول: ما يحتاج إلى المحل والمخصص معًا: وهو صفات المخلوقين، فهي محتاجة إلى المحل الذي تقوم به؛ لأنها صفة والصفة لا تقوم بنفسها بل تحتاج إلى محل تكون فيه، وذلك مثل البياض والسواد، والطول والقصر، فهذه لا بد لها من ذات تقوم بها، وتحتاج إلى المخصص.
والمخصص المقصود به الخالق الذي يميز هذا المخلوق بست من اثنتي عشرة، وهي المسميات من الممكنات المتقابلات.
والممكنات المتقابلات هي: إما الوجود وإما العدم وهما متقابلان فيخصصه بواحدة منهما.
والصفات مثلًا البياض والسواد، صفتان متقابلتان يخصصه بواحدة منهما.
والأمكنة: هذا المكان والمكان الآخر كل ذلك ممكن فيخصصه الله تعالى بواحد منهما.
والأزمنة: اليوم وأمس وغدًا، هذه أزمنة متقابلة يخصصه بما شاء منها.
والجهات: الشرق والغرب، والجنوب والشمال، والفوق والتحت ونحو ذلك، هذه جهات متقابلة يخصصه بما شاء منها.
المقادير: الضخامة والصغر، الكبر والصغر، وكذلك الزيادة والنقص، وغيرها من المقادير، وهي متقابلة وكلها ممكنة، فالشيء قبل وجوده يمكن في حقه ست من اثنتي عشرة، وهي الممكنات المتقابلات التي ذكرناها، وقد نظمها أحد العلماء بقوله: الممكنات المتقابلات وجودٌ العدمُ والصفات أمكنة أزمنة جهات ثم المقادير روى الثقات هذه الاثنتا عشرة كلها ممكنة عقلًا، كل اثنتين منها ممكن عقلًا أن يتصف بإحداهما، فمثلًا هذا ولد يولد لرجل فيمكن في حقه هذه الاحتمالات كلها: الوجود والعدم، والطول والقصر، والبياض والسواد، الوجود في هذا المكان وفي مكان آخر، في الليل أو في النهار، هذه كلها ممكنة، والذي يخصصه ببعضها هو المخصص، وهو الخالق، والشيء قبل أن يكون كان بالإمكان أن يكون وألا يكون، فلما كان دل ذلك على رجحانه، ولا ترجيح بدون مرجح، فالمرجح هو المخصص.
ومن هنا فإن صفات المخلوق محتاجة إلى المحل ومحتاجة إلى المخصص، فمثلًا: الفهم، هذا صفة من صفات المخلوق، لا يمكن أن يقوم بنفسه، أي: لا يمكن أن تجد فهمًا يمشي في الشارع ليس له ذات يدخل فيها، ويحتاج أيضًا إلى مخصص؛ لأنه بالإمكان أن يكون كبيرًا وأن يكون قليلًا وكذلك يمكن وجوده وعدمه إلى آخر الصفات، فإذا وجد وكان بقدر معين فهذا دليل على أن المخصص أراد له ذلك وخصصه به.
النوع الثاني: ما يحتاج إلى المخصص لكنه غني عن المحل: وهو ذات المخلوق: ذات المخلوق لا تحتاج إلى ذات أخرى تقوم بها، لكنها محتاجة إلى المخصص الذي يخلقها، ويميزها بالصفات التي تحتاج إليها، فهذا هو الفرق بين ذات المخلوق وصفات المخلوق، فصفات المخلوق تحتاج إلى الأمرين معًا (المحل والمخصص)، وذات المخلوق تحتاج إلى المخصص لكن لا تحتاج إلى المحل.
النوع الثالث: ما هو غني عن المحل وعن المخصص معًا: وهو ذات الله ﷾: فإنه غني عن المحل وعن المخصص معًا، لا يحتاج إلى المحل لأن له ذاتًا، ولا يحتاج إلى المخصص لأنه قديم.
النوع الرابع: صفات الله ﷾، فهذه غنية عن المخصص؛ لأنها قديمة، لكن هي قائمة بالمحل، ولا يقال محتاجة إلى المحل؛ لكن يقال: قائمة بالمحل؛ لأنها لا تفارق ذاته تعالى.
فإذًا الأشياء كلها أربعة أقسام: ما يحتاج إلى المحل والمخصص معًا، وما يستغني عن المحل والمخصص معًا، وما يحتاج إلى المحل فقط، وما يحتاج إلى المخصص فقط، فإذًا هذه أربعة أقسام، قد نظمها الشيخ محمد بن فال المتتالي ﵀ بقوله: الأشياء أربع فمنها غني عن المحل والمخصص الغني وضده وهو صفات الخلق وقام بالمحل وصف الحق وما إلى المخصص احتاج فقط فهو بذات حادث قد ارتبط
1 / 2
ذكر الثالثة والرابعة والخامسة من الصفات السلبية لله
والصفة الثالثة: هي قوله: ﴿لَمْ يَلِدْ﴾ [الإخلاص:٣] فإنها تقتضي البقاء؛ لأن المخلوق الذي يفنى فهو غير باق وهو الذي يحتاج إلى ولد يكون استمرارًا له، والله ﷾ لا يحتاج إلى ولد؛ لأنه باق، فوجوده لا يلحقه العدم، فإذًا هذا أثبت له صفة البقاء، والبقاء معناه: نفي العدم اللاحق للوجود.
والصفة الرابعة قوله: ﴿وَلَمْ يُولَدْ﴾ [الإخلاص:٣] وهي إثبات لصفة الأولية التي سبقت، ومعناها نفي العدم السابق للوجود.
﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص:٤] هذه الصفة الخامسة وهي المخالفة للحوادث، أي: المخالفة لخلقه.
