4
أعود فأسأل: ما مصدر الضرورة في الحقائق الرياضية عند ديكارت؟ إنها بالطبع ليست مجرد كون الحقائق الرياضية تعتمد أول ما تعتمد على طبائع بسيطة تدرك بالحدس فلا يكون إدراكها معرضا للخطأ؛ ذلك لأن الحقيقة الرياضية قوامها علاقات تربط هذه الطبائع البسيطة، ونحن نقول عن هذه العلاقات إنها ضرورية، لكننا الآن نسأل: من أين جاءت لها هذه الضرورة؟ أكان محالا على الله أن يخلق الحقائق الرياضية على غير ما خلقها عليه؟ كلا، بل كان ذلك ممكنا في رأي ديكارت كما ورد في بعض رسائله التي يقول فيها إن الله كان يمكنه - لو أراد ذلك - ألا يجعل للمثلث زوايا ثلاثا، وألا يجعل أنصاف الأقطار في الدائرة متساوية، وأن يجعل الجبال تنهض على الأرض بغير وديان تقابلها، وألا يجعل الأربعة مضروبة في اثنين تساوي ثمانية، وباختصار فإنه لم يكن ثمة ما يلزم الله أن يجعل النقيضين لا يجتمعان.
5
ولعل هذا الإمكان - إمكان أن يخلق الله الحقائق الرياضية على غير ما هي عليه - هو الذي أجاز لديكارت أن يحتمل وقوعه في الخطأ - بفعل شيطان خبيث - إذا ما قال عن مجموع اثنين وثلاثة إنه يساوي خمسة، وعن المربع إن أضلاعه لا تزيد عن أربعة؛ فأمثال هذه الحقائق الرياضية تبدو لديكارت واضحة ومميزة، ولكنه مع ذلك يحتمل أن يضله الشيطان فيها؛ وإذن فإلى جانب الوضوح والتميز لا بد من شيء آخر لكي يثق في يقين ما يري، وهو هداية الله له في إدراكه هداية تنجيه من ضلالات الشيطان.
لو رأي ديكارت ما نراه نحن اليوم من أن القضية الرياضية تحليلية لا تركيبية، تكرارية لا إخبارية؛ بمعنى أن يكون قولنا - مثلا - «إن للمثلث زوايا ثلاثا» قولا لا يزيد على تكرار جانب من الجوانب المتضمنة في تعريف المثل نفسه، فكأنما القائل لا يقول بقوله هذا شيئا أكثر من «أن المثلث هو المثلث»؛ أقول لو رأي ديكارت ما نراه نحن اليوم في طبيعة القضية الرياضية، لما شك في أن يكون مضللا بفعل شيطان خبيث في إدراكه للحقائق الرياضية؛ إذ كيف يضلل الشيطان من لا يقول شيئا؟ نعم، لو رأي ديكارت ما نراه نحن اليوم في القضية الرياضية لعرف أن اليقين في الرياضة مصدره أن الرياضة لا تقول شيئا جديدا بحيث تتعرض للخطأ من أجله؛ وبالتالي فيستحيل أن يكون منهجها صالحا للعلوم الطبيعية التي من شأنها أن تحكي عن الطبيعية فيكون الخطأ فيها محتمل الوقوع.
لكن ديكارت كان من رأيه أن الحقيقة الرياضية تركيبية لا تحليلية؛ أي إنها تنبئ عن الطبيعة وما يقع فيها؛ وبالتالي فهي كأي خبر عن الطبيعة آخر معرضة للخطأ لولا هداية من الله، بل إن كل حقيقة أخرى - غير الحقائق الرياضية - يكون قوامها بسائط مرتبطة بعلاقة، بحيث تكون البسائط والعلاقة معا مما يدركه الإنسان بحدسه المباشر ، هي كذلك حقيقة تركيبية لا يكون المحمول فيها مجرد تحليل للموضوع، بل يكون إضافة تضاف إلى الموضوع؛ ومن ثم فقد يخطئ الإنسان في إدراكها لولا هداية من الله تعصمه. خذ - مثلا - حقيقة كهذه: «الجسم له امتداد.» فإنه على الرغم من أن الامتداد لا يكون إلا في جسم، وأن الجسم لا يكون بغير امتداد، بحيث كان يكفي القائل أن يقول كلمة «جسم» ليحللها السامع إذا أراد فيجد في عناصرها صفة الامتداد؛ وبهذا تكون عبارة «الجسم له امتداد» من قبيل التكرار، وما دام الأمر تكرارا لشيء واحد مرتين، دون أن تكون هنالك إضافة جديدة، فيتحتم قطعا أن تكون العبارة صادقة صدقا يقينيا وضروريا؛ أقول إنه على الرغم من أن صفة «الامتداد» يوصل إليها بتحليل الموضوع الذي هو «جسم» فإن حقيقة كهذه - شأنها شأن الحقائق الرياضية عنده - تكون تركيبية خبرية؛ لأن «الامتداد» - في رأيه - طبيعة بسيطة تدرك مستقلة عن «الجسم»؛ وإذن فالربط بينهما في حقيقة واحدة ليس هو من قبيل التحليل، بل هو من قبيل الخبر الذي يضيف شيئا إلى شيء آخر. نعم، إن عبارة كهذه يقينية ضرورية في رأيه، شأنها كذلك شأن الحقائق الرياضية، ولكن من أين جاءت الضرورة وجاء اليقين هنا؟ إنهما قد جاءا مما أمد الله الإنسان به من نور فطري يدرك به أمثال هذه العلاقات بين الأشياء. وكان يمكن ألا يمده بذلك النور، فيرى أضلاع المربع أكثر من أربعة أو أقل، ويري زوايا المثلث أكثر من ثلاث أو أقل، كما يرى الجوهر بغير امتداد.
