وشَكا إليه الناسُ الجدْبَ فاستسْقى لهم فسُقُوا، فلما كان الجُمُعَة الثانية جاءَهُ رجلٌ يسعى فقال: يا رسول الله تهدّمتِ الدورُ وسقطَتِ الجُدُر، فتبسّم ﷺ ضاحكًا من قوله، وقال: أيُّكُم يروي كلمَةَ عمي أبي طالب؟ فقام أبو بكر فقال: أنا يا رسولَ الله، قال: أنشِدْ، فأنشده:
كذَبْتُمْ وبيتِ اللهِ يُبْزَى محمّدٌ ... ولمّا نُصرَّعْ حولَهُ ونُقاتلُ
فلما انتهى الى قوله:
وأبيضَ يُسْتَسْقى الغَمامُ بوجهه ... غياثُ اليَتامى عِصمَةٌ للأرامِلِ
فرحَ رسولُ الله ﷺ وتهلّل وجهُه. ولما قتلَ هشامُ بنُ الوليد بن المغيرة أبا أُزَيْهِر الدَّوْسيّ بذي المجاز، وكانت في هشام عجَلَة، اجتمعَ الناسُ وتهيّئوا للقِتال، فجاء أبو سفيان فقال: ما أسرعَ الناس الى دماء هذا الحيِّ من قُريش! وقال لأصحابه: لا تَشاغَلوا بالحرب بينكم عن حربِ محمدٍ، يريدُ النبي ﷺ، وقال رسولُ الله لحسان بن ثابت: حرِّض أبا سفيان في دَمِ أبي أُزَيْهِر، فقال حسّانُ من أبيات:
كساكَ هشامُ بنُ الوليدِ ثيابَه ... فأبْلِ وأخْلِفْ مثلَها جُدُدًا بعْدُ
قَضى وطَرًا منه فأصبحَ ماجدًا ... وأصبحْتَ رِخْوًا ما تَخُبُّ وما تغدو
فما منعَ العَيْرُ الضّروطُ ذمارَهُ ... وما منَعتْ مَخْزاةَ والدِها هِنْدُ
فلوْ أنّ أشياخًا ببَدْرٍ تشاهدوا ... لَبلّ نِعالَ القومِ معْتَبَطٌ ورْدُ
وإنما أراد ﷺ أن ينْتَخيَ أبو سفيان ويهزَّهُ الشعرُ على عادةِ العرب فيتَشاغل عن حربه بحرْبِ بني مخزوم ويقع الخلافُ بينهم فيقْوى أمرُه ﷺ ويَضْعَفون عنه في عادة العرب في الحَميّة. ألا ترى أن جسّاسَ بنَ مُرّة قتلَ كُلَيْبَ وائِلٍ في غِرّةٍ بناقةِ جارِ خالتِه لأبياتٍ قالتْها وهي:
لعَمرُ أبي لو كُنتُ في دارِ مِنْقرٍ ... لما ضِيمَ سعْدٌ وهْو جارُ أُبَيّاتي
ولكنني أصبحتُ في دار غُربةٍ ... متى يغْدُ فيها الذّئْبُ يغْدُ على شاتي
فَيا سعْدُ لا يغْرُرْكَ قوميَ وارتحِلْ ... فإنّك في حيٍّ عن الجارِ أمواتِ
ودونَك أذوادي فسُقْها فإنني ... لَخائِفَةٌ أن يغْدِروا ببُنَيّاتي
فلما سمع جسّاسٌ الأبيات حرّكتْه وهزّتْه وأغضبتْهُ وقال أقلّي عليكِ أيتها العجوزُ فلأقْتُلنّ بناقةِ جارِكِ أعظمَ فحلٍ للعرب، فظنّتْه يقتلُ بعض إبل كُلَيْب، فخرجَ من وقته فطعنَ كُلَيْبًا فقتلَه. ولكنّ أبا سُفيان لما سمعَ أبياتَ حسّان، وكان خبيثًا ترك حربَ مخزوم خوفًا مما حسبَه النبيُّ ﷺ وحاولهُ.
وقالت صفيّة بنتُ عبد المطّلب تحضُّ أبا سفيان على أخذِ ثأرِ أبي أُزَيْهِر من بني مخْزوم، وتعرِّضُ له بالنار التي أوقِدَتْ له بالغدرِ، وذلك أن العرب كانت إذا غدَر الرجلُ أوقَدُوا له نارًا على جبل، وقيل: هذه غَدْرَة فلان، فلمّا قُتِلَ أبو أُزيهر وهو صِهْر أبي سُفيان فلم يأخُذ بثأرهِ أوقِدتْ النار على أبي قُبَيْس بالموسِمِ وقيل: هذه غَدْرة أبي سفيان، وهي أبياتٌ منها:
ألا أبْلِغْ بني عمّي رَسولًا ... ففيم الكيْدُ فينا والأمارُ
وسائِلْ في جُموعِ بني عليٍّ ... إذا كثُرَ التّناشُدُ والفَخارُ
تُريدُ بني عليّ بن بكر بن كِنانة، منها:
ونحنُ الغافرون إذا قَدِرْنا ... وفينا عندَ غدْوَتِنا انتصارُ
ولم نبدأْ لذي رَحِمٍ عُقوقًا ... ولمْ تُوقَدْ لنا بالغَدْرِ نارُ
فلم يحرِّكْهُ ذلك لِما كان في نفسه من حرْبِ رسول الله ﷺ.
ورُوي أنّ معاوية قال لعُروة بنِ الزُبير: أتنشد قولَ جدَّتِك صفيّة:
خالَجْتُ آبادَ الدّهورِ عليكُمُ ... وأسماءُ لم تشْعُرْ بذلِكَ أيِّمُ
فلو كان زيرًا مُشرِكًا لعذَرْتُه ... ولكنّه قد يزْعُمُ الناسُ مُسْلِمُ
1 / 56