فإذًا هذه خمس صفات تسمى بالسلبية؛ لأن كل واحدة منها تفسر بالعدم.
الوحدانية: هي عدم التعدد، والغنى المطلق: هو عدم الاحتياج إلى المحل وإلى المخصص، والقدم: هو عدم الحدوث، والبقاء: هو عدم الفناء، والمخالفة للحوادث: وهي عدم المشابهة للحوادث، فهذه تسمى الصفات السلبية؛ لأن تفسيرها نفي فكلها يبدأ تفسيرها بعدم كذا، وهي التي ذكرها هنا في قوله: (وهو تعالى أحد فرد صمد)
1 / 3
تنزيه الله عن الاتحاد بخلقه
(ألحد من قال بخلقه اتحد)؛ فأحديته تقتضي إثبات الذات له، وهذا مقتض لئلا يتحد بأي ذات أخرى، فالناظم نفى دعوى الاتحاد، ودعوى الاتحاد يدعيها النصارى في الأصل، وهم أول من ادعاها، وقد ادعاها بعض الطوائف من المسلمين.
ومعنى الاتحاد: التقاء ذات الخالق بذات المخلوق حتى تتشكل منهما ذات واحدة، وهذا مستحيل في كل شيء، حتى المخلوق لا يمكن أن يتحد بالمخلوق فضلًا عن الخالق، فهذا الماء إذا خالطه سكر وذاب فيه فلا يمكن أن يقال اتحد الماء والسكر؛ لأن خاصة الماء بعد ذوبان السكر فيه غير خاصته قبله وغير خاصة السكر، وهذه القاعدة قاعدة فقهية أصولية وهي: (الشيء مع غيره غيره، لا هو مع غيره) فكل شيء إذا كان مع غيره فهو مادة غيرهما لا هو مع غيره.
والاتحاد بالنسبة لذات الخالق بذوات المخلوقين أشد بعدًاَ، فالصفات متباينة تمامًا، والمشابهة منتفية، والمخلوق محصور والخالق غير محصور، والمخلوق سبقه العدم وسيلحقه العدم، والخالق لم يسبقه عدم ولا يلحقه عدم فكيف يقع الإتحاد؟! فمن أبلغ المستحيلات الاتحاد، والذين يقولون هذا يقولون: اتحد اللاهوت بالناسوت، واللاهوت: يقصدون به خصائص الألوهية، والناسوت: يقصدون به خصائص الإنسانية، وهذا في الأصل قال به النصارى حين زعموا أن الله واحد وهو في نفس الوقت ثلاثة، وهم يربون أولادهم على هذا، يقولون: هو واحد وهو في نفس الوقت ثلاثة، وعقولهم تتشرب هذا؛ تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا، يقولون: الثلاثة اتحدت فحصل منها واحد.
وقال بهذا بعض الطوائف المنحرفة من الشيعة والصوفية، فبعض طوائف الشيعة المنحرفة وهم الذين يسمون بالحشاشين، وينتسبون إلى إسماعيل بن جعفر الصادق بن محمد الباقر، ولذلك ينسبون إليه ويقال فيهم الإسماعيلية، ويسمون أيضًا بالقرامطة نسبةً إلى رجل اسمه: حمدان بن قرمط، ونشأ منهم طوائف منها النصيرية، ومنها الدروز، فكلهم في الأصل من الحشاشين الإسماعيلية القرامطة، ومعنى الحشاشين: أنهم كانوا يسكنون في الحشوش ويغتالون الناس، ويسطون على أموالهم في الليل، ويقطعون الطرق في الشام فهؤلاء يسمون الحشاشين، وقبل ذلك تمركزوا في القرن السادس والسابع في بعض المناطق في الشام وبالأخص في لبنان، وحصلت بينهم وبين أهل السنة حروب حين قطعوا الطرق وأهانوا الناس وأذلوهم، وساعدوا التتار لما أتوا إلى الشام، وكان ممن قاتلهم شيخ الإسلام ابن تيمية فقاتلهم بنفسه وشارك في قتالهم، وهؤلاء يزعمون أن الله ﷾ اتحد بأئمتهم، تعالى عما يقولون علوًا كبيرًا.
ومثلهم بعض غلاة أهل التصوف الذين يزعمون أن الله ﷾ مكن لبعضهم تمكينًا مطلقًا حتى اتحد العابد والمعبود، ويظنون أنه يصل إلى ذلك بمستوىً من العبادة فترتفع عنه التكاليف به، ويسمون هذا المقام: مقام وحدة الوحدة.
وعندهم مقامات مختلفة: مقام الوحدة فقط، ومقام الجمع، ومقام الفرق، ومقام جمع الجمع، ومقام فرق الفرق، وكل هذه اصطلاحات لهم، بعضها مسلم صحيح مثل ما تقرءونه في كتاب مدارج السالكين لـ ابن القيم يشرحها شرحًا صحيحًا في مقام الجمع، ومقام الفرق، ومقام جمع الجمع إلى آخره، لكن بعضها يرجع إلى الاتحاد.
