بكى، ولعله لم يبْكِ عندَ حلول النوائبِ وقراعِ المصائب، ولو عاينَ الموتَ في الحروب، ومُنازلةَ الأبطال عند الكروب.
وقيل: إنّ المنصور مرّ بقَبْرِ الوليد بن عُقبَة بن أبي مُعَيْط فأكثرَ من لعنتهِ وقال: هو أوّلُ من شبّ الحربَ بينَ بني عبدِ مناف بقوله:
بني هاشمٍ رُدّوا ثيابَ ابن أُختِكُم ... ولا تَنْهَبوه، لا تحِلُّ مناهِبُهْ
بني هاشمٍ كيفَ الهوادةُ بيننا ... وعندَ عليٍّ دِرْعُهُ ونجائِبُهْ
همُ قتلوهُ كي يكونوا مكانَه ... كما غدرَتْ يومًا بكِسْرى مرازِبُهْ
ولم يكن معاوية بالذي يحدِّث نفسَه بخلاف عليّ ﵁ ولا يهُمّ بمنازعتِه ولا يُدانيه في مَفْخَرٍ الى أن كاتبَه هذا، وأشر بيده الى قبر الوليد بن عُقبة، بقوله:
ألا أبلِغْ معاويةَ بنَ حرْبٍ ... فإنّك من أخي ثِقَةٍ مُليمُ
قطعتَ الدهر كالسّدمِ المعنّى ... تهدّرُ في دمشقَ وما تريمُ
وإنّك في الكتابِ الى عليٍّ ... كدابغةٍ وقد حلِمَ الأديمُ
فلو كُنتَ القتيلَ وكان حيًّا ... لشمّر، لا ألَفُّ ولا سَؤومُ
فهزّه بهذا الشعر وحرّكَه، وهيّجَه به وهجْهَجه، الى أن شمّر عن ساقِه، وصرّح بعد نِفاقِه. هذا آخرُ كلام المنصور.
وروى جماعة من الشيعة أن عليًا ﵁ لم يطالَب بدمِ عثمان، مع براءتِه منه، وقوله: والله ما قتلتُ عثمانَ ولا مالأتُ على قتله، إلا بتحريضِ حسّان بن ثابت وقوله:
يا ليتَ شِعري وليْتَ الطيرَ تُخبرُني ... ما كان بينَ عليٍّ وابنِ عفّانا
لتسمَعَنّ وشيكًا في ديارِهمُ ... اللهُ أكبرُ يا ثاراتِ عُثمانا
وقيل: كان سبب خروج ابن الأشعث على عبد الملك بن مروان قول الشاعر:
أفي الله أمّا بحْدَلٌ وابنُ بحدَلٍ ... فيَحْيا وأمّا ابنُ الزُبَيْرِ فيُقتَلُ
فقال لا والله وطلبَ دمَ آلِ الزبير وكان منه ما كان.
ومن طريف ما وقفتُ عليه من تأثير الشعر ما حدّثني به بعضُ المشايخ، يرفَعُه الى يَعْلى بن محمد الأعرج، قال الراوي عنه: حدّثنا إملاءً من حفظِه في يوم الأربعاء رابع عشر من ذي القعدة من سنة أربعين وخمسمائة، قال: لمّا خرجَ الوليد بن طريفٍ الشاري الشّيباني وعاثَ في نواحي العراق، أرجفَ أهل بغداد به، وتحدّث الناسُ فأكثروا ولم يكن له كُفؤٌ في ردّ شعبِه وسدِّ خلَلِه إلا ابنُ عمِهِ وهو يزيد بن مَزيد الشّيباني ابن أخي أبيهِ بغير فصلٍ، فاستحضَره وزيرُ الخلافة وأنشدَه على عادةِ العرب يُنخّيهِ، ويستَنْصِرُ به، فكان ما أنشده:
إذا دُعيت فما تُدْعى لهَيّنةٍ ... إلا لمُعضِلَةٍ توفي على العُضَلِ
إنّ الخلافةَ مُرساةٌ الى جبلٍ ... وأنتَ وابنُكَ رُكنا ذلك الجبلِ
إفخَرْ فما لك في شَيبان من مثلٍ ... كذاك ما لبَني شَيْبانَ من مثَلِ
وشرعَ الوزيرُ في كلام يرغِّبُه فيه، ويعِدُه، بما يكون في مطاويه، فقال له يزيد: كُفَّ يا مولانا فقد كفَيْتَ وكُفيتَ، ونهض وقد حرّكه الشرُ وهزّه طربً يجرّ أذيالَه، وبرزَ في جماعته لوقته الى قتال الوليد، فلقِيَه ووقع الطِرادُ، وارتفع العَجاج، فنصره الله على الوليد فتقله، بعد ما كان الوليد يكُرّ على الخيل ويردّ هواديها على أعجازِها ويرفع عقيرتَه ويُنادي:
أنا الوليدُ بن طريفِ الشّاري ... قَسْوَرَةٌ لا يُصْطَلى بناري
جَوركُمُ أخرَجَني من داري
ولمّا وقع الى الأرض ركبتْ أختُه ولبسَت دِرْعَها وخرجت مُبارزةً، فنظر إليها يزيد قاتِلُ أخيها وابنُ عمّها فناداها: يا هناةُ ألْقي الرُمحَ من يدكِ وارجعي الى خِبائِكِ، هتَكْتِ الحرائرَ، ليس هذا بمقامٍ للنساء، فركزَتْ رمحها في الأرض وأسندَتْ رأسَها إليه واستعْبَرَتْ، وأنشدت ترثي أخاها:
لئِنْ كان أرداهُ يزيدُ بنُ مَزْيدٍ ... فرُبَّ زَحوفٍ يُبْتَلى بزَحوفِ
أيا شجرَ الخابور مالكَ مورِقًا ... كأنّك لم تحزَنْ على ابنِ طريفِ
فقدْناهُ فِقْدانَ الربيعِ فلَيتَنا ... فديْناه من دَهْمائِنا بألوفِ
1 / 59