فتىً لا يعُدُّ الزّادَ إلا من التُقى ... ولا المالَ إلا من قَنا وسيوفِ
ولا الخيلَ إلا كلَّ جرداءَ شَطْبةٍ ... وكلَّ حِصانٍ باليدينِ عَسوفِ
ثم رجعَتْ الى خِبائها تنوحُ وتندبُ أخاها مع نسائِها.
وأقول: لله دَرُّ ثلاثة أبيات حملَتِ الرجلَ على قتلِ ابن عمه، وقطع رحمِه، ولو كان الكلامُ الذي في الشعرِ منثورًا لما هزّه، ولا حملَ من أجلِه بزَّهُ، ولا قتلَ ابنَ عمِه ولا ابتزّه، والله يعفو عن المذنبين.
وقال يحيى بنُ خالد: سألني رجلٌ من بني أمية أنْ أوصلَهُ الى الرشيد، فقلتُ له: إنّ أميرض المؤمنين منحرِفٌ عن كل منتسِبٍ الى أميّة، وحنَقُه عليهم وسوءُ اعتقادِه فيهم مشهور، فإنْ كانت لك حاجةٌ غيرُ هذه فأنا أقضيها لك، فأبى إلا إيصالَه إليه. فعرّفتُ الرشيدَ ما كان من التماسه وجوابي له، فأمر بإحضاره، فلمْ أرْتَبْ أن يُمْسي مقْتولًا، فلما مثُل بين يديه أنشده:
يا أمينَ اللهِ إني قائِلٌ ... قولَ ذي عقْلٍ ودينٍ وأدَبْ
لكُمُ الفضلُ عليْنا ولنا ... بكُمُ الفضلُ علي كلِّ العرَبْ
عبدُ شمسٍ كان يتلو هاشِمً ... وهم بعْدُ لأمٍ ولأبْ
فصِلوا الأرحامَ منّا إنّما ... عبدُ شمسٍ عمُّ عبدِ المطّلِبْ
فقال له الرشيد: صدَقْتَ، متأثرًا بقوله، وقد عمِلَ الشعرُ في نفسه، وأمرَ له بأربعين ألف درهَم. قال يحيى: ولولا الأبياتُ لأمرَ بأخذ رأسه.
وحكى مروان بن أبي حَفْصة قال: خرجتُ أريدُ معنَ بنَ زائدة، فضمّني الطريقُ وأعرابيًا فقلت له: أين تريد؟ قال: هذا الملك الشَيباني، قلت: فما أهدَيْتَ إليه؟ قال: بيتين، قلت: فقط! قال: إني قد جمَعْتُ فيهما ما يسرُّه، فقلت: هاتهما، فأنشدني:
معْنُ بنُ زائدةَ الذي زيدَتْ به ... شرَفًا على شرَفٍ بنو شَيْبانِ
إنْ عُدّ أيامُ الفَعالِ فإنّما ... يوْماهُ يومُ ندىً ويومُ طِعانِ
قال: ولي قصيدةٌ قد حُكْتُها بهذا الوزن، فقلتُ: يا هذا، تأتي رجلًا قد كثُرَتْ غاشيتُه وكثُرَ الشُعراءُ ببابِه، فمتى تصِلُ إليه؟ قال: فقُلْ، قلت: تأخذُ مني بعضَ ما أمّلت بهذين البيتين وتنصرفُ الى رحلِك، قال: فكم تبذل؟ قلت: خمسينَ دِرهَمًا، قال ما كنتُ فاعِلًا ولا بالضِّعْفِ، قال: فلم أزَلْ أرْفُقُ بهِ حتى بذلتُ له مائةً وعشرين دِرهمًا فأخذَها وانصرف. فقلت: إني أصْدُقُكَ، قال: والصّدقُ بك أحسنُ، قلتُ إني حكتُ قافيةً توازنُ هذا الشعر وإني أريد أن أضمّ هذين البيتين إليها، قال: سبحان الله، قد علِمُت ولقد خِفْتَ أمرًا لا يبلغُكَ أبدًا. فأتيتُ معنَ بنَ زائدة وجعلتُ البيتين في وسطِ الشعر وأنشدتُهُ فأصغى نحوي، فوالله ما هو إلا أن بلغْتُ البيتين فسمِعَهما فما تمالكَ أن خرّ عن فُرُشِهِ حتى لصِقَ بالأرض ثم قال: أعِدِ البيتين، فأعدتُهما، فنادى: يا غُلامُ، ائتِني بكيسٍ فيه ألفُ دينار، فما كان إلا لفظُهُ وكيسُه، فقال: صُبَّها على رأسه، ثم قال: هاتِ عشرينَ ثوبًا من خاصِّ كُسْوَتي، ودابّتي الكذا وبغلي الكذا، فانصرفتُ بحباءِ الأعرابي لا حِباء معن.
ولمّا مدح أبو تمام الطائيُّ أحمدَ ولدَ المُعتصمِ بكلمتهِ التي أولها:
ما في وقوفِكَ ساعةً من باسِ ... تقضي ذِمامَ الأربُعِ الأدْراسِ
فلما وصل الى قوله:
إقدامُ عَمروِ في سَماحة حاتِمٍ ... في حِلْمِ أحْنَفَ في ذَكاءِ إياسِ
قال له بعضُ الحاضرين، وهو يعقوبُ الكِنديّ: كيفَ تُشبِّهُ ولد أمير المؤمنين بأعرابٍ أجلافٍ وهو أشرفُ منزلةً وأعظمُ محلّةً؟ فانقطع وأطرقَ ثم رفع رأسَهُ وأنشدَ مُرتَجِلًا:
لا تُنكِروا ضَرْبي لهُ مَنْ دونَه ... مثَلًا شَرودًا في النّدى والباسِ
فاللهُ قد ضربَ الأقلَّ لنورِه ... مثَلًا من المِشكاةِ والنِّبْراسِ
فاهتز لذلك طرَبًا وبُهِتَ له متعجِّبًا ووقّعَ له بالموصِل إجازةً.
1 / 60