1 / 4
نشوء نظرية وحدة الوجود عن نظرية الاتحاد
وترتب على نظرية الاتحاد هذه نظرية أخرى أخطر منها، وهي نظرية وحدة الوجود التي يقول بها ابن عربي الحاتمي، فهو لما عرف أن الاتحاد بين أبدان المخلوقين مستحيل فكيف بالاتحاد بين ذات الله وذوات الخلق، صرف الأمر فأتى بنظرية فلسفية وهي أنه قال: إنّ (لا إله إلا الله) معناها: لا موجود إلا الله، فليس في الوجود شيء إلا الله، لكنك لا تعرف هذا إلا إذا وصلت إلى مقام الذوق فعرفته معرفةًَ حقة، فقبل أن تعرفه يمكن أن تزعم أن في الكون شيئًا سواه، وحينئذٍ يختلف عليك العابد عن المعبود، لكن إذا عرفته ووصلت إليه لم يكن هناك عابد ولا معبود، حيث إن فرعون أعلم بالله من موسى، يقول: فإن فرعون قال: ﴿أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى﴾ [النازعات:٢٤]؛ لأنه بلغ مقام وحدة الوجود، وموسى لم يبلغ هذا المقام، ولذلك يقول أبياته المشهورة: بذكر الله تزداد الذنوب وتنطمس البصائر والقلوب إلى آخر ما قاله، وهو بهذا يزعم أن كلام المخلوقين كله من كلام الله كما قال: وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه وأراد بهذا تطوير نظرية الاتحاد التي قال بها قبله الحلاج وقتل بسببها بعد أن حاكمه المسلمون، لكنه وجد طوائف تدافع عنه، ووجد من يعتقد أقواله، وألف عددًا من الكتب منها: الفصوص، ومنها: الفتوحات المكية وغيرها، واليوم يتبنى أفكاره عدد من الناس وينشرون كتبه من مطابع في الشام، ومكتبات تنشر كتبه الآن وتتبنى أفكاره، وقد ألف البقاعي ردًا عليه، ومن أحسن الردود رد يسمى: (تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي) وقد طبع اليوم مع كتاب آخر للبقاعي بعنوان: مصرع التصوف، وهو عنوان أحدثه الطابع فقط وليس هو اسم الكتاب.
1 / 5
نظرية وحدة الشهود التي جاء بها الغزالي
ثم جاء الغزالي بعد هذا فطور النظرية، فأتى بنظرية وحدة الشهود، فقال: الواقع أن المخلوق لا يمكن أن يتصل بالخالق بوجه من الوجوه، لكن يصل المخلوق من تطهير نفسه وتزكيتها وصقل بصيرته إلى أن يكون بحيث لا يشاهد غير الله ﷾، وتكون المخلوقات عنده وإن كانت موجودةً إلا أنها في قيمة المعدوم، فلا يخاف شيئًا، ولا يرجو شيئًا، ولا يحس بشيء غير الله ﷾.
وهذه بعضها يصل إلى درجة التكفير، وبعضها ليس كذلك، فهي نظرية عمومًا فيها المقبول والمردود، ما كان منها مقبولًا هو: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وهو مقام المراقبة، وما كان منها مردودًا فهو ما زاد على هذا من الغلو الذي أضافه من وحدة الشهود، وهي أيضًا من المزالق الصعبة، ولذلك أخذ بها بعض الذين اقتدوا بـ الغزالي من بعده، ومنهم: الهروي الحنبلي مؤلف كتاب منازل السائرين، وقد دافع عنه ابن القيم وأراد أن يلتمس له العذر في كتابه مدارج السالكين، وكذلك تأثر به الشيخ عبد القادر الجيلاني ودافع عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض المواقف، وإن كان بعض كلامه لا يحتمل الدفاع، لكن شيخ الإسلام يقول عنه: إنه قاله في الشطح بزوال العقل فهو مرفوع عنه التكليف في ذلك الوقت، وهذا مثل قوله: (قدمي هذه على رقبة كل ولي لله تعالى في السماء أو في الأرض) ونحو هذا من الكلام، وهو الذي يقول: زيارة أرباب التقى مَرْهمٌ يُبري ومفتاح أبواب الهداية والخير وتحدث في القلب الخلي إرادةً وتشرح صدرًا ضاق من شدة الوزر وتنصر مظلومًا وترفع خاملًا وتكسب معدومًا وتجبر ذا كسر إلى أن يقول: ولا فرق في أحكامها بين سالك ورب ومخدوم وحي وذي قبر وذي الزهد والعباد والكل منعم عليهم ولكن ليست الشمس كالبدر فزر وتأدب بعد تصحيح نية تأدب مملوك مع المالك الحر البيت الأخير فيه مبالغة واضحة.
ونظير هذا ما حصل لعدد من المنتسبين إليه في مختلف الفترات، فكلهم يدخل في مقام وحدة الشهود هذه، فيتكلمون بكلام من باب الشطح، مثل ما حصل لـ زروق مما يروى عنه أنه قال: أنا لمريدي جامع لشتاته إذا ما سطا طور الزمان بنكبة فكم كربة تجلى إذا ذكر اسمنا وكم طرفة تجنى بأثمار صحبتي فإن كنت في هم وضيق وكربة فناد أيا زروق هات بسرعة ومثل هذا حصل لعدد من الناس حتى لوالد أبي بكر ابن العربي ﵀ في قصة ذهابه إلى الغزالي، لكن كل هذه الأقوال إنما تصدر ممن كان منهم صالحًا في وقت غيبوبة عقله، ومن كان منهم فاسدًا مثل عدد منهم يقع منه هذا لفساد عقيدته وفساد حقيقة أمره، فمن كان منهم صالحًا التمس له من عرفه العذر، مثل عبد القادر الجيلاني، ومثل زروق، ومثل ذي النون المصري وغيره، ومن كان معروفًا بعدم الالتزام والصلاح لا يلتمس له العذر في مثل هذا، ومع هذا فإنه لا يلتمس العذر لأتباعهم الذين وافقوهم على هذا مطلقًا؛ لأن أتباعهم ليسوا مثلهم فيما يتعلق بالشطح الذي قالوه في هذا الكلام، ومن هنا فكان كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية في الرد على الإخنائي ورسالته للبكري، وكذلك وصيته الكبرى التي يرد بها على أتباع عدي بن مسافر، كلها من هذا القبيل، يقول: إن هؤلاء المشايخ عرفوا بالصلاح والورع، وحصلت منهم أقوال غير مرضية، وكل أحد يؤخذ من قوله ويرد، فلا تتبعوهم في تلك الأقوال التي أخطئوا فيها.
