فما تحليل قولنا «هذا أحمر»؟ إنه قول لا يتيسر لنا قوله ما لم يكن قد مر بنا بادئ ذي بدء بقعة لونية أشير لنا إليها ونطق مع الإشارة بالصوت «أحمر»، فأصبحت تلك البقعة اللونية معنى لكلمة «أحمر» بالتعريف، حتى إذا ما مرت بقعة لونية أخرى «تشبه» البقعة الأولى قلنا عنها إنها «حمراء»؛ وعندئذ يكون تحليل قولنا هذا هو: هنالك بقعتان لونيتان؛ بقعة أ وبقعة ب متشابهتان؛ وبهذا يرتد قولنا «هذا أحمر» إلى «أ تشبه ب»، وهي قضية ذات علاقة ثنائية؛ أي إنها قضية ذات طرفين وما يربطهما من علاقة، وليست هي بالقضية التي تصف موضوعا واحدا بصفة معينة.
إن الغاية التي نستهدفها بهذا التحليل وأمثاله هي أن يكون القارئ على وعي بما يتضمنه الكلام الذي يستخدمه في التفاهم من حصيلة حسية، حتى إذا ما زعمنا له بعد ذلك أن الجملة الإخبارية إذا لم يمكن ترجمتها إلى مضمونها الحسي كانت جملة بغير معني، أدرك ما ينطوي عليه هذا الزعم؛ فكل منا يتحدث الحديث المألوف وهو لا يدري على وجه الدقة من أي جذور نشأ المعنى الذي يراد للسامع أن يفهمه من ذلك الحديث، ومهمة الفلسفة التحليلية هي إبراز هذه الجذور الأساسية الخفية؛ لأنها إذا ما انكشف عنها الغطاء وسلط عليها الضوء، ازددنا قدرة على نقد الكلام وتمييز ما له معنى مما ليس له معنى.
فقد يقول قائل «الورد أحمر» ويظن أنه بذلك إنما يقول عن خبرة بسيطة مباشرة، على حين أن «الورد» اسم كلي يدل على مجموعة وصفية ولا يدل بذاته على ضرورة أن يكون لهذه المجموعة الوصفية جزئية معينة تلبسها؛ وإذن فلا بد أولا من أن نستبدل بهذه الكلمة اسما جزئيا ليكون للعبارة معنى، فتصبح «هذه الوردة المعينة حمراء»، ثم تأتي بعد هذه الخطوة التحليلية خطوة أخرى، وهي أن ننسب «هذه الوردة» إلى بقعة لونية سبقت رؤيتها وسبق ربطها بكلمة «أحمر»، لنرى أن «هذه الوردة» و«تلك البقعة» شبيهتان، فيتم التحليل ويتحقق المعنى مستندا إلى الخبرات الحسية الماضية والحاضرة؛ فالذي يجعل عبارة «الورد أحمر» ذات معنى، ويجعل عبارة «الجن أحمر» غير ذات معنى، هو أننا نستطيع أن نمضي بتحليل العبارة الأولى إلى آخر مراحله، على حين أننا لا نستطيع ذلك بالعبارة الثانية.
على أن العبارات اللغوية التي نستخدمها في الحديث تتفاوت تعقيدا في تركيبها؛ وبالتالي فهي تتفاوت صعوبة في تحليلها؛ فها نحن أولاء قد رأينا أن عبارة جزئية مثل «هذا أحمر» لا تتطلب في تحليلها أكثر من أن نضع «هذا» الجزئي الذي نحسه الآن مع طائفة الجزئيات التي أحسسناها فيما مضى، والتي نراه شبيها بها؛ وبهذا يتم لنا فهم المعنى المقصود، لكن ما هكذا عبارة مثل «مات قيصر»؛ فها هنا نحن إزاء مجموعتين من حوادث ليستا من قبيل واحد؛ فأما «مات» فهو اسم لحادثة جزئية وقعت في لحظة زمنية معينة، ولو كنا مشاهدين لتلك الحادثة لحظة وقوعها وأشرنا إليها قائلين «هذا موت»، لكان الموقف عندئذ شبيها بقولنا «هذا أحمر» من حيث التحليل، لكنا ها هنا نريد أن نتصور مجموعتين من الحوادث مختلفتين اختلافا بعيدا، تلاقتا معا في نقطة ما وفي لحظة معينة، فتكون من تلاقيهما ما نقول عنه «مات قيصر». أما المجموعة الأولى فهي مجموعة الميتات التي كان موت قيصر واحدا من أعضائها، وأما المجموعة الثانية فهي سلسلة الحالات الجزئية التي تتابعت فكونت ما أسميناه «قيصر»، وقد تلاقت هذه السلسلة عند آخر حلقاتها مع أحد أفراد المجموعة التي يقال لها «موت»، فكانت نتيجة التلاقي هي قيصر في حالة موته.
