Nafha Zakiyya
النفحة الزكية في تاريخ مصر وأخبار الدولة الإسلامية
Genres
وفيه مطلبان:
المطلب الأول في الدولة الأيوبية
حكمت هذه الدولة إحدى وثمانين سنة (567-648ه)، وهي تسمى أيضا بالدولة الكردية؛ فإن أمراءها أكراد، وقد كانوا قبل مجيئهم إلى مصر من قواد الملك نور الدين ابن الأتابك عماد الدين زنكي بالشام، فلما أخذت الدولة العلوية بمصر في التلاشي في أواخر أيامها، وصار استبداد وزرائها على خلفائها هرب شاور وزير العاضد العلوي بها من ضرغام الذي نازعه في الوزارة إلى الشام ملتجئا إلى نور الدين ومستجيرا به، وطلب منه إرسال العساكر معه؛ ليعود إلى منصبه، ويكون له ثلث دخل البلاد، فجهز له نور الدين الجيوش وقدم عليها أسد الدين شيركوه وسيرها معه إلى مصر، فأعيد إلى الوزارة، فعاد عما كان وعد به نور الدين، وغدر بأسد الدين واستنصر عليه بالفرنج، فالتزم أسد الدين بالعود إلى الشام، ثم أعاده نور الدين إلى مصر مع جماعة من الأمراء منهم صلاح الدين يوسف بن أيوب لما اشتد الحال بالمصريين من مضايقة الفرنج لهم؛ حيث أرسل إليه العاضد لدين الله يستغيث به من محاصرة الفرنج للقاهرة، فلما قرب أسد الدين مصر رحل الفرنج إلى بلادهم بالشام، فوصل أسد الدين إلى القاهرة، واجتمع بالعاضد لدين الله فخلع عليه، وفرح به أهل مصر، وأخذ شاور يماطل أسد الدين في تقرير ما كان بذل لنور الدين، فخاف العسكر شره، فاتفق صلاح الدين مع بعض الجند على قتله، فقبضوا عليه وقتلوه بموافقة العاضد لهم، فدخل أسد الدين القاهرة وقلده العاضد وزارة مصر، ولقب الملك المنصور أمير الجيوش، فأقام بالوزارة شهرين تقريبا، ثم توفي في جمادى الآخرة سنة 564، فقام مكانه ابن أخيه صلاح الدين ولقب الملك الناصر، فتمكن من الوزارة، وضعف أمر العاضد فكتب إليه نور الدين يأمره بقطع الخطبة العاضدية وإقامة الخطبة المستضيئية، فامتنع في أول الأمر، فألح عليه وألزمه بذلك فلم يمكنه مخالفته، فأمر بالخطبة للمستضيء بأمر الله الخليفة الثالث والثلاثين من الخلفاء العباسيين ببغداد.
وكان قد اتفق أن العاضد مرض في هذا الوقت مرضا شديدا، فانحاز إلى قصره ولم يخرج منه، ولم يعلم بما يصير في الخارج، فتوفي في يوم عاشوراء سنة 567، ولم يعلم بقطع الخطبة، فاستولى صلاح الدين على بلاد مصر، ثم ضم إليها بلاد الشام وأرض الجزيرة، فلما مات اقتسم أولاده الستة عشر ممالكه، فأخذ أكبر أولاده نور الدين علي الملقب الملك الأفضل الشام السفلى مع مدينة أورشليم والشواطئ البحرية، وجعل تخت ملكه مدينة دمشق، واستولى غياث الدين الغازي الملقب الملك الظاهر على الشام العليا، واتخذ تخت ملكه بمدينة حلب، وصارت مصر من نصيب عماد الدين عثمان الملقب الملك العزيز، وأما باقي أولاده فقد اكتفوا بما لديهم من الولايات الصغيرة، واعترفوا بالتبعية للثلاثة المذكورين، وقد استقل بجهة الكرك الملك العادل سيف الدين أبو بكر أخو صلاح الدين. غير أنهم لم يلبثوا أن وقعت بينهم المنافسة، فاتحد الملك العادل سيف الدين مع الملك العزيز سلطان مصر على خلع الملك الأفضل من مملكة دمشق، فحكم حينئذ الملك العزيز على مصر والشام، وبعد موته خلفه عليهما ابنه الملك المنصور وعمره ثمان سنوات، فكفله أولا عمه الملك الأفضل . غير أنه لم يلبث أن حضر الملك