1 / 6
الإلحاد في أسماء الله وصفاته
(ألحد من قال بخلقه اتحد): جعل هذا من باب الإلحاد، والإلحاد في الأصل التكذيب، ويقال: الإلحاد في آيات الله، والإلحاد في أسماء الله، والإلحاد في صفات الله، فكل ذلك يسمى إلحادًا.
فالإلحاد في آيات الله معناه: ضرب بعض القرآن ببعض أو الأخذ بمتشابهه، والإلحاد في أسماء الله معناه: إقرار الاسم وإنكار مدلوله كما هو حال المعتزلة، فالمعتزلة يثبتون أسماء الله وينفون الصفات ويرون أنها أسماء لا تدل على مسمىً ولا تدل على صفات أصلًا.
والإلحاد في صفات الله معناه: إنكارها وتعطيلها، فكل هذا يدخل في الإلحاد.
والإلحاد هو أعم من هذا، فمنه الإلحاد المطلق، ومعناه: إنكار وجود الله ﷾، وإنكار بعثة الرسل ونحو ذلك، فهذا أعظم الإلحاد، وأما الإلحاد بتحريف الأسماء ونقص بعضها كما يحصل لبعض ناقصي العقل حيث يحذفون بعض الحروف من بعض أسماء الله كما قال أحد العلماء: نفوا من اسم الله لفظ الهاء فألحدوا في أعظم الأسماء بعض الناس يقول: الل، عبد الل وهكذا يحذفون الهاء من اسم الله، فرأى العلماء أن هذا من الإلحاد في اسم الله؛ لأنهم حذفوا بعض حروفه.
فالذين يلحدون في أسمائه توعدهم الله تعالى في كتابه.
1 / 7
سلسلة الأسماء والصفات [٢]
لقد جاءت صفات الإثبات مفصلة في القرآن والسنة، أما النفي فلم يفصل إلا في نفي الصاحبة والشريك والوالد والولد، وقد كان منهج السلف في التعامل مع صفات الله تعالى إثباتها والوقوف عند النصوص الواردة بها من غير تشبيه ولا تعطيل.
2 / 1
نفي وجود الصاحبة والوالد والولد لله ﷿
2 / 2
المقصود من نفي وجود الكفء لله
ثم قال: (ليس لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) وهذا تقرير لكل ما سبق، ولا يحتاج إلى العطف فيه، يمكن أن تقول: لماذا لم يقل: (وليس لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ)؟
و
الجواب
أن معنى أنه (ليس لَهُ كُفُوًا أحد): أنه لا صاحبة له ولا ولد ولا والد؛ لأن الكفء هو النظير، يقال: الكفو بالواو، والكفء بالهمزة، والكفؤ بضمتين، وهذه كلها مقروءة، فقراءة نافع وابن كثير وابن عامر (كفؤًا) بالهمزة، وقراءة الكوفيين: (كفوًا) بالواو لكن شعبة يقرؤها (كفْوًا) بإسكان الفاء بالإسكان وغيره يقرؤها بالضم.
والمقصود بهذا أمران: أحدهما: نفي التشبيه مطلقًا؛ لأن الكفاءة مقتضية لقدر من الاشتراك في الشبه، فالبشر من جهة التمثيل أكفاء، لا أحد منهم يزيد على آخر بعضو مثلًا، بل هم صورة واحدة؛ ولهذا قال الشافعي ﵀: الناس من جهة التمثيل أكفاء أبوهم آدم والأم حواء والثاني: وهو المقصود الأساس من نفي الكفء: أنه لا يمكن أن يكافئه ولا أن يناظره أحد حتى يتزاوج معه، أو حتى يحصل بينهما اتحاد، أو حتى يحصل بينهما الاشتراك في أي شيء، فلذلك لا يمكن أن يحصل أي شرك به من أي وجه من الوجوه، فهذا ينفي الصاحبة، والولد، وينفي الوالد، وينفي كذلك المشابهة مطلقًا بأي شيء من مخلوقاته، وينفي كذلك استعانته بأي مخلوق من خلقه، وينفي الحاجة إلى أي مخلوق؛ لأن الخلق كلهم محتاجون إلى الخالق، ويحتاج بعضهم إلى بعض، والخالق غني لا يحتاج إلى شيءٍ من خلقه، فلم يستفد منهم أية صفة، أي: لم يستفد منهم صفة الخلق بعد أن خلقهم، ولا صفة الرزق بعد أن رزقهم، فقد كان خالقًا ولا مخلوق، وكان رازقًا ولا مرزوق، وهو على ما عليه كان، لا تحله الحوادث والآفات، ولا تأخذه سنة ولا نوم، هو الحي القيوم كما كان.
وهذه الصفات المذكورة في هذا البيت فيها نفي الصاحبة، ونفي الولد، ونفي الوالد، ونفي الكفو، ونفي الكفو متضمن لنفي الصاحبة، وقد جاء الثلاثة في سورة الإخلاص: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص:١-٤] وهذا شامل لنفي الصاحبة، فقصد بذلك على أن يكون تفسير: (لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) أنه ليست له صاحبة ولا ولد أو والد، و(أو) هنا بمعنى الواو، فقوله: (ولا ولد أو والد) معناه: ولا والده.
2 / 3
الإيمان وقاية للعقل من الخرافات
يقول الشيخ حفظه الله: [ليست له صاحبة ولا ولد ووالد ليس له كفوًا أحد] .
الذي جاء في نصوص الوحي في وصف الله ﷾ ينقسم إلى قسمين: إلى إثبات ونفي، والإثبات جاء أكثره مفصلًا، والنفي جاء أكثره مجملًا، وقد جاء نفي مفصل وهو قليل، فبدأ به لقلته في النصوص، وإنما جاء النفي المفصل في النصوص فيما يتعلق بالصاحبة والولد والوالد فقط في قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص:١-٤] ونحو ذلك.