3
هكذا تتفاوت العبارات في درجة تعقيدها وصعوبة تحليلها، لكنها جميعا ترتد - كما ترى - إلى حالات جزئية يمكن التعبير عنها بجمل ذرية بسيطة أولية؛ وبهذا التحليل الذي يردها إلى أصولها البسيطة ندرك مضمونها الحسي الذي منه يتولد معناها؛ وهنا ننتقل إلى «الوحدة» التي لا بد منها في الجملة الواحدة لتربط أجزاء المضمون الحسي في حقيقة واحدة هي التي جاءت القضية لتعبر عنها. إنه من الواضح أن معنى القضية الواحدة ليس هو حاصل جمع معاني مفرداتها؛ بدليل أنك قد تغير من ترتيب المفردات فيتغير المعنى الجملي مع أن حاصل جمع معاني المفردات لا يتغير؛ وإذن ف «الوحدة» التي تربط أجزاء الجملة ربطا يكسبها معناها ذات صلة ب «الترتيب»، أو إذا شئت مصطلحا رياضيا فقل إن «وحدة» الجملة ذات صلة ب «التسلسل» الذي يكون بين مفرداتها، كأنما الجملة عدد ذو أرقام، تتغير قيمته بتغير ترتيب أرقامه. وعلى الرغم من أن العدد تتوقف قيمته على قيم أرقامه، إلا أن قيمته لا تكون بالطبع هي حاصل جمع تلك القيم المفردة.
لكن هذا «الترتيب» أو «التسلسل» الذي يخلع على الجملة معناها الموحد لا يزال بحاجة منا إلى تحليل، فماذا عساه أن يكون؟ إنه يرتد في النهاية إلى تسلسل زمني؛ أي إلى تتابع في لحظات الزمن، بحيث إذا كان التتابع في اتجاه معين هو الذي يدل على المعنى الصواب، كان اختلاف الاتجاه دالا على خطأ؛ فقولي إن «بروتس قتل قيصر» لا يعتمد في معناه الجملي على معاني الفئات الداخلة في تكوينه، وهي: (1) فئة الحالات الجزئية التي منها تتكون المجموعة التي نسميها «بروتس». (2) فئة الحالات الجزئية التي تكون كل حالة منها حالة قتل مفردة، ومن مجموعها يتكون معنى كلمة «قتل». (3) فئة الحالات الجزئية التي منها تتكون المجموعة التي نسميها «قيصر». أقول إن المعنى الجملي لقولي «بروتس قتل قيصر» لا يتكون من مجرد حاصل جمع هذه المجموعات، بل لا بد أن يقع النطق باسم المجموعة الأولى سابقا على النطق باسم المجموعة الثانية، وهذا بدوره سابق على النطق باسم المجموعة الثالثة.
وهنالك من حيث التسلسل الذي من هذا القبيل أنواع ثلاثة؛ فمنها التسلسل الذي لا يجوز فيه الاتجاه العكسي بحيث نحتفظ للجملة الواحدة بمعناها الأصلي، وتسمى العلاقة التي تربط الأجزاء في هذه الحالة بالعلاقة اللاتماثلية، ومن قبيل ذلك قولنا: «أ أكبر من ب»، «أ والد ب»، «أ قبل ب»، «أ قتل ب»، وهكذا. ومنها ما يجوز فيه الاتجاه العكسي مع بقاء المعنى الأصلي على حاله، وتسمى العلاقة في هذه الحالة بعلاقة التماثل، ومن قبيل ذلك قولنا: «أ تساوي ب»، «أ تشبه ب»، «أ تختلف عن ب»، «أ نقيض ب»، وهكذا. ومنها ما يلتبس فيه الأمر، فلا يعرف من الجملة نفسها إن كان الواقع الذي هو معنى الجملة مما يمكن فيه الاتجاه العكسي أو مما لا يمكن فيه ذلك، ومن هذا القبيل قولنا: «أ يحب ب.» فعندئذ لا ندري من الجملة وحدها إن كان «ب» يحب «أ» كذلك أو أن الأمر غير ذلك.
ومهما يكن من أمر، فهذا التسلسل بين أجزاء الجملة هو الذي يخلع على الجملة وحدتها، ووحدتها هي التي تجعل لها معنى غير مجموع معاني مفرداتها. وإنه لمن عبقرية اللغة أن تكون ألفاظها الدالة على علاقات دالة في الوقت نفسه على نوع التسلسل الذي ينبغي أن يتحقق بين المفردات ليتم للجملة معناها؛ فالأمر حين أنطق لسامعي بعبارة «قامت الدولة الأموية ثم قامت الدولة العباسية»، أقول إن الأمر هنا لا يقتصر على أن تقع لفظتا «الدولة الأموية» في أذن سامعي قبل أن تقع فيها لفظتا «الدولة العباسية»، وإنه بهذا الترتيب الزمني يعرف كيف كان ترتيب الحوادث الخارجية في الوقوع، بل إن كلمة «ثم» تحدد له نوع التتابع بحيث يعرف منها معرفة إضافية أن أسبقية الاسم في العبارة اللغوية دالة على أسبقية وقوع مدلوله في دنيا الحوادث كذلك.
ونلخص فنقول إن مهمة الفلسفة كما نراها هي تحديد المعاني، غير أن الوحدة التي نحدد لها معناها هي الجملة، بحيث لا نكتفي بتحديد الكلمات التي منها تتكون الجملة الواحدة؛ إذ إن للجملة معنى غير معاني مجموعة كلماتها، ويحدد لنا معناها هذا وحدتها التي تنشأ من نوع الترتيب الذي ينظم مفرداتها.
Unknown page