العادل وأخذ منه كفالة الملك المنصور، ثم خلع هذا من الملك وتقلده هو، فصار بيده تقريبا جميع الدولة الأيوبية؛ ففي أثناء ذلك كان الفرنج قد قويت همتهم بعد أن هزمهم شر هزيمة صلاح الدين، فهموا بالإغارة على بلاد الشام، فالتزم الملك العادل بالخروج إلى الشام لملاقاتهم، فحصلت بينهم وبينهم عدة وقائع، ثم عزم على العود إلى مصر للمدافعة عن دمياط حيث كان الفرنج أتوا لمحاصرتها، فتولى هناك قبل وصوله إلى مصر، فخلفه ابنه شرف الدين الملقب الملك الكامل، فاسترجع من الفرنج مدينة دمياط. غير أنه ترك لهم بعض مدن الشام، ثم استولى أيضا على حلب، فصار بيده جميع الممالك الأيوبية، وبعد موته خلفه ابنه سيف الدين أبو بكر الملقب بالملك العادل الثاني، فلم يلبث أن خلعه الأمراء، وولوا مكانه أخاه الملك الصالح حاكم دمشق، فلما صعد على كرسي المملكة اتخذ له حرسا من المماليك الأتراك لخوفه من هؤلاء الأمراء الذين جردهم فيما بعد من وظائفهم فبغضوه بغضا عظيما، حتى إن بعض أمراء الشام تآمروا مع الفرنج على محاربة مصر، فسافر الملك الصالح إلى الشام وتحالف مع بعض قبائل كانوا هاجروا من جهة خوارزم بسبب إغارة جنكزخان وسكنوا في شمال بلاد الشام، وهجهم بهم على الفرنج وأمراء الشام المتحالفين معهم، وأخذ منهم أورشليم ودمشق وجميع الحصون التي على الشاطئ، ثم التزم بالعود إلى مصر؛ فإن الفرنج كانوا قد نزلوا على دمياط تحت قيادة ملك فرنسا لويز التاسع.
فلما حضر الملك الصالح إلى المنصورة كان الفرنج قد تملكوا على دمياط وأغاروا على المملكة، فاغتاظ الملك الصالح ومات كمدا بعد مرض شديد، فاتفقت سريته شجرة الدر مع الأمير فخر الدين رئيس الجند ومع جمال الدين الخصي الأول بالقصر على إخفاء موته وحفظ المملكة لولده منها؛ الملك المعظم توران شاه، وأرسلت إليه بأن يحضر سريعا من بلاد الشام؛ ففي أثناء تلك المدة كان قد وقع بين المسلمين والفرنج واقعة عظيمة بجهة المنصورة انتصر فيها المسلمون بهمة المماليك بعد مقاومة شديدة، ومات فيها الأمير فخر الدين، فلما حضر ابن الملك الصالح توران شاه هزم الفرنج بعد عدة وقائع شر هزيمة بجهة فارسكور، فأسر منهم عشرين ألفا مع ملك فرنسا وأمرائه وخواصه، فبعد هذا النصر العظيم أشهر موت الملك الصالح وتولية ابنه الملك المعظم غياث الدين توران شاه، فلم يحكم سوى شهر تقريبا ثم قامت عليه المماليك في آخر محرم سنة 648 وقتلوه، فمات في عنفوان شبابه، وبموته انتهت الدولة الأيوبية الفاخرة، وابتدأت دولة المماليك.
المطلب الثاني
في ذكر الملك صلاح الدين وبناء قلعة الجبل
هذا الملك هو رأس الدولة الأيوبية، استولى على بلاد مصر سنة 567 وهو عامل لنور الدين، فلما مات نور الدين سنة 569، وخلفه ابنه الملك الصالح وعمره إحدى عشرة سنة خرج صلاح الدين إلى الشام مظهرا طاعة الملك الصالح، وأنه خرج لحفظ بلاده عليه من الفرنج واستعادة ما أخذه منه ابن عمه سيف الدين غازي صاحب الموصل من البلاد الجزرية، فاستولى على دمشق وحمص وحماة وبعلبك، ثم تخلف عما كان يظهر ورحل إلى حلب وحاصرها وبها الملك الصالح ابن نور الدين، فلم يتمكن من فتحها، بل تركها بعد أن حصل الصلح بينهما، وسار إلى مصر فدخلها سنة 572 وأمر ببناء السور الدائر على مصر والقاهرة والقلعة التي على جبل المقطم.