والصاحبة: تطلق على القرينة فهي مؤنثة الصاحب بمعنى المصاحب، والمقصود بذلك: ما يخيل إلى بني آدم من أن حاجة الكائن أيًا كان تقتضي وجود قرين له من جنسه.
ومن هنا نتذكر بعض الفوائد العقلية التي ذكرناها سابقًا والتي تفيد العقل من الإيمان، وقد ذكرنا أن الإيمان لمصلحة العقل، ومن فوائده: أنه ينفي الخرافات عن العقل؛ لأن الخرافات هي متاهات العقول، فلو لم ترد هذه النصوص من الوحي لبقيت عقائد الناس مثل ما كانت عقائد الإغريق اليونانيين، عندهم الآلهة ذكور وإناث، وهناك عندهم بعض الآلهة ابن زنًا من الإله، أي: إله زنى بإلهة فأنجبت له ابنًا من زنًا وأصبح إلهًا لديهم!! وهكذا من خرافات عقلية لا نهاية لها، ولذلك هذا الإله (أولمبيك) يسمونه إله الرياضة، وهو ابن زنا عندهم، زنت إلهة بإله آخر فأنجبت منه هذا الولد فسميت عليه الرياضة، وإلى الآن تسمعون بالملاعب الأولمبية ونحو ذلك وكله من أولمبيك.
فعلى هذا فإن هذه النصوص هي التي حررت العقول من هذه الأوهام وهذه الخيالات التي منشؤها التشبيه بما يعهده العقل؛ ولذلك فإن نصوص التنزيل في كتاب الله وسنة رسوله ﷺ كثيرة جدًا، وهي التي تقتضي سد القلب بالكلية عن هذه الأوهام والتخيلات التي هي متاهات تضيع فيها العقول.
وكان العرب في الجاهلية يذهبون إلى أن الملائكة بنات الله، والتصور العقلي يقتضي أن البنات لا يمكن أن يوجدن إلا بعد أن توجد أم، والله ﷾ فند هذه الفكرة تفنيدًاَ قاطعًا في كثير من الآيات، ومن أبلغ ذلك ما كان فيه خطاب للعقل والعاطفة معًا، فقد جاء الخطاب في ذلك للعقل فقط في مثل قوله: ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾ [الإخلاص:٣]، وجاء الخطاب فيه للعقل والعاطفة معًا في مثل قوله: ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ * وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ﴾ [الزخرف:١٧-١٨] وفي القراءة السبعية الأخرى: (وجعلوا الملائكة الذين هم عند الرحمن إناثًا أأُشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون) .
2 / 4
مجيء النفي المفصل في صفات الله
فرد هذه الأوهام مهم جدًا للعقول، ولهذا جاء النفي فيها مفصلًا، بخلاف بعض الأمور التي لا تكون من ورائها المتاهات الكبيرة فلم يرد النص بنفيها على التفصيل، وإنما جاء النفي الإجمالي في قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى:١١] فقضى ذلك على التشبيه بالمخلوق كالجسم، والأعضاء، والجوارح وغير ذلك، ولم يأت التفصيل فيها، وإنما يفصل فيها المتكلمون ويذهبون فيها كل مذهب فيقولون: ليس بجوهر ولا بجسم وعرض كاللون أو كالطعم إلى آخره.
هذا التفصيل العقول في غنىً عنه، ولا تحتاج إليه أصلًا؛ لأنه لا يوجد وهم يميل إلى أن الله خالق هذا الكون كله عرض مثل الطعم أو مثل اللون، فلا يحتاج إلى نفي هذا إلا على سبيل الإجمال فيقال: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ومن هنا ندرك حاجة العقول إلى الإيمان وأنه لمصلحة هذه العقول، وحائل بينها وبين التخبط في المتاهات التي لا يمكن أن تخرج من هذا الوحل.
قوله: (ليست له صاحبة ولا ولد) هذا نفي، وزعم الولد قديم في البشرية، فقد زعم اليهود أن العزير ابن الله، وزعم النصارى أن المسيح ابن الله، وزعم المشركون أن الملائكة بنات الله، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا، وكل هذا بسبب أن بيئتهم وواقعهم لم تستنر بنور الوحي فتخبطت في الخرافات التي منشؤها ما يقيسون فيه على أنفسهم، فالذي يعظمونه في الأرض هم الملوك، والملوك لهم صواحب ولهم أولاد وبنات، فيرون أن من يقربه الملوك ويدنونه يمت لهم بصلة قرابة فيبحثون عن تلك القرابة، ومن هنا قال اليهود: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ﴾ [المائدة:١٨] فرد هذا الوهم بالكلية.
وكذلك فإن النصارى يزعمون أن الله ﷾ أب لعيسى، ثم يزعمون أنه من وراء ذلك أب للبشر كلهم، فالفكرة القديمة لدى النصارى أنه أب لعيسى فقط، واليوم يزعمون أنه أبٌ للعالم كله ويزعمون أن الناس جميعًا أبناء الله، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا.
ومن أجل هذا تجدون في الكتب المترجمة اليوم التي فيها بعض الأحاديث، مثلًا خرجت ترجمة لرياض الصالحين بالفرنسية: (الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله)، ترجموا هذا فقالوا: الخلق كلهم أبناء الله!! فهموها هذا الفهم فترجموها به؛ ولذلك فإن خطر التدوين فيما يتعلق بترجمة النصوص هو من جهة أن الأوهام ستسبق إلى ما تعودت عليه إذا لم تستنر بنور الوحي.
