Nafha Zakiyya
النفحة الزكية في تاريخ مصر وأخبار الدولة الإسلامية
Genres
وكان طوسون باشا لم يزل بتلك الأقطار، وقد وقع على شروط بينه وبين أمير الوهابية عبد الله بن سعود من جملتها أنه يرد إلى الضريح النبوي الشريف ما سلبه الوهابية من الأسلاب، فترك طوسون باشا في المدن الكبيرة ما يلزم من العساكر المصريين المحافظين وعاد إلى مصر، فلم يلبث أمير الوهابية أن فسخ ذلك العقد، ولم يعمل بمقتضى الشروط التي عقدها على نفسه، فعزم محمد علي باشا على معاودة جهاده بالثاني، فأرسل إليه تجريدة تحت رئاسة أكبر أولاده إبراهيم باشا، فمزق هذا طائفة الوهابيين كل ممزق، ودخل تحت طاعته عدة من قبائل العرب، واستولى على عدة حصون، وأسر أمير الوهابية عبد الله بن سعود، وأرسله إلى مصر، ومنها أرسل إلى القسطنطينية، فقتل هناك، ثم عاد إبراهيم باشا إلى مصر بجميع عساكره، وقد لقبه السلطان بوالي مكة فعظم قدره وارتفعت مكانته.
ولما أنهى محمد علي باشا الحرب في بلاد العرب عزم على افتتاح السودان وإخضاع قبائل النيل الأعلى حتى تكون عساكر الأرناءوط بعيدة عنه دائما؛ ليتمكن من تدريب العساكر على النظام الجديد وإصلاح حال البلاد، فأعد لذلك حملة عسكرية قلد رئاستها لولده الثالث إسماعيل باشا، فسافر هذا القائد بتلك التجريدة إلى بلاد السودان سنة 1235ه، واستولى على جميع بلاد سنار وكردفان وفازوغلي، ولكنه فشا الوباء في عسكره فعاد إلى شندي، فمات فيها محروقا.
أما محمد علي باشا فعاد إلى تدريب الجند على النظام الجديد ؛ فأسس مدرسة عسكرية في الخانكاه، وجعل سراية مراد بيك في الجيزة مدرسة للفرسان، وأنشأ مدرسة للطوبجية، وبنى في سكندرية ترسخانة لعمارة السفن، وأسس فيها مدرسة للبحرية، ثم التفت إلى نشر الزراعة، فأدخل بمصر زراعات مختلفة أهمها زراعة القطن، وأكثر من غرس الأشجار لترطيب الجو، وأخذ في تمهيد سبل التجارة فحفر ترعة المحمودية التي توصل مياه النيل إلى الإسكندرية، لتحمل عليها التجارة من هذه المدينة وإليها، وأنشأ جملة معامل لانتشار الصناعة، وأسس مدرستي الطب والأجزاجية ومستشفيات كثيرة، ومدارس لتعليم الشبان المصريين، وقسم القطر المصري إلى مديريات على كل منها حاكم يعرف بالمدير، والمديريات إلى مراكز وأقسام على كل منها مأمور. ومن أعماله المهمة أيضا تشييد القناطر الخيرية على رأس الدلتا سنة 1251ه؛ وبالجملة فقد أخذت مصر في أيامه في نشأة أخرى، ودخلت في عصر جديد من التمدن.
وبينما كان محمد علي باشا مشتغلا بتلك الإصلاحات الداخلية، إذ أرسلت إليه الدولة العلية أن يبعث مقدارا من العساكر المصرية لإخضاع بلاد اليونان؛ حيث كان أهلها أقاموا على الدولة راية العصيان، فأعد محمد علي باشا تلك الحملة تحت رئاسة إبراهيم باشا، وسافرت من مصر سنة 1239ه، فاستتبت الراحة في كريد واضمحلت المورة وإن لم تخضع كلية.