إننا في تحليلنا للقضايا الرياضية اليوم - كما سنفصل القول فيما بعد - نري أنه ما دام الرياضي يبدأ بمسلمات (وهذه المسلمات عند الرياضي ثلاثة أنواع: تعريفات وبديهيات ومصادرات)، فإن كل نظرية تأتي بعد ذلك نتيجة لهذه المسلمات تكون تحليلية؛ لأنها بمثابة ما يكرر بعض العناصر المتضمنة في تلك المسلمات، وما دام الأمر تكرارا فهو ضروري ويقيني، فكأنك إذ تستدل نظرية رياضية تقول: إننا ما دمنا قد سلمنا ب «أ» و«ب» و«ج»، إذن تكون «ب » صحيحة. أما ديكارت فالأمر عنده على خلاف ذلك؛ لأنه يقول إننا لو كنا نبدأ بتعريفات صريحة ثم نستخرج منها قضايا تحليلية تعيد ما كان متضمنا في تلك التعريفات، انتهينا إلى قضايا لا تقول شيئا، لكن ما هكذا - في رأيه - يكون المنهج الرياضي؛ فأهم ما في هذا المنهج هو أننا نبدأ بمجموعة من البسائط التي بعضها حدود وبعضها علاقات، ثم نلاحظ أن علاقة ما من تلك العلاقات البسيطة تربط حدين من تلك الحدود البسيطة أيضا، وأن هذا الربط نراه ضروريا لا بد من قيامه؛ ومن ثم يتاح لنا أن نستدل من هذه البداية نتائجها فتكون النتائج ضرورية كذلك؛ فبهذا لا نكون إزاء قضايا تحليلية تكرارية، بل إزاء «تركيبات» فيها ما ينبئ عن العالم كيف تكون حقائقه. وحتى في الحالات التي قد يبدو فيها أن القضية تكرارية لا جديد في محمولها عما هو كائن في موضوعها، لو أنك أمعنت فيها النظر، وجدت فيها هي نفسها من الروابط ما لم يأتنا عن طريق التحليل الخالص، بل كان لا بد له من رؤية حدسية تدرك ما فيه من تركيب وبناء. ونعود إلى المثل الذي أسلفناه منذ أسطر قليلة، وهو: «الجسم له امتداد.» فها هنا موضوع القضية الذي هو «الجسم» ليس طبيعة بسيطة، بل هو مركب من بسيطتين هما «الجوهر» و«الامتداد»؛ فلو حللنا الموضوع إلى عنصريه أصبحت القضية: «الجوهر ذو الامتداد له امتداد.» أو بتعبير ديكارت نفسه وهو بصدد عرض هذه النقطة: «إن ما له امتداد له امتداد.»
6
ولكن بالرغم مما في هذا القول من تحليل تكراري ظاهر، فلا يزال ديكارت يصر هنا على وجهة نظره، وهي أن في الأمر تركيبا إخباريا، وهو في هذا المثل إدراك الرابطة الضرورية لا بين «الجسم» من ناحية و«الامتداد» من ناحية أخرى، بل بين العنصرين اللذين هما قوام «الجسم»، ألا وهما «الجوهر» و«الامتداد»؛ فكيف عرفت أن هذين يستحيل ألا يكونا متلازمين تلازما تتكون منه الأجسام؟
عرفت ذلك لا بالتحليل، ولكن بالإدراك الحدسي لما بين البسائط من علاقات. ولسوء الحظ إن ديكارت - وهو فيلسوف الوضوح - قد ترك هذه النقطة الهامة عند هذا الحد فلم يزدها توضيحا، مع أنها هي هي الأساس الذي يقوم عليه ما في الرياضة من ضرورة ويقين. إنه يرتد إلى المجاز، فيقول إن العلاقة الضرورية التي تربط «الجوهر» ب «الامتداد» (أو أي علاقة ضرورية أخرى) إنما نراها ب «عين العقل» أو ب «الرؤية العقلية» أو ب «الضياء الروحي» أو ب «النور الفطري». هذه كلها استعارات يستخدمها ديكارت ليعبر بها عن الطريقة التي بها ندرك ضرورة العلاقة التي تربط البسائط، وواضح أن «النور الفطري» هنا يشير إلى نور العقل ينصب على موضوع إدراكه فيكشف عما فيه من علاقة وأطرافها، لكن كيف يدرك العقل هذا الذي يدركه؟ وما طبيعة العلاقة الضرورية هذه؟ سؤالان يتركهما ديكارت بغير جواب.
Unknown page