(أو والد) كذلك نفى الوالد، وقد نفاه الله عن نفسه في قوله: ﴿لَمْ يُولَدْ﴾ [الإخلاص:٣] فهو نفي للوالد مطلقًا.
2 / 5
نفي وجود الشبيه لله لا يقتضي نفي صفاته ﷿
قال: [وليس مثله علا شيء ولا يلزم ذا نفي صفاته العلا] .
2 / 6
أقسام الناس في صفات الله
قال: (وليس مثله علا شيء) هذا هو النفي المجمل وهو الوارد في قوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وذلك أن الناس في صفات الله ﷾ افترقوا إلى ثلاثة مذاهب: المذهب الأول: هم المشبهة الذين انطلقوا من أوهام العقول فشبهوه بالمخلوقات.
والقسم الثاني: هم المعطلة الذين نفوا عنه ما أثبته لنفسه من الصفات.
والقسم الثالث: هم أهل الحق الذين لم يشبهوه بخلقه، ولكنهم لم ينفوا عنه ما أثبته لنفسه، فيثبتون ما أثبته لنفسه على مقتضى ما يليق به، وينزهونه عن مشابهة خلقه، فهذه الآية جاءت ردًا على الطائفتين المنحرفتين المشبهة والمعطلة، ففيها قول الله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى:١١] وهو ردٌ على المشبهة، وقوله: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى:١١] وهو رد على المعطلة، وسنذكر إن شاء الله أن لدينا طائفتين هما طرفان: المشبهة والمعطلة، وأهل الحق في هذا وسط بين الطائفتين.
لكن هناك أيضًا طرفان لأهل الحق: طرف لديه زيادة قليلة في الإثبات، وطرف لدية زيادة قليلة في التنزيه، فلذلك كل واحد من الطرفين يتهم الآخر بانتسابه إلى الطرف الذي يليه، فالذين هم أهل إثبات وعندهم فيه زيادة قليلة يتهمهم من سواهم بأنهم مشبهة، وينسبونهم إلى من ورائهم، والذين لديهم تنزيه زائد أيضًا ينسبهم غيرهم إلى من ورائهم من المعطلة، وهم وسط بين هاتين الطائفتين، وهذا ما سنبينه إن شاء الله، والشيخ احترز من الطائفتين بقوله فيما سبق: (لا ما يقول من لذا أو ذا انتمى زعمًا ولم يسر على ما رسما) فلذلك كثير من الأشاعرة ينسبون بعض الحنابلة إلى التشبيه وليسوا مشبهين، لكن نظرًا للإثبات الذي فيه زيادة قليلة، وكذلك كثير من الحنابلة ينسبون الأشاعرة إلى التعطيل، وليسوا معطلة في أغلبهم، لكن مقصود ذلك أنهم بالغوا في التنزيه أيضًاَ.
قوله: (فليس مثله علا شيء) (شيء) هي اسم ليس، أي: وليس شيء مثله (علا) أي: تعالى، وفيه إثبات صفة العلو لله ﷾ وسنذكرها إن شاء الله تعالى بالتفصيل.
قوله: (ولا يلزم ذا نفي صفاته العلا) أي: نفي التشبيه عنه لا يقتضي نفي صفاته التي أثبتها لنفسه، (ولا يلزم ذا) معناه: إذا نفينا عنه التشبيه، فلا يقتضي ذلك إلزامنا بنفي صفاته التي أثبتها لنفسه، بل نثبت له ما أثبته لنفسه ولا يقتضي ذلك تشبيهًا له بخلقه، لذلك قال:
2 / 7
ذكر التفصيل لإثبات الإلهية والنبوة في سورة الطور
ذكرنا التشابه الجسمي، وقد نفي بقوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى:١١] والثاني: المداناة في المكانة حتى يمكن أن يحصل التزاوج أو نحو ذلك.
والنفي الإجمالي يأتي على حسب أوهام العقول؛ ولذلك فإن التفصيل البليغ في سورة الطور عجيب جدًا، ألا تلاحظون أن أول ما يخيل إلى من سمع رسولًا يقرأ كتابًا ويقول: أنا أرسلت من رب العالمين، أن يتخيل أن هذا الكلام الذي يقرؤه إنما هو شعر، أو سحر، أو كهانة على عادة الناس، هذا أول ما يبدأ في العقل، فرد الله هذه الفكرة بقوله: ﴿أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنْ الْمُتَرَبِّصِينَ﴾ [الطور:٣٠-٣١] أي: فالشعراء يموتون وتنتهي أشعارهم معهم وليست لهم أذكار مستمرة.
بعد هذا يفكرون بهذا الوحي الذي أتاهم فيقولون: هذا الكلام إذا فهمنا أنه ليس مثل كلام البشر، لكن من أين أتى؟ هل هو كلام لا يلفت الانتباه ولا يمكن أن ينتبه له أحد، أو هو كلام أعظم من هذا؟ فلذلك رد الله هذه الفكرة بقوله: ﴿أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ﴾ [الطور:٣٢-٣٤] أي: إذا كان هو تقوله من عند نفسه وادعاه، فليس بأبلغ من أن يقول لهم بعدها: (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) .
وهنا عرفنا أن هذا ليس كلامًا من كلام البشر وأنه وحي منزل، لكن من أين أتى؟ هنا يأتي التفكير فيمن أنزله.
فالتفكير فيمن أنزله بدايته التفكير في الخالق، والناس لم يشاهدوا خلق آدم، ولم يشاهدوا خلق السماوات والأرض وإنما رأوا الناس يتكاثرون، وراو المطر ينزل فتنبت الأرض شجرًا وييبس وينبت من جديد وهكذا؛ فلذلك يمكن أن يتخيل العقل في هذه اللحظة إنكار الألوهية أصلًا فرد هذه الفكرة بقوله: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ﴾ [الطور:٣٥-٣٦] .