وكانت الدولة العلية قد وعدت محمد علي باشا بأن تقلده بولاية البلاد اليونانية التي يعيدها لطاعة الدولة العثمانية. غير أنها لم تعطه إلا ولاية كندية أي كريد فقط، فتطلع لأخذ ولاية الشام بدل المورة التي التزم ولده إبراهيم باشا بتسليمها، ولم يلبث أيضا أن حصل الخلاف بينه وبين عبد الله باشا والي عكا؛ وذلك أنه لما عصى عبد الله باشا على الدولة العلية، وتوسط محمد علي باشا في العفو عنه وعوده إلى منصب الولاية، كان قد التزم بدفع مبلغ ستين ألف كيسة تقدمة لخزينة الدولة العثمانية، ولما لم يكن هذا المبلغ في حوزته استلف من محمد علي باشا نحو الخمس منه، فمضى عليه أكثر من عشر سنوات ولم يرده، فلما كانت حرب المورة اضطر محمد علي باشا إلى أن يطلبه لاحتياجه إلى نقود يعد بها الحملة المتوجهة إلى بلاد اليونان، فلم يكد يجيبه عبد الله باشا إلا بجواب واه جدا، وزاد على ذلك أن ساعد على تهريب البضائع من الجمارك بجهة حدود الشام من الديار المصرية، وأعان الفارين من الفلاحين المصريين على أن يتركوا أوطانهم الأصلية ويستوطنوا بالجهات الشامية، ولما عرض محمد علي باشا هذه القضية على الباب العالي أجابه بأن كلا من الشام ومصر من الولايات السلطانية بحيث يستوي لدى السلطان أن رعاياه يقيمون في أيهما شاءوا، فرأى محمد علي باشا أن يخاطب والي عكا آخر مرة بخصوص طلب رعاياه، فأجابه بجواب ممتلئ من الكبر والعظمة، فشرع حينئذ محمد علي باشا في تجهيز تجريدة إلى بلاد الشام سنة 1247ه.
وسافرت التجريدة في البر والبحر من جهة العريش والإسكندرية، وكان على الأسطول المصري إبراهيم باشا رئيس التجريدة، فنزل بيافا واجتمع بجيش البر، واستولى في أقرب وقت على غزة ويافا وحيفا، ثم سار إلى عكا وتملك عليها أيضا بعد أن حاصرها ستة أشهر برا وبحرا، وأسر فيها عبد الله باشا، وأرسله إلى الإسكندرية، ثم سار قاصدا دمشق فاستولى عليها، وبارحها إلى حمص، والتقى هناك بالجنود العثمانية التي كانت تحت قيادة محمد باشا والي طرابلس فهزمها شر هزيمة واستولى على حمص، فخافت سوريا سطوة هذا القائد العظيم، فسلمت له حلب وغيرها من مدن الشام، فبعث الباب العالي حسن باشا السرعسكر بجيش عثماني لإيقاف إبراهيم باشا، فلاقاه إبراهيم باشا عند إسكندرونة وانتصر عليه، فلما رأى السلطان محمود انهزام العساكر العثمانية أرسل السرعسكر محمد رشيد باشا بجيش عرمرم، فلما علم إبراهيم باشا بهذا الخبر قام بجيوشه من أدنة وقصد مضايق الطوروس، فدخل في سهول الأناضول وعسكر بجيشه في قونية منتظرا قدوم السرعسكر، فلما قدم هذا بجيشه الجرار اقتتل الجيشان فانهزم العثمانيون، ووقع السرعسكر أسيرا في قبضة إبراهيم باشا، ثم سار إبراهيم باشا حتى وصل إلى كوتاهية على مقربة من القسطنطينية، ففزع حينئذ السلطان محمود وطلب المساعدة من الروسية، فأرسلت له عشرين ألفا من الروسيين، فتداخلت الدول إذ ذاك في الأمر، وعقدت مع إبراهيم باشا معاهدة كوتاهية سنة 1248 التي من مقتضاها تقليد محمد علي باشا بولاية الشام مع مصر وتقليد ولده إبراهيم باشا بولاية إيالة أدنة والحرمين الشريفين.
