ونُبِّئْتُهُمْ يسْتَنْصِرون بكاهِلٍ ... وللُّؤمِ فيهم كاهِلٌ وسَنامُ
فقولُه بكاهل: يعني القبيلة، وقولُه كاهل للعُضْوِ هو المطابقة عندهم. وقال: هذا هو التجنيس. وقال: من ادّعى أنه طِباقٌ فقد خالفَ الأصمعيَّ والخليل. فقيلَ له: أفكانا يعرفان هذا؟ فقال: سُبحان الله وهل مثلهما في عِلْمِ الشعرِ وتمييز خَبيثه من طيّبِهِ!. وقد أدخلَ قومٌ في الطباقِ نوْعًا من التقسيم، كقوْلِ كعبِ بن سعد:
لقدْ كان أمَّا حِلْمُهُ فمُرَوَّحٌ ... عليْنا وأمّا جهْلُه فعَزيبُ
لما رأوا ذكرَ الحِلم والجهلِ، ومروّح وعزيب، جعلوه في المطابق ولم يكن ببعيد منه، ولكنّه الى باب التقسيم أقرب. وقال الأصمعي: أصلُ الطِّباق أنْ يضعَ الفرَسُ رجلَهُ في موضِعِ يدِه وأنشد:
وخيْلٍ يُطابِقْنَ بالدارعي ... نَ طباقَ الكلابِ يطأنَ الهَراسا
وقال الخليل: طابقتُ بين الشيئين إذا جمعَهُما على حَذْوٍ واحدٍ وألصقَهُما. وأقول: إنّ الطِّباقَ من أحسَن محاسِن البديع؛ وهو أن يأتي الشاعر في البيت بالشيء وضدِّه. قال عبد الله بن الزبير الأسَدي:
رمَى الحدَثانُ نِسوَةَ آلِ حرْبٍ ... بمِقْدارٍ سمَدْنَ له سُمودا
فردّ شُعورَهُنّ السّودَ بِيضًا ... وردّ وجوهَهُنّ البيضَ سُودا
وقال زُهير:
ليثٌ بعَثَّرَ يصطادُ الرجالَ إذا ... ما اللّيثُ كذّبَ عن أقرانِه صَدَقا
وقال الفرزدق:
لعنَ الإلهُ بني كُلَيْبٍ إنّهمْ ... لا يغْدِرونَ ولا يَفونَ لِجارِ
يَستَيقِظونَ الى نُهاقِ حَميرِهِمْ ... وتنامُ أعينُهُمْ عنِ الأوْتارِ
أخذَهُ الفرزدق من قول ثُمامة الذُهلي:
قوْمٌ تنامُ عن الأوتارِ أعينُهمْ ... ولا تُنوَّمُ نوْكاهُمْ عن السَّرَقِ
وقال عمرو بن كلثوم:
بأنّا نورِدُ الرّاياتِ بِيضًا ... ونُصْدِرُهُنّ حُمْرًا قد رَوينا
لو قال عمرو:
منَ الأسَلِ الظِّماءِ يرِدْنَ بيضًا ... ونُصْدِرُهُنّ حُمْرًا قد رَوينا
لكان مُجيدًا مُبدعًا في الطِباق بينَ الإيراد والإصدار، والبَياض والحُمْرةِ، والظِّماء والرِّيّ. وقد أخذ أبو الشّيصِ معنى بيت عمرو فتمّمَ منهُ ما نقصَ وقال:
فأوْرَدَها بِيضًا ظِماءً صُدورُها ... وأصْدرَها بالرِّيِّ ألوانُها حُمْرُ
فصار أخذهُ مُسْتَحْسَنًا بكمالِ معناهُ وزيادةٍ بالجناسِ في: صُدورِها وأصدرَه. وقال الغطَمّشُ الضَبّيّ:
إذا نحنُ سِرْنا بينَ شَرْقٍ ومَغْرِبٍ ... تحرّكَ يقْظانُ الترابِ ونائِمُهْ
وقال الكُمَيت بن زيد:
وأرى الشَيْبَ والشَبابَ رِدائَي ... نِ مصونًا وبِذْلَةً مَنْشورا
الشّيْبُ والشبابُ، والمَصونُ والمبتذلُ تطبيقٌ، وفيه استعارةٌ واحدة. وقال أبو صخْر الهُذَليّ:
أمَا والذي أبْكى وأضحكَ والذي ... أماتَ وأحْيى والذي أمْرُهُ الأمْرُ
وقال أوسُ بنُ مَغْراء:
فأخلَقَ حبْلُ الوُدِّ بيني وبينَها ... وكلُّ جديدٍ سوفَ يُصبِحُ بالِيا
وقال أبو دَهْبَل:
وصارَتْ قناةُ الدّينِ في كفِّ ظالِمٍ ... إذا اعْوَجّ منها جانِبٌ لا يُقيمُها
فيه طِباقٌ واستعارَةٌ حسَنة. وقال أبو جِلْدة اليَشْكُري:
إذا عدَلَتْ بالصّرْمِ والوَصْلِ عاقَها ... عن الصّرْمِ ميزانٌ من الحُبِّ راجِحُ
فيه طِباقٌ واستعارة. ولمّا جعلَ للحُبِّ ميزانًا جعلَ القرينةَ لفظيةً، وهي قوله راجِح. وهذا القِسم واسعٌ كثيرٌ يدلُّ عليه القليلُ اليَسير. ومنها:
باب التصدير
ويُلَقِّبُه قومٌ: ردَّ إعجازِ الكلامِ على صُدورِه، وهو أن يَبْتَدئ الشاعرُ بكلمة في البيت ثم يُعيدَها في عَجْزِه، أو نِصْفِه ثم يرُدّها في النصفِ الأخير. وإذا نُظِمَ الشعرُ على هذه الصّفةِ، تيسّرَ استخراجُ قوافيه قبلَ أن تطرُقَ أسماعَ مُسْتَمعيه. قال الأصمعي: من حسَنِ التصدير قولُ عامر بن الطُّفَيْل، وكذا قال جماعةٌ من نُقّاد الشِعر:
فكنتَ سَنامًا في فَزارَةَ تامكًا ... وفي كلِّ حيٍّ ذِرْوَةٌ وسَنامُ
وقال قومٌ: بل من جيّدِ التصدير قول جرير:
1 / 18