وكان صلاح الدين كلما تغيب في فتوحاته يستعمل مكانه نائبه الأمير بهاء الدين قراقوش الأسدي، وهو خصي أبيض، كان يصدر إليه صلاح الدين الأوامر فيجريها بكل همة ونشاط، وهو الذي كلفه صلاح الدين ببناء المدارس وتصليح الجسور وحفر الترع وبناء القناطر وتشييد العمائر في القاهرة وكافة الإصلاحات التي حدثت في مصر، ومن أعظم مآثر صلاح الدين القلعة التي توجد لغاية أيامنا هذه في القاهرة؛ فإنه هو الذي أمر ببنائها، وشيد فيها دارا عظيمة جعلها محل إقامته، وحفر البئر العميقة التي بها إلى الآن المعروفة ببئر يوسف، وهي يبلغ عمقها 88 مترا ونصفا، وكان حفرها لاحتياج الخفر إليها، وقد استعمل لتلك العمائر أحجار الآثارات القديمة؛ فإنه هدم الأهرام الصغيرة التي كانت بأرض مصر، وبنى بأحجارها القلعة وسور القاهرة وبقية المباني المذكورة، ثم سار صلاح الدين من مصر سنة 578 هجرية بعد موت سيف الدين غازي والملك الصالح ابن نور الدين لما علم باتحاد أمراء الشام وأهل الموصل مع الفرنج ضده، فأغار على بلاد الشام وأرض الجزيرة، وتملك على عدة حصون بها، ثم احتل مدينة حلب وأقطعها أخاه الملك العادل، ونهب مدنا كثيرة من بلاد الشام، ثم رجع إلى أرض الجزيرة، وحاصر الموصل فلم يتمكن منها بسبب مرضه، واستقر الصلح بينه وبين صاحب الموصل بأن يسلم له صاحب الموصل شهرزور وأعمالها، وأن يخطب له ويضرب اسمه على الدراهم، فالتفت صلاح الدين حينئذ إلى محاربة الفرنج، فانقلب إلى بلاد الشام وهزم الفرنج وأخذ منهم صفورية وطبرية وعكا وقيسارية وحيفا ويافا وصيدا وبيروت وعسقلان.
ثم عزم على فتح مدينة بيت المقدس، فنزل عليها في رجب سنة 583، وضيق عليها الحصار، فاستأمنه الفرنج الذين بها فأمنهم بشرط أن يدفعوا في مدة أربعين يوما عشرة دنانير عن كل رجل، وخمسة عن كل امرأة، ودينارين عن كل طفل، ومن لم يؤد ذلك في المدة المذكورة صار مملوكا، وسلمت المدينة في يوم الجمعة 27 من الشهر المذكور، فلما فتح القدس بعث الفرنج إلى بلادهم بخبر بيت المقدس، فقام ملك الفرنسيس وملك الإنكليز وملك الألمان، وساروا إلى بلاد الشام، ونزلوا على عكا وحاصروها ثم تملكوها بعد قتال شديد مع صلاح الدين، ثم بعد عدة وقائع أخر أرسل الفرنج إلى صلاح الدين في أن يعقد معهم هدنة، فعقد معهم الهدنة على أن يستقر بيد الفرنج يافا وقيسارية وأرسوف وحيفا وعكا مع أعمالها، وأن تكون عسقلان خرابا وأذن للفرنج في زيارة القدس، ثم رجع صلاح الدين إلى دمشق فمرض بها مرضا شديدا بقي به ثمانية أيام، ثم مات بعد أن حكم أربعا وعشرين سنة وله من العمر سبع وخمسون سنة، وترك من الأولاد ستة عشر ابنا وبنتا واحدة، فتزوجت ابن عمها نصر الدين ابن سيف الدين الذي تلقب من وقتئذ بالملك الكامل، وكانت وفاته يوم الجمعة 27 صفر سنة 589، فحزن عليه جميع الشرق، واجتمع بدمشق جميع الأمراء المجاورين له لتشييع جنازته، وقد كان حليما كريما حسن الأخلاق متواضعا صبورا ذا سياسة حسنة وهيبة عظيمة وعدل وافر وغزوات كثيرة، اتفق على مدحه جميع المؤرخين من عرب وإفرنج.
Unknown page