أما الدولة العلية فقد أسرت أنها تنتقم لنفسها من محمد علي باشا متى وجدت فرصة ذلك، فصارت تجتهد غاية الاجتهاد في إعادة النظام لقوتها العسكرية وسفنها البحرية، وأخذت تحث الشاميين على العصيان، فلما أمر محمد علي باشا بجمع العساكر من جميع شبان سكان الشام ظهرت الفتن بجميع نواحي جبل لبنان، فاجتهد إبراهيم باشا في إخمادها. غير أن الدولة العلية كانت قد وجدت المهلة الكافية لتنظيم جيوشها، فجهزت جيشا عظيما تحت قيادة السرعسكر حافظ باشا زحف به إلى الجهات الشامية، فالتقى العسكران بجهة نصيبين (وهي نزيب عند الإفرنج)، فانهزمت الجيوش العثمانية وتقهقرت إلى مرعش سنة 1255ه، واتفق أن مات السلطان محمود في ذلك الوقت وتولى مكانه على كرسي السلطنة العثمانية السلطان عبد المجيد، فتوسطت الدول الأوروباوية دفعة ثانية بين الدولة العلية والحكومة المصرية، فأنفذت إلى محمد علي باشا معاهدة لوندرة الموقع عليها من دولة الإنجليز والدولة الفرنساوية ودولة الروسية ودولتي النمسا والبروسية التي من مقتضاها أن يكون له ولاية مصر مع مزية التوارث في عائلته وولاية عكا لمدة حياته فقط، فلم يقبل بها محمد علي باشا، فحضر الأسطول الإنجليزي إلى بلاد الشام، وتملك على بعض مدنها، ثم حضر إلى مصر وتهدد الإسكندرية، فرأى محمد علي باشا أن الأولى الإذعان إلى رأي الدولة. غير أن الدولة العلية امتنعت من أن تعطيه غير ولاية مصر الوراثية؛ لما رأت من تعضيد دولة الإنجليز لها، فأصدر له السلطان المعظم سنة 1257ه فرمانا بولايته على الديار المصرية والأقطار السودانية مع حق الوراثة عليها لعائلته الخديوية، وتقرر الخراج السنوي ستين ألف كيسة، وأن لا يزيد الجيش المصري عن ثمانية عشر ألف عسكري يلبسون نفس ملابس العساكر العثمانية، وأن كل وال يتوارث الحكومة المصرية يلزمه أن يحضر إلى الآستانة العلية ليتقلد بالوظيفة من يد الذات السلطانية.
ثم استعمل محمد علي باشا مدة السنوات الأخيرة من ولايته في حسن إدارة البلاد وترتيب مصالحها الداخلية، والتفت بالخصوص لإصلاح أحوال الزراعة والتجارة والصناعة، ولكن كان ثقل الكبر قد ظهر عليه وضعفت قواه العقلية، فوكل مباشرة إدارة الأمور إلى ولده إبراهيم باشا واعتزل في سرايته حتى توفاه الله سنة 1266ه في عهد ولاية حفيده عباس باشا، فتوفي في سكندرية بسراي رأس التين، وحملت جثته إلى القاهرة فدفنت بالقلعة بمسجده الذي بناه في جزء من موضع السراي التي كانت لصلاح الدين.
ولما ضعفت قوى محمد علي باشا العقلية واعتزل بسرايته تقلد بولاية مصر مكانه من لدن الحضرة السلطانية ولده إبراهيم باشا الذي ولد له بمدينة قولة بعد زواجه بقريبة حاكم مدينة براوسطا بسنتين، فتولى إبراهيم باشا سنة 1264ه في حياة أبيه، ولكنه كانت منيته قريبة فتوفي بالقاهرة سنة ولايته بعد أن حكم بضعة أشهر، ودفن في مدفن العائلة الخديوية بجوار الإمام الشافعي.
وقد تقلد بولاية مصر مكانه ابن أخيه عباس باشا ابن طوسون باشا ابن محمد علي باشا، وكان مولده سنة 1228، وكان جده يعزه كثيرا، فاعتنى بتربيته، ولما قبض على زمام الأحكام بمصر سار على مقتضى العدل والتبصر، فحافظ على النظام واستتباب الأمن والراحة في جميع أنحاء البلاد، وسهل طرق التجارة بأن مد بين القاهرة والإسكندرية أول خط من خطوط السكك الحديدية بمصر، وأصلح الطريق بين القاهرة والسويس، وأنشأ الخطوط التلغرافية، وأسس المدارس الحربية بالعباسية، ثم توفي في سرايته ببنها العسل سنة 1270ه، ودفن بالقاهرة في مدفن العائلة الخديوية.
Unknown page