يا سَرْحَةَ الماءِ قد سُدّتْ موارِدُهُ ... أمَا إليكِ طريقٌ غيرُ مَسدودِ
لِحائِمٍ حامَ حتى لا حِيامَ به ... مُحلأٍ عن طريقِ الماءِ مطرودِ
فقال الأصمعي: أحسنتَ في الشعر غير أنّ هذه الحاءات لو اجتمعت في آيةِ الكُرسيّ لعابَتْها. وروَيْنا عن بعض المشايخِ أنه كان يقول: مثَلُ التجنيسِ في البيت الخالُ الواحدُ في الخدِّ، فإذا كثُرَ انتقلَ من الاستحسان الى الاستقباح، وربّما طَمَسَ محاسِنَ الوجْهِ. وفي بيت الطائيّ صنعةٌ جيدةٌ وهي ردُّ عروضِهِ على صدرِهِ.
والتجنس ينقسم الى أقسام، فمنه: أ - التجنيس المَحْض. ومعنى المَحْض الخالِصُ وكأنّه من أصل واحدٍ في مسموعِ حروفِه، وسُمّي اللبنُ الحليبُ مَحْضًا لأنه لم يخالِطْهُ الماءُ.
قال أبو حيّةَ البَجَليّ:
يُعِدُّها للعِدَى فتيانُ عادِيةٍ ... وكلُّ كَهْلٍ رَحيبِ الباعِ صِهْميمِ
قولُه: العدى وعادية تجنيسٌ محضٌ، وقولُه: يُعدُّها للعدى تجنيس مُشابِه. والصِّهميمُ الذي لا يُثنى عن مُرادِه. وقال مِسْكينُ بن نضر البَجَلي:
وشُبِّهَ موضِعُ الأحْلاسِ منها ... صَفاةَ مُعَبَّدٍ جدَدِ الصَّفاءِ
الصفاةُ الصخرةُ الملساءُ، والصفاءُ الطريقُ الواضحُ. وقال أيضًا:
فقلتُ له طالَ الوقوفُ وسامَحَتْ ... قَرونَةُ من قارَنْتَ والظِّلُّ آلِفُ
وإنْ لَقِيَ النَّعْماءَ لاقَتْ بساكِنٍ ... كريمٍ وزَوْلٍ إن ألمّ الجوارِفُ
وقال الفرزدَق:
وإنّ تميمًا لمْ تكُنْ أمُّهُ ابتغَتْ ... لهُ صِحّةً في مهدِهِ بالتّمائِمِ
وقال عنترة:
كأنّها يومَ صدّتْ ما تُكَلِّمُنا ... ظَبْيٌ بعُسفانَ ساجي الطَّرْفِ مَطروفُ
وقال سُدَيْف:
بالصدورِ المُقَدَّماتِ قديمًا ... والرؤوسِ القَماقِمِ الرُّؤاس
دَعَموا الدينَ بالطِّعانِ فأضْحى ... واضحَ النّهْجِ بعدَ ميلِ الأواسي
وقال يزيد بن جدعاء:
وهم صَبَّحوا أخرى ضِرارًا ورهْطَهُ ... وهُمْ تَرَكوا المأمومَ وهوَ أميمُ
المأموم الذي يهذي من أمّ رأسه، والأميمُ حجر يُشْدخ به الرأس. وقال يزيدُ بن عبدِ المَدانِ الحارثيّ:
أحالَفْتُمُ جَرْمًا علينا ضَغينةً ... عَداوتُكم في غيرِ جُرْمٍ ولا دمِ
كفانا إليكُم حَدُّنا وحَديدُنا ... وكَفٌّ متى ما تطلبِ الوِتْرِ تَنْقَمِ
جَرْمٌ قبيلةٌ، وقولُهُ في غير جُرْمٍ أي في غير ذنْبٍ وحدّنا يعني بأسُنا مأخوذٌ من حدّ السّيفِ، وحديدُنا أي قوّتنا، وكفانا وكفّا من بابِ التجنيس المُغايرِ، وسيأتي ذكرُه.
وقال آخر:
بانَتْ رميمُ وأمْسى حبْلُها رِمَمَا ... وطاوَعَتْ بكَ من أغرى ومَنْ صَرَما
رميمُ اسمُ امرأة.
ومنه: ب - تجنيسُ اللفظِ وربما سمَّوْهُ المُطْلَق.
قال جرير:
حلأّتِ ذا سَقمٍ يَرى لشِفائِهِ ... وِرْدًا ويمْنَعُ إنْ أرادَ وُرُودا
فيه جناسٌ وطباق. وقال ذو الرُّمّة:
تَرى القِلْوةَ الحَقْباءَ منها كفارِكٍ ... تصدّى لعَينَيْها فصدّتْ حليلُها
حليلُها فاعل، تصدّى وصدّت تجنيسٌ باللفظِ مُطابق بالمعنى لأنّ التصدي خلافُ الصُّدود.
وقال الأفْوَهُ الأوْدِيّ:
وأقْطَعُ الهَوْجَلَ مُستأنِسًا ... بهَوْجَلٍ عَيْرانَةٍ عَنْتَريسِ
الهَوْجَلُ البَرّيةُ الواسعةُ، والهَوْجَلُ الناقةُ السّريعة.
وقال النابغة:
وأقْطَعُ الخَرْقَ بالخَرْقاءِ قد جعلَتْ ... بعدَ الكَلالِ تَشكّى الأيْنَ والسّأَما
وقال مِسكين الدارميّ:
وأقطعُ الخَرْقَ بالخَرْقاءِ لاهيةً ... إذا الكواكبُ كانت في الدِّجى سُرُجا
الخَرْقُ البَرِّيةُ العظيمةُ والخَرْقاءُ الناقةُ التي تتخرّقُ في الجَري.
وقال القُطاميّ:
صَريعُ غَوانٍ راقَهُنّ ورُقنَهُ ... لدُنْ شَبَّ حتى شابَ سُودُ الذّوائِبِ
فشبَّ، شابَ، تجنيسُ لفظ، وهو طِباقٌ لأنهما ضِدّانِ من الشَبابِ والشَّيْبِ. وقال عليُّ بنُ جَبَلة:
ورَدّ البِيضَ والبيضَ ... الى الأغْمادِ والحُجُبِ
1 / 11