Nafha Zakiyya
النفحة الزكية في تاريخ مصر وأخبار الدولة الإسلامية
Genres
وتشتمل على مقالتين
قد كانت مصر أولا مدة الفترة التاريخية محكومة بطائفة القسس، ثم ظهر رجل من مدينة طينة يدعى منا في نحو سنة 5626ق.ه، فتغلب على الكهنة ونزع الحكم من أيديهم، وأسس بمصر الملوكية المصرية، التي مكثت أكثر من أربعة آلاف سنة تحت حكم إحدى وثلاثين عائلة من الملوك الذين يقال لهم الفراعنة، وهم ملوك مصر القدماء. غير أن هذه المدة يتخللها بعض إغارات أجنبية كونت بعض عائلاتها، وهي إغارات الملوك الرعاة والإثيوبيين والآشوريين والعجم، ثم تغلب عليها الإسكندر الأكبر فصارت جزءا من الدولة المقدونية، وبعد موته وقعت في قبضة بطليموس أحد ملوك الطوائف فأسس فيها الدولة البطليموسية، فلم تزل في حكم اليونانيين حتى تغلب عليها الرومانيون فصارت إيالة رومانية تابعة أولا لمدينة رومة، ثم لمدينة القسطنطينية لما انقسمت الدولة الرومانية إلى دولة رومانية شرقية وإلى دولة رومانية غربية. وقبل أن نشرع في التكلم على هذه العائلات نذكر أولا وصف مصر الجغرافي وأقسامها القديمة، ومنشأ المصريين القدماء وأقسامهم، وهيئة حكومتهم وتمدنهم، ومعتقداتهم، فنقول:
المقالة الأولى
في وصف مصر الجغرافي وأقسامها القديمة، ومنشأ المصريين القدماء وأقسامهم
مصر هي واد ضيق لا يزيد عرضه عن 40 كيلومترا، يسقى بماء النيل، ويمتد من شلال أصوان إلى البحر الأبيض المتوسط على طول يبلغ 880 كيلومترا، منحصرا بين سلسلتين من الجبال الصخرية قليلتي الارتفاع، إحداهما جهة الشرق تسمى سلسلة جبال العرب، وتمتد خلفها إلى البحر الأحمر صحراء العرب، والأخرى جهة الغرب تسمى سلسة جبال ليبيا، وتوجد خلفها صحراء ليبيا التي تشتمل على خمس واحات أعظمها واحة سيوة، وهاتان السلسلتان يقل ارتفاعهما كلما اتجهتا إلى جهة الشمال حتى تنمحيا عندما تصلان إلى القاهرة، فيأخذ وادي النيل في الاتساع حينئذ، ويكون شكل مثلث كان يعرف قديما بالدلتا عند اليونانيين ، قاعدته من إسكندرية إلى بورسعيد تبلغ 250 كيلومترا تقريبا، أما نهر النيل فيجري في وسط هذا الوادي، وكان يصب قديما في البحر الأبيض المتوسط من سبعة أفرع، وأما الآن فيصب فيه من فرعين، وهما فرع رشيد وفرع دمياط.
وكانت مصر تنقسم إلى 44 قسما أو مديرية؛ اثنان وعشرون منها في الوجه البحري واثنان وعشرون في الوجه القبلي، وهذه الأقسام كانت قبل اجتماع مصر إلى مملكة واحدة عبارة عن ممالك صغيرة مستقلة تحت حكم أمراء مستقلين يتولون الإمارة بالوراثة، فلما اجتمعت مصر وصارت مملكة واحدة كونت كل مملكة من هذه الممالك الصغيرة قسما من أقسام مصر، وإنما استمر بعضها تحت حكم أمراء من بيوت العائلات الملوكية القديمة يتوارثون الإمارة كل في قسمه، ويحكمون بالتبعية لفرعون مصر؛ أي ملك الوجه القبلي والوجه البحري، وأما البعض الآخر من هذه الأقسام، فصار يحكم بحكام قابلين للعزل يعينهم الملك حسب إرادته.
وأما قدماء المصريين فينسبون إلى مصرايم بن حام بن نوح عليه السلام؛ فإن بني حام كانوا قد هاجروا من أوطانهم بآسيا عندما أخذت ذراري نوح عليه السلام في الانتشار في الأرض من بعد الطوفان، فعبروا برزخ السويس واستوطن منهم أولاد مصرايم بوادي النيل، وقد كان هؤلاء المصريون القدماء منقسمين إلى خمس طوائف، وهي طائفة القسس، وطائفة الجهادية، وطائفة الزراعين، وطائفة الصناع، وطائفة الرعاة، بحيث إن الابن كان في الغالب يحترف بحرفة أبيه، وكان أعظم هذه الطوائف شوكة واعتبارا طائفة القسس الذين مع اختصاصهم بالأمور الدينية كانت في يدهم أيضا وظائف القضاء في الحكومة، ثم طائفة الجهادية، وهكذا، وكانت جميع أراضي مصر في أيدي الملك وأيدي هاتين الطائفتين، بحيث إن بقية الأهالي كالزراعين والرعاة مثلا لم يكونوا إلا عمالا بالأجرة، وكانت حكومة مصر ملوكية مطلقة وملوكها الملقبون بالفراعنة يعتبرون اعتبار الآلهة ويزعمون أنهم من سلالتهم.
المقالة الثانية
في تمدن قدماء المصريين وبيان معتقداتهم
قد بلغ المصريون أقصى درجات التمدن من قبل الهجرة بنحو الخمسة آلاف سنة، وقد وصلوا إلى هذا التمدن من تلقاء أنفسهم لا بالأخذ عن غيرهم ، وكانوا شديدي التمسك بالديانة ويعتقدون بوحدانية الإله. غير أنهم لقبوا الإله في العبادة بألقاب مختلفة، كآمون وبتاح وأوزوريس، وميزوا كل اسم بعلامات خصوصية، وجعلوا له معابد خاصة، فتجزأت الألوهية تجزؤا كبيرا، وزال الاعتقاد بالوحدانية من عند الأمة، ولم يبق إلا عند القسس، وقد شبهوا الآلهة في مبدأ الأمر بالكواكب، ثم لم يفرقوا بينهم؛ فمثلا الإله «رع» كان رمزا للشمس، والإلهة «إيزيس» كانت رمزا للقمر، ثم جعلوا الشمس الإله الأعظم، وضموا لفظ «رع» إلى لفظ «آمون» و«بتاح» و«أوزوريس»، وقد اعتقد المصريون بتجسد الآلهة على الأرض، فعبد كل قسم من أقسام مصر الحيوان الذي يقولون إن الإله انتخبه لظهوره به مدة إقامته على الأرض، فعبدوا حينئذ التمساح والكلب والباشق (الباز) وأبا قردان والتيس والقط والنمس، وخصوصا العجل المسمى أبيس، واتخذوا لها معابد.
Unknown page