ولم يزلْ ابنُ نَصْرٍ صاحبُ حلبَ يراسِلُ ابنَ حَيّوس الدمشْقيَّ ويواصلُه بالصّلات والأعطِياتِ والمُلاطَفات حتى أقدمَهُ إليه وأوفدَه عليه، فلما قاربَ حلبَ خرجَ في موكبِه وتلقّاهُ، وأكرمَه وحيّاهُ، وأنزلَهُ دارَ ضيافَتِه. وبعد أيامٍ جلس في قلعة حلبَ جلوسًا عامًّا وأذِنَ لنوّابِه وأمرائِهِ وأصحابِه ووزرائِهِ، فلما استقرّ الناسُ على مراتبِهم استحضرَهُ وأجلسَهُ بين يديهِ فأنشده قصيدته التي يقولُ في أوّلها:
قِفوا في القِلَى حيثُ انتَهَيْتُمْ تذَمُّما ... ولا تقتَفوا مَنْ جارَ لمّا تحكّما
فاستدعى بكيس فيه ألفُ دينار فصبّه عليه فالتقطَه الحاضرون ثم استدعى بكيسٍ آخر فيه ألفُ دينار، وعشرين ثوبًا، وخِلعةً سَنيّةً، وفَرَسًا بطَوقِ ذهب وسِرْفسارِ ذهَبٍ فأعطاهُ وكتبَ له ضيعةً من أمّهاتِ القُرى بحلب. فهذه كانت جوائز الشعراء.
ولقد اجتهد فخْرُ المُلْكِ أبو غالب بن خلَفٍ الواسطيّ لما دخل بغدادَ أيّامَ وزاراتِه لبهاء الدولة بنِ عَضدِها، على أن يمدَحَه ابنُ نُباتَة السّعدي فلم يفعلْ وقال له: إنّ أحمد بن إسحاقَ - يعني القادر بالله - حظّر عليّ أن أمدَح أحدًا سواه. فلما بلغ القادرَ كلامُه وكونُه لم يعبّر عنه بالإمام ولا بأمير المؤمنين، ولا زاد على أن سمّاهُ ونسبَه، احتمل له ذلك مع امتناعه على ما كان عنده من المنافسة والمُحاقَقة في مثلِه. ثم توصّل فخرُ المُلكِ الى القادر وتقرّب إليه بأنواع التقرّب، وسأله أن يأذَن لابن نُباتة في مدحِه فاعتذرَ إليه وأبى عليه وقال: ما كان لشاعر الخلافة أن يمدحَ سواها، فلما اعتاصَ على فخر المُلك مرامُه، وضع ابنَ حاجب النعمان فزوّر على ابن نُباتة وقال: قد رسم لك أميرُ المؤمنين أن تمدحَ الوزير فخْرَ المُلْكِ، فحضَر امتثالًا للأمر، فلما رآه فخرُ المُلك نهضَ له قائمًا ورفع مجلسَه وأحسنَ جائزتَه وأعطاه من الثياب والذهب ما لمْ يُعْطَ شاعرٌ مثلُه. فانظرْ الى منافسةِ هذا الوزير في اكتساب الثّناءِ، واحتيالِه على تحصيلِ الحمدِ من الأدباء، وعزَّةِ ذلك عند الأئمة الخُلفاء، رضوانُ الله عليهم. هكذا كانت رغباتُ الرؤساء في الأدباء.
وحدّثني والدي ﵁ قال: حدّثني محمدُ بنُ محمد بن عبيد الله العلويّ الحُسَيْنيّ قال: حدّثني أبو المَفاخِر الأبهريُّ قال: حدّثني أبو يَعْلَى ابن الهَبّارِية الهاشميّ قال: حدّثني أبو سعْد العَلاءُ بنُ الحسن بن موصلايا كاتب حضرةِ الخِلافة قال: كنتُ إذا كتبت عن رئيس الرؤساء كتابًا تحفّظْتُ وتحرّزْت واجتهدتُ، وما أكاد أسلمُ من نقده، ومأخذه وردّه. وقد صِرْتُ إذا كتبتُ كتابا عن ابن جَهير فإني أسترسِلُ فيه ولا أراعي شيئا من ألفاظه ومعانيه، فإذا عرضتُه عليه أخذَه ورزَنَه بيدِه، فإن وجدَه ثقيلًا كبيرًا قال: يا بني، باركَ اللهُ فيك، هذا كتابٌ حسَنٌ قد بجّلْتَه فيه وعظّمتَه. وإن استصغَر حجمَه، واستقلّ سطورَه ورقمَه نظر إليّ شزْرًا وقال: لعلّك غيرُ راضٍ، أو أنّ هذا لعدم البياض؟ وأنشد ابن الهَبّارية لنفسه:
فقُلْ لوزيرٍ نقْدُهُ لكتابِه ... بأوْراقِه وزْنًا وعدِّ سُطورِه
لعلّ زمانًا قد شكَوْنا وزيرَهُ ... يُعيدُ علينا اليومَ مثلَ وزيرِه
فانظُرْ كم بينَ فخرِ المُلْكِ وهمّته، وبين ابن جَهير وعاميّته وصَنعتِه.
وكان بشرُ بنُ أبي خازمٍ الأسديّ قد هَجا أوسَ بنَ حارثة المَلك ظلمًا، حمَلَه على هجائه بنو بدرٍ الفَزاريّون. ثم إن بِشْرًا غَزا طيّئًا في خيلٍ من قومه، فأغار على بني نبهان فجُرح فأُثخِنَ وهو يومئذ يحمي أصحابَه، فأسرَه بنو نبهان وخبّؤوه كراهيةَ أن يبلغَ خبرُه أوسًا. وسمعَ أوسٌ أنه عندهم فراسلَهُم في تسليمه إليه فكتموه، فآلى أن يدفعوه إليه، وكانوا يخافون أن يقتُلَه، فلما أبَوْا أعطاهم مائتي بعير، فدفعوهُ الى رُسلهِ، فقال له بعضُهم وهو مشدودٌ على بعير: يا بِشْر غنِّنا، فكأن قد تغنّى الناسُ بما يصنَعُ بك أوس، فبَيْنا هم يتهدّدونَه إذ زجَر الطيرَ والوحشَ فرأى ما يحبّ فقال:
أمَا ترى الطيرَ الى جنب النَّعَمْ ... والعيرَ والعانةَ في وادي سَلَمْ
سَلامةٌ ونِعمةٌ من النِّعَمْ
فأجاب بعضُ الرُسُل:
1 / 63