هذه ثلاثة أفكار متسلسلة، بدايتها: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) فنحن قطعًا خلقنا ونحن موجودون ولم نكن ثم كنا، فمن خلقنا؟! هل يمكن أن يكون الإنسان غير موجود ثم يوجد من غير تأثير أي شيء آخر؟ هذا مستحيل؛ لأن من مبادئ العقل أن وجود أثر بلا مؤثر مستحيل، وترجيح بلا مرجح مستحيل.
(أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ) هل خلقوا أنفسهم؟ هذا مستحيل أيضًا لا يقبله عقل، ولا يمكن أن يدعيه وهم، وإذا ادعى بعض الناس أن غلامًا خلقه أبوه، وأن ذلك خلقه أبوه وهكذا بالتسلسل، لكن من خلق هذه السماء وهذه الأرض، وما نراه من الخلق العظيم الذي لا يمكن أن يكون للإنسان فيه تأثير: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ) .
وبعد أن تثبت الألوهية لله الذي أنزل هذا الكتاب يأتي توهم آخر في العقل، فيقول: لكن لماذا خص هذا الإنسان بهذا الوحي من بين الناس؟ لماذا لم ينزل هذا على كل الناس أو يختار له منهم من هو أشرف في نظرهم منه؟ قال: ﴿أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمْ الْمُسَيْطِرُونَ﴾ [الطور:٣٧] فلا يمكن أن يتحكموا في عطاء الله واختياره، وليس لهم ذلك.
وهنا يمكن أن يحصل في الوهم في خيال الإنسان أن الرسالة مكتسبه، وأنه إنما اكتسب ذلك بعمل تقرب به إلى الله حتى ينيله هذه المنزلة والرتبة، فيرد الله على هذا فيقول: ﴿أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾ [الطور:٣٨] لو كانت القضية باكتساب وحيلة فإن لكم عقولًا ولكم حيلًا، فلماذا لم تكتسبوها ولم تحصلوا عليها؟! وبعد هذا نصل إلى الكلام على الواسطة التي تنزل هذا الوحي من السماء إلى الأرض؛ لأننا قطعنا النظر عن السلم إلى السماء، ولم ينقل بعد هذا إلا هذا الوحي المنزل من السماء؛ فمن أتى به؟ يأتي الوهم في الملائكة، فهم يزعمون أنهم بنات الله، فرد الله هذه الفكرة فقال: ﴿أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمْ الْبَنُونَ﴾ [الطور:٣٩]، كيف يكون هو الخالق الذي يهبكم البنيين، ويرزقكم هذه الأعداد الهائلة من الأولاد، ويختار لنفسه بنات فقط؟! هذا مستحيل.
فبطلت هذه الفكرة، ولم يبق إلا قضية العداوة الشخصية والحسد لهذا الرسول الذي اختاره الله، وأنزل عليه الملك بالوحي، فرد هذه الفكرة فقال: ﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ﴾ [الطور:٤٠] فهل لك عليهم مطالبات تطالبهم بها في مقابل الوحي حتى يحسدوك عليها؟! أم أنك لا تسألهم عليه أجرًا، وإنما تريد هدايتهم وإيصالهم إلى الحق؛ فلذلك وجدنا أن العقول بتدرج أفكارها يأتي تنزيل الوحي لهدايتها، ورد كل هذا الخبث حتى يذهب جفاء.
2 / 8
الكلام على صفتي السمع والبصر
ٍ
2 / 9
أقسام السنة من حيث كونها وحيًا
وتنقسم السنة إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: أقوال نزلت بلفظها ومعناها من عند الله تعالى، لكنها غير معجزة، وهذه هي الأحاديث القدسية، وهي قطعًا وحي بلفظه ومعناه.
القسم الثاني: أقوال أنزل معناها إلى النبي ﷺ فعبر عنها بلغته، وهذه هي السنة النبوية غير القدسية.
القسم الثالث: ما تكلم الرسول ﷺ به بطبيعته البشرية، فهو بشر من الناس يستفهم ويسأل ويجيب، فهذه لا تعتبر وحيًا.
إذًا فالسنة ثلاثة أقسام: قسمان من الوحي وقسم ليس وحيًا، وإذا نظرنا إلى الآية التي جاء فيها الإطلاق وهي قوله تعالى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم:٣-٤] فإن (وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى) نفي نطقه عن هواه، ولكن ذلك لا يقتضي إثبات أنه ما ينطق إلا عن وحي، فلم يقل: وما ينطق إلا عن وحي، بل ذكر أنه لا ينطق عن الهوى، والهوى هو ميل النفس إلى الشهوات، فكل كلامه ﷺ لا ينطق به عن هوى، لكن منه ما هو طبيعة بشرية فيه، وهي على أكمل أخلاق البشر وأكمل أوصافهم، فلا تكون مائلةً إلى الهوى، ومنه ما هو وحي منزل إليه من عند الله، ولهذا قال: ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم:٤] والمقصود بذلك ما كان تشريعًا ونحوه مما أنزل إليه من عند الله ﷾.
وقد أثبت الله تنزيل السنة بالإطلاق وسماها الحكمة في قوله تعالى: ﴿وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ [النساء:١١٣] والمقصود بالحكمة المنزلة إليه السنة.
2 / 10
الكلام على صفة العين
وأما العين فقد جاء إثباتها صفة لله ﷾، والنص لم يرد فيه التصريح بأنها محل البصر، لكن اقتضاء ذلك وارد، فالعين التي ثبتت في النصوص تقتضي البصر، وتقتضي الإحاطة والإدراك، وتقتضي الرعاية والحفظ، كل ذلك من متعلقات هذه صفة العين.
