كأنّما مِلآنَ لم يتغيَّرا ... وقد مرّ للدارَيْنِ منْ بعدِنا عصْرُ
أراد: من الآن، فحذف. وكذلك حذف النجاشيّ النون من لكن لالتقاء الساكنين فقال:
ولستُ بآتيه ولا أستطيعُهُ ... ولاكِ اسْقِني إنْ كان ماؤكَ ذا فضْلِ
وإنّما حذَفوا هذه النون تشبيهًا بالياء المحذوفة للتخفيف في لا أدرِ وقوله تعالى: (ذلكَ ما كنا نبْغِ) لمضارعتِها حروفَ المدِّ واللين، وقال الراجز:
لم يكُ شيءٌ يا إلهي قَبْلَكا
فأمّا قول المُتنبي:
جلَلًا كما بي فلْيَكُ التبريحُ
وقد ذكرنا شرْحَ هذا البيت في الرسالة العلوية، واستوفينا أقسام ما فيه من العُيوب، وإنما نذكر هاهنا وجهَ قُبح حذْفِ النون من فليكن ووجه العُذْرِ له وإنْ كان ضعيفًا. قال أبو الفتح: وليس حذفُ النون من يكن وهي ساكنة قد ضارعَتْ في المخرج والزيادة والسّكونِ والغُنّة حروفَ المدِّ فحُذِفَتْ كما يُحْذَفْنَ، وهي في فليكن التبريح قويّةٌ بالحركةِ، وكان ينبغي ألا يحذفَها انقضى كلامُه. ومعنى هذا القول أنها لو لم تُحذَفْ وجبَتْ حركتُها لسكونها وسكونِ التاء المبدلة من لام التعريف، وإنما حُذِفَت في نحو (وإنْ يكُ كاذِبًا فعليهِ كذِبُه) وفي قول الراجز:
لم يكُ شيءٌ يا إلهي قبْلَكا
لمضارعتِها حُروفَ المدِّ واللين والسّكون والغُنّة، فحذَفوها تشبيهًا بالياء المحذوفة للتخفيف في لا أدرِ و(ذلك ما كنا نبغ) و(يومَ يأتِ لا تكلَّمُ نفسٌ) فإذا زال السكون الذي يوجِب شَبَهها بحروف المدّ وجبَ ثباتُها كقوله تعالى: (لم يكنِ اللهُ ليغفرَ لهم) وقبُح حذفُ النون من فليَكُن من جهة أخرى وهو أنه حذَفَ النون مع الإدغام وهذا لا يُعرَف، لأنّ من قال في بني الحارث: بَلْحارِث، لم يقلْ في بني النجار: بنّجّار. ووجهُ العُذرِ عن المتنبي أن يقال: أما صواب الكلام فإثباتُ النون متحركةً، ولكنّ ضرورة الشعر دعَتْه الى ذلك. وقد حكى أبو زيد في النوادِر عن العرب مثل هذه الضرورة فيما أنشدَه لحُسَيْل بن عُرْفُطَة، قال:
لم يكُ الحقُّ على أن هاجَهُ ... رسْمُ دارٍ قد تعفّى بالسَرَرْ
غيّر الجِدّةَ من عِرفانها ... خُرُقُ الريحِ وطوفانُ المطرْ
وقد حذف النجاشيّ نون لكنْ الخفيفة وهي في موضع حركة في قوله:
فلسْتُ بأتيهِ ولا أستطيعُه ... ولاكِ اسْقِني إنْ كان ماؤكَ ذا فضلِ
وإذا كانت لكن وأصلُها لكنّ قد سوّغت الضرورةُ حذفَ نونها بعد حذف النون الأخرى، فحذفُ النون من قوله: فليَكُ التبريح مُسامَحٌ فيه للضرورة. وأما حذفُها مع الإدغام فإننا نحكُمُ بأنه حذفَ النون من فليكن لغيرِ التقاء الساكنين بل، كما حذِفَت في قول القطامي:
ولا يكُ موقفٌ منكِ الوَداعا
وأدخلَ الساكن المُدْغَم بعدَ حذفِها. ومثلُه في الرجزِ القديم:
ومن يكُ الدّهرُ له بالمَرصَدِ
فهذا وجه اجتهاد من يُحاوِل الاعتذار له، وعليه نقْضٌ يُدحِضُ حُجّتَه ويطمِسُ مَحجَّته، وليس هذا موضع الكلام فيه. والأصل أنّ أبا الطيّب أخطأ في ذلك وسلك منه ما ليس للمولّد سلوه، والواجب أن يُتجنَّبَ ما سلكَه من هذه الضرورة.
ويجوز حذفُ الياء من الأيدي والنواحي ومن هي للضرورة. وقال الشاعر:
دارٌ لسُعْدى إذهِ من هَواكا
فحذفَ الياءَ من هي لأنّه أرادَ: إذْ هيَ من هَواكا.
وقال الشعر:
وطِرتُ بمُنْصُلي في يَعْمَلاتٍ ... دوامي الأيْدِ يخبطنَ السّريحا
فحذفَ الياءَ من الأيدي، كقول الآخر:
كنَواحِ ريشِ حمامةٍ نجْديّةٍ ... ومسَحْتَ باللّثَتَيْن عصْفَ الإثْمِدِ
فأسقط الياءَ من نواحي، ومثلُه:
كفّاكَ كفٌّ لا تليقُ دِرهما ... جودًا وأخرى تُعْطِ بالسّيفِ الدَّما
يريد: تعطي، فحذف الياء، وعليه بيتُ الكتاب:
وأخو الغوانِ متى يشأْ يصْرِمْنَهُ
وقد حذفت الواو مع الضمّ كقول الشعر:
إنّ الفقيرَ بيننا قاضٍ حكَمْ ... أنْ نرِدَ الماءَ إذا غابَ النُجُمْ
يريدُ النجومَ فحذفَ الواو واكتفى بالضمة. وقوله:
حتى إذا بُلَّتْ حلاقيمُ الحُلُقْ
يريد الحُلُوق، وقال الأخطل:
1 / 47