وقد جاء لفظ العين في مثل قوله: ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ [طه:٣٩] وقد جاء في بعض الأحاديث ذكر العينين، وإن كان اللفظ لا يصح فيه حديث واحد بعينه، ولكنه بطرق متعددة يمكن أن يجمع ذلك إلى عينين.
وأما الآية التي فيها: ﴿تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا﴾ [القمر:١٤] فإن الإمام أحمد رحمه الله تعالى قال: هذا من مجاز اللغة والمقصود بمجاز اللغة أن الضمير (نا) في أصل دلالته يطلق على الجمع، فإذا أضيف إليه تثنية كان هذا من القبيح في الاستعمال، أي: لو قلت (تجري بعينينا) كان هذا قبيحًا في الاستعمال اللغوي، ولهذا يقول الله تعالى: ﴿فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾ [التحريم:٤] وهما امرأتان ليس لهما إلا قلبان، لم يقل: (قد صغى قلباكما) وكذلك تقول: قطعت رءوس الكبشين، وليس للكبشين إلا رأسان لكن هذا هو الأفصح في اللغة، ولذلك يقول المختار بن بونا ﵀: ورجح الجمع فالإفراد فما ثنوا على الأصح في اثنين هما جزءًا مثنىً خفضا فالأرجح في اللغة الجمع فقالوا: قطعت رءوس الكبشين، (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) ثم بعد هذا الإفراد فتقول: قطعت رأس الكبشين، فهي أفصح في اللغة من قولك: قطعت رأسي الكبشين، وإن كانت التثنية واردةً في اللغة مثل قول الشاعر: أتبكي على ليلى ونفسك باعدت فزادك من ليلى وشعباكما معا فما حسن أن تأتي الأمر طائعًا وتجزع أن داعي الصبابة أسمعا شعباكما معًا: ثنى المضاف إلى الاثنين وهو خافض لهما.
وقوله: (المتصف) أبلغ مما لو قال الموصوف؛ لأن الموصوف لا تقتضي إثباتًا للصفة، وإنما تقتضي أنه وصف بذلك، أي: وصفه الواصفون بذلك، لكن (المتصف) تقتضي أنه متصف بذلك فعلًا، وهو أعم أيضًا من قولنا (الموصوف)؛ لأن الموصوف معناه: ذكر الصفات المعلومة لنا التي وصفه بها الواصفون، أما المتصف فإنه يشمل ما ذكرناه نحن وما لم نذكره من كل أوصاف الكمال، فكل كمال هو ثابت له سواء عرفناه تفصيلًا أو لم نعرفه، وكل نقص فهو منتف عنه سواء عرفنا ذلك أم لم نعرفه، نطقنا بذلك أولم ننطق به، ولذلك قال: (المتصف بما به في نوعي الوحي وصف) .
أي: بما وصف به في نوعي الوحي، ونوعا الوحي هما الكتاب والسنة فكلاهما وحي، فالكتاب لا جرم أنه وحي من عند الله ﷾، والسنة كذلك.
2 / 11
إثبات صفتي السمع والبصر لله فيه إثبات كمال علمه وإدراكه تعالى
ٍ [فهو السميع والبصير المتصف بما به في نوعي الوحي وصف] (فهو السميع) معناه: المتصف بصفة السمع، والسميع في اللغة: يطلق على السامع وعلى المسمع، فالسامع الذي لا يفوته شيء يسمى سميعًا، والمسمِع -أي: المنادي- الذي يسمع الناس يسمى سميعًا أيضًا، وذلك أن فعيلًا تستعمل بمعنى فاعل وبمعنى مفعول، فالسميع بمعنى السامع هي الكثيرة في الاستعمال مثل قول الله تعالى: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى:١١] والسميع بمعنى المتكلم المسمع منه قول عمرو بن معدي كرب ﵁: أمن ريحانة الداعي السميع يؤرقني وأصحابي هجوع أي: الداعي المسمع.
(والبصير): المتصف بصفة البصر.
وهاتان الصفتان بهما كمال العلم والإدراك، فالسميع يتعلق سمعه بالأصوات، والبصير يتعلق بصره بالمبصرات، وقد ذهب بعض المتكلمين مبالغةً منهم في التنزيه إلى أن سمع الله ﷾ يتعلق بالأصوات وبالمحسوسات كلها، وأن بصره كذلك يبصر الذات والمعنى، ولكن هذه المبالغة في التنزيه مبالغة في إثبات مخالفته للحوادث، وفيه يقول أحدهم: وأنت بصير تبصر الذات والمعنى.
لكن هذا لا دليل عليه، وإنما أخذوه من نفي مشابهته لخلقه، فإنه لما كان سمع الحادث يتعلق بالأصوات فقط، وبصره يتعلق بالذوات فقط، أرادوا إثبات المخالفة له، لكن المخالفة لا تقتضي أن تكون من حيث المتعلق فقط، بل المخالفة من حيث مصدر السمع ومصدر البصر ونحو ذلك، فمصدر السمع والبصر بالنسبة للمحسوسات في الإنسان الأذن في السمع والعين في البصر، والله ﷾ لا يمكن أن يقاس بخلقه، ولا يمكن أن يشبه بهم، فمجرد إثبات السمع له لا يقتضي إثبات الأذن، وإن كان جاء في الحديث: (وما أذن الله لشيء أذنه إلى قراءة نبي حسنة، أو: إلى نبي حسن الصوت بالقرآن) وسنذكر هذا إن شاء الله تعالى، لكن الأذن هنا بمعنى الاستماع، ولا يقتضي إثبات صفة الأذن.
2 / 12
أقسام ما وصف الله به نفسه في الكتاب والسنة وكيف نتعامل معه
قال: [يمر ما في وصفه جاء من الـ ـوحي كما يفهم من فيهم نزل] ما جاء في الكتاب والسنة مما وصف به ربنا جل وعلا، ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
2 / 13